فمن ذلك ما كان من خروج خارجي يقال له ثروان بْن سيف بناحية حولايا،
فكان يتنقل بالسواد، فوجه إليه طوق بْن مالك فهزمه طوق وجرحه، …
وقتل عامة أصحابه، وظن طوق أنه قد قتل ثروان، فكتب بالفتح، وهرب ثروان مجروحا.
وفيها خرج أبو النداء بالشام فوجه الرشيد في طلبه يحيى بْن معاذ، وعقد له على الشام.
وفيها وقع الثلج بمدينة السلام.
وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني.
وفيها غلظ أمر رافع بْن ليث بسمرقند.
وفيها كتب أهل نسف إلى رافع يعطونه الطاعة، ويسألون أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بْن علي، فوجه صاحب الشاش في اتراكه قائدا من قواده، فأتوا عيسى بْن علي، فأحدقوا به وقتلوه في ذي القعدة، ولم يعرضوا لأصحابه.
وفيها ولى الرشيد حمويه الخادم بريد خراسان.
وفيها غزا يزيد بْن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذت الروم عليه المضيق، فقتلوه على مرحلتين من طرسوس في خمسين رجلا، وسلم الباقون.
وفيها ولى الرشيد غزو الصائفة هرثمة بْن أعين، وضم إليه ثلاثين ألفا من جند خراسان، ومعه مسرور الخادم، إليه النفقات وجميع الأمور، خلا الرياسة ومضى الرشيد إلى درب الحدث، فرتب هنالك عبد الله بْن مالك، ورتب سعيد بْن سلم بْن قتيبة بمرعش، فأغارت الروم عليها، وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد بْن سلم مقيم بها، وبعث محمد بْن يزيد بْن مزيد إلى طرسوس، فأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان، ثم انصرف إلى الرقة.
وفيها أمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور، وكتب إلى السندي بْن شاهك يأمره بأخذ أهل الذمة بمدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم.
وفيها عزل الرشيد علي بْن عيسى بْن ماهان عن خراسان وولاها هرثمة.
ذكر الخبر عن سبب عزل الرشيد علي بْن عيسى وسخطه عليه
قال ابو جعفر: قد ذكر قبل سبب هلاك ابْن علي بْن عيسى وكيف قتل ولما قتل ابنه عيسى خرج على عن بلخ حتى أتى مرو مخافة أن يسير إليها رافع بْن الليث، فيستولي عليها وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ أموالا عظيمة- قيل إنها كانت ثلاثين ألف ألف- ولم يعلم بها علي بْن عيسى ولا أطلع على ذلك إلا جارية كانت له، فلما شخص علي عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها، فدخلوا البستان فانتهبوه وأباحوه للعامة، فبلغ الرشيد الخبر، فقال: خرج علي من بلخ عن غير أمري، وخلف مثل هذا المال، وهو يزعم أنه قد أفضى إلى حلي نسائه فيما أنفق على محاربة رافع! فعزله عند ذلك، وولى هرثمة بْن أعين، واستصفى أموال علي بْن عيسى، فبلغت أمواله ثمانين ألف ألف.
وذكر عن بعض الموالي أنه قَالَ: كنا بجرجان مع الرشيد وهو يريد خراسان، فوردت خزائن علي بْن عيسى التي أخذت له على الف وخمسمائة بعير، وكان علي مع ذلك قد أذل الأعالي من أهل خراسان وأشرافهم.
وذكر أنه دخل عليه يوما هشام بْن فرخسرو والحسين بْن مصعب، فسلما عليه، فقال للحسين: لا سلم الله عليك يا ملحد يا بن الملحد! والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوتك للإسلام وطعنك في الدين، وما أنتظر بقتلك إلا إذن الخليفة فيه، فقد أباح الله دمك، وأرجو أن يسفكه الله على يدي عن قريب، ويعجلك إلى عذابه ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد ما ثملت من الخمر، وزعمت أنه جاءتك كتب من مدينة السلام بعزلي! اخرج إلى سخط الله، لعنك الله، فعن قريب ما تكون من أهلها! فقال له الحسين: أعيذ بالله الأمير أن يقبل قول واش، أو سعاية باغ، فإني بريء مما قرفت به قَالَ: كذبت لا أم لك! قد صح عندي أنك ثملت من الخمر، وقلت ما وجب عليك به أغلظ الأدب، ولعل الله أن يعاجلك ببأسه ونقمته، اخرج عني غير مستور ولا مصاحب فجاء الحاجب فأخذ بيده فأخرجه، وقال لهشام بْن فرخسرو: صارت دارك دار الندوة، يجتمع فيها إليك السفهاء، وتطعن على الولاة! سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! فقال هشام: جعلت فداء الأمير! أنا والله مظلوم مرحوم، والله ما أدع في تقريظ الأمير جهدا، وفي وصفه قولا إلا خصصته به وقلته فيه، فإن كنت إذا قلت خيرا نقل إليك شرا فما حيلتي! قَالَ: كذبت لا أم لك، لأنا اعلم بما تنطوى عليه جوانحك من ولدك وأهلك، فاخرج فعن قريب أريح منك نفسي فخرج فلما كان في آخر الليل دعا ابنته عالية- وكانت من أكبر ولده- فقال لها: أي بنية، إني أريد أن أفضي إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت، وإن حفظته سلمت، فاختاري بقاء أبيك على موته، قالت: وما ذاك جعلت فداك! قَالَ: إني أخاف هذا الفاجر علي بْن عيسى على دمي، وقد عزمت على أن أظهر أن الفالج أصابني، فإذا كان في السحر فاجمعي جواريك، وتعالى الى فراشي وحركينى، فإذا رايت حركتي قد ثقلت، فصيحي أنت وجواريك، وابعثي إلى إخوتك فأعلميهم علتي وإياك ثم إياك أن تطلعي على صحة بدني أحدا من خلق الله من قريب أو بعيد ففعلت- وكانت عاقلة حازمة- فأقام مطروحا على فراشه حينا لا يتحرك إلا إن حرك، فيقال إنه لم يعلم من أهل خراسان أحد من عزل علي بْن عيسى بخبر ولا أثر غير هشام، فإنه توهم عزله، فصح توهمه.
ويقال: إنه خرج في اليوم الذي قدم فيه هرثمة لتلقيه، فرآه في الطريق رجل من قواد علي بْن عيسى، فقال: صح الجسم؟ فقال: ما زال صحيحا بحمد الله! وقال بعضهم: بل رآه علي بْن عيسى، فقال: أين بك؟ فقال:
أتلقى أميرنا أبا حاتم، قَالَ: ألم تكن عليلا؟ قَالَ: بلى، فوهب الله العافية، وعزل الله الطاغية في ليلة واحدة وأما الحسين بْن مصعب فإنه خرج إلى مكة مستجيرا بالرشيد من علي بْن عيسى، فأجاره.
ولما عزم الرشيد على عزل علي بْن عيسى دعا- فيما بلغني- هرثمة بْن أعين مستخليا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سري فيك، وقد اضطرب علي ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بْن عيسى، إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمد ويستجيش، وأنا كاتب إليه، فأخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطي فلا تفضنه، ولا تطلعن فيه حتى تصل إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه، وامتثله ولا تجاوزه، إن شاء الله، وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بْن عيسى بخطي، ليتعرف ما يكون منك ومنه، وهون عليه امر علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير، وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددا لعلي بْن عيسى وعونا له قَالَ: ثم كتب إلي علي بْن عيسى بْن ماهان كتابا بخطه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم يا بن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم خولك وأتباعك، فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته، بسوء سيرتك، ورداءة طعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة بْن أعين مولاي ثغر خراسان، وأمرته أن يشد وطأته عليك وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهما، ولا حقا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به، حتى ترده إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم انتقاما لله عز وجل بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا، فلا تعرض نفسك للتي لا شوى لها، واخرج مما يلزمك طائعا أو مكرها.
وكتب عهد هرثمة بخطه:
هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بْن أعين حين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه، أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله مراقبته، وأن يجعل كتاب الله إماما في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه، ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله وأولي العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله عز وجل فيه رأيه، ويعزم له على رشده، وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بْن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين، وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم، فإن ثبتت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين، فدافعوا بها وجحدوها، أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم، وبطلت أرواحهم، فإذا خرجوا من حق كل ذي حق، أشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطاء وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس، مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين، إن شاء الله فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك، فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك، وعليه فليكن أمرك، ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحشون معه إلى أمر يريبهم وظن يرعبهم وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضى الله منك وخليفته، ومن ولاك الله أمره إن شاء الله هذا عهدي وكتابي بخطي، وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سمواته وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.
وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته.
ثم أمر أن يكتب كتاب هرثمة إلى علي بْن عيسى في معاونته وتقويه أمره والشد على يديه فكتب وظهر الأمر بها، وكانت كتب حمويه وردت على هارون أن رافعا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وإنما غايتهم عزل علي بن عيسى الذى قد سامهم المكروه.
خبر شخوص هرثمة بْن أعين إلى خراسان واليا عليها
ومن ذلك ما كان من شخوص هرثمة بْن أعين إلى خراسان واليا عليها ذكر الخبر عما كَانَ من أمره فِي شخوصه إليها وأمر علي بْن عيسى وولده: ذكر أن هرثمة مضى في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له عهده الرشيد وشيعه الرشيد، وأوصاه بما يحتاج إليه، فلم يعرج هرثمة على شيء، ووجه إلى علي بْن عيسى في الظاهر أموالا وسلاحا، وخلعا وطيبا، حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من ثقات أصحابه وأولي السن والتجربة منهم، فدعا كل رجل منهم سرا، وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره، ويطووا سره، وولى كل رجل منهم كورة، على نحو ما كانت حاله عنده، فولى جرجان ونيسابور والطبسين ونسا وسرخس، وأمر كل واحد منهم، بعد أن دفع إليه عهده بالمسير إلى عمله الذي ولاه على أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم فيها إلى الوقت الذي سماه لهم، وولى إسماعيل بْن حفص بْن مصعب جرجان بأمر الرشيد، ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه، وكتب لهم أسماء ولد علي بْن عيسى وأهل بيته وكتابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكله بحفظه إذا هو دخل مرو، خوفا من أن يهربوا إذا ظهر أمره ثم وجه إلى علي بْن عيسى: إن أحب الأمير أكرمه الله أن يوجه ثقاته لقبض ما معي من أموال فعل، فإنه إذا تقدم المال أمامي كان أقوى للأمير، وأفت في عضد أعدائه وأيضا فإني لا آمن عليه إن خلفته وراء ظهري، أن يطمع فيه بعض من تسمو اليه نفسه الى ان يقتطع بغضه، ويفترض غفلتنا عند دخول المدينة.
فوجه علي بْن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال، وقال هرثمة لخزانه: اشغلوهم هذه الليلة، واعتلوا عليهم في حمل المال بعلة تقرب من أطماعهم، وتزيل الشك عن قلوبهم، ففعلوا وقال لهم الخزان: حتى تؤامروا أبا حاتم في دواب المال والبغال.
ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلما صار منها على ميلين تلقاه علي بْن عيسى في ولده واهل بيته وقواده باحسن لقاء وآنسه، فلما وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابته فصاح به علي: والله لئن نزلت لأنزلن، فثبت على سرجه، ودنا كل منهما من صاحبه فاعتنقا، وسارا، وعلي يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيئته وحال خاصته وقواده وأنصار دولته، وهرثمة يجيبه، حتى صار إلى قنطرة لا يجوزها إلا فارس، فحبس هرثمة لجام دابته، وقال لعلي: سر على بركة الله، فقال علي: لا والله لا أفعل حتى تمضي أنت، فقال: إذا والله لا أمضي، فأنت الأمير وأنا الوزير، فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصارا إلى منزل علي، ورجاء الخادم لا يفارق هرثمة في ليل ولا نهار، ولا ركوب ولا جلوس، فدعا على بالغداء فطمعا، وأكل معهما رجاء الخادم، وكان عازما على الا يأكل معهما، فغمزه هرثمة وقال: كل فإنك جائع، ولا رأي لجائع ولا حاقن، فلما رفع الطعام قَالَ له علي: قد أمرت أن يفرغ لك قصر على الماشان، فإن رأيت أن تصير إليه فعلت فقال له هرثمة: إن معي من الأمور ما لا يتحمل تأخير المناظرة فيها، ثم دفع رجاء الخادم كتاب الرشيد إلى علي، وأبلغه رسالته فلما فض الكتاب فنظر إلى أول حرف منه سقط في يده، وعلم أنه قد حل به ما يخافه ويتوقعه، ثم أمر هرثمة بتقييده وتقييد ولده وكتابه وعماله- وكان رحل ومعه وقر من قيود واغلال- فلما استوسق منه صار إلى المسجد الجامع، فخطب وبسط من آمال الناس، وأخبر أن أمير المؤمنين ولاه ثغورهم لما انتهى إليه من سوء سيره الفاسق على ابن عيسى، وما أمره به فيه وفي عماله وأعوانه، وأنه بالغ من ذلك ومن أنصاف العامة والخاصة، والأخذ لهم بحقوقهم أقصى مواضع الحق وأمر بقراءة عهده عليهم فأظهروا السرور بذلك، وانفسحت آمالهم، وعظم رجاؤهم، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر الدعاء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انصرف، فدعا بعلي بْن عيسى وولده وعماله وكتابه، فقال: اكفوني مؤنتكم، واعفوني من الإقدام بالمكروه عليكم ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمة من رجل كانت لعلي عنده وديعة أو لأحد من ولده أو كتابه أو عماله وأخفاها ولم يظهر عليها، فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلا رجلا من أهل مرو- وكان من أبناء المجوس- فإنه لم يزل يتلطف للوصول إلى علي بْن عيسى حتى صار إليه، فقال له سرا: لك عندي مال، فإن احتجت إليه حملته إليك أولا فأولا، وصبرت للقتل فيك، إيثارا للوفاء وطلبا لجميل الثناء، وإن استغنيت عنه حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك فعجب علي منه، وقال: لو اصطنعت مثلك ألف رجل ما طمع في السلطان ولا الشيطان أبدا.
ثم سأله عن قيمة ما عنده، فذكر له أنه أودعه مالا وثيابا ومسكا، وأنه لا يدرى ما قدر ذلك، غير انه أودعه بخطه، وأنه محفوظ لم يشذ منه شيء، فقال له: دعه، فإن ظهر عليه سلمته ونجوت بنفسك، وإن سلمت به رأيت فيه رأيي.
وجزاه الخير، وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافاه عليه وبره وكان يضرب به المثل بوفائه، فذكر أنه لم يتستر عن هرثمة من مال علي إلا ما كان أودعه هذا الرجل- وكان يقال له: العلاء بْن ماهان- فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حلي نسائهم، فكان الرجل يدخل إلى المنزل فيأخذ جميع ما فيه، حتى إذا لم يبق فيه إلا صوف أو خشب أو ما لا قيمة له قَالَ للمرأة: هاتي ما عليك من الحلي، فتقول للرجل إذا دنا منها لينزع ما عليها: يا هذا، إن كنت محسنا فاصرف بصرك عنى، فو الله لا تركت شيئا من بغيتك علي إلا دفعته إليك، فإن كان الرجل يتحوب من الدنو إليها أجابها إلى ذلك حتى ربما نبذت إليه بالخاتم والخلخال وما قيمته عشرة دراهم، ومن كان بخلاف هذه الصفة، قَالَ: لا أرضى حتى أفتشك، لا تكونين قد خبأت ذهبا أو درا أو ياقوتا، فيضرب يده إلى مغابنها وأرفاغها، فيطلب فيها ما يظن أنها قد سترته عنه، حتى إذا ظن أنه قد أحكم هذا كله وجهه على بعير بلا وطاء تحته، وفي عنقه سلسلة، وفي رجله قيود ثقال ما يقدر معها على نهوض واعتماد.
فذكر عمن شهد أمر هرثمة وأمره، أن هرثمة لما فرغ من مطالبة علي بْن عيسى وولده وكتابه وعماله بأموال أمير المؤمنين، أقامهم لمظالم الناس، فكان إذا برد للرجل عليه أو على أحد من أصحابه حق، قَالَ: اخرج للرجل من حقه، وإلا بسطت عليك، فيقول علي: أصلح الله الأمير! أجلني يوما أو يومين، فيقول: ذلك إلى صاحب الحق، فإن شاء فعل ثم يقبل على الرجل، فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قَالَ: نعم، قَالَ: فانصرف وعد إليه، فيبعث علي إلى العلاء بْن ماهان، فيقول له: صالح فلانا عني من كذا وكذا على كذا وكذا، أو على ما رأيت، فيصالحه ويصلح أمره.
وذكر أنه قام إلى هرثمة رجل، فقال له: أصلح الله الأمير! إن هذا الفاجر أخذ مني درقة ثمينة لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم، فأتيت قهرمانة أطلب ثمنها، فلم يعطني شيئا، فأقمت حولا أنتظر ركوب هذا الفاجر، فلما ركب عرضت له وصحت به: أيها الأمير، أنا صاحب الدرقة، ولم آخذ لها ثمنا إلى هذه الغاية، فقذف أمي ولم يعطني حقي، فخذ لي بحقي من مالي وقذفه أمي، فقال: لك بينة؟ قَالَ: نعم، جماعة حضروا كلامه، فأحضرهم فأشهدهم على دعواه، فقال هرثمة: وجب عليك الحد، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لقذفك أم هذا، قَالَ: من فقهك وعلمك هذا؟ قَالَ: هذا دين المسلمين، قَالَ: فأشهد أن أمير المؤمنين قد قذفك غير مرة ولا مرتين، وأشهد أنك قد قذفت بنيك ما لا أحصي، مرة حاتما ومرة أعين، فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك؟ ومن يأخذ لك من مولاك! فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة، فقال: أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك مطالبته بقذفه أمك.
كتاب هرثمة الى الرشيد في امر على بن عيسى
ولما حمل هرثمة عليا إلى الرشيد، كتب إليه كتابا يخبره ما صنع، نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الله عز وجل لم يزل يبلي أمير المؤمنين في كل ما قلده من خلافته، واسترعاه من أمور عباده وبلاده أجمل البلاء وأكمله، ويعرفه في كل ما حضره ونأى عنه من خاص أموره وعامها، ولطيفها وجليلها أتم الكفاية وأحسن الولاية، ويعطيه في ذلك كله أفضل الأمنية، ويبلغه فيه أقصى غاية الهمة، امتنانا منه عليه، وحفظا لما جعل إليه، مما تكفل بإعزازه وإعزاز أوليائه واهل حقه وطاعته، فيستتم الله أحسن ما عوده وعودنا من الكفاية في كل ما يؤدينا اليه، ونسأله توفيقنا لما نقضي به المفترض من حقه في الوقوف عند أمره، والاقتصار على رأيه.
ولم أزل أعز الله أمير المؤمنين، مذ فصلت عن معسكر أمير المؤمنين ممتثلا ما أمرني به فيما أنهضني له، لا أجاوز ذلك ولا أتعداه إلى غيره، ولا أتعرف اليمن والبركة إلا في امتثاله، إلى أن حللت أوائل خراسان، صائنا للأمر الذي أمرني أمير المؤمنين بصيانته وستره، لا أفضي ذلك إلى خاصي ولا إلى عامي، ودبرت في مكاتبة أهل الشاش وفرغانة وخزلهما عن الخائن، وقطع طمعه وطمع من قبله عنهما، ومكاتبة من ببلخ بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين وفسرت له، فلما نزلت نيسابور عملت في أمر الكور التي اجتزت عليها بتولية من وليت عليها، قبل مجاوزتي إياها، كجرجان ونيسابور نسا وسرخس، ولم آل الاحتياط في ذلك، واختيار الكفاه واهل الأمانة الصحة من ثقات أصحابي، وتقدمت إليهم في ستر الأمر وكتمانه، وأخذت عليهم بذلك أيمان البيعة، ودفعت إلى كل رجل منهم عهده بولايته، أمرتهم بالمسير إلى كور أعمالهم على أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم بها إلى الوقت الذي سميت لهم، وهو اليوم الذي قدرت فيه دخولي إلى مرو، والتقائي وعلي بْن عيسى، وعملت في استكفائي إسماعيل بْن حفص بْن مصعب أمر جرجان بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين، فنفذ أولئك العمال لأمري، وقام كل رجل منهم في الوقت الذي وقت له بضبط عمله وأحكام ناحيته، وكفى الله أمير المؤمنين المؤنة في ذلك، بلطيف صنعه.
ولما صرت من مدينة مرو على منزل، اخترت عدة من ثقات أصحابي، وكتبت بتسمية ولد علي بْن عيسى وكتابه وأهل بيته وغيرهم رقاعا، ودفعت إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكلته بحفظه في دخولي، ولم آمن لو قصرت في ذلك وأخرته أن يصيروا عند ظهور الخبر وانتشاره إلى التغيب والانتشار، فعملوا بذلك، ورحلت عن موضعي إلى مدينة مرو، فلما صرت منها على ميلين تلقاني علي بْن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده، فلقيته بأحسن لقاء، وآنسته، وبلغت من توقيره وتعظيمه والتماس النزول إليه أول ما بصرت به ما ازداد به أنسا وثقة، إلى ما كان ركن إليه قبل ذلك، مما كان يأتيه من كتبي، فإنها لم تنقطع عنه بالتعظيم والإجلال مني له والالتماس، لالقاء سوء الظن عنه، لئلا يسبق إلى قلبه أمر ينتقض به ما دبر أمير المؤمنين في أمره، وأمرني به في ذلك وكان الله تبارك وتعالى هو المنفرد بكفاية أمير المؤمنين الأمر فيه إلى أن ضمني وإياه مجلسه، وصرت إلى الأكل معه، فلما فرغنا من ذلك بدأني يسألني المصير إلى منزل كان ارتاده لي، فأعلمته ما معي من الأمور التي لا تحتمل تأخير المناظرة فيها ثم دفع إليه رجاء الخادم كتاب أمير المؤمنين وأبلغه رسالته، فعلم عند ذلك أن قد حل به الأمر الذي جناه على نفسه، وكسبته يداه، من سخط أمير المؤمنين، وتغير رأيه بخلافه أمره وتعديه سيرته ثم صرت إلى التوكيل به، ومضيت إلى المسجد الجامع، فبسطت آمال الناس ممن حضر، وافتتحت القول بما حملني أمير المؤمنين إليهم، وأعلمتهم إعظام أمير المؤمنين ما أتاه، ووضح عنده من سوء سيره على، وما أمرني به فيه وفي عماله وأعوانه، وإني بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة والأخذ لهم بحقوقهم أقصى غايتهم وأمرت بقراءة عهدي عليهم، وأعلمتهم أن ذلك مثالي وإمامي، وأني به أقتدي، وعليه أحتذي، فمتى زلت عن باب واحد من أبوابه فقد ظلمت نفسي، وأحللت بها ما يحل بمن خالف رأي أمير المؤمنين وأمره، فأظهروا السرور بذلك والاستبشار، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر دعاؤهم لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انكفأت إلى المجلس الذي كان علي بْن عيسى فيه، فصرت إلى تقييده وتقييد ولده وأهل بيته وكتابه وعماله والاستيثاق منهم جميعا، وأمرتهم بالخروج إلي من الأموال التي احتجنوها من أموال أمير المؤمنين وفيء المسلمين، وإعفائي بذلك من الإقدام عليهم بالمكروه والضرب، وناديت في أصحاب ودائعهم بإخراج ما كان عندهم فحملوا إلي إلى أن كتبت إلى أمير المؤمنين صدرا صالحا من الورق والعين، وأرجو أن يعين الله على استيفاء ما قبلهم، واستنظاف ما وراء ظهورهم، ويسهل الله من ذلك أفضل ما لم يزل يعوده أمير المؤمنين من الصنع في مثله من الأمور التي يعني بها إن شاء الله تعالى:
ولم أدع عند قدومي مرو التقدم في توجيه الرسل وإنفاذ الكتب البالغة في الإعذار والإنذار، والتبصير والإرشاد، إلى رافع ومن قبله من أهل سمرقند، وإلى من ببلخ، على حسن ظني بهم في الإجابة، ولزوم الطاعة والاستقامة، ومهما تنصرف به رسلي إلي يا أمير المؤمنين من أخبار القوم في إجابتهم وامتناعهم، أعمل على حسبه من أمرهم، وأكتب بذلك إلى أمير المؤمنين على حقه وصدقه وأرجو أن يعرف الله أمير المؤمنين في ذلك من جميل صنعه ولطيف كفايته، ما لم تزل عادته جارية به عنده، بمنه وطوله وقوته والسلام.
الجواب من الرشيد
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك بقدومك مرو في اليوم الذي سميت، وعلى الحال التي وصفت وما فسرت، وما كنت قدمت من الحيل قبل ورودك إياها، وعملت به في أمر الكور التي سميت وتولية من وليت عليها قبل نفوذك عنها، ولطفت له من الأمر الذي استجمع لك به ما أردت من أمر الخائن علي بْن عيسى وولده وأهل بيته، ومن صار في يدك من عماله واصحاب اعماله واحتذائك في ذلك كله ما كان أمير المؤمنين مثل لك ووقفك عليه، وفهم أمير المؤمنين كل ما كتبت به، وحمد الله على ذلك كثيرا وعلى تسديده إياك وما أعانك به من توفيقه، حتى بلغت إرادة أمير المؤمنين، وأدركت طلبته، وأحسنت ما كان يحب بك وعلى يديك إحكامه، مما كان اشتد به اعتناؤه، ولج به اهتمامه، وجزاك الخير على نصيحتك وكفايتك، فلا أعدم الله أمير المؤمنين أحسن ما عرفه منك في كل ما أهاب بك إليه، واعتمد بك عليه.
وأمير المؤمنين يأمرك أن تزداد جدا واجتهادا فيما أمرك به من تتبع أموال الخائن علي بْن عيسى وولده وكتابه وعماله ووكلائه وجهابذته والنظر فيما اختانوا به أمير المؤمنين في أمواله، وظلموا به الرعية في أموالهم، وتتبع ذلك واستخراجه من مظانه ومواضعه، التي صارت اليه، ومن أيدي اصحاب الودائع التي استودعوها إياهم، واستعمال اللين والشدة في ذلك كله، حتى تصير إلى استنظاف ما وراء ظهورهم، ولا تبقى من نفسك في ذلك بقية، وفي إنصاف الناس منهم في حقوقهم ومظالمهم، حتى لا تبقى لمتظلم منهم قبلهم ظلامة إلا استقضيت ذلك له، وحملته وإياهم على الحق والعدل فيها، فإذا بلغت أقصى غاية الأحكام والمبالغة في ذلك، فأشخص الخائن وولده وأهل بيته وكتابه وعماله إلى أمير المؤمنين في وثاق، وعلى الحال التي استحقوها من التغيير والتنكيل بما كسبت أيديهم، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
ثم اعمل بما أمرك به أمير المؤمنين من الشخوص إلى سمرقند، ومحاولة ما قبل خامل، ومن كان على رأيه ممن أظهر خلافا وامتناعا من أهل كور ما وراء النهر وطخارستان بالدعاء إلى الفيئة والمراجعة، وبسط أمانات أمير المؤمنين التي حملكها إليهم، فإن قبلوا وأنابوا وراجعوا ما هو أملك بهم، وفرقوا جموعهم، فهو ما يحب أمير المؤمنين أن يعاملهم به من العفو عنهم والإقالة لهم، إذ كانوا رعيته، وهو الواجب على أمير المؤمنين لهم إذ أجابهم إلى طلبتهم، وآمن روعهم، وكفاهم ولاية من كرهوا ولايته، وأمر بإنصافهم في حقوقهم وظلاماتهم- وإن خالفوا ما ظن أمير المؤمنين، فحاكمهم إلى الله إذ طغوا وبغوا، وكرهوا العافية وردوها، فإن أمير المؤمنين قد قضى ما عليه، فغير ونكل، وعزل واستبدل، وعفا عمن أحدث، وصفح عمن اجترم، وهو يشهد الله عليهم بعد ذلك في خلاف إن آثروه، وعنود إن أظهروه وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه يتوكل وإليه ينيب والسلام.
وكتب إسماعيل بْن صبيح بين يدي أمير المؤمنين.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن العباس بْن محمد بْن علي، وكان والي مكة.
ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.