ذكر الخبر عن خروج الراونديه، فمن ذلك خروج الراوندية، وقد قَالَ بعضهم: كان أمر الراوندية وأمر أبي جعفر الذي أنا ذاكره، في سنة سبع وثلاثين ومائة …
أو ست وثلاثين ومائة ذكر الخبر عن أمرهم وأمر أبي جعفر المنصور معهم:
والراوندية قوم- فيما ذكر عن علي بْن محمد- كانوا من أهل خراسان على رأي أبي مسلم صاحب دعوة بني هاشم، يقولون- فيما زعم- بتناسخ الأرواح، ويزعمون أن روح آدم في عثمان بْن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بْن معاوية جبرئيل.
قَالَ: وأتوا قصر المنصور، فجعلوا يطوفون به، ويقولون: هذا قصر ربنا، فأرسل المنصور إلى رؤسائهم، فحبس منهم مائتين، فغضب أصحابهم وقالوا: علام حبسوا! وأمر المنصور ألا يجتمعوا، فأعدوا نعشا وحملوا السرير- وليس في النعش أحد- ثم مروا في المدينة، حتى صاروا على باب السجن، فرموا بالنعش، وشدوا على الناس- ودخلوا السجن، فأخرجوا اصحابهم، وقصدوا نحو المنصور وهم يومئذ ستمائه رجل، فتنادى الناس، وغلقت أبواب المدينة فلم يدخل أحد، فخرج المنصور من القصر ماشيا، ولم يكن في القصر دابة، فجعل بعد ذلك اليوم يرتبط فرسا يكون في دار الخلافة معه في قصره.
قَالَ: ولما خرج المنصور أتي بدابة فركبها وهو يريدهم، وجاء معن ابن زائدة، فانتهى إلى أبي جعفر، فرمى بنفسه وترجل، وادخل بركه قبائه في منطقته، وأخذ بلجام دابة المنصور، وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين إلا رجعت، فإنك تكفى، وجاء أبو نصر مالك بْن الهيثم فوقف على باب القصر، وقال: أنا اليوم بواب، ونودي في أهل السوق فرموهم وقاتلوهم حتى أثخنوهم، وفتح باب المدينة، فدخل الناس.
وجاء خازم بْن خزيمة على فرس محذوف، فقال: يا أمير المؤمنين، أقتلهم؟ قَالَ: نعم، فحمل عليهم حتى ألجأهم إلى ظهر حائط، ثم كروا على خازم فكشفوه واصحابه، ثم كر خازم عليهم فاضطرهم إلى حائط المدينة وقال للهيثم بْن شعبة: إذا كروا علينا فاسبقهم إلى الحائط، فإذا رجعوا فاقتلهم فحملوا على خازم، فاطرد لهم، وصار الهيثم بْن شعبة من ورائهم فقتلوا جميعا.
وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك، فكلمهم، فرجع فرموه بنشابه فوقعت بين كتفيه، فمرض أياما ومات منها، فصلى عليه أبو جعفر، وقام على قبره حتى دفن، وقال: رحمك الله أبا يزيد! وصير مكانه على حرسه عيسى بْن نهيك، فكان على الحرس حتى مات، فجعل على الحرس أبا العباس الطوسي.
وجاء يومئذ إسماعيل بْن علي، وقد أغلقت الأبواب، فقال للبواب:
افتح ولك ألف درهم، فأبى وكان القعقاع بْن ضرار يومئذ بالمدينة، وهو على شرط عيسى بْن موسى، فأبلى يومئذ، وكان ذلك كله في المدينة الهاشمية بالكوفة.
قَالَ: وجاء يومئذ الربيع ليأخذ بلجام المنصور، فقال له معن: ليس هذا من أيامك، فأبلى أبرويز بْن المصمغان ملك دنباوند- وكان خالف أخاه، فقدم على أبي جعفر فأكرمه، وأجرى عليه رزقا، فلما كان يومئذ أتى المنصور فكفر له، وقال: أقاتل هؤلاء؟ قَالَ له: نعم، فقاتلهم، فكان إذا ضرب رجلا فصرعه تأخر عنه- فلما قتلوا وصلى المنصور الظهر دعا بالعشاء، وقال: أطلعوا معن بْن زائدة، وأمسك عن الطعام حتى جاءه معن، فقال لقثم: تحول إلى هذا الموضع، وأجلس معنا مكان قثم، فلما فرغوا من العشاء قَالَ لعيسى بْن علي: يا أبا العباس، اسمعت باشد الرجال؟ قَالَ: نعم، قَالَ: لو رأيت اليوم معنا علمت أنه من تلك الآساد، قَالَ معن: والله يا أمير المؤمنين لقد أتيتك وإني لوجل القلب، فلما رأيت ما عندك من الاستهانة بهم وشدة الإقدام عليهم، رأيت أمرا لم أره من خلق في حرب، فشد ذلك من قلبي وحملني على ما رايت منى.
وقال ابو خزيمة: يا أمير المؤمنين، إن لهم بقية، قَالَ: فقد وليتك أمرهم فاقتلهم، قَالَ: فاقتل رزاما فإنه منهم، فعاذ رزام بجعفر بْن أبي جعفر، فطلب فيه فآمنه.
وقال علي عن أبي بكر الهذلي، قَالَ: إني لواقف بباب أمير المؤمنين إذ طلع فقال رجل إلى جانبي: هذا رب العزة! هذا الذي يطعمنا ويسقينا، فلما رجع أمير المؤمنين ودخل عليه الناس دخلت وخلا وجهه، فقلت له:
سمعت اليوم عجبا، وحدثته، فنكت في الأرض، وقال: يا هذلي، يدخلهم الله النار في طاعتنا ويعتلهم، أحب إلي من أن يدخلهم الجنة بمعصيتنا.
وذكر عن جعفر بْن عبد الله، قَالَ: حدثني الفضل بْن الربيع، قَالَ:
حدثني أبي، قَالَ: سمعت المنصور يقول: أخطأت ثلاث خطيات وقاني الله شرها: قتلت أبا مسلم وأنا في خرق ومن حولي يقدم طاعته ويؤثرها ولو هتكت الخرق لذهبت ضياعا، وخرجت يوم الراوندية ولو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا، وخرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق ذهبت الخلافة ضياعا.
وذكر أن معن بْن زائدة كان مختفيا من أبي جعفر، لما كان منه من قتاله المسودة مع ابن هبيرة مرة بعد مرة، وكان اختفاؤه عند مرزوق أبي الخصيب، وكان على أن يطلب له الأمان، فلما خرج الراوندية أتى الباب فقام عليه، فسأل المنصور أبا الخصيب- وكان يلي حجابة المنصور يومئذ: من بالباب؟
فقال: معن بْن زائدة، فقال المنصور: رجل من العرب، شديد النفس، عالم بالحرب كريم الحسب، أدخله، فلما دخل قَالَ: إيه يا معن! ما الرأي؟
قَالَ: الرأي أن تنادي في الناس وتأمر لهم بالأموال، قَالَ: وأين الناس والأموال؟ ومن يقدم على أن يعرض نفسه لهؤلاء العلوج! لم تصنع شيئا يا معن، الرأي أن أخرج فأقف، فإن الناس إذا رأوني قاتلوا وأبلوا وثابوا إلي، وتراجعوا، وإن أقمت تخاذلوا وتهاونوا فأخذ معن بيده وقال: يا أمير المؤمنين، إذا والله تقتل الساعة، فأنشدك الله في نفسك! فأتاه أبو الخصيب فقال مثلها، فاجتذب ثوبه منهما، ثم دعا بدابته، فركب ووثب عليها من غير ركاب ثم سوى ثيابه، وخرج ومعن آخذ بلجامه وأبو الخصيب مع ركابه فوقف.
وتوجه إليه رجل فقال: يا معن دونك العلج، فشد عليه معن فقتله، ثم والى بين أربعة، وثاب إليه الناس وتراجعوا، ولم يكن إلا ساعة حتى أفنوهم، وتغيب معن بعد ذلك، فقال أبو جعفر لأبي الخصيب: ويلك! أين معن؟
قَالَ: والله ما أدري أين هو من الأرض! فقال: أيظن أن أمير المؤمنين لا يغفر ذنبه بعد ما كان من بلائه! أعطه الأمان وأدخله علي، فأدخله، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وولاه اليمن، فقال له أبو الخصيب: قد فرق صلته وما يقدر على شيء، قَالَ: له لو أراد مثل ثمنك ألف مرة لقدر عليه.
وفي هذه السنة وجه أبو جعفر المنصور ولده محمدا- وهو يومئذ ولي عهد- إلى خراسان في الجنود، وأمره بنزول الري، ففعل ذلك محمد.
ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدى اليه
وفيها خلع عبد الجبار بْن عبد الرحمن عامل أبي جعفر على خراسان، ذكر علي بْن محمد، عمن حدثه، عن أبي أيوب الخوزي، أن المنصور لما بلغه أن عبد الجبار يقتل رؤساء أهل خراسان، وأتاه من بعضهم كتاب فيه:
قد نغل الأديم، قَالَ لأبي أيوب الخزاعي: إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا، وما فعل هذا إلا وهو يريد أن يخلع، فقال له: ما أيسر حيلته! اكتب إليه:
أنك تريد غزو الروم، فيوجه إليك الجنود من خراسان، وعليهم فرسانهم ووجوههم، فإذا خرجوا منها فابعث إليهم من شئت، فليس به امتناع فكتب بذلك إليه، فأجابه: أن الترك قد جاشت، وإن فرقت الجنود ذهبت خراسان، فألقى الكتاب إلى أبي أيوب، وقال له: ما ترى؟ قَالَ: قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: أن خراسان أهم إلي من غيرها، وأنا موجه إليك الجنود من قبلي ثم وجه إليه الجنود ليكونوا بخراسان، فإن هم بخلع أخذوا بعنقه.
فلما ورد على عبد الجبار الكتاب كتب إليه: أن خراسان لم تكن قط أسوأ حالا منها في هذا العام، وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من غلاء السعر فلما أتاه الكتاب ألقاه إلى أبي أيوب، فقال له: قد أبدى صفحته، وقد خلع فلا تناظره.
فوجه إليه محمد بْن المنصور، وأمره بنزول الري، فسار إليها المهدي، ووجه لحربه خازم بْن خزيمة مقدمة له، ثم شخص المهدي فنزل نيسابور، ولما توجه خازم بْن خزيمة الى عبد الجبار، وبلغ ذلك اهل مروالروذ، ساروا إلى عبد الجبار من ناحيتهم فناصبوه الحرب، وقاتلوه قتالا شديدا حتى هزم، فانطلق هاربا حتى لجأ إلى مقطنة، فتوارى فيها، فعبر إليه المجشر بْن مزاحم من أهل مرو الروذ، فأخذه أسيرا، فلما قدم خازم أتاه به، فألبسه خازم مدرعة صوف، وحمله على بعير، وجعل وجهه من قبل عجز البعير، حتى انتهى به إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب، وضربوا بالسياط حتى استخرج منهم ما قدر عليه من الأموال ثم أمر المسيب بْن زهير بقطع يدي عبد الجبار ورجليه وضرب عنقه، ففعل ذلك المسيب، وأمر المنصور بتسيير ولده إلى دهلك- وهي جزيرة على ضفة البحر بناحية اليمن- فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند، فسبوهم فيمن سبوا حتى فودوا بعد، ونجا منهم من نجا، فكان ممن نجا منهم واكتتب في الديوان وصحب الخلفاء عبد الرحمن بْن عبد الجبار، وبقي إلى أن توفي بمصر في خلافة هارون، في سنة سبعين ومائة.
وفي هذه السنة فرغ من بناء المصيصة على يدي جبرئيل بْن يحيى الخراسانى، ورابط محمد بْن إبراهيم الإمام بملطية.
واختلفوا في أمر عبد الجبار وخبره، فقال الواقدي: كان ذلك في سنة ثنتين وأربعين ومائة.
وقال غيره: كان ذلك في سنة إحدى وأربعين ومائة وذكر عن علي بْن محمد أنه قَالَ: كان قدوم عبد الجبار خراسان لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائة، ويقال لأربع عشرة ليلة، وكانت هزيمته يوم السبت لست خلون من ربيع الأول سنة ثنتين وأربعين ومائة.
وذكر عن أحمد بْن الحارث، أن خليفة بْن خياط حدثه، قَالَ: لما وجه المنصور المهدي إلى الري- وذلك قبل بناء بغداد، وكان توجيهه إياه لقتال عبد الجبار بْن عبد الرحمن، فكفى المهدي أمر عبد الجبار بمن حاربه وظفر به- كره أبو جعفر أن تبطل تلك النفقات التي أنفقت على المهدي، فكتب إليه أن يغزو طبرستان، وينزل الري، ويوجه أبا الخصيب وخازم بْن خزيمة والجنود إلى الأصبهبذ، وكان الأصبهبذ يومئذ محاربا للمصمغان ملك دنباوند معسكرا بإزائه، فبلغه أن الجنود دخلت بلاده، وأن أبا الخصيب دخل سارية، فساء المصمغان ذلك، وقال له: متى صاروا إليك صاروا إلي، فاجتمعا على محاربة المسلمين، فانصرف الأصبهبذ إلى بلاده، فحارب المسلمين، وطالت تلك الحروب، فوجه أبو جعفر عمر بْن العلاء الذي يقول فيه بشار:
فقل للخليفة إن جئته *** نصيحا ولا خير في المتهم
إذا ايقظتك حروب العدا *** فنبه لها عمرا ثم نم
فتى لا ينام على دمنة *** ولا يشرب الماء إلا بدم
وكان توجيهه إياه بمشورة أبرويز أخي المصمغان، فإنه قَالَ له:
يا أمير المؤمنين، إن عمر أعلم الناس ببلاد طبرستان، فوجهه، وكان أبرويز قد عرف عمر أيام سنباذ وأيام الراوندية، فضم إليه أبو جعفر خازم بْن خزيمة، فدخل الرويان ففتحها، وأخذ قلعة الطاق وما فيها، وطالت الحرب، فألح خازم على القتال، ففتح طبرستان، وقتل منهم فأكثر، وصار الأصبهبذ إلى قلعته، وطلب الأمان على أن يسلم القلعة بما فيها من ذخائره، فكتب المهدي بذلك إلى أبي جعفر، فوجه أبو جعفر بصالح صاحب المصلى وعدة معه، فأحصوا ما في الحصن، وانصرفوا وبدا للأصبهبذ، فدخل بلاد جيلان من الديلم، فمات بها، وأخذت ابنته- وهي أم إبراهيم بْن العباس بْن محمد- وصمدت الجنود للمصمغان، فظفروا به وبالبحترية أم منصور بْن المهدي، وبصيمر أم ولد على بن ريطة بنت المصمغان فهذا فتح طبرستان الأول.
قَالَ: ولما مات المصمغان تحوز أهل ذلك الجبل فصاروا حوزية لأنهم توحشوا كما توحش حمر الوحش.
وفي هذه السنة عزل زياد بْن عبيد الله الحارثي عن المدينة ومكة والطائف، واستعمل على المدينة محمد بْن خالد بْن عبد الله القسري، فقدمها في رجب.
وعلى الطائف ومكة الهيثم بْن معاوية العتكي من أهل خراسان.
وفيها توفي موسى بْن كعب، وهو على شرط المنصور، وعلى مصر والهند وخليفته على الهند عيينة ابنه.
وفيها عزل موسى بْن كعب عن مصر، ووليها محمد بْن الأشعث ثم عزل عنها، ووليها نوفل بْن الفرات.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وهو على قنسرين وحمص ودمشق وعلى المدينة محمد بْن خالد بْن عبد الله القسري، وعلى مكة والطائف الهيثم بْن معاوية، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بْن معاوية وعلى قضائها سوار بْن عبد الله، وعلى خراسان المهدي وخليفته عليها السري بْن عبد الله، وعلى مصر نوفل بْن الفرات.