قَالَ أبو جعفر: ثُمَّ ضرب فِي المحرم من سنة إحدى عشرة على الناس بعثا إلى الشام، وأمَّر عليهم مولاه وابن مولاه أسامة بْن زيد بْن حارثة، …
وأمره- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحارث بْن عياش بْن أبي ربيعة- أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مَعَ أسامة المهاجرون الأولون.
فبينا الناس على ذلك ابتدى صلى الله عليه وسلم شكواه التي قبضه الله عز وجل فيها إلى ما أراد به من رحمته وكرامته فِي ليال بقين من صفر، أو فِي أول شهر ربيع الأول.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمُ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ ثابت ابن الْجَزعِ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة بعد ما قَضَى حَجَّةَ التَّمَامِ، فَتَحَلَّلَ بِهِ السَّيْرُ، وَضَرَبَ عَلَى النَّاسِ بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوطِئَ مِنْ آبِلِ الزَّيْتِ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ الأَرْضِ بِالأُرْدُنِّ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ في ذلك، ورد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَخَلِيقٌ لَهَا- أَيْ حَقِيقٌ بِالإِمَارَةِ- وَإِنْ قُلْتُمْ فِيهِ لَقَدْ قُلْتُمْ فِي أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لَهَا» فطارت الأخبار بتحلل السير بالنبي صلى الله عليه وسلم أن النبي قد اشتكى، فوثب الأسود باليمن ومسيلمه باليمامة، وجاء الخبر عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ وثب طليحة فِي بلاد أسد بعد ما افاق النبي صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اشتكى فِي المحرم وجعه الذي قبضه الله تعالى فيه.
حدثنا ابن سعد، قال: حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا سيف، قَالَ: حَدَّثَنَا هشام بْن عُرْوَة، عن ابيه، قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفاه الله به فِي عقب المحرم وقال الواقدى: بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه لليلتين بقيتا من صفر حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حدثنا سيف ابن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُسْتَنِيرُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، عن عروة بن غزية الدثيني، عن الضحاك بْنِ فَيْرُوزِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ رِدَّةٍ كَانَتْ فِي الإِسْلامِ بِالْيَمَنِ كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى يَدَيْ ذِي الْخِمَارِ عَبْهَلَةَ بْنِ كَعْبٍ- وَهُوَ الأَسْوَدُ- فِي عَامَّةِ مَذْحِجٍ.
خَرَجَ بَعْدَ الْوَدَاعِ، كَانَ الأَسْوَدُ كَاهِنًا شَعْبَاذًا، وَكَانَ يُرِيهِمِ الأَعَاجِيبَ، وَيُسْبِي قُلُوبَ مَنْ سَمِعَ مَنْطِقَهُ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا خَرَجَ أَنْ خَرَجَ مِنْ كَهْفِ خُبَّانَ، وَهِيَ كَانَتْ دَارَهُ، وَبِهَا وُلِدَ وَنَشَأَ، فَكَاتَبَتْهُ مَذْحِجُ، وَوَاعَدَتْهُ نَجْرَانَ، فَوَثَبُوا بِهَا وَأَخْرَجُوا عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَأَنْزَلُوهُ مَنْزِلَهُمَا، وَوَثَبَ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ عَلَى فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ وَهُوَ عَلَى مُرَادَ، فَأَجْلاهُ وَنَزَلَ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَنْشِبْ عَبْهَلَةُ بِنَجْرَانَ أَنْ سَارَ إِلَى صَنْعَاءَ فَأَخَذَهَا، وَكُتِبَ بذلك الى النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ فِعْلِهِ وَنُزُولِهِ صَنْعَاءَ، وَكَانَ أَوَّلَ خَبَرٍ وَقَعَ بِهِ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ، وَلَحِقَ بِفَرْوَةَ مَنْ تَمَّ عَلَى الإِسْلامِ مِنْ مَذْحِجَ، فَكَانُوا بِالأَحْسِيَةِ، وَلَمْ يُكَاتِبْهُ الأَسْوَدُ وَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ يُشَاغِبُهُ، وَصَفَا لَهُ مُلْكُ الْيَمَنِ.
حَدَّثَنَا عُبْيَدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَيْفٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ الأَعْلَمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم قَدْ ضَرَبَ بَعْثَ أُسَامَةَ فَلَمْ يَسْتَتَبَّ لِوَجَعِ رَسُولِ اللَّهِ وَلِخَلْعِ مُسَيْلِمَةَ وَالأَسْوَدِ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُنَافِقُونَ فِي تَأْمِيرِ أُسَامَةَ، حَتَّى بَلَغَهُ، فَخَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ عَاصِبًا رَأْسَهُ مِنَ الصُّدَاعِ لِذَلِكَ الشَّأْنِ وَانْتِشَارِهِ، لِرُؤْيَا رَآهَا فِي بَيْتِ عَائِشَةَ: فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ- فِيمَا يَرَى النَّائِمُ- أَنَّ فِي عَضُدِي سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَرِهْتُهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا، فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا هَذَيْنِ الْكَذَّابَيْنِ- صَاحِبَ الْيَمَامَةِ وَصَاحِبَ الْيَمَنِ- وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ فِي إِمَارَةِ أُسَامَةَ! وَلَعَمْرِي لَئِنْ قَالُوا فِي إِمَارَتِهِ، لَقَدْ قَالُوا فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ! وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنَّهُ لَخَلِيقٌ لَهَا، فَأَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ» وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ!» فَخَرَجَ أُسَامَةُ فَضَرَبَ بِالْجُرْفِ، وَأَنْشَأَ النَّاسُ فِي الْعَسْكَرِ، وَنَجَمَ طُلَيْحَةُ وَتَمَهَّلَ النَّاسُ، وَثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُسْتَتَمَّ الأَمْرُ، يَنْظُرُونَ أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ، حَتَّى توفى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، يَقُولُ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ أَبُو يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي مَاجِدٍ الأَسَدِيِّ، عَنِ الْحَضْرَمِيِّ بْنِ عَامِرٍ الأَسَدِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ أَمْرِ طليحة ابن خُوَيْلِدٍ، فَقَالَ: وَقَعَ بِنَا الْخَبَرُ بِوَجَعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّ مُسَيْلِمَةَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْيَمَامَةِ، وَأَنَّ الأَسْوَدَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْيَمَنِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا قَلِيلا حَتَّى ادَّعَى طُلَيْحَةُ النُّبُوَّةَ، وَعَسْكَرَ بِسَمِيرَاءَ، وَاتَّبَعَهُ الْعَوَّامُ، وَاسْتَكْثَفَ أَمْرَهُ، وبعث حبال ابن أخيه الى النبي صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ إِلَى الْمُوَادَعَةِ، وَيُخْبِرُهُ خَبَرَهُ وَقَالَ حِبَالٌ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِيهِ ذُو النُّونِ، فَقَالَ: لَقَدْ سمى مَلِكًا، فَقَالَ حِبَالٌ: أَنَا ابْنُ خُوَيْلِدٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَتَلَكَ اللَّهُ وَحَرَمَكَ الشَّهَادَةَ!».
وحدثنى عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي يعقوب، قَالَ: أخبرنا سيف، قَالَ: وحدثنا سعيد بْن عبيد، عن حريث بْن المعلى: أن أول من كتب الى النبي صلى الله عليه وسلم بخبر طليحة سنان بْن أبي سنان، وَكَانَ على بني مالك، وَكَانَ قضاعي بْن عمرو على بني الحارث.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سعد، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قال: حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالرُّسُلِ، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى نَفَرٍ مِنَ الأَبْنَاءِ رَسُولا، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُحَاوِلُوهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَنْجِدُوا رِجَالا- قَدْ سَمَّاهُمْ- مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَقَيْسٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ أَنْ يُنْجِدُوهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَانْقَطَعَتْ سُبُلُ الْمُرْتَدَّةِ، وَطُعِنُوا فِي نُقْصَانٍ وَأَغْلَقَهُمْ، وَاشْتَغَلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأُصِيبَ الأَسْوَدُ في حياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَبْلَ وَفَاتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ بِلَيْلَةٍ، وَلَظَّ طُلَيْحَةُ وَمُسَيْلَمَةُ وَأَشْبَاهُهُمْ بِالرُّسُلِ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْوَجَعِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالذَّبِّ عَنْ دِينِهِ، فَبَعَثَ وَبَرَ بْنَ يُحَنِّسَ إِلَى فَيْرُوزَ وَجُشَيْشٍ الدَّيْلَمِيِّ وَدَاذُوَيْهِ الإِصْطَخَرِيِّ، وَبَعَثَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى ذِي الْكِلاعِ وَذِي ظُلَيْمٍ، وَبَعَثَ الأَقْرَعَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى ذِي زَوْدٍ وَذِي مُرَّانَ، وَبَعَثَ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ إِلَى ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ، وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيَّ ثُمَّ الْعُمَرِيَّ إِلَى قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ وَالزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ، وَبَعَثَ صُلْصُلَ بْنَ شَرَحْبِيلَ إِلَى سَبْرَةَ الْعَنْبَرِيِّ وَوَكِيعِ الدَّارِمِيِّ وَإِلَى عَمْرِو بْنِ الْمَحْجُوبِ الْعَامِرِيِّ، وَإِلَى عَمْرِو بْنِ الْخَفَاجِيِّ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَبَعَثَ ضِرَارَ بْنَ الأَزْوَرِ الأَسَدِيَّ إِلَى عَوْفٍ الزُّرْقَانِيِّ مِنْ بَنِي الصَّيْدَاءِ وَسِنَانِ الأسدي ثم الغنمي، وقضاعى الدؤلي، وَبَعَثَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الأَشْجَعِيَّ إِلَى ابْنِ ذِي اللِّحْيَةِ وَابْنِ مُشَيْمِصَةَ الْجُبَيْرِيِّ.
وحدثت عن هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثنا الصقعب ابن زهير، عن فقهاء أهل الحجاز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجع وجعه الذي قبض فيه فِي آخر صفر فِي أيام بقين منه، وهو فِي بيت زينب بنت جحش.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ وَعَلِيُّ بن مجاهد، عن محمد ابن إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَوْلَى الْحَكَمِ ابن أَبِي الْعَاصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي»، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَالَ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْمَقَابِرِ، لِيُهِنْ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ فِيهِ! أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يَتْبَعُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا، الآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الأُولَى».
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةُ، خُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي وَالْجَنَّةِ، فَاخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ» قال: قلت: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! فَخُذْ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «لا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ»، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فبدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِوَجَعِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنا محمد ابن إِسْحَاقَ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَقِيعِ، فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي راسى، وانا اقول: وا راساه! قال: «بل انا والله يا عائشة وا راساه!” ثُمَّ قَالَ: “مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَقُمْتُ عَلَيْكِ وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ!» فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْتَ ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَتَتَامَّ بِهِ وَجَعُهُ، وَهُوَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ حَتَّى اسْتَعَزَّ بِهِ وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَدَعَا نِسَاءَهُ فَاسْتَأْذَنَهُنَّ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فاذن له.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِهِ: أَحَدُهُمَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٌ آخَرُ تَخُطُّ قَدَمَاهُ الأَرْضَ، عَاصِبًا رَأْسَهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتِي.
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ:
هَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ لا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَذْكُرَهُ بِخَيْرٍ وهي تستطيع- ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ، فَقَالَ: «أَهْرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتَّى»، حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ، قَالَتْ: فَأَقْعَدْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، ثُمَّ صَبَبْنَا عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى طَفِقَ يَقُولُ: «حَسْبُكُمْ، حَسْبُكُمْ!».
فَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْخَرَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِيَاسٍ اللَّيْثِيُّ، ثم الاشجعى، عن القاسم بن يزيد، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ بن عباس قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ مَوْعُوكًا قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «خُذْ بِيَدِي يَا فَضْلُ»، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: «نَادِ فِي النَّاسِ».
فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، وَإِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، أَلا وَإِنَّ الشَّحْنَاءَ لَيْسَتْ مِنْ طَبْعِي وَلا مِنْ شَأْنِي، أَلا وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ مِنِّي حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ اللَّهَ وَأَنَا أَطْيَبُ النَّفْسِ، وَقَدْ أَرَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُغْنٍ عَنِّي حَتَّى أَقُومَ فِيكُمْ مِرَارًا».
قَالَ الْفَضْلُ: ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ الأُولَى فِي الشَّحْنَاءِ وَغَيْرِهَا، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي عِنْدَكَ ثَلاثَةَ دَرَاهِمَ، قَالَ: «أَعْطِهِ يَا فَضْلُ»، فَأَمَرْتُهُ فَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيُؤَدِّهِ وَلا يَقُلْ فُضُوحَ الدُّنْيَا، أَلا وَإِنَّ فُضُوحَ الدُّنْيَا أَيْسَرُ مِنْ فُضُوحِ الآخِرَةِ» فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ غَلَلْتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: «وَلِمَ غَلَلْتَهَا؟» قَالَ: كُنْتُ إِلَيْهَا مُحْتَاجًا، قَالَ: «خُذْهَا مِنْهُ يَا فَضْلُ» ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ خَشِيَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا فَلْيَقُمْ أَدْعُ لَهُ» فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انى لكذاب، انى لفاحش، وانى لنؤوم، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ صِدْقًا وَإِيمَانًا، وَأَذْهِبْ عَنْهُ النَّوْمَ إِذَا أَرَادَ» ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَكَذَّابٌ وَإِنِّي لَمُنَافِقٌ، وَمَا شَيْءٌ- أَوْ إِنْ شَيْءٌ- إِلا قَدْ جَنَيْتُهُ فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ:
فضحت نفسك ايها الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا بن الْخَطَّابِ، فُضُوحُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ فُضُوحِ الآخِرَةِ، اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ صِدْقًا وَإِيمَانًا وَصَيِّرْ أَمْرَهُ إِلَى خَيْرٍ».
فَقَالَ عُمَرُ كَلِمَةً، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: «عُمَرُ مَعِي وَأَنَا مَعَ عُمَرَ، وَالْحَقُّ بَعْدِي مَعَ عُمَرَ حَيْثُ كَانَ».
حَدَّثَنَا ابن حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَاصِبًا رَأْسَهُ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ صَلَّى عَلَى أَصْحَابِ أُحُدٍ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَكْثَرَ الصَّلاةَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ» قَالَ: فَفَهِمَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِمَ أَنَّ نَفْسَهُ يُرِيدُ، فَبَكَى، وَقَالَ: بَلْ نَفْدِيكَ بِأَنْفُسِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَقَالَ: «على رِسْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ! انْظُرُوا هَذِهِ الأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ اللافِظَةَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا، إِلا مَا كَانَ مِنْ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنِّي لا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ أَفْضَلَ عِنْدِي فِي الصُّحْبَةِ يَدًا مِنْهُ».
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ بَعْضِ آلِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ يَوْمَئِذٍ فِي كَلامِهِ هَذَا: «فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ الْعِبَادِ خَلِيلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا، وَلَكِنَّ صُحْبَةٌ وَإِخَاءُ إِيمَانٍ حَتَّى يَجْمَعَ اللَّهُ بَيْنَنَا عِنْدَهُ».
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عبد الله ابن وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدرى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جَلَسَ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ»، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: فَتَعَجَّبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ عَبْدٍ يُخَيَّرُ، وَيَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا! قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بكر اعلمنا به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا، وَلَكِنْ أُخوَّةُ الإِسْلامِ، لا تَبْقَ خَوْخَةٌ فِي الْمَسْجِدِ إِلا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ».
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الصَّبَّاحِ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: سمعت عبد الملك ابن الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ خَلادٍ الأَسَدِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: نَعَى إِلَيْنَا نَبِيُّنَا وَحَبِيبُنَا نَفْسَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، فَلَمَّا دَنَا الْفِرَاقُ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ أُمِّنَا عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا وَشَدَّدَ، فَدَمَعَتْ عَيْنُهُ، وَقَالَ: «مَرْحَبًا بِكُمْ! رَحِمَكُمُ الله! آوَاكُمُ اللَّهُ! حَفِظَكُمُ اللَّهُ! رَفَعَكُمُ اللَّهُ! نَفَعَكُمُ اللَّهُ! وَفَّقَكُمُ اللَّهُ! نَصَرَكُمُ اللَّهُ! سَلَّمَكُمُ اللَّهُ! رَحِمَكُمُ اللَّهُ! قَبِلَكُمُ اللَّهُ! أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأُوصِي اللَّهُ بِكُمْ، وَأَسْتَخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ، وَأُؤَدِّيكُمْ إِلَيْهِ، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلادِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ لِي وَلَكُمْ: {تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] فَقُلْنَا: مَتَى أَجَلُكَ؟ قَالَ: «قَدْ دَنَا الْفِرَاقُ، وَالْمُنْقَلَبُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى» قُلْنَا: فَمَنْ يُغَسِّلُكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَهْلِي الأَدْنَى فَالأَدْنَى»، قُلْنَا: فَفِيمَ نُكَفِّنُكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: «فِي ثِيَابِي هَذِهِ إِنْ شِئْتُمْ، أَوْ فِي بَيَاضِ مِصْرَ، أَوْ حُلَّةٍ يَمَانِيَّةٍ»، قُلْنَا: فَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَهْلا غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَجَزَاكُمْ عَنْ نبيكم خيرا!» فبكينا وبكى النبي صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: «إِذَا غَسَّلْتُمُونِي وَكَفَّنْتُمُونِي فَضَعُونِي عَلَى سَرِيرِي فِي بَيْتِي هَذَا، عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي، ثُمَّ اخْرُجُوا عَنِّي سَاعَةً، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ جَلِيسِي وَخَلِيلِي جِبْرِيلُ، ثُمَّ مِيكَائِيلُ، ثُمَّ إِسْرَافِيلُ، ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ مَعَ جُنُودٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ بِأَجْمَعِهَا، ثُمَّ ادْخُلُوا عَلَيَّ فَوْجًا فَوْجًا، فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وَلا تُؤْذُونِي بِتَزْكِيَة وَلا بِرَنَّةٍ وَلا صَيْحَةٍ، وَلْيَبْدَأْ بِالصَّلاةِ عَلَيَّ رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي، ثُمَّ نِسَاؤُهُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدُ أقْرِئُوا أَنْفُسَكُمْ مِنِّي السَّلامَ، فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ سَلَّمْتُ عَلَى مَنْ بَايَعَنِي عَلَى دِينِي مِنَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قُلْنَا: فَمَنْ يُدْخِلُكَ فِي قَبْرِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَهْلِي مَعَ مَلائِكَةٍ كَثِيرِينَ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَمَّادٍ الدُّولابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ ابن أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخميس! قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ، فَقَالَ: «ائْتُونِي أَكْتُبُ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا فَتَنَازَعُوا- وَلا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ ان يتنازع»، فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ؟ أَهَجَرَ! اسْتَفْهِمُوهُ، فَذَهَبُوا يُعِيدُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «دَعُونِي فَمَا أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَأُوصِي بِثَلاثٍ»، قَالَ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوٍ مِمَّا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ»، وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ عَمْدًا- أَوْ قَالَ: «فَنَسِيتُهَا».
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: «وَلا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ أَنْ يُنَازَعَ».
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَصَالِحُ بْنُ سمال، قال: حدثنا وكيع، عن مالك ابن مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! قَالَ: ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى دُمُوعِهِ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ كَأَنَّهَا نِظَامُ اللؤلؤ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائْتُونِي بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ- أَوْ بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ- أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ» قَالَ: فَقَالُوا: ان رسول الله يَهْجُرُ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قال: حدثنى عمى عبد الله ابن وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أخبرني عبد الله ابن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَرَجَ مِنْ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: أَلا تَرَى أَنَّكَ بَعْدَ ثَلاثٍ عَبْدَ الْعَصَا! وَإِنِّي أَرَى رسول الله سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ هَذَا، وَإِنِّي لأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَاذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَسَلْهُ فِيمَنْ يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ؟ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمَرَ بِهِ فَأَوْصَى بِنَا قَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنَعَنَاهَا لا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَاللَّهِ لا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ أَبَدًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ يَوْمَئِذٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النَّاسِ مِنْ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ الْمَوْتَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ كَمَا كُنْتُ أَعْرِفُهُ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الأَمْرُ فِينَا عَلِمْنَا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمَرَنَا فَأَوْصَى بِنَا النَّاسَ، وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفْرِغُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ مِنْ سَبْعِ آبَارٍ شَتَّى، لَعَلِّي أَخْرُجُ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ».
قَالَ مُحَمَّدٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَصَبَبْنَا عَلَيْهِ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، فَوَجَدَ رَاحَةً، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَخَطَبَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لِلشُّهَدَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أُحُدٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِالأَنْصَارِ خَيْرًا، فَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، إِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ تَزِيدُونَ، وَأَصْبَحَتِ الأَنْصَارُ لا تَزِيدُ عَلَى هَيْئَتِهَا الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ، وَالأَنْصَارُ عَيْبَتِي الَّتِي أَوَيْتُ إِلَيْهَا، فَأَكْرِمُوا كَرِيمَهُمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَبَيْنَ الدُّنْيَا فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ»، فَلَمْ يَفْقَهْهَا إِلا أَبُو بَكْرٍ، ظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَبَكَى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ! سُدُّوا هَذِهِ الأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ فِي الْمَسْجِدِ إِلا بَابَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنِّي لا أَعْلَمُ امْرَأً أَفْضَلَ يَدًا فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ».
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ الله بن عبد الله ابن عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَدَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: “لا تَلُدُّونِي!” فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ الدَّوَاءَ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: «لا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا لُدَّ، غَيْرَ الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ».
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ، عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ثُمَّ نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَتَتَامَّ بِهِ وَجَعُهُ حَتَّى غُمِرَ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ نِسَائِهِ: أُمُّ سَلَمَةَ، وَمَيْمُونَةُ، وَنِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْهُنَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَعِنْدَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَلُدُّوهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لأَلُدَنَّهُ، قَالَ: فَلُدَّ، فَلَمَّا أَفَاقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ صَنَعَ بِي هَذَا؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَمُّكَ الْعَبَّاسُ، قَالَ: «هَذَا دَوَاءٌ أَتَى بِهِ نِسَاءٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الأَرْضِ» – وَأَشَارَ نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ- قَالَ: “وَلِمَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ؟” فَقَالَ الْعَبَّاسُ: خَشِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ بِكَ وَجَعُ ذَاتِ الْجَنْبِ، فَقَالَ: «إِنَّ ذَلِكَ لَدَاءٌ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَنِي بِهِ، لا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلا لُدَّ إِلا عَمِّي» قَالَ: فَلَقَدْ لُدَّتْ مَيْمُونَةُ وانها لصائمه لقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عُقُوبَةً لَهُمْ بِمَا صَنَعُوا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بن الزبير، عن عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: خَشِينَا أَنْ يَكُونَ بِكَ ذَاتُ الْجَنْبِ، قَالَ: «إِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُسَلِّطَهَا عَلَيَّ».
حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ ابن زهير، عن فقهاء أهل الحجاز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَقُلَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نِسَاؤُهُ وَابْنَتُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجَمِيعُهُمْ، وَإِنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ قَالَتْ: مَا وَجَعُهُ هَذَا إِلا ذَاتُ الْجَنْبِ، فَلُدُّوهُ، فَلَدَدْنَاهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: «مَنْ فَعَلَ بِي هَذَا؟» قَالُوا: لَدَّتكَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، ظَنَّتْ أَنَّ بِكَ ذَاتَ الْجَنْبِ قَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ يَبْلِيَنِي بِذَاتِ الْجَنْبِ، أَنَا أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ».
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ اسامه ابن زيد، قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هَبَطْتُ وَهَبَطَ النَّاسُ مَعِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَخَلْنَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أُصْمِتَ فَلا يَتَكَلَّمُ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَيَّ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا مَا أَسْمَعُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيًّا حَتَّى يُخَيِّرَهُ».
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الأَرْقَمِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابن عباس: اوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابْعَثُوا إِلَى عَلِيٍّ فَادْعُوهُ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ بَعَثْتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ! وَقَالَتْ حَفْصَةُ: لَوْ بَعَثْتَ إِلَى عُمَرَ! فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ جَمِيعًا، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْصَرِفُوا، فَإِنْ تَكُ لِي حَاجَةً أَبْعَثْ إِلَيْكُمْ»، فانصرفوا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آنَ الصَّلاةُ؟»، قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأْمُرُوا أَبَا بَكْرٍ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، فَمُرْ عُمَرَ، فَقَالَ: «مُرُوا عُمَرَ»، فَقَالَ عمر: ما كنت لا تقدم وابو بكر شَاهِدٌ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حَرَكَتَهُ تأخر، فجذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ، فَأَقَامَهُ مَكَانَهُ، وَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَرَأَ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى أَبُو بَكْرٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ، قَالا: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، وَحَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَرَضَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أُذِّنَ بِالصَّلاةِ، فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ»، فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُومُ مَقَامَكَ لا يُطِيقُ! قَالَ: فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ»، فَقُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: «إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ -وَقَالَ ابْنُ وَكِيعٍ: صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ- مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ»، قَالَ: فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَقَدَمَاهُ تَخُطَّانِ فِي الأَرْضِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، تَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ قُمْ فِي مَقَامِكَ، فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ جَالِسًا قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاةِ النَّبِيِّ، وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ اللَّفْظُ لِحَدِيثِ عِيسَى بْنِ عُثْمَانَ.
حدثت عن الْوَاقِدِيّ، قَالَ: سألت ابن أبي سبرة: كم صلى أبو بكر بالناس؟ قَالَ: سبع عشرة صلاة، قلت: من أخبرك؟ قَالَ: أيوب بْن عبد الرحمن بْن أبي صعصعة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: وحدثنا ابن أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عن عكرمة، قَالَ: صلى بهم أبو بكر ثلاثة أيام.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَرْجَسٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَمُوتُ، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكْرَةِ الْمَوْتِ!».
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَرْجَسٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَمُوتُ ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: «أَعْنِي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ».
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ، الْيَوْمُ الَّذِي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ، فَرَفَعَ السِّتْرَ، وَفَتَحَ الْبَابَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، حَتَّى قَامَ بِبَابِ عَائِشَةَ، فَكَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ، فَرَحًا بِهِ، وَتَفَرَّجُوا فَأَشَارَ بِيَدِهِ: أَنِ اثْبُتُوا عَلَى صَلاتِكُمْ، وَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ فَرَحًا لَمَّا رَأَى مِنْ هَيْئَتِهِمْ فِي صَلاتِهِمْ، وما رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ هَيْئَةً مِنْهُ تِلْكَ السَّاعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ وَانْصَرَفَ النَّاسُ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَفَاقَ مِنْ وَجَعِهِ، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أَهْلِهِ بِالسُّنْحِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَاصِبًا رَأْسَهُ إِلَى الصُّبْحِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بالناس، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تَفَرَّجَ النَّاسُ، فَعَرَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ النَّاسَ لم يفعلوا ذلك الا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَنَكَصَ عَنْ مُصَلاهُ، فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ فِي ظَهْرِهِ، وَقَالَ: «صَلِّ بِالنَّاسِ» وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى جَنْبِهِ، فَصَلَّى قَاعِدًا عَنْ يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَكَلَّمَهُمْ رَافِعًا صَوْتَهُ حَتَّى خَرَجَ صَوْتَهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، سُعِّرَتِ النَّارُ، وَأَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ! وَإِنِّي وَاللَّهِ لا تُمْسِكُونَ عَلَيَّ شَيْئًا، إِنِّي لَمْ أُحِلَّ لَكُمْ إِلا مَا أَحَلَّ لَكُمُ الْقُرْآنُ، وَلَمْ أُحَرِّمْ عَلَيْكُمْ إِلا مَا حَرَّمَ عليكم القرآن» فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ كَلامِهِ، قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أَرَاكَ قَدْ أَصْبَحْتَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ كَمَا نُحِبُّ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ ابْنَةِ خَارِجَةَ، فَآتِيهَا ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أَهْلِهِ بِالسُّنْحِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَ دَخَلَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاضْطَجَعَ فِي حِجْرِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ آلِ بَكْرٍ فِي يَدِهِ سِوَاكٌ أَخْضَرُ قَالَتْ: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى يَدِهِ نَظَرًا عَرَفْتُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ، فَأَخَذْتُهُ فَمَضَغْتُهُ حَتَّى أَلَنْتُهُ، ثُمَّ أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ، قَالَتْ: فَاسْتَنَّ بِهِ كَأَشَدِّ مَا رَأَيْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ قَبْلَهُ، ثُمَّ وَضَعَهُ، وَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَثْقُلُ فِي حِجْرِي قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ، فَإِذَا نَظَرُهُ قَدْ شَخَصَ، وَهُوَ يَقُولُ: «بَلِ الرَّفِيقُ الأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ!» قَالَتْ: قُلْتُ: خُيِّرْتَ فَاخْتَرْتَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! قَالَتْ: وَقُبِضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عائشة تقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَفِي دَوْرِي، وَلَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ، وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ مَعَ النِّسَاءِ، وَأَضْرِبُ وَجْهِي.
ذكر الأخبار الواردة باليوم الذى توفى فيه رسول الله ومبلغ سنه يوم وفاته
قَالَ أبو جعفر: أما اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار فيه أنه كان يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، غير أنه اختلف في اى الاثانين كان موته صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ بعضهم فِي ذَلِكَ مَا حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي مخنف، قال: حدثنا الصقعب بن زهير، عن فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ، قالوا: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، لِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ شَهْرِ- رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَبُويِعَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَ الاثْنَيْنِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وقال الواقدى: توفى يوم الاثنين لثنى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ نِصْفَ النَّهَارِ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَذَلِكَ يَوْمُ الثُّلاثَاءِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ وَعُمَرُ حَاضِرٌ فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنَّ رِجَالا من المنافقين يزعمون ان رسول الله تُوُفِّيَ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا مَاتَ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، فَغَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ قِيلَ قَدْ مَاتَ، وَاللَّهِ لَيَرْجِعِنَّ رَسُولُ اللَّهِ فَلْيُقَطِّعَنَّ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلُهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ.
قَالَ: وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى نَزَلَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى دَخَلَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ مُسَجًّى فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، عَلَيْهِ بُرْدُ حَبِرَةٍ، فَأَقْبَلَ حَتَّى كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَدْ ذُقْتَهَا، ثُمَّ لَنْ يُصِيبَكَ بَعْدَهَا مَوْتَةٌ أَبَدًا ثُمَّ رَدَّ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ يَا عُمَرُ! فَانْصِتْ، فَأَبَى إِلا أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ لا يُنْصِتُ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ كَلامَهُ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ، وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ.
ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ} [آل عمران: 144] الى آخر الآية قال: فو الله لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ قَالَ: وَأَخَذَهَا النَّاسُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّمَا هِيَ فِي أَفْوَاهِهِمْ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ يَتْلُوهَا فَعُقِرْتُ حَتَّى وَقَعْتُ إِلَى الأَرْضِ، مَا تَحْمِلُنِي رِجْلايَ، وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ مَاتَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا، فَجَاءَ بَعْدَ ثَلاثٍ، وَلَمْ يَجْتَرِئْ أَحَدٌ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ وَجْهِهِ، حَتَّى أُرْبِدَ بَطْنُهُ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! طِبْتَ حَيًّا وَطِبْتَ مَيِّتًا! ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: لَمْ يَمُتْ، وَكَانَ يَتَوَعَّدُ النَّاسَ بِالْقَتْلِ فِي ذَلِكَ.
فَاجْتَمَعَ الأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ لِيُبَايِعُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ، فَأَتَاهُمْ وَمَعَهُ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِنَّا الأُمَرَاءُ وَمِنْكُمُ الْوُزَرَاءُ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: عُمَرَ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ، إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: ابْعَثْ مَعَنَا أَمِينًا فَقَالَ:
لأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ، فَبَعَثَ مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَأَنَا أَرْضَى لَكُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ فَقَامَ عُمَرُ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ تَطِيبُ نفسه ان يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم! فَبَايَعَهُ عُمَرُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ- أَوْ بَعْضُ الأَنْصَارِ، لا نُبَايِعُ إِلا عَلِيًّا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْزِلَ عَلِيٍّ وَفِيهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَحْرِقَنَّ عَلَيْكُمْ أَوْ لَتَخْرُجُنَّ إِلَى الْبَيْعَةِ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ مصلتا بالسيف، فَعَثَرَ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فاخذوه.
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَوْدِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُمَيْرِيِّ، قَالَ: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ فَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! مَا أَطْيَبَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا! مَاتَ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى المنبر، فوجد عمر ابن الْخَطَّابِ قَائِمًا يُوعِدُ النَّاسَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَإِنَّهُ خَارِجٌ إِلَى مَنْ أَرْجَفَ بِهِ، وَقَاطِعٌ أَيْدِيَهُمْ، وَضَارِبٌ أَعْنَاقَهُمْ، وَصَالِبُهُمْ قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: أَنْصِتْ قَالَ: فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يُنْصِتَ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وقال: ان الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30-31] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ، فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَقَدْ مَاتَ إِلَهُهُ الَّذِي كَانَ يَعْبُدُهُ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ لا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ.
قَالَ: فَحَلَفَ رِجَالٌ أَدْرَكْنَاهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:
ما علمنا ان هاتين الآيَتَيْنِ نَزَلَتَا حَتَّى قَرَأَهُمَا أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَسْعَى فَقَالَ: هَاتِيكَ الأَنْصَارُ قَدِ اجْتَمَعَتْ فِي ظُلَّةِ بَنِي سَاعِدَةَ، يُبَايِعُونَ رَجُلا مِنْهُمْ، يَقُولُونَ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْ قُرَيْشٍ أَمِيرٌ، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَتَقَاوَدَانِ حتى أتياهم، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَنَهَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فقال: لا اعصى خليفه النبي صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ.
قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا نَزَلَ فِي الأَنْصَارِ، وَلا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شانهم الا وذكره وقال: لقد عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ وَادِيًا سَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ»، وَلَقَدْ عَلِمْتَ يَا سَعْدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَأَنْتَ قَاعِدٌ: «قُرَيْشٌ وُلاةُ هَذَا الأَمْرِ»، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ لِفَاجِرِهِمْ قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: صَدَقْتَ، فَنَحْنُ الْوُزَرَاءُ وَأَنْتُمُ الأُمَرَاءُ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: ابْسُطْ يَدَكَ يا أبا بكر فلابايعك، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلْ أَنْتَ يَا عُمَرُ، فَأَنْتَ أَقْوَى لَهَا مِنِّي قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ، قَالَ: وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرِيدُ صَاحِبَهُ يَفْتَحُ يَدَهُ يَضْرِبُ عَلَيْهَا، فَفَتَحَ عُمَرُ يَدَ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: إِنَّ لَكَ قُوَّتِي مَعَ قُوَّتِكَ قَالَ: فَبَايَعَ النَّاسُ وَاسْتَثْبَتُوا لِلْبَيْعَةِ، وَتَخَلَّفَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ، وَاخْتَرَطَ الزُّبَيْرُ سَيْفَهُ، وَقَالَ: لا أَغْمِدُهُ حَتَّى يُبَايَعَ عَلِيٌّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: خُذُوا سَيْفَ الزُّبَيْرِ، فَاضْرِبُوا بِهِ الْحَجَرَ قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ، فَجَاءَ بِهِمَا تَعِبًا، وَقَالَ:
لَتُبَايِعَانِ وَأَنْتُمَا طَائِعَانِ، أَوْ لَتُبَايِعَانِ وَأَنْتُمَا كَارِهَانِ! فَبَايَعَا.
حوادث السنة الحادية العشرة بعد وفاة رسول الله
حَدِيثُ السَّقِيفَةِ
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ الْقُرْآنَ، قَالَ: فَحَجَّ عُمَرُ وَحَجَجْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَإِنِّي لَفِي منزل بمنى إذ جاءني عبد الرحمن ابن عَوْفٍ، فَقَالَ: شَهِدْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، وَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ فُلانًا يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلانًا قَالَ: فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: إِنِّي لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوا النَّاسَ أَمْرَهُمْ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رِعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، وَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، وَإِنِّي لَخَائِفٌ إِنْ قُلْتَ الْيَوْمَ مَقَالَةً أَلا يَعُوهَا وَلا يَحْفَظُوهَا، وَلا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، وَأَنْ يَطَّيَّرُوا بِهَا كُلَّ مُطَيْرٍ، وَلَكِنْ أَمْهِلْ حتى تقدم المدينة، نقدم دَارَ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، وَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَتَقُولُ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا فَيَعُوا مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَقُومَنَّ بِهَا فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَجَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هَجَّرْتُ لِلْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَوَجَدْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ، فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، رُكْبَتِي إِلَى رُكْبَتِهِ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ لَمْ يَلْبَثْ عُمَرُ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ لِسَعِيدٍ وَهُوَ مُقْبِلٌ: لَيَقُولَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ مَقَالَةً لَمْ تُقَلْ قَبْلَهُ فَغَضِبَ وَقَالَ: فَأَيُّ مَقَالَةٍ يَقُولُ لَمْ تُقَلْ قَبْلَهُ! فَلَمَّا جَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ، فَلَمَّا قَضَى الْمُؤَذِّنُ أَذَانَهُ قَامَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ أَنْ أَقُولَهَا، مَنْ وَعَاهَا وَعَقَلَهَا وَحَفِظَهَا، فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ تَنْتَهِي بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ لَمْ يَعِهَا فَإِنِّي لا أُحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، وَإِنِّي قَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَقَدْ كُنَّا نَقُولُ: لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلا مِنْكُمْ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَايَعْتُ فُلانًا! فَلا يَغُرَّنَّ امْرَأً أَنْ يَقُولَ:
إِنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً، فَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ إِلَيْهِ الأَعْنَاقُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ! وَإِنَّهُ كَانَ من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ مَعَهُمَا تَخَلَّفُوا عَنَّا فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ، وَتَخَلَّفَتْ عَنَّا الأَنْصَارُ بِأَسْرِهَا، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نَؤُمُّهُمْ، فَلَقِيَنَا رَجُلانِ صَالِحَانِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا، فَقَالا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقُلْنَا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأَنْصَارِ قَالا: فَارْجِعُوا فَاقْضُوا أَمْرَكُمْ بَيْنَكُمْ فَقُلْنَا: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ قَالَ: وَإِذَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَجُلٌ مُزَّمِّلٌ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُهُ؟ قَالُوا: وَجِعٌ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَنَحْنُ الأَنْصَارُ وَكَتِيبَةُ الإِسْلامِ، وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ رَهْطُ نَبِيِّنَا، وَقَدْ دَفَّتْ إِلَيْنَا مِنْ قَوْمِكُمْ دَافَّةٌ قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا، وَيَغْصِبُونَا الأَمْرَ وَقَدْ كُنْتُ زَوِرْتُ فِي نَفْسِي مَقَالَةً أُقَدِّمُهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ كُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بعض الحد، وَكَانَ هُوَ أَوْقَرَ مِنِّي وَأَحْلَمَ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: عَلَى رِسْلِكَ! فَكَرِهْتُ أَنْ أَعْصِيَهُ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَمَا تَرَكَ شَيْئًا كُنْتُ زَوِرْتُ فِي نَفْسِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ لَوْ تَكَلَّمْتُ، إِلا قَدْ جَاءَ بِهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ.
وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، فَإِنَّكُمْ لا تَذْكُرُونَ مِنْكُمْ فَضْلا إِلا وَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَإِنَّ الْعَرَبَ لا تَعْرِفُ هَذَا الأَمْرَ إِلا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَنَسَبًا، وَلَكِنْ قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ فَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ.
وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا كَرِهْتُ مِنْ كَلامِهِ شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، إِنْ كُنْتُ لأُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي فِيمَا لا يُقَرِّبُنِي إِلَى إِثْمٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا قَضَى أَبُو بَكْرٍ كَلامَهُ، قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ.
قَالَ: فَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، فَلَمَّا أَشْفَقْتُ الاخْتِلافَ، قُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، وَبَايَعَهُ الأَنْصَارُ ثُمَّ نَزَوْنَا عَلَى سَعْدٍ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقُلْتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدًا! وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا أَمْرًا هُوَ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقَنَا الْقَوْمُ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُحْدِثُوا بَعْدَنَا بَيْعَةً، فَإِمَّا أَنْ نُتَابِعَهُمْ عَلَى مَا نَرْضَى، أَوْ نُخَالِفَهُمْ فَيَكُونَ فَسَادٌ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: إِنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَقَوْا مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ ذَهَبُوا إِلَى السَّقِيفَةِ، عُوَيْمُ بْن سَاعِدَةَ وَالآخَرَ مَعْنُ بْنُ عَدِيِّ، أَخُو بَنِي الْعَجَلانِ، فَأَمَّا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ فَهُوَ الَّذِي بَلَغَنَا أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَ الْمَرْءُ مِنْهُمْ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ!» وَأَمَّا مَعْنٌ فَبَلَغَنَا أَنَّ النَّاسَ بَكَوْا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ تَوَفَّاهُ اللَّهُ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوَدَدْنَا أَنَّا مِتْنَا قَبْلَهُ، إِنَّا نَخْشَى أَنْ نُفْتَتَنَ بَعْدَهُ فَقَالَ مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنِّي مِتُّ قَبْلَهُ حَتَّى أُصَدِّقَهُ مَيِّتًا كَمَا صَدَّقْتُهُ حَيًّا فَقُتِلَ مَعْنٌ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
حدثنا عبيد الله بن سعيد الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ظَبْيَةَ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: قال عمرو بن حريث لسعيد ابن زيد: اشهدت وفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَتَى بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كَرِهُوا أَنْ يَبْقَوْا بَعْضَ يَوْمٍ وَلَيْسُوا فِي جَمَاعَةٍ قَالَ: فَخَالَفَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ قَالَ: لا إِلا مُرْتَدٌّ أَوْ مَنْ قَدْ كَادَ أَنْ يَرْتَدَّ، لَوْلا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْقِذُهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: فَهَلْ قَعَدَ أَحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ؟ قَالَ: لا، تَتَابَعَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى بَيْعَتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سيف، عن عبد العزيز بن سياه، عن حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ فِي بَيْتِهِ إِذْ أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ لِلْبَيْعَةِ، فَخَرَجَ فِي قَمِيصٍ مَا عَلَيْهِ إِزَارٌ وَلا رِدَاءٌ، عَجِلا، كَرَاهِيَةَ أَنْ يُبْطِئَ عَنْهَا، حَتَّى بَايَعَهُ ثُمَّ جَلَسَ إِلَيْهِ وَبَعَثَ إِلَى ثَوْبِهِ فَأَتَاهُ فَتَجَلَّلَهُ، وَلَزِمَ مَجْلِسَهُ.
حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ الضِّرَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ والعباس أتيا أَبَا بَكْرٍ يَطْلُبَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَهُ مِنْ فَدَكٍ، وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: أَمَا انى سمعت رسول الله يَقُولُ: «لا نُوَرَّثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْمَالِ» وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ الله يَصْنَعُهُ إِلا صَنَعْتُهُ قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ، فَدَفَنَهَا عَلِيٌّ لَيْلا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَكَانَ لِعَلِيٍّ وَجْهٌ مِنَ النَّاسِ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ النَّاسِ عَنْ عَلِيٍّ، فَمَكَثَتْ فَاطِمَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ.
قَالَ مَعْمَرٌ: فَقَالَ رَجُلٌ لِلزُّهْرِيِّ: أَفَلَمْ يُبَايِعْهُ عَلِيٌّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ! قَالَ:
لا، وَلا أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، حَتَّى بَايَعَهُ عَلِيٌّ فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ انْصِرَافَ وُجُوهِ النَّاسِ عَنْهُ ضَرَعَ إِلَى مُصَالَحَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنِ ائْتِنَا وَلا يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ، وَكَرِهَ أَنْ يَأْتِيَهُ عُمَرُ لِمَا عَلِمَ مِنْ شِدَّةِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لا تأتهم وحدك، قال ابو بكر: ولله لآتِيَنَّهُمْ وَحْدِي، وَمَا عَسَى أَنْ يَصْنَعُوا بِي! قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَدَخَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَقَدْ جَمَعَ بَنِي هَاشِمٍ عِنْدَهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنَا مِنْ أَنْ نُبَايِعَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنْكَارٌ لِفَضِيلَتِكَ، وَلا نَفَاسَةٌ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّا كُنَّا نَرَى أَنَّ لَنَا فِي هَذَا الأَمْرِ حَقًّا، فَاسْتَبَدَدْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا.
ثُمَّ ذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وَحَقَّهُمْ فَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى بَكَى أَبُو بَكْرٍ.
فَلَمَّا صَمَتَ عَلِيٌّ تَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثم قال: اما بعد، فو الله لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَلَوْتُ فِي هَذِهِ الأَمْوَالِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ غَيْرَ الخير، ولكنى سمعت رسول الله يَقُولُ: «لا نُوَرَّثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْمَالِ»، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ لا أَذْكُرُ أَمْرًا صَنَعَهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إِلا صَنَعْتُهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ عَذَرَ عَلِيًّا بِبَعْضِ مَا اعْتَذَرَ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ فَعَظَّمَ مِنْ حَقِّ أَبِي بَكْرٍ، وَذَكَرَ فَضِيلَتَهُ وَسَابِقَتَهُ، ثُمَّ مَضَى إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعَهُ قَالَتْ: فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالُوا: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ، قَالَتْ: فَكَانَ النَّاسُ قَرِيبًا إِلَى عَلِيٍّ حِينَ قَارَبَ الْحَقَّ وَالْمَعْرُوفَ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مالك- يعنى ابن مغول- عن ابن الحر، قَالَ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِعَلِيٍّ: مَا بَالُ هَذَا الأَمْرِ فِي أَقَلِّ حَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ لَئِنْ شِئْتَ لأَمْلأَنَّهَا عَلَيْهِ خَيْلا وَرِجَالا! قَالَ: فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، طَالَمَا عَادَيْتَ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ فَلَمْ تَضُرَّهُ بِذَاكَ شَيْئًا! إِنَّا وَجَدْنَا أَبَا بَكْرٍ لَهَا أَهْلا.
حدثني محمد بْن عثمان الثقفي، قَالَ: حَدَّثَنَا أمية بْن خالد، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: لما استخلف أبو بكر قال ابو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل، إنما هي بنو عبد مناف! قَالَ: فقيل لَهُ: إنه قد ولى ابنك، قَالَ: وصلته رحم! حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَوَانَةُ، قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ، أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى عَجَاجَةً لا يُطْفِئُهَا إِلا دَمٌ! يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ فِيمَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أُمُورِكُمْ! أَيْنَ الْمُسْتَضْعَفَانِ! أَيْنَ الأَذَلانِ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ! وَقَالَ: أَبَا حَسَنٍ! ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ.
فَأَبَى عَلِيٌّ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ الْمُتَلَمِّسِ:
وَلَنْ يُقِيمَ عَلَى خَسْفٍ يُرَادُ بِهِ *** إِلا الأَذَلانِ عِيرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ
هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَعْكُوسٌ بِرُمَّتِهِ *** وَذَا يُشَجُّ فَلا يَبْكِي لَهُ أَحَدُ
قَالَ: فَزَجَرَهُ عَلِيٌّ، وَقَالَ: إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا إِلا الْفِتْنَةَ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ طَالَمَا بَغَيْتَ الإِسْلامَ شَرًّا! لا حَاجَةَ لَنَا فِي نَصِيحَتِكَ.
قَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ: أَنْتُمَا الأَذَلانِ! ثُمَّ أَنْشَدَ يَتَمَثَّلُ:
إِنَّ الْهَوَانَ حِمَارُ الأَهْلِ يَعْرِفُهُ *** وَالْحُرُّ يُنْكِرُهُ وَالرُّسْلَةُ الأَجَدُ
وَلا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ *** إِلا الأَذَلانِ عِيرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ
هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَعْكُوسٌ بِرُمَّتِهِ *** وَذَا يُشَجُّ فَلا يَبْكِي لَهُ أَحَدُ
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي السَّقِيفَةِ، وَكَانَ الْغَدُ، جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلَّمَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمْ بِالأَمْسِ مَقَالَةً مَا كَانَتْ إِلا عَنْ رَأْيِي، وَمَا وَجَدْتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلا كَانَتْ عَهْدًا عَهِدَهُ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنِّي قَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَيُدبِرُ أَمْرَنَا، حَتَّى يَكُونَ آخِرَنَا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْقَى فِيكُمْ كِتَابَهُ الَّذِي هَدَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ هَدَاكُمُ اللَّهُ لِمَا كَانَ هَدَاهُ لَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ، وثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، فَقُومُوا فَبَايِعُوا فَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ السَّقِيفَةِ.
ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ مِنْكُمُ الضَّعِيفُ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا يَدَعُ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لا يَدَعُهُ قَوْمٌ إِلا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْبَلاءِ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ قُومُوا إِلَى صَلاتِكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ!
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَمْشِي مَعَ عُمَرَ فِي خِلافَتِهِ، وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى حَاجَةٍ لَهُ، وَفِي يَدِهِ الدِّرَّةُ، وَمَا مَعَهُ غَيْرِي.
قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ، وَيَضْرِبُ وَحْشِيَّ قَدَمَهُ بِدِرَّتِهِ، قَالَ إِذِ التفت الى فقال: يا بن عَبَّاسٍ، هَلْ تَدْرِي مَا حَمَلَنِي عَلَى مَقَالَتِي هَذِهِ الَّتِي قُلْتُ حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا أَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ إِلا أَنِّي كُنْتُ أَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143]، فو الله إِنِّي كُنْتُ لأَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَيَبْقَى فِي أُمَّتِهِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهَا بِآخِرِ أَعْمَالِهَا، فَإِنَّهُ لَلَّذِي حَمَلَنِي عَلَى أَنْ قُلْتُ مَا قلت.
ذكر جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ اقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ يَوْمَ الثلاثاء، وذلك الغد من وفاته صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا دُفِنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ بَعْضِ قَائِلِي ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ وَكَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِهِ، عَمَّنْ يُحَدِّثُهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ والعباس بن عبد المطلب والفضل ابن الْعَبَّاسِ وَقُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين ولو غُسْلَهُ، وَإِنَّ أَوْسَ بْنَ خَوْلِيٍّ أَحَدَ بَنِي عوف ابن الْخَزْرَجِ، قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنْشُدُكَ الله يا علي، وحظنا من رسول اللَّهِ! وَكَانَ أَوْسٌ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ، وَقَالَ: ادخل، فدخل فحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى صَدْرِهِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ هُمُ الَّذِينَ يَقْلِبُونَهُ مَعَهُ، وَكَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَشُقْرَانُ مَوْلِيَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يَصُبَّانِ الْمَاءَ، وَعَلِيٌّ يَغْسِلُهُ قَدْ أَسْنَدَهُ إِلَى صَدْرِهِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يُدْلِكُهُ مِنْ وَرَائِهِ، لا يُفْضِي بِيَدِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلِيٌّ يَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! مَا أَطْيَبَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا! وَلَمْ يُرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْءٌ مِمَّا يُرَى مِنَ الْمَيِّتِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى ابن عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لما أرادوا ان يغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أَوْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ! فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أُلْقِيَ عَلَيْهِمُ السِّنَةُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلا وَذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُتَكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لا يُدْرَى مَنْ هُوَ: أَنِ اغْسِلُوا النَّبِيَّ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، قَالَتْ: فَقَامُوا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يَصُبُّونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ، وَيُدَلِّكُونَهُ وَالْقَمِيصُ دُونَ أَيْدِيهِمْ.
قَالَ: فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَهُ إِلا نِسَاؤُهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن جعفر ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ غَسْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ: ثَوْبَيْنِ صَحَارِيَّيْنِ وَبُرْدٍ حبَرَةٍ، أُدْرِجَ فِيهَا إِدْرَاجًا.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَادُوا ان يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم – وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَضْرَحُ كَحَفْرِ اهل مكة، وكان ابو طلحه زيد ابن سَهْلٍ هُوَ الَّذِي يَحْفِرُ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَلْحَدُ- فَدَعَا الْعَبَّاسُ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ لأَحَدِهِمَا: اذْهَبْ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلِلآخَرِ: اذْهَبْ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، اللَّهُمَّ خِرْ لِرَسُولِكَ، قَالَ: فَوَجَدَ صَاحِبُ أَبِي طَلْحَةَ أَبَا طَلْحَةَ فَجَاءَ بِهِ فَلَحَدَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من جهاز رسول الله يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ: نَدْفِنُهُ فِي مَسْجِدِهِ، وَقَالَ قَائِلٌ: يُدْفَنُ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلا يُدْفَنُ حَيْثُ قُبِضَ»، فَرُفِعَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي تُوُفِّيَ عَلَيْهِ، فَحُفِرَ لَهُ تَحْتَهُ، وَدَخَلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ أَرْسَالا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الرِّجَالُ أُدْخِلَ النِّسَاءُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ النِّسَاءُ أُدْخِلَ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ أُدْخِلَ الْعَبِيدُ، وَلَمْ يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم احد، ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ وَسَطِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ- يَعْنِي ابْنَ أَبِي بَكْرٍ- عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الَّذِي نزل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَقُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَشَقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيٍّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ وَحَظُّنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ! فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ، فَنَزَلَ مَعَ الْقَوْمِ، وَقَدْ كَانَ شَقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ الله حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي حُفْرَتِهِ، وَبُنِيَ عَلَيْهِ، قَدْ أَخَذَ قَطِيفَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَلْبَسُهَا وَيَفْتَرِشُهَا، فَقَذَفَهَا فِي الْقَبْرِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لا يَلْبَسُهَا أَحَدٌ بَعْدَكَ ابدا قال: فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَدَّعِي أَنَّهُ أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَقُولُ: أَخَذْتُ خَاتَمِي فَأَلْقَيْتُهُ فِي الْقَبْرِ، وَقُلْتُ: إِنَّ خَاتَمِي قَدْ سَقَطَ، وَإِنَّمَا طَرَحْتُهُ عَمْدًا لامس رسول الله، فَأَكُونَ آخِرَ النَّاسِ بِهِ عَهْدًا حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارث ابن نَوْفَلٍ، عَنْ مَوْلاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: اعْتَمَرْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي زَمَانِ عُمَرَ- أَوْ زَمَانِ عُثْمَانَ- فَنَزَلَ عَلَى أُخْتِهِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ رَجَعَ وَسَكَبَتْ لَهُ غُسْلا فَاغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالُوا، يَا أَبَا الْحَسَنِ، جِئْنَا نَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرٍ نُحِبُّ أَنْ تُخْبِرَنَا بِهِ! فَقَالَ: أَظُنُّ الْمُغِيرَةَ يُحَدِّثُكُمْ أَنَّهُ كَانَ أَحْدَثَ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! قَالُوا: أَجَلْ، عَنْ ذَا جِئْنَا نَسْأَلُكَ! قَالَ: كَذَبَ، كَانَ أَحْدَثَ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ ابن كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
كَانَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ حِينَ اشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ، قَالَتْ: فَهُوَ يَضَعُهَا مَرَّةً عَلَى وَجْهِهِ، وَمَرَّةً يَكْشِفُهَا عَنْهُ، وَيَقُولُ: «قَاتَلَ اللَّهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ!» يُحَذِّرُ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صالح ابن كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كان آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ».
قالت: وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا فَاسْتَكْمَلَ فِي هِجْرَتِهِ عَشْرَ سِنِينَ كَوَامِلَ.
واختلف في مبلغ سنه يوم توفى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بعضهم: كان لَهُ يومئذ ثلاث وستون سنة.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ- يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ- عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عن ابيه، قال: عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَلاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: أُنْزِلَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عن عائشة، قالت: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ.
وقال آخرون: كان لَهُ يومئذ خمس وستون.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ دَغْفَلٍ- يعنى ابن حنظله- ان النبي صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وقال آخرون: بل كان لَهُ يومئذ ستون سنة.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ.
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي عائشة وابن عباس، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وبالمدينة عشرا.
ذكر الخبر عن اليوم والشهر اللذين توفي فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ الْجُرْجَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عن ابن عمر، ان النبي صلى الله عليه وسلم اسْتَعَمَلَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، فَأَرَاهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَصَدَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقُبِضَ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ.
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وُلِدَ النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَرَفَعَ الْحَجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَقُبِضَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ محمد ابن عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَدُفِنَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ: حَدِّثِي مُحَمَّدًا مَا سَمِعْتِ مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
فَقَالَتْ: سَمِعْتُ عَمْرَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: دُفِنَ نبى الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ، وَمَا عَلِمْنَا بِهِ حَتَّى سَمِعْنَا صوت المساحى.
ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار فِي أمر الإمارة فِي سقيفة بني ساعدة
حَدَّثَنَا هشام بْن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قال: حدثنى عبد الله ابن عبد الرحمن بْن أبي عمرة الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض اجتمعت الأنصار فِي سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد ع سعد بْن عبادة، وأخرجوا سعدا إِلَيْهِم وهو مريض، فلما اجتمعوا قَالَ لابنه أو بعض بني عمه: إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه، فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله، فيرفع صوته فيسمع أصحابه، فَقَالَ بعد أن حمد الله وأثنى عَلَيْهِ: يا معشر الأنصار، لكم سابقة فِي الدين وفضيلة فِي الإسلام ليست لقبيله من العرب، ان محمدا عليه السلام لبث بضع عشرة سنة فِي قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، وَكَانَ ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رَسُول اللَّهِ، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، حَتَّى إذا أراد بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم اللَّه الإيمان به وبرسوله، والمنع لَهُ ولأصحابه، والإعزاز لَهُ ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حَتَّى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا، حَتَّى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم لَهُ العرب، وتوفاه اللَّه وهو عنكم راض، وبكم قرير عين استبدوا بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس.
فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت فِي الرأي وأصبت فِي القول، ولن نعدو ما رأيت، ونوليك هذا الأمر، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا ثُمَّ إنهم ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رَسُول اللَّهِ الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا: منا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدا فَقَالَ سعد بْن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن! وأتى عمر الخبر، فأقبل الى منزل النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر فِي الدار وعلى بن ابى طالب عليه السلام دائب في جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلي، فأرسل إليه: إني مشتغل، فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره، فخرج إليه، فَقَالَ: أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت فِي سقيفة بني ساعدة، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بْن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير! فمضيا مسرعين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة بْن الجراح، فتماشوا إِلَيْهِم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بْن عدي وعويم بْن ساعدة، فقالا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون، فقالوا:
لا نفعل، فجاءوا وهم مجتمعون فَقَالَ عمر بْن الْخَطَّاب: أتيناهم- وقد كنت زورت كلاما أردت أن أقوم به فيهم- فلما أن دفعت إِلَيْهِم ذهبت لأبتدئ المنطق، فَقَالَ لي أبو بكر: رويدا حَتَّى أتكلم ثُمَّ انطق بعد بما أحببت فنطق، فَقَالَ عمر: فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه.
فَقَالَ عبد الله بْن عبد الرحمن: فبدأ أبو بكر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إن اللَّه بعث محمدا رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمته، ليعبدوا اللَّه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة، وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور، ثُمَّ قرأ: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ} [يونس: 18] ، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ} [الزمر: 3]، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص اللَّه المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة لَهُ، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالف، زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله فِي الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذَلِكَ إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمه في الاسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا احد بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا نقضي دونكم الأمور.
قَالَ: فقام الحباب بْن المنذر بْن الجموح، فَقَالَ: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس فِي فيئكم وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدد والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير.
فَقَالَ عمر: هيهات لا يجتمع اثنان فِي قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لاثم، ومتورط فِي هلكة! فقام الحباب بْن المنذر فَقَالَ: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فانه بأسيافكم دان لهذا الذين من دان ممن لم يكن يدين أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب! أما واللَّه لئن شئتم لنعيدنها جذعة، فَقَالَ عمر: إذا يقتلك الله! قَالَ: بل إياك يقتل! فَقَالَ أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير.
فقام بشير بْن سعد أبو النعمان بْن بشير فَقَالَ: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة فِي جهاد المشركين، وسابقة فِي هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا، فإن الله ولي المنة علينا بذلك، ألا ان محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش، وقومه أحق به وأولى وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم! فَقَالَ أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين وثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، وخليفة رَسُول اللَّهِ على الصلاة، والصلاة أفضل دين الْمُسْلِمين، فمن ذا ينبغي لَهُ أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك! ابسط يدك نبايعك.
فلما ذهبا ليبايعاه، سبقهما إليه بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحباب ابن المنذر: يا بشير بن سعد: عقتك عقاق، ما أحوجك إلى ما صنعت، أنفست على ابن عمك الإمارة! فَقَالَ: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله اللَّه لهم.
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بْن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بْن عباده، قال بعضهم لبعض، وفيهم اسيد ابن حضير- وَكَانَ أحد النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بْن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا لَهُ من أمرهم.
قَالَ هشام: قَالَ أبو مخنف: فحدثني أبو بكر بْن محمد الخزاعي، أن أسلم أقبلت بجماعتها حَتَّى تضايق بهم السكك، فبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنصر.
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: قَالَ عَبْد اللَّه بْن عبد الرحمن: فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطئون سعد بْن عبادة، فَقَالَ ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطئوه، فَقَالَ عمر: اقتلوه قتله اللَّه! ثُمَّ قام على رأسه، فَقَالَ: لقد هممت أن أطأك حَتَّى تندر عضدك، فأخذ سعد بلحية عمر، فَقَالَ: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فَقَالَ أبو بكر: مهلا يا عمر! الرفق هاهنا أبلغ فأعرض عنه عمر وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة ما، أقوى على النهوض، لسمعت مني فِي أقطارها وسككها زئيرا يجحرك وأصحابك، أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع! احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه فِي داره، وترك أياما ثُمَّ بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك، فَقَالَ: أما والله حَتَّى أرميكم بما فِي كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مَعَ الإنس ما بايعتكم، حَتَّى أعرض على ربي، وأعلم ما حسابي.
فلما أتى أبو بكر بذلك قَالَ لَهُ عمر: لا تدعه حَتَّى يبايع فَقَالَ لَهُ بشير بْن سعد: إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حَتَّى يقتل، وليس بمقتول حَتَّى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضاركم، إنما هو رجل واحد فتركوه وقبلوا مشورة بشير بْن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه، فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حَتَّى هلك أبو بكر رحمه الله.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حدثنا عمى، قال: أخبرنا سيف ابن عُمَرَ، عَنْ سَهْلٍ وَأَبِي عُثْمَان، عَنِ الضَّحَّاكِ بن خليفه، قال: لما قام الحباب ابن الْمُنْذِرِ انْتَضَى سَيْفَهُ، وَقَالَ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وعذيقها المرجب، انا ابو شبل في عريسة الأَسَدِ، يُعْزَى إِلَى الأَسَدِ فَحَامَلَهُ عُمَرُ فَضَرَبَ يَدَهُ، فَنَدَرَ السَّيْفَ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ وَثَبَ عَلَى سَعْدٍ وَوَثَبُوا عَلَى سَعْدٍ، وَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْبَيْعَةِ، وَبَايَعَ سَعْدٌ، وَكَانَتْ فَلْتَةٌ كَفَلَتَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَامَ أَبُو بَكْرٍ دُونَهَا وَقَالَ قَائِلٌ حِينَ أُوطِئَ سَعْدٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدًا، فَقَالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ اللَّهُ! إِنَّهُ مُنَافِقٌ، وَاعْتَرَضَ عُمَرُ بِالسَّيْفِ صَخْرَةً فقطعه.
حدثنا عبيد الله بن سعيد، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ مُبَشِّرٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَوْمَئِذٍ لأَبِي بَكْرٍ: إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ حَسَدْتُمُونِي عَلَى الإِمَارَةِ، وَإِنَّكَ وَقَوْمِي أَجْبَرْتُمُونِي عَلَى الْبَيْعَةِ، فَقَالُوا: إِنَّا لَوْ أَجْبَرْنَاكَ عَلَى الْفُرْقَةِ فَصِرْتَ إِلَى الْجَمَاعَةِ كُنْتَ فِي سعه، ولكنا اجبرنا عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَلا إِقَالَةَ فِيهَا، لَئِنْ نَزَعْتَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، أَوْ فَرَّقْتَ جَمَاعَةً، لَنَضْرِبَنَّ الذى فيه عيناك.
ذكر امر ابى بكر في أول خلافته
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ- عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: نَادَى مُنَادِي أَبِي بَكْرٍ، مِنْ بَعْدِ الْغَدِ مِنْ متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لِيُتَمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ، أَلا لا يَبْقَيَنَّ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ مِن جُنْدِ أُسَامَةَ إِلا خَرَجَ إِلَى عَسْكَرِهِ بِالْجُرْفِ وَقَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا مِثْلُكُمْ، وَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلَّكُمْ سَتُكَلِّفُونَنِي مَا كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُطِيقُ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ وَعَصَمَهُ مِنَ الآفَاتِ، وَإِنَّمَا أَنَا مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٌ، فَإِنِ اسْتَقَمْتُ فَتَابِعُونِي، وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي، وان رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبِضَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَطْلُبُهُ بمظلمة ضربه سَوْطٍ فَمَا دُونَهَا، أَلا وَإِنَّ لِي شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي، فَإِذَا أَتَانِي فَاجْتَنِبُونِي، لا أُؤْثِرُ فِي أَشْعَارِكُمْ وَأَبْشَارِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ فِي أَجَلٍ قَدْ غُيِّبَ عَنْكُمْ عِلْمُهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلا يَمْضِيَ هَذَا الأَجَلُ إِلا وَأَنْتُمْ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ فَافْعَلُوا، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ إِلا بِاللَّهِ، فَسَابِقُوا فِي مَهَلٍ آجَالَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُسْلِمَكُمْ آجَالُكُمْ إِلَى انْقِطَاعِ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ قَوْمًا نَسَوْا آجَالَهُمْ، وَجَعَلُوا أَعْمَالَهُمْ لِغَيْرِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ الْجَدَّ الْجَدَّ! وَالْوَحَا الْوَحَا! وَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ طَالِبًا حَثِيثًا، أَجَلا مَرُّهُ سَرِيعٌ احْذَرُوا الْمَوْتَ، وَاعْتَبِرُوا بِالآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ وَالإِخْوَانِ، وَلا تَغْبِطُوا الأَحْيَاءَ إِلا بِمَا تَغْبِطُونَ بِهِ الأَمْوَاتِ.
وَقَامَ أَيْضًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَقْبَلُ مِنَ الأَعْمَالِ إِلا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهَهُ، فَأَرِيدُوا اللَّهَ بِأَعْمَالِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا أَخْلَصْتُمْ لِلَّهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَطَاعَةٌ أَتَيْتُمُوهَا، وَخَطَأٌ ظَفَرْتُمْ بِهِ، وَضَرَائِبُ أَدَّيْتُمُوهَا، وَسَلَفٌ قَدَّمْتُمُوهُ مِنْ أَيَّامٍ فَانِيَةٍ لأُخْرَى بَاقِيَةٍ، لِحِينِ فَقْرِكُمْ وَحَاجَتِكُمْ اعْتَبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ بِمَنْ مَاتَ مِنْكُمْ، وَتَفَكَّرُوا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَيْنَ كَانُوا أَمْسَ، وَأَيْنَ هُمُ الْيَوْمَ! أَيْنَ الْجَبَّارُونَ! وَأَيْنَ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ ذِكْرُ الْقِتَالِ وَالْغَلَبَةُ فِي مَوَاطِنِ الْحُرُوبِ! قَدْ تَضَعْضَعَ بِهِمُ الدَّهْرُ، وَصَارُوا رَمِيمًا، قَدْ تُرِكَتْ عَلَيْهِمِ الْقَالاتُ، الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَأَيْنَ الْمُلُوكُ الَّذِينَ أَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَّرُوهَا، قَدْ بُعِدُوا وَنُسِيَ ذِكْرُهُمْ، وَصَارُوا كَلا شَيْءَ أَلا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْقَى عَلَيْهِمُ التَّبِعَاتِ، وَقَطَعَ عَنْهُمُ الشَّهَوَاتِ، وَمَضَوْا وَالأَعْمَالُ أَعْمَالُهُمْ، وَالدُّنْيَا دُنْيَا غَيْرِهِمْ، وَبَقِينَا خَلَفًا بَعْدَهُمْ، فَإِنْ نَحْنُ اعْتَبَرْنَا بِهِمْ نَجَوْنَا، وَإِنِ اغْتَرَرْنَا كُنَّا مِثْلَهُمْ! أَيْنَ الْوُضَّاءُ الْحَسَنَةُ وُجُوهُهُمْ، الْمُعْجَبُونَ بِشَبَابِهِمْ! صَارُوا تُرَابًا، وَصَارَ مَا فَرَّطُوا فِيهِ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ! أَيْنَ الَّذِينَ بَنَوُا الْمَدَائِنَ وَحَصَّنُوهَا بِالْحَوَائِطِ، وَجَعَلُوا فِيهَا الأَعَاجِيبَ! قَدْ تَرَكُوهَا لِمَنْ خَلْفَهُمْ، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ خَاوِيَةً، وَهُمْ فِي ظلمات القبور، هل نحس مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا! أَيْنَ مَنْ تَعْرِفُونَ مِنْ أَبْنَائِكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ، قَدِ انْتَهَتْ بِهِمْ آجَالُهُمْ، فَوَرَدُوا عَلَى مَا قَدَّمُوا فَحَلُّوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا لِلشَّقْوَةِ وَالسَّعَادَةِ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَلا إِنَّ اللَّهَ لا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ سَبَبٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْرًا، وَلا يَصْرِفُ عَنْهُ بِهِ سُوءًا، إِلا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَبِيدٌ مَدِينُونَ، وَأَنَّ مَا عِنْدَهُ لا يُدْرَكُ إِلا بِطَاعَتِهِ، أَمَا أَنَّهُ لا خَيْرَ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَلا شَرَّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ.
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ -وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفٌ- عَنْ هِشَامِ ابن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَعَ الأَنْصَارَ فِي الأَمْرِ الَّذِي افْتَرَقُوا فِيهِ، قَالَ: لَيُتَمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ، وَقَدِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، إِمَّا عَامَّةً وَإِمَّا خَاصَّةً فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ، وَاشْرَأَبَّتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ الشاتيه، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وَقِلَّتِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدُوُّهِمْ فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ هَؤُلاءِ جُلُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَرَبُ- عَلَى مَا تَرَى- قَدِ انْتُقِضَتْ بِكَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْرِقَ عَنْكَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي بَكْرٍ بِيَدِهِ، لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ السِّبَاعَ تَخَطَّفَنِي لأَنْفَذْتُ بَعْثَ أُسَامَةَ كَمَا امر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقُرَى غَيْرِي لأَنْفَذْتُهُ! حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالا: ثُمَّ اجْتَمْعَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي غَابَتْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَخَرَجُوا وَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي جُنْدِ أُسَامَةَ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ بَقِيَ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمُ الْهِجْرَةُ فِي دِيَارِهِمْ، فَصَارُوا مَسَالِحَ حَوْلَ قَبَائِلِهِمْ وَهُمْ قَلِيلٌ.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ وَأَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الحسن البصرى، قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بَعْثًا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حولهم، وفيهم عمر ابن الْخَطَّابِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَلَمْ يُجَاوِزْ آخِرُهُمُ الْخَنْدَقَ، حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَقَفَ أُسَامَةُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ قَالَ لِعُمَرَ: ارْجِعْ إِلَى خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فَاسْتَأْذِنْهُ، يَأْذَنْ لِي أَنْ أَرْجِعَ بِالنَّاسِ، فَإِنَّ مَعِي وُجُوهَ النَّاسِ وَحْدَهُمْ، وَلا آمَنُ عَلَى خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَثِقَلِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَثْقَالِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: فَإِنْ أَبَى إِلا أَنْ نَمْضِيَ فَأَبْلِغْهُ عَنَّا، وَاطْلُبْ إِلَيْهِ أَنْ يُوَلِّيَ أَمْرَنَا رَجُلا أَقْدَمَ سِنًّا مِنْ أُسَامَةَ.
فَخَرَجَ عُمَرُ بِأَمْرِ أُسَامَةَ، وَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ أُسَامَةُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، لَوْ خَطَّفَتْنِي الْكِلابُ وَالذِّئَابُ لَمْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى به رسول الله صلى الله عليه وسلم! قَالَ: فَإِنَّ الأَنْصَارَ أَمَرُونِي أَنْ أُبَلِّغَكَ، وَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ إِلَيْكَ أَنْ تُوَلِّيَ أَمْرَهُمْ رَجُلا أَقْدَمَ سِنًّا مِنْ أُسَامَةَ، فَوَثَبَ أَبُو بَكْرٍ- وَكَانَ جَالِسًا- فَأَخَذَ بِلِحْيَةِ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: ثَكِلَتْكَ أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وَتَأْمُرَنِي أَنْ أَنْزِعَهُ! فَخَرَجَ عُمَرُ إِلَى النَّاسِ فَقَالُوا لَهُ:
مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: امْضُوا، ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ! مَا لَقِيتُ فِي سَبَبِكُمْ مِنْ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ!
ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَتَاهُمْ، فَأَشْخَصَهُمْ وَشَيَّعَهُمْ وَهُوَ مَاشٍ وَأُسَامَةُ رَاكِبٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُودُ دَابَّةَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَتَرْكَبَنَّ أَوْ لأَنْزِلَنَّ! فَقَالَ: وَاللَّهِ لا تنزل وو الله لا أَرْكَبُ! وَمَا عَلَيَّ أَنْ أُغَبِّرَ قَدَمَيَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَاعَةً، فَإِنَّ لِلْغَازِي بِكُلِّ خطوه يخطوها سبعمائة حسنه تكتب له، وسبعمائة درجه ترتفع له، وترفع عنه سبعمائة خَطِيئَةٍ! حَتَّى إِذَا انْتَهَى قَالَ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعِينَنِي بِعُمَرَ فَافْعَلْ! فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قِفُوا أُوصِكُمْ بِعَشْرٍ فَاحْفَظُوهَا عَنِّي: لا تَخُونُوا وَلا تَغِلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا طِفْلا صَغِيرًا، وَلا شَيْخًا كَبِيرًا وَلا امْرَأَةً، وَلا تَعْقِرُوا نَخْلا وَلا تُحَرِّقُوهُ، وَلا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلا تَذْبَحُوا شَاةً وَلا بَقَرَةً وَلا بَعِيرًا إِلا لِمَأْكَلَةٍ، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ، فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَوْفَ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ يَأْتُونَكُمْ بِآنِيَةٍ فِيهَا أَلْوَانُ الطَّعَامِ، فَإِذَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَتَلْقَوْنَ أَقْوَامًا قَدْ فَحَصُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ وَتَرَكُوا حَوْلَهَا مِثْلَ الْعَصَائِبِ، فَاخْفِقُوهُمْ بِالسَّيْفِ خَفْقًا انْدَفِعُوا باسم الله، أفناكم اللَّهُ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ.
حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْجُرْفِ، فَاسْتَقْرَى أُسَامَةَ وَبَعْثَهُ، وَسَأَلَهُ عُمَرَ فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: اصْنَعْ ما امرك به نبى الله صلى الله عليه وسلم، ابدا ببلاد قضاعه ثم ايت آبِلَ، وَلا تُقَصِّرَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَلا تَعْجَلَنَّ لِمَا خَلَفْتَ عَنْ عَهْدِهِ فَمَضَى أُسَامَةُ مُغِذًّا عَلَى ذِي الْمَرْوَةِ وَالْوَادِي، وَانْتَهَى الى ما امره به النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ بَثِّ الْخُيُولِ فِي قَبَائِلِ قُضَاعَةَ وَالْغَارَةِ عَلَى آبِلَ، فَسَلِمَ وَغَنِمَ، وَكَانَ فَرَاغُهُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا سِوَى مُقَامِهِ وَمُنْقَلَبِهِ رَاجِعًا.
فَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سيف- وحدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفٌ- عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ.
وَعَنْهُمَا، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مِثْلَهُ.
بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع- فيما بلغنا- لباذام حين أسلم وأسلمت اليمن عمل اليمن كلها، وأمره على جميع مخاليفها، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حياته، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها، ولا أشرك معه فيها شريكا حَتَّى مات باذام، فلما مات فرق عملها بين جماعة من أصحابه.
فَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ -وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عبيد بن صخر ابن لَوْذَانَ الأَنْصَارِيِّ السُّلَمِيِّ- وَكَانَ فِيمَنْ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مع عمال اليمن في سنه عشر بعد ما حَجَّ حَجَّةَ التَّمَامِ: وَقَدْ مَاتَ بَاذَامُ، فَلِذَلِكَ فَرَّقَ عَمَلَهَا بَيْنَ شَهْرِ بْنِ بَاذَامَ، وَعَامِرِ بْنِ شَهْرٍ الْهَمْدَانِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، وَخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَالطَّاهِرِ بْنِ أَبِي هَالَةَ، وَيَعْلَى بْنِ اميه، وعمر بْنِ حَزْمٍ، وَعَلَى بِلادِ حَضْرَمَوْتَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْبِيَاضِيُّ وَعُكَاشَةُ بْنُ ثَوْرِ بْنِ أَصْغَرَ الغوثي، على السكاسك والسكون ومعاويه ابن كِنْدَةَ، وَبَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ مُعَلِّمًا لأَهْلِ البلدين: اليمن وحضرموت.
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ -يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ- عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بن قرص بن عباده، عن قرص الليثى، ان النبي صلى الله عليه وسلم رجع الى المدينة بعد ما قَضَى حَجَّةُ الإِسْلامِ، وَقَدْ وَجَّهَ إِمَارَةَ الْيَمَنِ وَفَرَّقَهَا بَيْنَ رِجَالٍ، وَأَفْرَدَ كُلَّ رَجُلٍ بِحِيَزِهِ، ووجه اماره حضرموت وَفَرَّقَهَا بَيْنَ ثَلاثَةٍ، وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِيَزِهِ، وَاسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ، وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى مَا بَيْنَ نَجْرَانَ وَرِمْعٍ وَزُبَيْدَ، وَعَامِرَ بْنَ شَهْرٍ عَلَى هَمْدَانَ، وَعَلَى صَنْعَاءَ ابْنَ بَاذَامَ، وَعَلَى عَكٍّ وَالأَشْعَرِيِّينَ الطَّاهِرَ بْنَ أَبِي هَالَةَ، وَعَلَى مَأْرِبَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ، وَعَلَى الْجُنْدِ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ وَكَانَ مُعَاذٌ مُعَلِّمًا يَتْنَقِلُ فِي عِمَالَةِ كُلِّ عَامِلٍ بِالْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى أَعْمَالِ حَضْرَمَوْتَ، عَلَى السَّكَاسِكِ وَالسُّكُونِ عُكَاشَةَ بْنَ ثَوْرٍ، وَعَلَى بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ كِنْدَةَ عَبْدَ اللَّهِ -أَوِ الْمُهَاجِرَ- فَاشْتَكَى فَلَمْ يَذْهَبْ حَتَّى وَجَّهَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَى حَضْرَمَوْتَ زِيَادَ بْنَ لبيد الْبِيَاضِيَّ، وَكَانَ زِيَادٌ يَقُومُ عَلَى عَمَلِ الْمُهَاجِرِ، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهَؤُلاءِ عُمَّالُهُ عَلَى الْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ، إِلا مَنْ قُتِلَ فِي قِتَالِ الأَسْوَدِ أَوْ مَاتَ، وَهُوَ باذام، مات ففرق النبي صلى الله عليه وسلم الْعَمَلَ مِنْ أَجْلِهِ.
وَشَهْرٌ ابْنُهُ -يَعْنِي ابْنَ بَاذَامَ- فَسَارَ إِلَيْهِ الأَسْوَدُ فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ.
وَحَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفٍ.
فَقَالَ فِيهِ: عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَلْحَةَ ثُمَّ سائر الحديث باسناده مثل حديث ابن سعد الزُّهْرِيِّ.
قَالَ: حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَى الْعَنْسِيِّ وَكَاثَرَهُ عَامِرُ بْنُ شَهْرٍ الْهَمْدَانِيُّ فِي نَاحِيَتِهِ وَفَيْرُوزُ وَدَاذُوَيْهِ فِي نَاحِيَتِهِمَا، ثُمَّ تَتَابَعَ الَّذِينَ كَتَبَ إِلَيْهِمْ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ، قَالَ وَحَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، قَالَ فَبَيْنَا نَحْنُ بِالْجُنْدِ قَدْ أَقَمْنَاهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَكَتَبْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الْكُتُبَ، إِذْ جَاءَنَا كِتَابٌ مِنَ الأَسْوَدِ: أَيُّهَا الْمُتَوَرِّدُونَ عَلَيْنَا، أَمْسِكُوا عَلَيْنَا مَا أَخَذْتُمْ مِنْ أَرْضِنَا، وَوَفِّرُوا مَا جَمَعْتُمْ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِهِ وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَقُلْنَا لِلرَّسُولِ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنْ كَهْفِ خُبَّانَ ثُمَّ كَانَ وَجْهُهُ إِلَى نَجْرَانَ، حَتَّى أَخَذَهَا فِي عَشْرٍ لِمَخْرَجِهِ، وَطَابَقَهُ عُوَّامُ مَذْحِجَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا، وَنَجْمَعُ جَمْعَنَا، إِذْ أَتِيَنَا فَقِيلَ: هَذَا الأَسْوَدُ بِشَعُوبٍ، وَقَدْ خَرَجَ إِلَيْهِ شَهْرُ بْنُ بِاذَامَ، وَذَلِكَ لِعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ مَنْجَمِهِ فَبَيْنَا نَحْنُ نَنْتَظِرُ الْخَبَرَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدِّبْرَةُ، إِذْ أَتَانَا أَنَّهُ قَتَلَ شَهْرًا، وَهَزَمَ الأَبْنَاءَ، وَغَلَبَ عَلَى صَنْعَاءَ لِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ مَنْجَمِهِ وَخَرَجَ مُعَاذٌ هَارِبًا، حَتَّى مَرَّ بِأَبِي موسى وَهُوَ بِمَأْرِبَ، فَاقْتَحَمَا حَضْرَمَوْتَ، فَأَمَّا مُعَاذٌ فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي السُّكُونِ، وَأَمَّا أَبُو مُوسَى فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي السَّكَاسِكِ مِمَّا يَلِي الْمُفُورَ وَالْمَفَازَةَ بَيْنَهُمَ وَبَيْنَ مَأْرِبَ، وَانْحَازَ سَائِرُ أُمَرَاءِ الْيَمَنِ إِلَى الطَّاهِرِ إِلا عَمْرًا وَخَالِدًا، فَإِنَّهُمَا رَجَعَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالطَّاهِرُ يَوْمَئِذٍ فِي وَسَطِ بِلادِ عَكٍّ بِحِيَالِ صَنْعَاءَ وَغَلَبَ الأَسْوَدُ عَلَى مَا بَيْنَ صُهَيْدَ- مَفَازَةَ حَضْرَمَوْتَ- إِلَى عَمَلِ الطَّائِفِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ قِبَلَ عَدَنٍ، وَطَابَقَتْ عَلَيْهِ الْيَمَنُ، وَعَكٍّ بِتِهَامَةَ مُعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَسْتَطِيرُ اسْتِطَارَةَ الحريق، وكان معه سبعمائة فَارِسٍ يَوْمَ لَقِيَ شَهْرًا سِوَى الرُّكْبَانِ، وَكَانَ قُوَّادَهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الْمُرَادِيُّ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قَيْسٍ الْجَنْبِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ مُحْرِمٍ وَيَزِيدُ بْنُ حُصَيْنٍ الْحَارِثِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ الأَفْكَلِ الأَزْدِيُّ وَثَبَتَ مُلْكُهُ وَاسْتَغْلَظَ أَمْرُهُ، وَدَانَتْ لَهُ سَوَاحِلُ مِنَ السَّوَاحِلِ، حَازَ عَثْرَ وَالشَّرْجَةَ وَالْحَرْدَةَ وَغَلافِقَةَ وَعَدَنَ، وَالْجُنْدَ، ثُمَّ صَنْعَاءَ إِلَى عَمَلِ الطَّائِفِ، إِلَى الأَحْسِيَةِ وَعُلَيْبٍ، وَعَامَلَهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْبَقِيَّةِ، وَعَامَلَهُ أَهْلُ الرِّدَّةِ بِالْكُفْرِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الإِسْلامِ.
وَكَانَ خَلِيفَتَهُ فِي مَذْحِجَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ، وَأَسْنَدَ أَمْرَهُ إِلَى نَفَرٍ، فَأَمَّا أَمْرُ جُنْدِهِ فَإِلَى قَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَأَسْنَدَ أَمْرَ الأَبْنَاءِ إِلَى فَيْروزٍ وَدَاذُوَيْهِ.
فَلَمَّا أَثْخَنَ فِي الأَرْضِ اسْتَخَفَّ بِقَيْسٍ وَبِفَيْرُوزَ وَدَاذُوَيْهِ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ شَهْرٍ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ فَيْرُوزَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ بِحَضْرَمَوْتَ- وَلا نَأْمَنُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا الأَسْوَدُ، أَوْ يَبْعَثَ إِلَيْنَا جَيْشًا، أَوْ يَخْرُجَ بِحَضْرَمَوْتَ خَارِجٌ يَدَّعِيَ بِمِثْلِ مَا ادَّعَى بِهِ الأَسْوَدُ، فَنَحْنُ عَلَى ظَهْرٍ، تَزَوَّجَ مُعَاذٌ إِلَى بَنِي بَكْرَةَ، حَيٍّ مِنَ السُّكُونِ، امْرَأَةً أَخْوَالُهَا بَنُو زَنْكَبِيلَ يُقَالُ لَهَا رَمْلَةُ، فَحَدَبُوا لِصِهْرِهِ عَلَيْنَا، وَكَانَ مُعَاذٌ بِهَا مُعْجَبًا، فَإِنْ كَانَ لَيَقُولُ فِيمَا يَدْعُو اللَّهَ بِهِ: اللَّهُمَّ ابْعَثْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ السُّكُونِ، وَيَقُولُ أَحْيَانًا: اللَّهُمَّ اغفر للسكون- إذ جاءتنا كتب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا فيها ان نبعث الرجال لمجاولته أَوْ لِمُصَاوَلَتِهِ، وَنُبَلِّغَ كُلَّ مَنْ رَجَا عِنْدَهُ شيئا من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فَقَامَ مُعَاذٌ فِي ذَلِكَ بِالَّذِي أَمَرَ بِهِ، فَعَرَفْنَا الْقُوَّةَ وَوَثَقْنَا بِالنَّصْرِ.
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ -وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ الله، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف- قال: أخبرنا المستنير ابن يَزِيدَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ غَزِيَّةَ الدُّثَيْنِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ- قَالَ السَّرِيُّ: عَنْ جُشَيْشِ بن الديلمى، وقال عبيد الله: عن جشنس بْنِ الدَّيْلَمِيِّ- قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا وَبْرُ بْنُ يحنس بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، يَأْمُرُنَا فِيهِ بِالْقِيَامِ عَلَى دِينِنَا، وَالنُّهُوضِ فِي الْحَرْبِ، وَالْعَمَلِ فِي الأَسْوَدِ: إِمَّا غَيْلَةً وَإِمَّا مُصَادَمَةً، وَأَنْ نُبَلِّغَ عَنْهُ مَنْ رَأَيْنَا أَنَّ عِنْدَهُ نَجْدَةً وَدِينًا فَعَمِلْنَا فِي ذَلِكَ، فَرَأَيْنَا أَمْرًا كَثِيفًا، وَرَأَيْنَاهُ قَدْ تَغَيَّرَ لِقَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ- وَكَانَ عَلَى جُنْدِهِ- فَقُلْنَا: يَخَافُ عَلَى دَمِهِ، فَهُوَ لأَوَّلُ دَعْوَةٍ، فَدَعَوْنَاهُ وَأَنْبَأْنَاهُ الشان، وابلغناه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فَكَأَنَّمَا وَقَعْنَا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ فِي غَمٍّ وَضِيقٍ بِأَمْرِهِ، فَأَجَابَنَا إِلَى مَا أَحْبَبْنَا مِنْ ذَلِكَ، وَجَاءَنَا وَبْرُ بْنُ يُحَنِّسَ، وَكَاتَبْنَا النَّاسَ وَدَعَوْنَاهُمْ، وَأَخْبَرَهُ الشَّيْطَانُ بِشَيْءٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَيْسٍ وَقَالَ: يَا قَيْسُ، مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: عَمَدْتَ إِلَى قَيْسٍ فَأَكْرَمْتَهُ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ مِنْكَ كُلَّ مُدْخَلٍ، وَصَارَ فِي الْعِزِّ مِثْلَكَ، مَالَ مَيْلَ عَدُوِّكَ، وَحَاوَلَ مُلْكَكَ وَأَضْمَرَ عَلَى الْغَدْرِ! إِنَّهُ يَقُولُ: يَا أَسْوَدُ يَا أَسْوَدُ! يَا سَوْءَةُ يَا سَوْءَةُ! اقْطِفْ قُنَّتَهُ، وَخُذْ مِنْ قَيْسٍ أَعْلاهُ، وَإِلا سَلَبَكَ أَوْ قَطَفَ قُنَّتَكَ فَقَالَ قَيْسٌ- وَحَلَفَ بِهِ: كَذَبَ وَذِي الْخِمَارِ، لأَنْتَ اعظم في نَفْسِي وَأَجَلُّ عِنْدِي مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ بِكَ نَفْسِي، فَقَالَ: مَا أَجْفَاكَ: أَتُكَذِّبُ الْمَلِكَ! قَدْ صَدَقَ الْمَلِكُ، وَعَرَفْتُ الآنَ أَنَّكَ تَائِبٌ مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْكَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَتَانَا، فَقَالَ: يَا جُشَيْشُ، وَيَا فَيْرُوزُ، وَيَا دَاذُوَيْهِ، إِنَّهُ قَدْ قَالَ وَقُلْتُ، فَمَا الرَّأْيُ؟ فَقُلْنَا: نَحْنُ عَلَى حَذَرٍ، فَإِنَّا فِي ذَلِكَ، إِذْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: أَلَمْ أُشْرِفْكُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ، أَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْكُمْ! فَقُلْنَا: أَقلْنَا مَرَّتَنَا هَذِهِ، فَقَالَ: لا يبلغني عنكم فاقتلكم، فنجونا ولم تكد، وَهُوَ فِي ارْتِيَابٍ مِنْ أَمْرِنَا وَأَمْرِ قَيْسٍ، وَنَحْنُ فِي ارْتِيَابٍ وَعَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، إِذْ جاءنا اعتراض عامر ابن شَهْرٍ وَذِي زَوْدٍ وَذِي مُرَّان وَذِي الْكَلاعِ وَذِي ظُلَيْمٍ عَلَيْهِ، وَكَاتَبُونَا وَبَذَلُوا لَنَا النَّصْرَ، وَكَاتَبْنَاهُمْ وَأَمَرْنَاهُمْ أَلا يُحَرِّكُوا شَيْئًا حَتَّى نُبْرِمَ الأَمْرَ- وَإِنَّمَا اهْتَاجُوا لِذَلِكَ حِينَ جَاءَ كِتَابُ النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، إِلَى عَرَبِهِمْ وَسَاكِنِي الأَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ، فَثَبتُوا فَتَنَحَّوْا وَانْضَمُّوا إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ- وَبَلَغَهُ ذَلِكَ، وَأَحَسَّ بِالْهَلاكِ، وَفَرَقَ لنا الرأي، فدخلت على آذاد، وَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَةَ عَمِّ، قَدْ عَرَفْت بَلاءَ هَذَا الرَّجُلِ عِنْدَ قَوْمِكِ، قَتَلَ زَوْجَكِ، وَطَأْطَأَ فِي قَوْمِكِ الْقَتْلَ، وَسَفَلَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَفَضَحَ النِّسَاءَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ مُمَالأَةٍ عَلَيْهِ! فَقَالَتْ: عَلَى أَيِّ أَمْرِهِ؟ قُلْتُ: إِخْرَاجِهِ، قَالَتْ: أَوْ قَتْلِهِ، قُلْتُ: أَوْ قَتْلِهِ، قَالَتْ: نَعَمْ وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ شَخْصًا أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ، مَا يَقُومُ لِلَّهِ عَلَى حَقٍّ، وَلا يَنْتَهِي لَهُ عَنْ حُرْمَةٍ، فَإِذَا عَزَمْتُمْ فَأَعْلِمُونِي أُخْبِرْكُمْ بِمَأْتَى هَذَا الأَمْرِ فَأَخْرُجَ فَإِذَا فَيْرُوزُ وَدَاذُوَيْهِ يَنْتَظِرَانِي، وَجَاءَ قَيْسٌ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُنَاهِضَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ إِلَيْنَا: الْمَلِكُ يَدْعُوكَ، فَدَخَلَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ مَذْحِجَ وَهَمْدَانَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ مَعَهُمْ- قَالَ السَّرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ: يَا عَيْهَلَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ غَوْثٍ، وَقَالَ عبيد الله في حديثه: يا عبهله بْنُ كَعْبِ بْنِ غَوْثٍ- أَمِنِّي تُحْصَنُ بِالرِّجَالِ! الم اخبرك الحق وتخبرني الكذابة! انه يَقُولُ: يَا سَوْءَةُ يَا سَوْءَةُ! إِلا تَقْطَعَ مِنْ قَيْسٍ يَدَهُ يَقْطَعْ قُنَّتَكَ الْعُلْيَا، حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ قَاتِلُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ أَقْتُلَكَ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَمُرْ بِي بِمَا أَحْبَبْتَ، فَأَمَّا الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ فَأَنَا فيهما مخافه ان تقتلني- قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَإِمَّا قَتَلْتَنِي فَمَوْتُهُ، وَقَالَ السَّرِيُّ: اقْتُلْنِي فَمَوْتَةٌ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتٍ أَمُوتُهَا كُلَّ يَوْمٍ- فَرَقَّ لَهُ فَأَخْرَجَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا فأخبرنا وواطأنا، وَقَالَ: اعْمَلُوا عَمْلَكُمْ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا فِي جَمْعٍ، فَقُمْنَا مُثُولا لَهُ، وَبِالْبَابِ مِائَةٌ مَا بَيْنَ بَقَرَةٍ وَبَعِيرٍ، فَقَامَ وَخَطَّ خَطًّا فَأُقِيمَتْ مِنْ ورائه، وَقَامَ مَنْ دُونِهَا، فَنَحَرَهَا غَيْرَ مُحْبَسَةٍ وَلا مُعْقَلَةٍ، مَا يَقْتَحِمُ الْخَطَّ مِنْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ خَلاهَا فَجَالَتْ إِلَى أَنْ زُهِقَتْ، فَمَا رَأَيْتُ أَمْرًا كَانَ أَفْظَعَ مِنْهُ، وَلا يَوْمًا أَوْحَشَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ يَا فَيْرُوزُ؟
وَبَوَّأَ لَهُ الْحَرْبَةَ- لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْحَرَكَ فَأُتْبِعَكَ هَذِهِ الْبَهِيمَةَ، فَقَالَ: اخْتَرْتَنَا لِصِهْرِكَ وَفَضَّلْتَنَا عَلَى الأَبْنَاءِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا مَا بِعْنَا نَصِيبَنَا مِنْكَ بِشَيْءٍ، فَكَيْفَ وَقَدِ اجْتَمَعَ لَنَا بِكَ أَمْرُ آخِرَةٍ وَدُنْيَا، لا تقبلن علينا امثال مَا يَبْلُغُكَ، فَإِنَّا بِحَيْثُ تُحِبُّ فَقَالَ: اقْسِمْ هذه، فأنت اعلم بمن هاهنا، فَاجْتَمَعَ إِلَيَّ أَهْلَ صَنْعَاءَ، وَجَعَلْتُ آمُرَ لِلرَّهْطِ بِالْجَزُورِ وَلأَهْلِ الْبَيْتِ بِالْبَقَرَةِ، وَلأَهْلِ الْحِلَّةِ بِعِدَّةٍ، حَتَّى أَخَذَ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِقِسْطِهِمْ فَلَحِقَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى دَارِهِ- وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَيَّ- رَجُلٌ يَسْعَى إِلَيْهِ بِفَيْرُوزَ، فَاسْتَمَعَ لَهُ، وَاسْتَمَعَ لَهُ فَيْرُوزٌ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا قَاتِلُهُ غَدًا وَأَصْحَابُهُ، فَاغْدُ عَلَيَّ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا بِهِ، فَقَالَ: مَهْ! فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، ثُمَّ ضَرَبَ دَابَّتَهُ دَاخِلا، فَرَجَعَ إلينا فأخبرنا الْخَبَرَ، فَأَرْسَلْنَا إِلَى قَيْسٍ، فَجَاءَنَا، فَأَجْمَعَ مَلَؤُهُمْ أَنْ أَعُودَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَأُخْبِرَهَا بِعَزِيمَتَنَا لِتُخْبِرَنَا بِمَا تَأْمُرُ، فَأَتَيْتُ الْمَرْأَةَ وَقُلْتُ: مَا عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: هُوَ مُتَحَرِّزٌ مُتَحَرِّسٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْقَصْرِ شَيْءٌ إِلا وَالْحَرَسُ مُحِيطُونَ بِهِ غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنَّ ظَهْرَهُ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الطَّرِيقِ، فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ فَانْقُبُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّكُمْ مِنْ دُونِ الْحَرَسِ، وَلَيْسَ دُونَ قَتْلِهِ شَيْءٌ وَقَالَتْ: إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِيهِ سِرَاجًا وَسِلاحًا فَخَرَجْتُ فَتَلَقَّانِي الأَسْوُد خَارِجًا مِنْ بَعْضِ مَنَازِلِهِ، فَقَالَ لِي مَا أَدْخَلَكَ عَلَيَّ؟ وَوَجَأَ رَأْسِي حَتَّى سَقَطْتُ- وَكَانَ شَدِيدًا- وَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَأَدْهَشَتْهُ عَنِّي، وَلَوْلا ذَلِكَ لَقَتَلَنِي وَقَالَتِ: ابْنُ عَمِّي جَاءَنِي زائرا، فقصرت بي! فقال: اسكتي لا ابالك، فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكِ! فَتَزَايَلَتْ عَنِّي، فَأَتَيْتُ أَصْحَابِي فَقُلْتُ: النَّجَاءَ! الْهَرَبَ! وَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، فَإِنَّا عَلَى ذَلِكَ حَيَارَى إِذْ جَاءَنِي رَسُولُهَا: لا تَدَعْنَ مَا فَارَقْتُكَ عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى اطْمَأَنَّ، فَقُلْنَا لِفَيْرُوزٍ: ائْتِهَا فَتَثَبَّتْ مِنْهَا، فَأَمَّا أَنَا فَلا سَبِيلَ لِي إِلَى الدُّخُولِ بَعْدَ النَّهْيِ فَفَعَلَ، وَإِذَا هُوَ كَانَ أَفْطَنَ منى، فلما اخبرته قالت: وَكَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَنْقُبَ عَلَى بُيُوتٍ مُبَطَّنَةٍ! يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقْلِعَ بِطَانَةَ الْبَيْتِ، فَدَخَلا فَاقْتَلَعَا الْبِطَانَةَ، ثُمَّ أَغْلَقَاهُ، وَجَلَسَ عِنْدَهَا كَالزَّائِرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا الأَسْوَدُ فَاسْتَخَفَّتْهُ غَيْرَةٌ، وَأَخْبَرَتْهُ بِرَضَاعٍ وَقَرَابَةٍ مِنْهَا عِنْدَهُ مُحَرَّمٌ، فَصَاحَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ وَجَاءَنَا بِالْخَبَرِ، فَلَمَّا أَمْسَيْنَا عَمِلْنَا فِي أَمْرِنَا، وَقَدْ وَاطَأْنَا أَشْيَاعَنَا، وَعَجِلْنَا عَنْ مُرَاسَلَةِ الْهَمْدَانِيِّينَ وَالْحِمْيَرِيِّينَ، فَنَقَبْنَا الْبَيْتَ مِنْ خَارِجٍ، ثُمَّ دَخَلْنَا وَفِيهِ سِرَاجٌ تَحْتَ جُفْنَةٍ، وَاتَّقَيْنَا بِفَيْرُوزَ، وَكَانَ أَنْجَدَنَا وَأَشَدَّنَا- فَقُلْنَا: انْظُرْ مَاذَا تَرَى! فَخَرَجَ وَنَحْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَسِ مَعَهُ فِي مَقْصُورَةٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ بَابِ الْبَيْتِ سَمِعَ غَطِيطًا شَدِيدًا، وَإِذَا الْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى الْبَابِ أَجْلَسَهُ الشَّيْطَانُ فَكَلَّمَهُ عَلَى لِسَانِهِ- وَإِنَّهُ لَيَغُطَّ جَالِسًا وَقَالَ أَيْضًا: مَا لِي وَلَكَ يَا فَيْرُوزُ! فَخَشِيَ إِنْ رَجَعَ أَنْ يَهْلِكَ وَتَهْلِكَ الْمَرْأَةُ، فَعَاجَلَهُ فَخَالَطَهُ وَهُوَ مِثْلُ الْجَمَلِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَقَتَلَهُ، فَدَقَّ عُنُقَهُ، وَوَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي ظَهْرِهِ فَدَقَّهُ، ثُمَّ قَامَ لِيَخْرُجَ، فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِثَوْبِهِ وَهِيَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَقَالَتْ: أَيْنَ تَدَعُنِي! قَالَ: أُخْبِرُ أَصْحَابِي بِمَقْتَلِهِ، فَأَتَانَا فَقُمْنَا مَعَهُ، فَأَرَدْنَا حَزَّ رَأْسِهِ، فَحَرَّكَهُ الشَّيْطَانُ فَاضْطَرَبَ فَلَمْ يَضْبِطْهُ، فَقُلْتُ: اجْلِسُوا عَلَى صَدْرِهِ، فَجَلَسَ اثْنَانِ عَلَى صَدْرِهِ، وَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِشَعْرِهِ، وَسَمِعْنَا بَرْبَرَةً فَأَلْجَمَتْهُ بِمِئْلاةٍ، وَأَمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلَى حَلْقِهِ فَخَارَ كَأَشَدِّ خُوَارِ ثَوْرٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ، فَابْتَدَرَ الْحَرَسُ الْبَابَ وَهُمْ حَوْلَ الْمَقْصُورَةِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا، مَا هَذَا! فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: النَّبِيُّ يُوحَى إِلَيْهِ! فَخَمَدَ ثُمَّ سَمُرْنَا لَيْلَتَنَا وَنَحْنُ نَأْتَمِرُ كَيْفَ نُخْبِرُ أَشْيَاعَنَا، لَيْسَ غَيْرُنَا ثَلاثَتُنَا: فَيْرُوزُ وَدَاذُوَيْهِ وَقَيْسٌ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى النِّدَاءِ بِشِعَارِنَا الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَشْيَاعِنَا، ثُمَّ يُنَادَى بِالأَذَانِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى دَاذُوَيْهِ بِالشِّعَارِ، فَفَزِعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكَافِرُونَ، وَتَجَمَّعَ الْحَرَسُ فَأَحَاطُوا بِنَا، ثُمَّ نَادَيْتُ بِالأَذَانِ، وَتَوَافَتْ خُيُولُهُمْ إِلَى الْحَرَسِ، فَنَادَيْتُهُمْ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ عَبْهَلَةَ كَذَّابٌ! وَأَلْقَيْنَا إِلَيْهِمْ رَأْسَهُ، فَأَقَامَ وَبَرٌ الصَّلاةَ، وَشَنَّهَا الْقَوْمُ غَارَةً، ونَادَيْنَا: يَا أَهْلَ صَنْعَاءَ، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ دَاخِلٌ فَتَعَلَّقُوا بِهِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَتَعَلَّقُوا بِهِ.
وَنَادَيْنَا بِمَنْ فِي الطَّرِيقِ: تَعَلَّقُوا بِمَنِ اسْتَطَعْتُمْ! فَاخْتَطَفُوا صِبْيَانًا كَثِيرِينَ، وَانْتَهَبُوا مَا انْتَهَبُوا، ثُمَّ مَضَوْا خَارِجِينَ، فَلَمَّا بَرَزُوا فَقَدُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ فَارِسًا رُكْبَانًا، وَإِذَا أَهْلُ الدور والطرق وقد وافونا بهم، وفقدنا سبعمائة عيل فراسلونا وراسلناهم أَنْ يَتْرُكُوا لَنَا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَنَتْرُكُ لَهُمْ مَا فِي أَيْدِينَا، فَفَعَلُوا فَخَرَجُوا لَمْ يَظْفَرُوا مِنَّا بِشَيْءٍ، فَتَرَدَّدُوا فِيمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَنَجْرَانَ، وَخَلَصَتْ صَنْعَاءُ وَالْجُنْدُ، وَأَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلامَ واهله، وتنافسنا الإمارة، وتراجع اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى أَعْمَالِهِمْ، فَاصْطَلَحْنَا عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِنَا، وَكَتَبْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالخبر، وذلك في حياه النبي صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ الْخَبَرُ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَقَدِمَتْ رُسُلُنَا، وَقَدْ مات النبي صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَجَابَنَا أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قال: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ- عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الشَّنَوِيِّ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قال: اتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم مِنَ السَّمَاءِ اللَّيْلَةَ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا الْعَنْسِيُّ لِيُبَشِّرَنَا، فَقَالَ: «قُتِلَ الْعَنْسِيُّ الْبَارِحَةَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مُبَارَكينَ»، قِيلَ: وَمَنْ هو؟ قَالَ: «فَيْرُوزُ، فَازَ فَيْرُوزُ!».
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف- عن الْمُسْتَنِيرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ فَيْرُوزَ، قَالَ: قَتَلْنَا الأَسْوَدَ، وَعَادَ أَمْرُنَا كَمَا كَانَ، إِلا أَنَّا أَرْسَلْنَا إِلَى مُعَاذٍ، فَتَرَاضَيْنَا عَلَيْهِ، فكان يصلى بنا في صنعاء، فو الله ما صلى بنا الا ثلاثا ونحن راجون مَؤْمُلُونَ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ نَكْرَهُهُ إِلا مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْخُيُولِ الَّتِي تَتَرَدَّدُ بَيْنَنَا وَبَيَنْ نَجْرَانَ، حَتَّى أَتَانَا الْخَبَرُ بِوَفَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَانْتُقِضَتِ الأُمُورُ، وَأَنْكَرْنَا كَثِيرًا مِمَّا كُنَّا نَعْرِفُ، وَاضْطَرَبَتِ الأَرْضُ.
حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ يَحْيَى بْنِ أَبِي عمرو السيبانى، مِنْ جُنْدِ فِلَسْطِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولا، يُقَالُ لَهُ: وَبْرُ بْنُ يَحْنُسَ الأَزْدِيُّ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى دَاذُوَيْهِ الْفَارِسِيِّ، وَكَانَ الأَسْوَدُ كَاهِنًا مَعَهُ شَيْطَانٌ وَتَابِعٌ لَهُ، فَخَرَجَ فَنَزَلَ عَلَى مَلَكِ الْيَمَنِ، فَقَتَلَ مَلِكَهَا وَنَكَحَ امْرَأَتَهُ وَمَلَكَ الْيَمَنَ، وَكَانَ بَاذَامُ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَخَلَفَ ابْنَهُ عَلَى أَمْرِهِ، فَقَتَلَهُ وَتَزَوَّجَهَا، فَاجْتَمَعْتُ أَنَا وَدَاذُوَيْهِ وَقَيْسِ بْنِ الْمَكْشُوحِ الْمُرَادِيِّ عِنْدَ وَبَرِ بْنِ يُحَنِّسَ رَسُولِ نَبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم نَأْتَمِرُ بِقَتْلِ الأَسْوَدِ ثُمَّ إِنَّ الأَسْوَدَ أَمَرَ النَّاسَ فَاجْتَمَعُوا فِي رُحْبَةٍ مِنْ صَنْعَاءَ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَامَ فِي وَسْطِهِمْ، وَمَعَهُ حَرْبَةُ الْمَلِكِ، ثُمَّ دَعَا بِفَرَسِ الْمَلِكِ فَأَوْجَرَهُ الْحَرْبَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَ فَجَعَلَ يَجْرِي فِي الْمَدِينَةِ وَدِمَاؤُهُ تَسِيلُ حَتَّى مَاتَ وَقَامَ وَسَطَ الرُّحْبَةِ، ثُمَّ دَعَا بِجُزُرٍ مِنْ وَرَاءِ الْخَطِّ فَأَقَامَهَا، وَأَعْنَاقُهَا وَرُءُوسُهَا فِي الْخَطِّ مَا يَجُزْنَهُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُنَّ بِحَرْبَتِهِ فَنَحَرَهُنَّ فَتَصَدَّعْنَ عَنْهُ، حَتَّى فَرَغَ مِنْهُنَّ، ثُمَّ أَمْسَكَ حَرْبَتَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ- يَعْنِي شَيْطَانَهُ الَّذِي مَعَهُ: إِنَّ ابْنَ الْمَكْشُوحِ مِنَ الطُّغَاةِ، يَا أَسْوَدُ اقْطَعْ قُنَّةَ راسه العليا ثم أكب رَأْسَهُ أَيْضًا يَنْظُرُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ ابْنَ الدَّيْلَمِيِّ مِنَ الطُّغَاةِ، يَا أَسْوَدُ اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُمْنَى، فلما سمعت قوله قلت: والله ما آمن أَنْ يَدْعُوَ بِي، فَيْنَحَرَنِي بِحَرْبَتِهِ كَمَا نَحَرَ هَذِهِ الْجُزُرَ، فَجَعَلْتُ أَسْتَتِرُ بِالنَّاسِ لِئَلا يَرَانِي، حَتَّى خَرَجْتُ وَلا أَدْرِي مِنْ حِذْرِي كَيْفَ آخُذُ! فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْ مَنْزِلِي لَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَدَقَّ فِي رَقَبَتِي، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ يَدْعُوكَ وَأَنْتَ تَرُوغُ! ارْجِعْ، فَردَّنِي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ خَشِيتُ أَنْ يَقْتُلَنِي قَالَ: وَكُنَّا لا يَكَادُ يُفَارِقُ رَجُلا مِنَّا أَبَدًا خِنْجَرَهُ، فَأَدُسُّ يَدِي فِي خُفِّي، فَأَخَذْتُ خِنْجَرِي، ثُمَّ أَقْبَلْتُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِ، فَأَطْعَنَهُ بِهِ حَتَّى أَقْتُلَهُ، ثُمَّ أَقْتُلَ مَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ رَأَى فِي وَجْهِي الشَّرَّ، فَقَالَ: مَكَانَكَ! فَوَقَفْتُ، فَقَالَ: إِنَّكَ أَكْبَرُ مَنْ هَاهُنَا وَأَعْلَمُهُمْ بِأَشْرَافِ أَهْلِهَا، فَاقْسِمْ هَذِهِ الْجُزُرَ بَيْنَهُمْ وَرَكِبَ فَانْطَلَقَ وَعَلَّقْتُ أُقْسِمُ اللَّحْمَ بَيْنَ أَهْلِ صَنْعَاءَ، فَأَتَانِي ذَلِكَ الَّذِي دَقَّ فِي رَقَبَتِي، فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْهَا، فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ وَلا بَضْعَةً وَاحِدَةً، أَلَسْتَ الَّذِي دَقَقْتَ فِي رَقَبَتِي! فَانْطَلَقَ غَضْبَانَ حَتَّى أَتَى الأَسْوَدَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ مِنِّي وَقُلْتُ لَهُ فَلَمَّا فَرَغْتُ أَتَيْتُ الأَسْوَدَ أَمْشِي إِلَيْهِ، فَسَمِعْتُ الرَّجُلَ وَهُوَ يَشْكُونِي إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الأَسْوَدُ: أَمَا وَاللَّهِ لأَذْبَحَنَّهُ ذَبْحًا! فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ فَرَغْتُ مِمَّا أَمَرْتَنِي بِهِ، وَقَسَّمْتُهُ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: قَدْ أَحْسَنْتَ فَانْصَرِفْ فَانْصَرَفْتُ، فَبَعَثْنَا إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ: أَنَّا نُرِيدُ قَتْلَ الأَسْوَدِ، فَكَيْفَ لَنَا! فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ: أَنْ هَلُمَّ فَأَتَيْتُهَا، وَجَعَلَتِ الْجَارِيَةَ عَلَى الْبَابِ لَتُؤْذِنَنَا إِذَا جَاءَ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَهِيَ الْبَيْتَ الآخِرَ، فَحَفَرْنَا حَتَّى نَقَبْنَا نَقْبًا، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْبَيْتِ، فَأَرْسَلْنَا السِّتْرَ، فَقُلْتُ: إِنَّا نَقْتُلُهُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَتْ: فَتَعَالَوْا، فَمَا شَعَرْتُ بِشَيْءٍ حَتَّى إِذَا الأَسْوَدُ قَدْ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَإِذَا هُوَ مَعَنَا، فَأَخَذَتْهُ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ يَدُقُّ فِي رَقَبَتِي، وَكَفْكَفْتُهُ عَنِّي، وَخَرَجْتُ فَأَتَيْتُ أَصْحَابِي بِالَّذِي صَنَعْتُ، وَأَيْقَنْتُ بِانْقِطَاعِ الْحِيلَةِ عَنَّا فِيهِ، إِذْ جَاءَنَا رَسُولُ الْمَرْأَةِ، أَلا يَكْسِرِنَّ عَلَيْكُمْ أَمْرَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ، فَإِنِّي قَدْ قُلْتُ له بعد ما خَرَجْتَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَقْوَامُ أَحْرَارٍ لَكُمْ أَحْسَابٌ! قَالَ: بَلَى، فَقُلْتُ: جَاءَنِي أَخِي يُسَلِّمُ عَلَيَّ وَيُكْرِمُنِي، فَوَقَعْتَ عَلَيْهِ تَدُقُّ فِي رَقَبَتِهِ، حتى اخرجته، فكانت هذه كرامتك اياه! فم أَزَلْ أَلُومُهُ حَتَّى لامَ نَفْسَهُ، وَقَالَ: أَهُوَ أَخُوكِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: مَا شَعُرْتُ، فَأَقْبِلُوا اللَّيْلَةَ لِمَا أَرَدْتُمْ.
قَالَ الدَّيْلَمِيُّ: فَاطْمَأَنَّتْ أَنْفُسُنَا، وَاجْتَمَعَ لَنَا أَمْرَنَا، فَأَقْبَلْنَا مِنَ اللَّيْلِ أَنَا وَدَاذُوَيْهِ وَقَيْسٌ حَتَّى نَدْخُلَ الْبَيْتَ الأَقْصَى مِنَ النَّقَبِ الَّذِي نَقَبْنَا، فَقُلْتُ:
يَا قَيْسُ، أَنْتَ فَارِسُ الْعَرَبِ، ادْخُلْ فَاقْتُلِ الرَّجُلَ، قَالَ: إِنِّي تَأْخُذُنِي رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ عِنْدَ الْبَأْسِ، فَأَخَافُ أَنْ أَضْرِبَ الرَّجُلَ ضَرْبَةً لا تُغْنِي شَيْئًا، وَلَكِنِ ادْخُلْ أَنْتَ يَا فَيْرُوزُ، فَإِنَّكَ أَشَبُّنَا وَأَقْوَانَا، قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِي عِنْدَ الْقَوْمِ، وَدَخَلْتُ لأَنْظُرَ أَيْنَ رَأْسُ الرَّجُلِ! فَإِذَا السِّرَاجُ يُزْهِرُ، وَإِذَا هُوَ رَاقِدٌ عَلَى فُرُشٍ قَدْ غَابَ فِيهَا لا أَدْرِي أَيْنَ رَأْسُهُ مِنْ رِجْلَيْهِ! وَإِذَا الْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ عِنْدَهُ كَانَتْ تُطْعِمُهُ رُمَّانًا حَتَّى رَقَدَ، فَأَشَرْتُ إِلَيْهَا: أَيْنَ رَأْسُهُ؟ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ، فَأَقْبَلْتُ أَمْشِي حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ لأَنْظُرَ، فَمَا أَدْرِي أَنَظَرْتُ فِي وَجْهِهِ أَمْ لا! فَإِذَا هُوَ قَدْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: إِنْ رَجَعْتُ إِلَى سَيْفِي خِفْتُ أَنْ يَفُوتَنِي وَيَأْخُذَ عُدَّةً يَمْتَنِعُ بِهَا مِنِّي، وَإِذَا شَيْطَانُهُ قَدْ أَنْذَرَهُ بِمَكَانِي وَقَدْ أَيْقَظَهُ، فَلَمَّا أَبْطَأَ كَلَّمَنِي عَلَى لِسَانِهِ، وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ وَيَغُطُّ، فَأَضْرِبُ بِيَدِي إِلَى رَأْسِهِ، فَأَخَذْتُ رَأْسَهُ بِيَدٍ وَلِحْيَتَهُ بِيَدٍ، ثُمَّ أَلْوِي عُنُقَهُ فَدَقَقْتُهَا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِثَوْبِي، فَقَالَتْ: أُخْتُكُمْ نَصِيحَتُكُمْ! قُلْتُ: قَدْ وَاللَّهِ قَتَلْتُهُ وَأَرَحْتُكِ مِنْهُ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى صَاحِبَيَّ فأخبرتهما، قالا: فارجع فاحتز راسه وائتنا بِهِ، فَدَخَلْتُ فَبَرْبَرَ فَأَلْجَمْتُهُ فَحَزَزْتُ رَأْسَهُ، فَأَتَيْتُهُمَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَنْزِلَنَا، وَعِنْدَنَا وَبَرُ بْنُ يُحَنِّسَ الأَزْدِيُّ، فَقَامَ مَعَنَا حَتَّى ارْتَقَيْنَا عَلَى حِصْنٍ مُرْتَفِعٍ مِنْ تِلْكَ الْحُصُونِ، فَأَذَّنَ وَبَرُ بْنُ يُحَنِّسَ بِالصَّلاةِ، ثُمَّ قُلْنَا: أَلا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَتَلَ الأَسْوَدَ الْكَذَّابَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْنَا فَرَمَيْنَا بِرَأْسِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَسْرَجُوا خُيُولَهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ غُلامًا مِنْ أَبْنَائِنَا مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ نَازِلا فِيهِمْ، فَأَبْصَرْتُهُمْ فِي الْغَلَسِ مُرْدِفِي الْغِلْمَانِ، فَنَادَيْتُ أَخِي وَهُوَ أَسْفَلَ مِنِّي مَعَ النَّاسِ: أَنْ تَعَلَّقُوا بِمَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْهُمْ، أَلا تَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِالأَبْنَاءِ! فَتَعَلَّقُوا بِهِمْ، فَحَبَسْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلا، وَذَهَبُوا مِنَّا بِثَلاثِينَ غُلامًا، فَلَمَّا بَرَزُوا إِذَا هُمْ يَفْقِدُونَ سَبْعِينَ رَجُلا حِينَ تَفَقَّدُوا أَصْحَابَهُمْ، فَأَتَوْنَا فَقَالُوا: أَرْسِلُوا إِلَيْنَا أَصْحَابَنَا، فَقُلْنَا لَهُمْ: أَرْسِلُوا إِلَيْنَا أَبْنَاءَنَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْنَا الأَبْنَاءَ، وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ أَصْحَابَهُمْ.
قَالَ: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَتَلَ الأَسْوَدَ الْكَذَّابَ الْعَنْسِيَّ، قَتَلَهُ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَقَوْمٌ أَسْلَمُوا وَصَدَّقُوا»، فَكُنَّا كَأَنَّا عَلَى الأَمْرِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ قُدُومِ الأَسْوَدِ عَلَيْنَا وَأَمِنَ الأُمَرَاءُ وَتَرَاجَعُوا، وَاعْتَذَرَ النَّاسُ وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ.
وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف- وحدثنا عبيد الله قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف- عن جابر بْن يزيد، عن عروه ابن غزية، عن الضحاك بْن فيروز، قَالَ: كان ما بين خروجه بكهف خبان ومقتله نحوا من أربعة أشهر، وقد كان قبل ذَلِكَ مستسرا بأمره. حَتَّى بادى بعد.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن أبي معشر ويزيد بْن عياض بْن جعد به وغسان بْن عبد الحميد وجويرية بْن أسماء، عن مشيختهم، قالوا: أمضى أبو بكر جيش أسامة بْن زيد فِي آخر ربيع الأول، وأتى مقتل العنسي فِي آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة، وَكَانَ ذَلِكَ أول فتح اتى أبا بكر وهو بالمدينة.
حوادث متفرقة
وقال الْوَاقِدِيّ: فِي هذه السنة- أعني سنة إحدى عشرة- قدم وفد النخع فِي النصف من المحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأسهم زرارة بْن عمرو، وهم آخر من قدم من الوفود.
وفيها: ماتت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي ليلة الثلاثاء، لثلاث خلون من شهر رمضان، وهي يومئذ ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها.
وذكر أن أبا بكر بْن عبد الله، حَدَّثَهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أبان بْن صالح بذلك وزعم أن ابن جريج حدثه عن عمرو بْن دينار، عن أبي جعفر، قَالَ: توفيت فاطمة عليها السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر.
قَالَ: وحدثنا ابن جريج، عن الزهري، عن عُرْوَة، قَالَ: توفيت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وهو أثبت عندنا.
قال: وغسلها على عليه السلام وأسماء بنت عميس.
قَالَ: وحدثني عبد الرحمن بْن عبد العزيز بْن عبد الله بْن عثمان بْن حنيف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عمرو بْن حزم، عن عمرة ابنة عبد الرحمن قالت: صلى عليها العباس بْن عبد المطلب.
وحدثنا أبو زيد، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، عن أبي معشر، قَالَ: دخل قبرها العباس وعلي والفضل بْن العباس.
قَالَ: وفيها توفي عبد الله بْن أبي بكر بْن أبي قحافة، وَكَانَ أصابه بالطائف سهم مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، رماه ابو محجن، ودمل الجرح حَتَّى انتقض به فِي شوال، فمات.
وحدثني أبو زيد، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، قال: حدثنا ابو معشر ومحمد ابن إِسْحَاقَ وجويرية بْن أسماء بإسناده الَّذِي ذكرت قبل، قالوا: فِي العام الَّذِي بويع فيه أبو بكر ملك أهل فارس عليهم يزدجرد.
قَالَ أبو جعفر: وفيها كان لقاء أبي بكر رحمه الله خارجة بْن حصن الفزاري حَدَّثَنِي أَبُو زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ محمد بإسناده الَّذِي ذكرت قبل، قالوا: أقام أبو بكر بالمدينة بعد وفاة رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وتوجيهه أسامة فِي جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بْن حارثة من أرض الشام، وهو الموضع الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم امره بالمسير إليه، لم يحدث شَيْئًا، وقد جاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة، ويمنعون الزكاة.
فلم يقبل ذَلِكَ منهم وردهم، وأقام حَتَّى قدم أسامة بْن زيد بْن حارثة بعد أربعين يوما من شخوصه- ويقال: بعد سبعين يوما -فلما قدم أسامة بْن زيد استخلفه أبو بكر على المدينة وشخص- ويقال استخلف سنانا الضمري على الْمَدِينَةِ- فسار ونزل بذي القصة فِي جمادى الأولى، ويقال فِي جمادى الآخرة، وَكَانَ نوفل بْن معاويه الديلى بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه خارجة بْن حصن بالشربة، فأخذ ما فِي يديه، فرده على بني فزارة، فرجع نوفل إلى أبي بكر بالمدينة قبل قدوم أسامة على أبي بكر فأول حرب كانت في الرده بعد وفاه النبي صلى الله عليه وسلم حرب العنسي، وقد كانت حرب العنسي باليمن، ثُمَّ حرب خارجة بْن حصن ومنظور بْن زبان بْن سيار فِي غطفان، والمسلمون غارون، فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بِهَا، ثُمَّ هزم الله المشركين.
وحدثني عبيد الله، قَالَ: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف -وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف- عن المجالد ابن سعيد، قَالَ: لما فصل أسامة كفرت الأرض وتضرمت، وارتدت من كل قبيلة عامة أو خاصه الا قريشا وثقيفا.
وحدثني عبيد الله، قَالَ: حَدَّثَنَا عمي، قَالَ: أخبرنا سيف -وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سَيْفٍ- عَنْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا مات رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وفصل أسامة ارتدت العرب عوام أو خواص، وتوحى مسيلمة وطليحة، فاستغلظ أمرهما، واجتمع على طليحة عوام طيئ وأسد، وارتدت غطفان إلى ما كان من أشجع وخواص من الأفناء فبايعوه، وقدمت هَوَازِن رجلا وأخرت رجلا أمسكوا الصدقه الا ما كان من ثقيف ولفها، فإنهم اقتدى بهم عوام جديلة والأعجاز، وارتدت خواص من بني سليم، وكذلك سائر الناس بكل مكان.
قَالَ: وقدمت رسل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد ووفود من كان كاتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وامر امره في الأسود ومسيلمه وطليحة بالأخبار والكتب، فدفعوا كتبهم إلى أبي بكر، واخبروه الخبر، فَقَالَ لهم أبو بكر: لا تبرحوا حَتَّى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمر، وانتقاض الأمور فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي صلى الله عليه وسلم من كل مكان بانتقاض عامة أو خاصة، وتبسُّطهم بأنواع الميل على الْمُسْلِمين، فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاربهم بالرسل فرد رسلهم بأمره، وأتبع الرسل رسلا، وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، وَكَانَ أول من صادم عبس وذبيان، عاجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة.
حدثني عبيد الله، قَالَ: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف -وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف- عن أبي عمرو، عن زيد بْن أسلم، قَالَ: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله على قضاعة، وعلى كلب امرؤ القيس بْن الأصبغ الكلبي من بني عبد الله، وعلى القين عمرو بْن الحكم، وعلى سعد هذيم معاوية بْن فلان الوائلي.
وقال السري الوالبي: فارتد وديعة الكلبي فيمن آزره من كلب، وبقي امرؤ القيس على دينه، وارتد زميل بْن قطبة القيني فيمن آزره من بني القين وبقي عمرو، وارتد معاوية فيمن آزره من سعد هذيم.
فكتب أبو بكر إلى امرئ القيس بْن فلان- وهو جد سكينة ابنة حسين- فسار لوديعة، وإلى عمرو فأقام لزميل، وإلى معاوية العذري فلما توسط أسامة بلاد قضاعة، بث الخيول فيهم وأمرهم أن ينهضوا من أقام على الإسلام إلى من رجع عنه، فخرجوا هُرَّابا، حَتَّى أرزوا إلى دومة، واجتمعوا إلى وديعة، ورجعت خيول اسامه اليه، فمضى فيها أسامة.
حَتَّى أغار على الحمقتين، فأصاب فِي بني الضبيب من جذام، وفي بني خيليل من لخم ولفها من القبيلين، وحازهم من آبل وانكفأ سالما غانما فحدثني السري، قال: حدثنا شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عن القاسم بن محمد، قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحة، إلا ما كان من خواص أقوام فِي القبائل الثلاث، فاجتمعت أسد بسميراء، وفزارة ومن يليهم من غطفان بجنوب طيبة، وطيئ على حدود أرضهم واجتمعت ثعلبة بْن سعد ومن يليهم من مرة وعبس بالأبرق من الربذة، وتأشب، إِلَيْهِم ناس من بني كنانة، فلم تحملهم البلاد، فافترقوا فرقتين، فأقامت فرقة منهم بالأبرق، وسارت الأخرى إلى ذي القصة، وأمدهم طليحة بحبال فكان حبال على أهل ذي القصة من بني أسد ومن تأشب من ليث والديل ومدلج وَكَانَ على مرة بالأبرق عوف بْن فلان بْن سنان، وعلى ثعلبة وعبس الحارث ابن فلان، أحد بني سبيع، وقد بعثوا وفودا فقدموا الْمَدِينَة، فنزلوا على وجوه الناس، فأنزلوهم ما خلا عباسا فتحملوا بهم على أبي بكر، على أن يقيموا الصلاة، وعلى ألا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق، وقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه -وكانت عقل الصدقة على أهل الصدقة مَعَ الصدقة- فردهم فرجع وفد من يلي الْمَدِينَة من المرتدة إِلَيْهِم، فأخبروا عشائرهم بقله من اهل المدينة، وأطعموهم فيها، وجعل أبو بكر بعد ما أخرج الوفد على انقاب المدينة نفرا: عليا والزبير وطلحة وعبد الله بْن مسعود، وأخذ أهل الْمَدِينَة بحضور المسجد، وقال لهم: إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا! وأدناهم منكم على بريد. وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إِلَيْهِم عهدهم، فاستعدوا وأعدوا فما لبثوا إلا ثلاثا حَتَّى طرقوا الْمَدِينَة غارة مَعَ الليل، وخلفوا بعضهم بذي حسى، ليكونوا لهم ردءا، فوافق الغوار ليلا الأنقاب، وعليها المقاتلة، ودونهم أقوام يدرجون، فنبهوهم، وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، فأرسل إِلَيْهِم أبو بكر أن الزموا أماكنكم، ففعلوا وخرج فِي أهل المسجد على النواضح إِلَيْهِم، فانفش العدو، فاتبعهم المسلمون على إبلهم، حَتَّى بلغوا ذا حسى، فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها، جعلوا فيها الحبال، ثُمَّ دهدهوها بأرجلهم فِي وجوه الإِبِل، فتدهده كل نحي فِي طوله، فنفرت إبل الْمُسْلِمين وهم عليها- ولا تنفر الإِبِل من شيء نفارها من الأنحاء- فعاجت بهم ما يملكونها، حَتَّى دخلت بهم الْمَدِينَة، فلم يصرع مسلم ولم يصب، فَقَالَ: فِي ذَلِكَ الخطيل بن أوس أخو الحطيئه ابن أوس:
فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي *** عشية يحذى بالرماح أبو بكر
ولكن يدهدي بالرجال فهبنه *** الى قدر ما ان يزيد ولا يحرى
وللَّه أجناد تذاق مذاقه *** لتحسب فيما عد من عجب الدهر!
وأنشده الزهري: من حسب الدهر.
وقال عبد الله الليثي، وكانت بنو عبد مناة من المرتدة- وهم بنو ذبيان- فِي ذَلِكَ الأمر بذى القصة وبذى حمى:
أطعنا رَسُول اللَّهِ ما كان بيننا *** فيا لعباد الله ما لأبي بكر!
أيورثها بكرا إذا مات بعده *** وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه *** وهلا خشيتم حس راغية البكر!
وإن التي سألوكم فمنعتم *** لكالتمر أو أحلى إلي من التمر
فظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم اعتمادا فِي الذين أخبروهم، وهم لا يشعرون لأمر الله عز وجل الَّذِي أراده، وأحب أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ، فعبَّى الناس، ثم خرج على تعبئة من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النعمان بْن مقرن، وعلى ميسرته عبد الله بْن مقرن، وعلى الساقة سويد بْن مقرن معه الركاب، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو فِي صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همسا ولا حسا حَتَّى وضعوا فيهم السيوف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذر قرن الشمس حَتَّى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال واتبعهم أبو بكر، حَتَّى نزل بذي القصة -وَكَانَ أول الفتح- ووضع بِهَا النعمان ابن مقرن فِي عدد، ورجع إلى الْمَدِينَة فذل بِهَا المشركون، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم مِنَ الْمُسْلِمين، فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم وعز المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن فِي المشركين كل قتلة، وليقتلن فِي كل قبيلة بمن قتلوا مِنَ الْمُسْلِمين وزيادة، وفي ذَلِكَ يقول زياد بْن حنظلة التميمي:
غداة سعى أبو بكر إِلَيْهِم *** كما يسعى لموتته جلال
أراح على نواهقها عليا *** ومج لهن مهجته حبال
وقال أيضا:
أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا *** ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عِنْد قيامها *** صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر
طرقنا بني عبس بأدنى نباجها *** وذبيان نهنهنا بقاصمة الظهر
ثُمَّ لم يصنع إلا ذَلِكَ، حَتَّى ازداد المسلمون لَهَا ثباتا على دينهم فِي كل قبيلة، وازداد لَهَا المشركون انعكاسا من أمرهم فِي كل قبيلة، وطرقت الْمَدِينَة صدقات نفر: صفوان، الزبرقان، عدي، صفوان، ثُمَّ الزبرقان، ثُمَّ عدي، صفوان فِي أول الليل، والثاني فِي وسطه، والثالث فِي آخره وَكَانَ الَّذِي بشر بصفوان سعد بْن أبي وقاص، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بْن عوف، والذي بشر بعدي عبد الله بْن مسعود وقال غيره: أبو قتادة.
قَالَ: وقال الناس لكلهم حين طلع: نذير، وقال أبو بكر: هذا بشير، هذا حام وليس بوان، فإذا نادى بالخير، قالوا: طالما بشرت بالخير! وذلك لتمام ستين يوما من مخرج أسامة وقدم أسامة بعد ذَلِكَ بأيام لشهرين وأيام، فاستخلفه أبو بكر على الْمَدِينَة، وقال لَهُ ولجنده: أريحوا وأريحوا ظهركم.
ثُمَّ خرج فِي الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذَلِكَ الظهر، فَقَالَ لَهُ المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رَسُول اللَّهِ أن تعرض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلا، فإن أصيب أمرت آخر، فَقَالَ: لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي، فخرج فِي تعبيته إلى ذي حسى وذي القصة، والنعمان وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه، حَتَّى نزل على أهل الربذة بالأبرق، فاقتتلوا، فهزم الله الحارث وعوفا، وأخذ الحطيئة أسيرا، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياما، وقد غلب بني ذبيان على البلاد وقال: حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله! وأجلاها.
فلما غلب أهل الردة، ودخلوا فِي الباب الَّذِي خرجوا منه، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة، وهي كانت منازلهم لينزلوها، فمنعوا منها فاتوه في المدينة، فقالوا: علا م نمنع من نزول بلادنا! فَقَالَ: كذبتم، ليست لكم ببلاد، ولكنها موهبي ونقذى، ولم يعتبهم، وحمى الأبرق لخيول الْمُسْلِمين، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس على بني ثعلبة، ثُمَّ حماها كلها لصدقات الْمُسْلِمين، لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات، فمنع بذلك بعضهم من بعض.
ولما فضت عبس وذبيان أرزوا إلى طليحة وقد نزل طليحة على بزاخة، وارتحل عن سميراء إليها، فأقام عليها، وقال فِي يوم الأبرق زياد بْن حنظلة:
ويوم بالأبارق قد شهدنا *** على ذبيان يلتهب التهابا
أتيناهم بداهية نسوف *** مَعَ الصديق إذ ترك العتابا
حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْجَذِعِ وَحَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الرَّبَذَةِ يَلْقَى بَنِي عَبْسٍ وَذُبْيَانَ وجماعه من بنى عبد مناه ابن كِنَانَةَ، فَلَقِيَهُمْ بِالأَبْرَقِ، فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَفَلَّهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا جَمَّ جُنْدُ أُسَامَةَ، وَثَابَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ خَرَجَ إِلَى ذِي الْقُصَّةِ فَنَزَلَ بِهِمْ -وَهُوَ عَلَى بَرِيدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ تِلْقَاءَ نَجْدٍ- فَقَطَعَ فِيهَا الْجُنْدَ، وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ، عَقَدَ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءً عَلَى أَحَدَ عَشَرَ جُنْدًا، وَأَمَرَ أَمِيرَ كُلَّ جُنْدٍ بِاسْتِنْفَارِ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، وَتَخَلَّفَ بَعْضُ أَهْلِ الْقُوَّةِ لِمَنْعِ بِلادِهِمْ.
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عن الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَاحَ أُسَامَةُ وَجُنْدُهُ ظَهْرَهُمْ وَجَمُّوا، وَقَدْ جَاءَتْ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ تَفْضُلُ عَنْهُمْ، قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ الْبُعُوثَ وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ، فَعَقَدَ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءً: عَقَدَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ بِطُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ، فَإِذَا فَرَغَ سَارَ إِلَى مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ بِالْبِطَاحِ ان اقام له، ولعكرمه ابن أَبِي جَهْلٍ وَأَمَرَهُ بِمُسَيْلِمَةَ، وَلِلْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَأَمَرَهُ بِجُنُودِ الْعَنْسِيِّ وَمَعُونَةِ الأَبْنَاءِ عَلَى قَيْسِ بْنِ الْمَكْشُوحِ وَمَنْ أَعَانَهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَمْضِي إِلَى كِنْدَةَ بِحَضْرَمَوْتَ، وَلِخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ -وَكَانَ قَدِمَ عَلَى تَفْيِئَةِ ذَلِكَ مِنَ الْيَمَنِ وَتَرَكَ عَمَلَهُ- وَبَعَثَهُ إِلَى الْحَمِقَتَيْنِ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ، وَلِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى جِمَاعِ قُضَاعَةَ وَوَدِيعَةَ وَالْحَارِثِ، وَلِحُذَيْفَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْغَلْفَانِيِّ وَأَمَرَهُ بِأَهْلِ دَبَا وَلِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ وَأَمَرَهُ بِمُهْرَةَ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عَمَلِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَبَعَثَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ فِي أَثَرِ عكرمه ابن أَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ: إِذَا فَرَغَ مِنَ الْيَمَامَةِ فَالْحَقْ بِقُضَاعَةَ، وَأَنْتَ عَلَى خَيْلِكَ تُقَاتِلُ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَلِطَرِيفَةَ بْنِ حَاجِزٍ وَأَمَرَهُ بِبَنِي سُلَيْمٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ، وَلِسُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَأَمَرَهُ بِتِهَامَةَ الْيَمَنِ، وَلِلْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَأَمَرَهُ بالبحرين.
فَفَصَلَتِ الأُمَرَاءُ مِنْ ذِي الْقُصَّةِ، وَنَزَلُوا عَلَى قَصْدِهِمْ، فَلَحِقَ بِكُلِّ أَمِيرٍ جُنْدُهُ، وَقَدْ عَهِدَ اليهم عهده، وكتب الى من بعث اليه مِنْ جَمِيعِ الْمُرْتَدَّةِ.
كتاب ابى بكر الى القبائل المرتدة ووصيته للامراء
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَشَارَكَهُ فِي الْعَهْدِ وَالْكِتَابِ قَحْذَمٌ، فَكَانَتْ الْكُتُبُ إِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمُرْتَدَّةِ كِتَابًا وَاحِدًا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هَذَا مِنْ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ، أَقَامَ عَلَى إِسْلامِهِ أَوْ رَجَعَ عَنْهُ سَلامٌ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، وَلَمْ يَرْجِعْ بَعْدَ الْهُدَى إِلَى الضَّلالَةِ وَالْعَمَى، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَنُكَفِّرُ مَنْ أَبَى وَنُجَاهِدُهُ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى خَلْقِهِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً، لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ فَهَدَى اللَّهُ بِالْحَقِّ مَنْ أَجَابَ إِلَيْهِ.
وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بِإِذْنِهِ مَنْ أَدْبَرَ عَنْهُ، حَتَّى صَارَ إِلَى الإِسْلامِ طَوْعًا وَكَرْهًا ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ الله صلى الله عليه وسلم وَقَدْ نَفَّذَ لأَمْرِ اللَّهِ، وَنَصَحَ لأُمَّتِهِ، وَقَضَى الَّذِي عَلَيْهِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ وَلأَهْلِ الإِسْلامِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَقَالَ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، فَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ، حَيٌّ قَيُّومٌ لا يَمُوتُ، وَلا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، حَافِظٌ لأَمْرِهِ، مُنْتَقِمٌ مِنْ عَدُوِّهِ، يَجْزِيهِ وَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْ تَهْتَدُوا بِهُدَاهُ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِدِينِ اللَّهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ ضَالٌّ، وكل مَنْ لَمْ يُعَافِهِ مُبْتَلًى، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ مَخْذُولٌ، فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ كَانَ مُهْتَدِيًا، وَمَنْ أَضَلَّهُ كَانَ ضَالا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} [الكهف: 17]، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا عَمَلٌ حَتَّى يقربه، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ فِي الآخِرَةِ صَرَفٌ وَلا عَدْلٌ.
وَقَدْ بَلَغَنِي رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِالإِسْلامِ وَعَمِلَ بِهِ، اغْتِرَارًا بِاللَّهِ، وَجَهَالَةً بِأَمْرِهِ، وَإِجَابَةً لِلشَّيْطَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50] وَقَالَ: {إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ} [فاطر: 6]، وَإِنِّي بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ فُلانًا فِي جَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ، وَأَمَرْتُه أَلا يُقَاتِلَ أَحَدًا وَلا يَقْتُلَهَ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى دَاعِيَةِ اللَّهِ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ وَأَقَرَّ وَكَفَّ وَعَمِلَ صَالِحًا قَبِلَ مِنْهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَبَى أَمَرْتُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ لا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَدِرَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ، وَيَقْتُلَهُمْ كُلَّ قتلة، وَأَنْ يَسْبِيَ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ، وَلا يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ إِلا الإِسْلامَ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَنْ يُعْجِزَ اللَّهَ وَقَدْ أَمَرْتُ رَسُولِي أَنْ يَقْرَأَ كِتَابِي فِي كُلِّ مَجْمَعٍ لَكُمْ، وَالدَّاعِيَةُ الأَذَانُ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُسْلِمُونَ فَأَذَّنُوا كُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنُوا عَاجَلُوهُمْ، وَإِنْ أَذَّنُوا اسْأَلُوهُمْ مَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَبَوْا عَاجِلُوهُمْ، وَإِنْ أَقَرُّوا قُبِلَ مِنْهُمْ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ.
فَنَفَذَتِ الرُّسُلُ بِالْكُتُبِ أَمَامَ الْجُنُودِ، وَخَرَجَتِ الأُمَرَاءُ وَمَعَهُمُ الْعُهُودُ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
هَذَا عَهْدٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَلِيفَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لِفُلانٍ حِينَ بَعَثَهُ فِيمَنْ بَعَثَهُ لِقِتَالِ مَنْ رَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ سِرِّهِ وَعَلانِيَتِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَمُجَاهَدَةِ مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ، وَرَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ إِلَى أَمَانِيِّ الشَّيْطَانِ بَعْدَ أَنْ يَعْذِرَ إِلَيْهِمْ فَيَدْعُوهُمْ بِدَاعَيَةِ الإِسْلامِ، فَإِنْ أَجَابُوهُ أَمْسَكَ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوهُ شَنَّ غَارَتَهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يُقِرُّوا لَهُ، ثُمَّ يُنْبِئهُمْ بِالَّذِي عَلَيْهِمْ وَالَّذِي لَهُمْ، فَيَأْخُذ مَا عَلَيْهِمْ، وَيُعْطيهمُ الَّذِي لَهُمْ، لا يُنْظِرْهُمْ، وَلا يَرُدَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، فَمَنْ أَجَابَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَقَرَّ لَهُ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا يُقَاتِلُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ عَلَى الإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِذَا أَجَابَ الدَّعْوَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَكَانَ اللَّهُ حَسِيبَهُ بَعْدُ فِيمَا اسْتَسَرَّ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ دَاعِيَةَ اللَّهِ قُتِلَ وَقُوتِلَ حَيْثُ كَانَ، وَحَيْثُ بَلَغَ مُرَاغَمَةً، لا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا أَعْطَاهُ إِلا الإِسْلامَ، فَمَنْ أَجَابَهُ وَأَقَرَّ قُبِلَ مِنْهُ وَعَلِمَهُ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلَهُ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَتَلَ مِنْهُمْ كُلَّ قِتْلَةٍ بِالسِّلاحِ وَالنِّيرَانِ، ثُمَّ قَسَّمَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِلا الْخُمُسَ فَإِنَّهُ يُبَلِّغَنَاهُ، وَأَنْ يَمْنَعَ أَصْحَابَهُ الْعَجَلَةَ وَالْفَسَادَ، وَأَلا يَدْخُلَ فِيهِمْ حَشْوًا حَتَّى يَعْرِفَهُمْ وَيَعْلَمَ مَا هُمْ، لا يكونوا عيونا، ولئلا يُؤْتَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَأَنْ يَقْتَصِدَ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَرْفِقَ بِهِمْ فِي السَّيْرِ وَالْمَنْزِلِ وَيَتَفَقَّدَهُمْ، وَلا يَعْجَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَيَسْتَوْصِيَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَلِينِ الْقَوْلِ.
ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَبَدْرِ بْنِ الْخَلِيلِ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالُوا: لَمَّا أَرَزَتْ عَبْسٌ وَذُبْيَانُ وَلَفَّهَا إِلَى الْبُزَاخَةِ، أَرْسَلَ طُلَيْحَةُ إِلَى جَدِيلَةَ وَالْغَوْثِ أَنْ يَنْضَمُّوا إِلَيْهِ، فتعجل إِلَيْهِ، فَتَعَجَّلَ إِلَيْهِ أُنَاسٌ مِنَ الْحَيَّيْنِ، وَأَمَرُوا قَوْمَهُمْ بِاللِّحَاقِ بِهِمْ، فَقَدِمُوا عَلَى طُلَيْحَةَ، وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ عَدِيًّا قَبْلَ تَوْجِيهِ خَالِدٍ مِنْ ذِي الْقُصَّةِ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: أَدْرِكْهُمْ لا يؤكلوا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ، وَخَرَجَ خَالِدٌ فِي أَثَرِهِ، وَأَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يبدأ بطيىء عَلَى الأَكْنَافِ، ثُمَّ يَكُونَ وَجْهَهُ إِلَى الْبُزَاخَةِ، ثُمَّ يُثَلِّثُ بِالْبِطَاحِ، وَلا يُرِيمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَوْمٍ حَتَّى يُحَدِّثَ إِلَيْهِ، وَيَأْمُرَهُ بِذَلِكَ وَأَظْهَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ خَارِجٌ إِلَى خَيْبَرَ وَمُنْصَبٌّ عَلَيْهِ مِنْهَا حَتَّى يُلاقِيَهُ بِالأَكْنَافِ، أَكْنَافِ سَلْمَى، فَخَرَجَ خَالِدٌ فَازَّوَارَ عَنِ الْبُزَاخَةِ، وَجَنَحَ إِلَى أَجَأَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ خَارِجٌ إِلَى خَيْبَرَ، ثُمَّ مُنْصَبٌّ عَلَيْهِمْ، فَقَعَّدَ ذَلِكَ طَيِّئًا وَبَطَّأَهُمْ عَنْ طُلَيْحَةَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ عَدِيٌّ، فَدَعَاهُمْ فَقَالُوا: لا نُبَايِعُ أَبَا الْفَصِيلِ أَبَدًا، فَقَالَ: لَقَدْ أَتَاكُمْ قَوْمٌ لَيُبِيحُنَّ حَرِيمَكُمْ، وَلَتَكُنّنَّهُ بِالْفَحْلِ الأَكْبَرِ، فَشَأْنُكُمْ بِهِ فَقَالُوا لَهُ: فَاسْتَقْبِلِ الْجَيْشَ فَنَهْنِهْهُ عَنَّا حَتَّى نَسْتَخْرِجَ مَنْ لَحِقَ بِالْبُزَاخَةِ مِنَّا، فَإِنَّا إِنْ خَالَفْنَا طُلَيْحَةَ وَهُمْ فِي يَدَيْهِ قَتَلَهُمْ أَوِ ارْتَهَنَهُمْ فَاسْتَقْبَلَ عَدِيٌّ خَالِدًا وَهُوَ بِالسُّنْحِ، فَقَالَ: يَا خَالِدُ، أَمْسِكْ عَنِّي ثَلاثًا يجتمع لك خمسمائة مُقَاتِلٍ تَضْرِبُ بِهِمْ عَدُوَّكَ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُعْجِلَهُمْ إِلَى النَّارِ، وَتُشَاغِلَ بِهِمْ، فَفَعَلَ فعاد عدى اليهم وقد أرسلوا إخوانهم، فَأَتَوْهُمْ مِنْ بُزَاخَةَ كَالْمَدَدِ لَهُمْ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَمْ يُتْرَكُوا، فَعَادَ عَدِيٌّ بِإِسْلامِهِمْ إِلَى خَالِدٍ، وَارْتَحَلَ خَالِدٌ نَحْوَ الأَنْسَرِ يُرِيدُ جَدِيلَةَ، فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: إِنَّ طَيِّئًا كَالطَّائِرِ، وَإِنَّ جَدِيلَةَ أَحَدُ جَنَاحَيْ طَيِّئٍ، فَأَجِّلْنِي أَيَّامًا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْتَقِذَ جَدِيلَةَ كَمَا انْتَقَذَ الْغَوْثَ، فَفَعَلَ، فَأَتَاهُمْ عَدِيٌّ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى بَايَعُوهُ، فَجَاءَهُ بِإِسْلامِهِمْ، وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَلْفُ رَاكِبٍ، فَكَانَ خَيْرَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي أَرْضِ طَيِّئٍ وَأَعْظَمَهُ عَلَيْهِمْ بَرَكَةً.
وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ أُسَامَةُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ، جَدَّ فِي حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَخَرَجَ بِالنَّاسِ وَهُوَ فِيهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِذِي الْقُصَّةِ، مَنْزِلا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى بَرِيدٍ مِنْ نَحْوِ نَجْدٍ، فَعَبَّى هُنَالِكَ جُنُودَهُ، ثُمَّ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى النَّاسِ، وَجَعَلَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ عَلَى الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُ إِلَى خَالِدٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْمُدَ لِطُلَيْحَةَ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَهُمَا عَلَى بُزَاخَةَ، مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي أَسَدٍ، وَأَظْهِرْ أَنِّي أُلاقِيَكَ بِمَنْ مَعِي مِنْ نَحْوِ خَيْبَرَ، مَكِيدَةً، وَقَدْ أَوْعَبَ مَعَ خَالِدٍ النَّاس، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ عَدُوَّهُ فَيُرْعِبَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسَارَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ بَعَثَ عُكَاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ، وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ- أَحَدَ بَنِي الْعَجْلانِ حَلِيفًا لِلأَنْصَارِ- طَلِيعَةً، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْقَوْمِ خَرَجَ طُلَيْحَةُ وَأَخُوهُ سَلَمَةُ يَنْظُرَانِ وَيَسْأَلانِ: فَأَمَّا سَلَمَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ ثَابِتًا أَنْ قَتَلَهُ، وَنَادَى طُلَيْحَةُ أَخَاهُ حِينَ رَأَى أَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ صَاحِبِهِ أَنْ أَعِنِّي عَلَى الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ آكِلٌ، فَاعْتَوَنَا عَلَيْهِ، فَقَتَلاهُ ثُمَّ رَجَعَا، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ بِالنَّاسِ حَتَّى مَرُّوا بِثَابِتِ بْنِ أَقْرَمَ قَتِيلا، فَلَمْ يَفْطِنُوا لَهُ حَتَّى وَطِئَتْهُ الْمَطِيُّ بِأَخْفَافِهَا، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هُمْ بِعُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ صَرِيعًا، فَجَزِعَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: قُتِلَ سَيِّدَانِ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَفَارِسَانِ مِنْ فِرْسَانِهِمْ، فَانْصَرَفَ خَالِدٌ نَحْوَ طَيِّئٍ.
قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنِ الْمُحِلِّ ابن خَلِيفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: بَعَثْتُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ سِرْ إِلَيَّ فَأَقِمْ عِنْدِي أَيَّامًا حَتَّى أَبْعَثَ إِلَى قَبَائِلِ طَيِّئٍ، فَأَجْمَعَ لَكَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّنْ مَعَكَ، ثُمَّ أَصْحَبُكَ إِلَى عَدُوِّكَ قَالَ: فَسَارَ إِلَيَّ.
قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ سُوَيْدٍ أَنَّ بَعْضَ الأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّ خَالِدًا لَمَّا رَأَى مَا بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْجَزَعِ عِنْدَ مَقْتَلِ ثَابِتٍ وَعُكَاشَةَ، قَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إِلَى أَنْ أَمِيلَ بِكُمْ إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، كَثِيرٍ عَدَدُهُمْ، شَدِيدَةٍ شَوْكَتُهُمْ، لَمْ يَرْتَدَّ مِنْهُمْ عَنِ الإِسْلامِ أَحَدٌ! فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: وَمَنْ هَذَا الْحَيُّ الَّذِي تَعْنِي؟ فَنِعْمَ وَاللَّهِ الْحَيُّ هُوَ! قَالَ لَهْمُ: طَيِّئٌ، فَقَالُوا: وَفَّقَكَ اللَّهُ، نِعْمَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ! فَانْصَرَفَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِالْجَيْشِ فِي طَيِّئٍ.
قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي جَدِيلُ بْنُ خَبَّابٍ النَّبْهَانِيُّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ أُبَيٍّ، أَنَّ خَالِدًا جَاءَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أَرَكِ، مَدِينَةِ سَلْمَى.
قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَنَّهُ نَزَلَ بِأَجَأَ، ثُمَّ تَعَبَّى لِحَرْبِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى الْتَقَيَا عَلَى بُزَاخَةَ، وَبَنُو عَامِرٍ عَلَى سَادَتِهِمْ وَقَادَتِهِمْ قَرِيبًا يَسْتَمِعُونَ وَيَتَرَبَّصُونَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدِّبْرَةُ.
قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَشْيَاخًا مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ: سَأَلْنَا خَالِدًا أَنْ نَكْفِيَهُ قَيْسًا فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ حُلَفَاؤُنَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَيْسٌ بِأَوْهَنَ الشَّوْكَتَيْنِ، اصْمُدُوا إِلَى أَيِّ الْقِبْلَتَيْنِ أَحْبَبْتُمْ، فَقَالَ عَدِيٌّ: لَوْ تَرَكَ هَذَا الدِّينَ أُسْرَتِي الأَدْنَى فَالأَدْنَى مِنْ قَوْمِي لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ، فَأَنَا أَمْتَنِعُ مِنْ جِهَادِ بَنِي أَسَدٍ لِحِلْفِهِمْ! لا لَعَمْرِ اللَّهِ لا أَفْعَلُ! فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: إِنَّ جِهَادَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا جِهَادٌ، لا تُخَالِفْ رَأْيَ أَصْحَابِكَ، امض الى احد الفريقين، وامض بِهِمْ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ لِقِتَالِهِمْ أَنْشَطُ.
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلامِ بْنُ سُوَيْدٍ، أَنَّ خَيْلَ طَيِّئٍ كَانَتْ تَلْقَى خَيْلَ بَنِي أَسَدٍ وَفَزَارَةَ قَبْلَ قُدُومِ خالد عليهم فيتشامون وَلا يَقْتَتِلُونَ، فَتَقُولُ أَسَدٌ وَفَزَارَةُ: لا وَاللَّهِ لا نُبَايِعُ أَبَا الْفَصِيلِ أَبَدًا فَتَقُولُ لَهُمْ خَيْلُ طَيِّئٍ: أَشْهَدُ لَيُقَاتِلَنَّكُمْ حَتَّى تُكَنُّوهُ أَبَا الْفَحْلِ الأَكْبَرِ! فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة، قَالَ: حدثت أن الناس لما اقتتلوا، قاتل عيينه مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة قتالا شديدا، وطليحة متلفف فِي كساء لَهُ بفناء بيت لَهُ من شعر، يتنبأ لهم، والناس يقتتلون، فلما هزت عيينة الحرب، وضرس القتال، كر على طليحة، فَقَالَ: هل جاءك جبريل بعد؟ قَالَ: لا، قَالَ: فرجع فقاتل حَتَّى إذا ضرس القتال وهزته الحرب كر عليه فقال: لا أيا لك! أجاءك جبريل بعد؟ قَالَ: لا والله، قَالَ: يقول عيينة حلفا: حَتَّى متى! قد والله بلغ منا! قَالَ: ثُمَّ رجع فقاتل، حَتَّى إذا بلغ كر عَلَيْهِ، فَقَالَ: هل جاءك جبريل بعد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فماذا قَالَ لك؟ قَالَ: قَالَ لي: إن لك رحا كرحاه، وحديثا لا تنساه، قَالَ: يقول عيينة: أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، يا بني فزارة هكذا، فانصرفوا، فهذا والله كذاب فانصرفوا وانهزم الناس فغشوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا؟ وقد كان أعد فرسه عنده، وهيأ بعيرا لامرأته النوار، فلما أن غشوه يقولون: ماذا تأمرنا؟ قام فوثب على فرسه، وحمل امرأته ثُمَّ نجا بِهَا، وقال: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل، ثُمَّ سلك الحوشية حَتَّى لحق بالشام وارفضَّ جمعه، وقتل الله من قتل منهم، وبنو عامر قريبا منهم على قادتهم وسادتهم، وتلك القبائل من سليم وهوازن على تلك الحال، فلما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع، أقبل أولئك يقولون: ندخل فيما خرجنا مِنْهُ، ونؤمن بالله ورسوله، ونسلم لحكمه فِي أموالنا وأنفسنا قَالَ أبو جعفر: وَكَانَ سبب ارتداد عيينة وغطفان ومن ارتد من طيئ مَا حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ -وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ سَيْفٍ- عَنْ طَلْحَةَ بْنِ الأعلم عن حبيب ابن رَبِيعَةَ الأَسَدِيِّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ فُلانٍ الأَسَدِيِّ، قَالَ: ارْتَدَّ طُلَيْحَةُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فادعى النبوه، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم ضِرَارَ بْنَ الأَزْوَرِ إِلَى عُمَّالِهِ عَلَى بَنِي أَسَدٍ فِي ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ فِي ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَنِ ارْتَدَّ، فَأَشَجُّوا طُلَيْحَةَ وَأَخَافُوهُ، وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ بِوَارِدَاتٍ، وَنَزَلَ الْمُشْرِكُونَ بِسَمِيرَاءَ، فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَمَاءٍ وَالْمُشْرِكُونَ فِي نُقْصَانٍ، حَتَّى هَمَّ ضِرَارٌ بِالْمَسِيرِ إِلَى طُلَيْحَةَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلا أَخَذَهُ سِلْمًا، إِلا ضَرْبَةً كَانَ ضَرَبَهَا بِالْجُرَازِ، فَنَبَا عَنْهُ، فَشَاعَتْ فِي النَّاسِ فَأُتِيَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِخَبَرِ موت نبيهم صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ لِتِلْكَ الضَّرْبَةِ: إِنَّ السِّلاحَ لا يَحِيكُ فِي طُلَيْحَةَ، فَمَا أَمْسَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى عَرَفُوا النُّقْصَانَ، وَارْفَضَّ النَّاسُ إِلَى طُلَيْحَةَ، وَاسْتَطَارَ أَمْرُهُ، وَأَقْبَلَ ذُو الْخِمَارَيْنِ عَوْفٌ الْجُذَمِيُّ حَتَّى نَزَلَ بِإِزَائِنَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ثُمَامَةُ بْنُ أَوْسِ بْنِ لأَمٍ الطائي: ان معى من جديله خمسمائة، فَإِنْ دَهِمَكُمْ أَمْرٌ فَنَحْنُ بِالْقُرْدُودَةِ وَالأَنْسَرِ دُوَيْنِ الرمل وارسل اليه مهلهل بن زيد: إِنَّ مَعِي حَدَّ الْغَوْثِ، فَإِنْ دَهِمَكُمْ أَمْرٌ فَنَحْنُ بِالأَكْنَافِ بِحِيَالِ فَيْدٍ وَإِنَّمَا تَحَدَّبَتْ طَيِّئٌ عَلَى ذِي الْخِمَارَيْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وَطَيِّئٍ حِلْفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم اجْتَمَعَتْ غَطَفَانُ وَأَسَدٌ عَلَى طَيِّئٍ، فَأَزَاحُوهَا عَنْ دَارِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: غَوْثُهَا وَجَدِيلَتُهَا، فَكَرِهَ ذَلِكَ عَوْفٌ، فَقَطَعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَطَفَانَ، وَتَتَابَعَ الْحَيَّانُ عَلَى الْجَلاءِ، وَأَرْسَلَ عَوْفٌ إِلَى الْحَيَّيْنِ مِنْ طَيِّئٍ، فَأَعَادَ حِلْفَهُمْ، وَقَامَ بِنُصْرَتِهِمْ، فَرَجَعُوا إِلَى دُورِهِمْ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى غَطَفَانَ، فَلَمَّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قَامَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي غَطَفَانَ، فَقَالَ: مَا أَعْرِفُ حُدُودَ غَطَفَانَ مُنْذُ انْقَطَعَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي أَسَدٍ، وَإِنِّي لَمُجَدِّدٌ الْحِلْفَ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا فِي الْقَدِيمِ وَمُتَابِعٌ طُلَيْحَةَ، وَاللَّهِ لأَنْ نَتَّبِعَ نَبِيًّا مِنَ الْحِلِيفَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَتَّبِعَ نَبِيًّا مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ مَاتَ مُحَمَّدٌ، وَبَقِيَ طُلَيْحَةُ فَطَابَقُوهُ عَلَى رَأْيِهِ، فَفَعَلَ وَفَعَلُوا.
فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ غَطَفَانُ عَلَى الْمُطَابَقَةِ لِطُلَيْحَةَ هَرَبَ ضِرَارٌ وَقُضَاعِي وَسِنَانٌ وَمَنْ كَانَ قَامَ بِشَيْءٍ من امر النبي صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي أَسَدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَارْفَضَّ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ، فَأَخَبُروا أَبَا بَكْرٍ الْخَبَرَ، وَأَمَرُوهُ بِالْحَذَرِ، فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ: فَمَا رايت أحدا -ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم- أَمْلأَ بِحَرْبٍ شَعْوَاءَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلْنَا نُخْبِرُهُ، وَلَكَأَنَّمَا نُخْبِرُهُ بِمَا لَهُ وَلا عَلَيْهِ وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ وُفُودُ بَنِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وَهَوَازِنَ وَطَيِّئٍ، وَتَلَقَّتْ وُفُودُ قُضَاعَةُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَحَوَّزَهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَاجْتَمَعُوا بِالْمَدِينَةِ فَنَزَلُوا عَلَى وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ، لِعَاشِرٍ مِنْ مُتَوَفَّى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَعَرَضُوا الصَّلاةَ عَلَى أَنْ يُعْفَوْا مِنَ الزَّكَاةِ، وَاجْتَمَعَ مَلأُ مَنْ أَنْزَلَهُمْ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغُوا مَا يُرِيدُونَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إِلا أَنْزَلَ مِنْهُمْ نَازِلا إِلا الْعَبَّاسَ ثُمَّ أَتَوْا أَبَا بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَلَؤُهُمْ، إِلا مَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ أَبَى إِلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ، وَأَبَوْا، فَرَدَّهُمْ وَأَجَّلَهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَتَطَايَرُوا إِلَى عَشَائِرِهِمْ.
حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شعيب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث عمرو ابن الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ، مُنْصَرَفِهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وَعَمْرٌو بِعُمَانَ، فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرَيْنِ وَجَدَ الْمُنْذِرَ بْنَ سَاوَى فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ الْمُنْذِرُ: أَشِرْ عَلَيَّ فِي مَالِي بِأَمْرٍ لِي وَلا عَلَيَّ، قَالَ: صَدِّقْ بِعَقَارٍ صَدَقَةً تَجْرِي مِنْ بَعْدِكَ، فَفَعَلَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَسَارَ فِي بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى بِلادِ بَنِي عَامِرٍ، فَنَزَلَ عَلَى قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَقُرَّةُ يُقَدِّمُ رِجْلا وَيُؤَخِّرُ رِجْلا، وَعَلَى ذَلِكَ بَنُو عَامِرٍ كُلُّهُمْ إِلا خَوَّاصٌ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَطَافَتْ بِهِ قُرَيْشٌ، وَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ مُعَسْكَرَةٌ مِنْ دَبَا إِلَى حَيْثُ انْتَهَيَتْ إِلَيْكُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَتَحَلَّقُوا حِلَقًا، وَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُرِيدُ التَّسْلِيمَ عَلَى عَمْرٍو، فَمَرَّ بِحَلَقَةٍ، وَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الَّذِي سمعوا من عمرو في تِلْكَ الْحَلَقَةِ: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَعْدٌ، فَلَمَّا دَنَا عُمَرُ مِنْهُمْ سَكَتُوا، فَقَالَ: فِيمَ أَنْتُمْ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمَنِي بِالَّذِي خَلَوْتُمْ عَلَيْهِ! فَغَضِبَ طَلْحَةُ، وَقَالَ: تالله يا بن الْخَطَّابِ لَتُخْبِرَنَّا بِالْغَيْبِ! قَالَ: لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ، وَلَكِنْ أَظُنُّ قُلْتُمْ: مَا أَخْوَفُنَا على قريش من العرب واخلقهم أَلا يُقِرُّوا بِهَذَا الأَمْرِ! قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: فَلا تَخَافُوا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، أَنَا وَاللَّهِ مِنْكُمْ عَلَى الْعَرَبِ أَخْوَفُ مِنِّي مِنَ الْعَرَبِ عَلَيْكُمْ، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرا لدخلته الْعَرَبُ فِي آثَارِكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِيهِمْ وَمَضَى إِلَى عَمْرٍو فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ.
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، قَالَ: نَزَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مُنْصَرَفَهُ من عمان -بعد وفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم- بِقُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ، وَحَوْلَهُ عَسْكَرٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ مِنْ أَفْنَائِهِمْ، فَذَبَحَ لَهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، فَلَمَّا أَرَادَ الرِّحْلَةَ خَلا بِهِ قُرَّةُ، فَقَالَ: يَا هَذَا، إِنَّ الْعَرَبَ لا تَطِيبُ لَكُمْ نَفْسًا بِالإِتَاوَةِ، فَإِنْ أَنْتُمْ أَعْفَيْتُمُوهَا مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِهَا فَسَتَسْمَعْ لَكُمْ وَتُطِيعْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلا أَرَى أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ عَمْرٌو: أَكَفَرْتَ يَا قُرَّةُ! وَحَوْلَهُ بَنُو عَامِرٍ، فَكَرِهَ أَنْ يَبُوحَ بِمُتَابَعَتِهِمْ فَيَكْفُرُوا بِمُتَابَعَتِهِ، فَيَنْفِرَ فِي شَرٍّ، فَقَالَ: لَنَرُدَّنَّكُمْ إِلَى فَيْئَتِكُمْ -وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ الإِسْلامُ- اجْعَلُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدًا فَقَالَ عَمْرٌو: أَتُوَعِّدُنَا بِالْعَرَبِ وَتُخَوِّفُنَا بها! موعدك حفش أمك، فو الله لأُوطِئَنَّ عَلَيْكَ الْخَيْلَ وَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَالْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَهُمْ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنْ أَمْرِ بَنِي عَامِرٍ وَبَيْعَتِهِمْ عَلَى مَا بَايَعَهُمْ عَلَيْهِ، أَوْثَقَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَقُرَّةَ بْنَ هُبَيْرَةَ، فَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا قَدِمَا عَلَيْهِ قَالَ لَهُ قُرَّةُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ مُسْلِمًا، وَلِي مِنْ ذَلِكَ عَلَى إِسْلامِي عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ شَهَادَةٌ، قَدْ مَرَّ بِي فَأَكْرَمْتُهُ وَقَرَّبْتُهُ وَمَنَعْتُهُ قَالَ: فَدَعَا أَبُو بَكْرٍ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ: مَا تَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ هَذَا؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَا قَالَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الصَّدَقَةِ، قَالَ لَهُ قُرَّةُ: حَسْبُكَ رَحِمَكَ اللَّهُ! قَالَ: لا وَاللَّهِ، حَتَّى أُبَلِّغَ لَهُ كُلَّ مَا قُلْتَ، فَبَلَّغَ لَهُ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَحَقَنَ دَمَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عُتْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ نَظَرَ إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ، يَنْخُسُهُ غِلْمَانُ الْمَدِينَةِ بِالْجَرِيدِ، يَقُولُونَ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَكَفَرْتَ بَعْدَ إِيمَانِكَ! فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ آمَنْتُ بِاللَّهِ قَطُّ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ.
حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حدثنا شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: أخذ المسلمون رجلا من بني أسد، فأتي بِهِ خالد بالغمر -وَكَانَ عالما بأمر طليحة- فَقَالَ لَهُ خالد: حَدِّثْنَا عَنْهُ وعما يقول لكم، فزعم أن مما أتى به: والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام حَدَّثَنِي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن ابى يعقوب سعيد بن عبيد، قال: لما أرزى أهل الغمر إلى البزاخة، قام فيهم طليحة، ثُمَّ قَالَ: أمرت أن تصنعوا رحا ذات عرا، يرمي الله بِهَا من رمى، يهوي عليها من هوى، ثُمَّ عبَّى جنوده، ثُمَّ قَالَ: ابعثوا فارسين، على فرسين أدهمين، من بني نصر بْن قعين، يأتيانكم بعين فبعثوا فارسين من بني قعين، فخرج هو وسلمة طليعتين.
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سَعِيدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْجَذِعِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَمَّنْ شَهِدَ بُزَاخَةَ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: لَمْ يُصِبْ خَالِدٌ عَلَى الْبُزَاخَةِ عَيْلا وَاحِدًا، كَانَتْ عِيَالاتُ بَنِي أَسَدٍ مُحْرَزَةً- وقال ابو يعقوب: بين مثقب وفلج، وَكَانَتْ عِيَالاتُ قَيْسٍ بَيْنَ فَلَجٍ وَوَاسِطَ- فَلَمْ يَعُدْ أَنِ انْهَزَمُوا، فَأَقَرُّوا جَمِيعًا بِالإِسْلامِ خَشْيَةً عَلَى الذَّرَارِي، وَاتَّقُوا خَالِدًا بِطَلِبَتِهِ، وَاسْتَحَقُّوا الأَمَانَ، ومضى طليحة، حتى نزل كلب عَلَى النَّقْعِ، فَأَسْلَمَ، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا فِي كَلْبٍ حَتَّى مَاتَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ إِسْلامُهُ هُنَالِكَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ أَسَدًا وَغَطَفَانَ وَعَامِرًا قَدْ أَسْلَمُوا، ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَرَّ بِجَنَبَاتِ الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لأَبِي بَكْرٍ: هَذَا طُلَيْحَةُ، فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِهِ! خَلُّوا عَنْهُ، فَقَدْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلإِسْلامِ.
وَمَضَى طُلَيْحَةُ نَحْوَ مَكَّةَ فَقَضَى عُمْرَتَهُ، ثُمَّ أَتَى عُمَرَ إِلَى الْبَيْعَةِ حِينَ اسْتُخْلِفَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ قَاتِلُ عُكَاشَةَ وَثَابِتٍ! وَاللَّهِ لا أُحِبُّكَ أَبَدًا فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَهِمُّ مِنْ رَجُلَيْنِ أَكْرَمَهُمَا اللَّهُ بِيَدِي، وَلَمْ يُهِنِّي بِأَيْدِيهِمَا! فَبَايَعَهُ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا خُدَعُ، مَا بَقِيَ مِنْ كَهَانَتِكَ؟ قَالَ: نَفْخَةٌ أَوْ نَفْخَتَانِ بِالْكِيرِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دَارِ قَوْمِهِ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ.
ذكر ردة هَوَازِن وسليم وعامر
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ، قَالا: أَمَّا بَنُو عَامِرٍ فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا رِجْلا وَأَخَّرُوا أُخْرَى، وَنَظَرُوا مَا تَصْنَعُ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ، فَلَمَّا أُحِيطَ بِهِمْ وَبَنُو عَامِرٍ عَلَى قَادَتِهِمْ وَسَادَتِهِمْ، كَانَ قُرَّةُ بن هُبَيْرَةَ فِي كَعْبٍ وَمَنْ لافَّهَا، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ فِي كِلابٍ وَمَنْ لافَّهَا، وَقَدْ كَانَ عَلْقَمَةُ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ فِي أَزْمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ فَتْحِ الطَّائِفِ حَتَّى لَحِقَ بالشام، فلما توفى النبي صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ مُسْرِعًا حَتَّى عَسْكَرَ فِي بَنِي كَعْبٍ، مُقَدِّمًا رِجْلا وَمُؤَخِّرًا أُخْرَى، وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهَا الْقَعْقَاعَ بن عمرو، وقال: يا قعقاع، سر حتى تُغِيرُ عَلَى عَلْقَمَةَ بْنِ عُلاثَةَ، لَعَلَّكَ أَنْ تَأْخُذَهُ لِي أَوْ تَقْتُلَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شِفَاءَ الشق الحوص، فَاصْنَعْ مَا عِنْدَكَ فَخَرَجَ فِي تِلْكَ السَّرِيَّةِ، حَتَّى أَغَارَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي عَلَيْهِ عَلْقَمَةُ، وَكَانَ لا يَبْرَحُ أَنْ يَكُونَ عَلَى رِجْلٍ، فَسَابَقَهُمْ عَلَى فَرَسِهِ، فَسَبَقَهُمْ مُرَاكَضَةً، وَأَسْلَمَ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، فَانْتَسَفَ امْرَأَتَهُ وَبَنَاتَهُ وَنِسَاءَهُ، وَمَنْ أَقَامَ مِنَ الرِّجَالِ، فَاتَّقَوْهُ بِالإِسْلامِ فَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَجَحَدَ وَلَدُهُ وَزَوْجَتُهُ أَنْ يَكُونُوا مَالَئُوا عَلْقَمَةَ، وَكَانُوا مُقِيمِينَ فِي الدَّارِ، فَلَمْ يَبْلُغْهُ إِلا ذَلِكَ، وَقَالُوا: مَا ذَنْبُنَا فِيمَا صَنَعَ عَلْقَمَةُ مِنْ ذَلِكَ! فَأَرْسَلَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ.
حَدَّثَنَا السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي عمرو وأبي ضمرة، عن ابن سيرين مثل معانيه.
وأقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة يقولون: ندخل فيما خرجنا مِنْهُ، فبايعهم على ما بايع عَلَيْهِ أهل البزاخة من أسد وغطفان وطيئ قبلهم، وأعطوه بأيديهم على الإسلام، ولم يقبل من أحد من أسد ولا غطفان ولا هَوَازِن ولا سليم ولا طيئ إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على أهل الإسلام فِي حال ردتهم فأتوه بهم، فقبل منهم إلا قرة بْن هبيرة ونفرا معه أوثقهم، ومثل بالذين عدوا على الإسلام، فأحرقهم بالنيران وو رضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم فِي الآبار، وخزق بالنبال وبعث بقرة وبالأسارى، وكتب إلى أبي بكر: إن بني عامر أقبلت بعد إعراض، ودخلت فِي الإسلام بعد تربص، وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شَيْئًا حَتَّى يجيئوني بمن عدا على الْمُسْلِمين، فقتلتهم كل قتلة، وبعثت إليك بقرة وأصحابه حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ: لِيُزِدْكَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ خَيْرًا، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَمْرِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ جِدَّ فِي أَمْرِ اللَّهِ ولا تبنين، وَلا تَظْفَرَنَّ بِأَحَدٍ قَتَلَ الْمُسْلِمِينَ إِلا قَتَلْتَهُ وَنَكَّلْتَ بِهِ غَيْرَهُ، وَمَنْ أَحْبَبْتَ مِمَّنْ حَادَّ اللَّهَ أَوْ ضَادَّهُ، مِمَّنْ تَرَى أَنَّ فِي ذَلِكَ صَلاحًا فَاقْتُلْهُ فَأَقَامَ عَلَى الْبُزَاخَةِ شَهْرًا يَصْعَدُ عَنْهَا وَيَصُوبُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي طَلَبِ أُولَئِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَحْرَقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَمَطَهُ وَرَضَخَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَمَى بِهِ مِنْ رؤوس الْجِبَالِ وَقَدِمَ بِقُرَّةَ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَنْزِلُوا وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ كَمَا قِيلَ لِعُيَيْنَةَ وَأَصْحَابِهِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي مِثْلِ حَالِهِمْ، وَلَمْ يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ قَالَ السري: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عن سهل وابى يعقوب، قال: واجتمعت فلال غطفان إلى ظفر، وبها أم زمل سلمى ابنة مالك بْن حذيفة بْن بدر، وهي تشبه بأمها أم قرفة بنت ربيعة بْن فلان بْن بدر، وكانت أم قرفة عِنْد مالك بْن حذيفة، فولدت لَهُ قرفة، وحكمة، وجراشة، وزملا، وحصينا، وشريكا، وعبدا، وزفر، ومعاوية، وحملة، وقيسا، ولأيا، فأما حكمة فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أغار عيينة بْن حصن على سرح الْمَدِينَة، قتله أبو قتادة، فاجتمعت تلك الفلال إلى سلمى، وكانت فِي مثل عز أمها، وعندها جمل أم قرفة، فنزلوا إليها فذمرتهم، وأمرتهم بالحرب، وصعدت سائرة فيهم وصوبت، تدعوهم إلى حرب خالد، حَتَّى اجتمعوا لَهَا، وتشجعوا على ذَلِكَ، وتأشب إِلَيْهِم الشرداء من كل جانب- وكانت قد سبيت أيام أم قرفة، فوقعت لعائشة فأعتقتها، فكانت تكون عندها، ثُمَّ رجعت إلى قومها، وقد كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليهن يوما، فَقَالَ «إن إحداكن تستنبح كلاب الحوأب»، ففعلت سلمى ذَلِكَ حين ارتدت، وطلبت بذلك الثأر، فسيرت فيما بين ظفر والحوأب، لتجمع إليها، فتجمع إليها كل فل ومضيق عَلَيْهِ من تلك الأحياء من غطفان وهوازن وسليم وأسد وطيئ، فلما بلغ ذَلِكَ خالدا- وهو فيما هو فيه من تتبع الثأر، وأخذ الصدقة ودعاء الناس وتسكينهم- سَارَ الى المرأة وقد استكثف أمرها، وغلظ شأنها، فنزل عليها وعلى جُمَّاعها، فاقتتلوا قتالا شديدا، وهي واقفة على جمل أمها، وفي مثل عزها، وَكَانَ يقال: من نخس جملها فله مائة من الإِبِل لعزها، وابيرت يومئذ بيوتات من جاس -قال ابو جعفر: جاس حي من غنم- وهاربه، وغنم، وأصيب فِي أناس من كاهل، وَكَانَ قتالهم شديدا، حَتَّى اجتمع على الجمل فوارس فعقروه وقتلوها.
وقتل حول جملها مائة رجل، وبعث بالفتح، فقدم على أثر قرة بنحو من عشرين ليلة.
قَالَ السري: قَالَ شعيب، عن سيف، عن سهل وأبي يعقوب، قالا: كَانَ من حديث الجواء وناعر، أن الفجاءة إياس بْن عبد ياليل قدم على أبي بكر، فَقَالَ: أعني بسلاح، ومرني بمن شئت من أهل الردة، فأعطاه سلاحا، وأمره أمره، فخالف أمره إلى الْمُسْلِمين، فخرج حَتَّى ينزل بالجواء، وبعث نجبة بْن أبي الميثاء من بني الشريد، وأمره بالمسلمين، فشنها غارة على كل مسلم فِي سليم وعامر وهوازن، وبلغ ذَلِكَ أبا بكر، فأرسل إلى طريفة بْن حاجز يأمره أن يجمع لَهُ وأن يسير إليه، وبعث إليه عبد الله بْن قيس الجاسي عونا، ففعل، ثُمَّ نهضا إليه وطلباه، فجعل يلوذ منهما حَتَّى لقياه على الجواء، فاقتتلوا، فقتل نجبة، وهرب الفجاءة، فلحقه طريفة فأسره ثُمَّ بعث بِهِ إلى أبي بكر، فقدم بِهِ على أبي بكر، فأمر فأوقد لَهُ نارا فِي مصلى الْمَدِينَة على حطب كثير، ثُمَّ رمي بِهِ فيها مقموطا قال أبو جعفر: وأما ابن حميد، فإنه حَدَّثَنَا فِي شأن الفجاءة عن سلمة، عَنْ محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قَالَ: قدم على أبي بكر رجل من بني سليم، يقال لَهُ الفجاءة، وهو إياس بْن عبد الله بْن عبد ياليل بْن عميرة بْن خفاف، فَقَالَ لأبي بكر: إني مسلم، وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار، فاحملني وأعني، فحمله أبو بكر على ظهر، وأعطاه سلاحا، فخرج يستعرض الناس: المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم، ويصيب من امتنع منهم، ومعه رجل من بني الشريد، يقال لَهُ: نجبة بْن أبي الميثاء، فلما بلغ أبا بكر خبره، كتب إلى طريفة بْن حاجز: إن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم، ويسألني أن أقويه على من ارتد عَنِ الإِسْلامِ، فحملته وسلحته، ثُمَّ انتهى إليَّ من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس: المسلم والمرتد يأخذ أموالهم، ويقتل من خالفه منهم، فسر إليه بمن معك مِنَ الْمُسْلِمين حَتَّى تقتله، أو تأخذه فتأتيني بِهِ فسار طريفة بْن حاجز، فلما التقى الناس كانت بينهم الرِّمّيّا بالنبل، فقتل نجبة بْن أبي الميثاء بسهم رمي بِهِ، فلما رأى الفجاءة مِنَ الْمُسْلِمين الجد قَالَ لطريفة: والله ما أنت بأولى بالأمر مني، أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره فَقَالَ لَهُ طريفة: إن كنت صادقا فضع السلاح، وانطلق معي إلى أبي بكر فخرج معه، فلما قدما عَلَيْهِ أمر أبو بكر طريفة بْن حاجز، فَقَالَ: اخرج بِهِ إلى هذا البقيع فحرّقه فيه بالنار، فخرج بِهِ طريفة إلى المصلى فأوقد لَهُ نارا، فقذفه فيها، فَقَالَ خفاف بْن ندبة- وهو خفاف بْن عمير- يذكر الفجاءة، فيما صنع:
لم يأخذون سلاحه لقتاله *** ولذاكم عند الإله اثام
لادينهم ديني ولا انا منهم *** حتى يسير الى الصراة شمام
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كَانَتْ سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورٍ قَدِ انْتُقِضَ بَعْضُهُمْ، فَرَجَعُوا كُفَّارًا، وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ عَلَى الإِسْلامِ مَعَ أَمِيرٍ كَانَ لأَبِي بَكْرٍ عليهم، يُقَالُ لَهُ مَعْنُ بْنُ حَاجِزٍ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ، فَلَمَّا سَارَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى طُلَيْحَةَ وَأَصْحَابِهِ، كَتَبَ إِلَى مَعْنِ بْنِ حَاجِزٍ أَنْ يَسِيرَ بِمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مَعَ خَالِدٍ، فَسَارَ وَاسْتَخْلَفَ على عمله أخاه طريفه ابن حَاجِزٍ، وَقَدْ كَانَ لَحِقَ فِيمَنْ لَحِقَ مِنْ بنى سليم باهل الرده ابو شجره ابن عَبْدِ الْعُزَّى، وَهُوَ ابْنُ الْخَنْسَاءِ، فَقَالَ:
فَلَوْ سالت عنا غداه مرامر *** كَمَا كُنْتَ عَنْهَا سَائِلا لَوْ نَأَيْتُهَا
لِقَاءَ بَنِي فِهْرٍ وَكَانَ لِقَاؤُهُمْ *** غَدَاةَ الْجَوَاءِ حَاجَةً فَقَضَيْتُهَا
صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي وَعَرَّجْتُ مُهْرَتِي *** عَلَى الطَّعْنِ حَتَّى صَارَ وَرْدًا كُمَيْتُهَا
إِذَا هِيَ صَدَّتْ عَنْ كَمِيٍّ أُرِيدُهُ *** عَدَلْتُ إِلَيْهِ صَدْرَهَا فَهدِيتُهَا
فَقَالَ أَبُو شَجَرَةَ حِينَ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلامِ:
صَحَا الْقَلْبُ عَنْ مَيَّ هَوَاهُ وَأَقْصَرَا *** وطلوع فِيهَا الْعَاذِلِينَ فَأَبْصَرَا
وَأَصْبَحَ أَدْنَى رَائِدَ الْجَهْلِ والصبا *** كَمَا وُدُّهَا عَنَّا كَذَاكَ تَغَيَّرَا
وَأَصْبَحَ أَدْنَى رَائِدَ الْوَصْلِ مِنْهُمُ *** كَمَا حَبْلُهَا مِنْ حَبْلِنَا قَدْ تَبَتَّرَا
أَلا أَيُّهَا الْمُدْلِي بِكَثْرَةِ قَوْمِهِ *** وَحَظُّكَ مِنْهُمْ أَنْ تُضَامَ وَتُقْهَرَا
سَلِ النَّاسَ عَنَّا كُلَّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ *** إِذَا مَا الْتَقَيْنَا: دَارِعِينَ وَحُسَّرَا
أَلَسْنَا نُعَاطِي ذَا الطِّمَاحِ لِجَامَهُ *** وَنَطْعَنُ فِي الْهَيْجَا إِذَا الْمَوْتُ أَقْفَرَا!
وَعَاضِرَةٌ شَهْبَاءُ تَخْطُرُ بِالْقَنَا *** تَرَى الْبُلْقَ فِي حَافَّاتِهَا وَالسَّنَّوْرَا
فَرَوَيْتُ رُمْحِي مِنْ كَتِيبَةِ خَالِدٍ *** وَإِنِّي لأرجو بعدها ان اعمرا
ثم ان أَبَا شَجَرَةَ أَسْلَمَ، وَدَخَلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَنَسٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ وَحَدَّثَنَا السَّرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلٍ وَأَبِي يَعْقُوبَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مرزوق، وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَيْسٍ السُّلَمِيِّ، قَالُوا: فَأَنَاخَ نَاقَتَهُ بِصَعِيدِ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ: ثُمَّ أَتَى عُمَرَ وَهُوَ يُعْطِي الْمَسَاكِينَ مِنَ الصَّدَقَةِ وَيَقْسِمُهَا بَيْنَ فُقَرَاءِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعْطِنِي فَإِنِّي ذُو حَاجَةٍ، قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَبُو شَجَرَةَ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى السُّلَمِيُّ، قَالَ: أَبُو شَجَرَةَ! أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَلَسْتَ الَّذِي تَقُولُ:
فَرَوَيْتُ رُمْحِي مِنْ كَتِيبَةِ خَالِدٍ *** وَإِنِّي لأَرْجُو بَعْدَهَا أَنْ أُعَمَّرَا
قَالَ: ثُمَّ جَعَلَ يَعْلُوهُ بِالدِّرَّةِ فِي رَأْسِهِ حَتَّى سَبَقَهُ عَدْوًا، فَرَجَعَ إِلَى نَاقَتِهِ فَارْتَحَلَهَا، ثُمَّ أَسْنَدَهَا فِي حَرَّةِ شَوْرَانَ رَاجِعًا إِلَى أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالَ:
ضَنَّ عَلَيْنَا أَبُو حَفْصٍ بِنَائِلِهِ *** وَكُلُّ مُخْتَبِطٍ يَوْمًا لَهُ وَرَقُ
مَا زَالَ يُرْهِقُنِي حَتَّى خَذِيتُ لَهُ *** وَحَالَ مِنْ دُونِ بَعْضِ الرَّغْبَةِ الشَّفَقُ
لَمَّا رَهِبْتُ أَبَا حَفْصٍ وَشُرْطَتَهُ *** وَالشَّيْخُ يُفْزَعُ أَحْيَانًا فَيَنْحَمِقُ
ثُمَّ ارْعَوَيْتُ إِلَيْهَا وَهْيَ جَانِحَةً *** مِثْلَ الطَّرِيدَةِ لَمْ يَنْبُتْ لَهَا ورق
أوردتها الحل مِنْ شَوْرَانِ صَادِرَةً *** إِنِّي لأُزْرِي عَلَيْهَا وَهِيَ تَنْطَلِقُ
تَطِيرُ مَرْوَ أَبَّانٍ عَنْ مَنَاسِمِهَا *** كَمَا تَنْوَقِدُ عِنْدَ الْجَهَبِذِ الْوَرَقُ
إِذَا يُعَارِضُهَا خِرْقٌ تُعَارِضُهُ *** وَرْهَاءُ فِيهَا إِذَا اسْتَعْجَلْتُهَا خَرِقُ
يَنُوءُ آخِرُهَا مِنْهَا بِأَوَّلِهَا *** سَرْحُ الْيَدَيْنِ بِهَا نِهَاضَةَ الْعُنُقُ
ذكر خبر بني تميم وأمر سجاح بنت الحارث بْن سويد
وَكَانَ من أمر بنى تميم، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وقد فرق فيهم عماله، فكان الزبرقان بْن بدر على الرباب وعوف والأبناء -فيما ذكر السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بْن عطية بْن بلال، عن أبيه وسهم بْن منجاب- وقيس بْن عاصم على مقاعس والبطون، وصفوان ابن صفوان وسبرة بْن عمرو على بني عمرو، هذا على بهدي وهذا على خضم -قبيلتين من بني تميم- ووكيع بْن مالك ومالك بْن نويرة على بني حنظلة، هذا على بني مالك، وهذا على بني يربوع فضرب صفوان إلى أبي بكر حين وقع إليه الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم بصدقات بني عمرو، وما ولى منها وبما ولى سبرة، وأقام سبرة فِي قومه لحدث ان ناب القوم، وقد أطرق قيس ينظر ما الزبرقان صانع وَكَانَ الزبرقان متعتّبا عَلَيْهِ، وقلما جامله إلا مزقه الزبرقان بحظوته وجده وقد قَالَ قيس وهو ينتظر لينظر ما يصنع ليخالفه حين أبطأ عليه: واويلنا من ابن العكلية! والله لقد مزقني فما أدري ما أصنع! لئن أنا تابعت أبا بكر وأتيته بالصدقة لينحرنها فِي بني سعد فليسودني فيهم، ولئن نحرتها فِي بني سعد ليأتين أبا بكر فليسودني عنده فعزم قيس على قسمها فِي المقاعس والبطون، ففعل وعزم الزبرقان على الوفاء، فاتبع صفوان بصدقات الرباب وعوف والأبناء حَتَّى قدم بِهَا الْمَدِينَة، وهو يقول ويعرض بقيس:
وفيت بأذواد الرسول وقد أبت *** سعاة فلم يردد بعيرا مجيرها
وتحلل الأحياء ونشب الشر، وتشاغلوا وشغل بعضهم بعضا ثُمَّ ندم قيس بعد ذَلِكَ، فلما أظله العلاء بْن الحضرمي أخرج صدقتها، فتلقاه بِهَا، ثُمَّ خرج معه، وقال فِي ذَلِكَ:
ألا أبلغا عني قريشا رسالة *** إذا ما أتتها بينات الودائع
فتشاغلت فِي تلك الحال عوف والأبناء بالبطون والرباب بمقاعس، وتشاغلت خضم بمالك وبهدي بيربوع، وعلى خضم سبرة بْن عمرو، وذلك الذى حلفه عن صفوان والحصين بْن نيار على بهدي، والرباب، عبد الله بْن صفوان على ضبة، وعصمة بْن أبير على عبد مناة، وعلى عوف والأبناء عوف بْن البلاد ابن خالد من بني غنم الجشمي، وعلى البطون سعر بن خفاف، وقد كان ثمامة ابن أثال تأتيه أمداد من بني تميم، فلما حدث هذا الحدث فيما بينهم تراجعوا إلى عشائرهم، فأضر ذَلِكَ بثمامة بْن أثال حَتَّى قدم عَلَيْهِ عكرمة وأنهضه، فلم يصنع شَيْئًا، فبينا الناس فِي بلاد تميم على ذَلِكَ، قد شغل بعضهم بعضا، فمسلمهم بإزاء من قدم رجلا وأخر أخرى وتربص، وبإزاء من ارتاب، فجئتهم سجاح بنت الحارث قد أقبلت من الجزيرة، وكانت ورهطها فِي بني تغلب تقود أفناء ربيعة، معها الهذيل بْن عمران في بنى تغلب، وعقه ابن هلال في النمر، وتاد بْن فلان فِي إياد، والسليل بْن قيس فِي شيبان، فأتاهم أمر دهي، هو أعظم مما فيه الناس، لهجوم سجاح عليهم، ولما هم فيه من اختلاف الكلمة، والتشاغل بما بينهم وقال عفيف بْن المنذر فِي ذَلِكَ:
ألم يأتيك والأنباء تسري *** بما لاقت سراة بني تميم
تداعى من سراتهم رجال *** وكانوا فِي الذوائب والصميم
وألجوهم وَكَانَ لهم جناب *** الى احياء خاليه وخيم
وكانت سجاح بنت الحارث بْن سويد بْن عقفان- هي وبنو أبيها عقفان- فِي بني تغلب، فتنبت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجزيرة فِي بني تغلب، فاستجاب لَهَا الهذيل، وترك التنصر، وهؤلاء الرؤساء الذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر فلما انتهت إلى الحزن راسلت مالك بْن نويرة ودعته إلى الموادعة، فأجابها، وفثأها عن غزوها، وحملها على أحياء من بني تميم، قالت: نعم، فشأنك بمن رأيت، فإني إنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كَانَ ملك فالملك ملككم فأرسلت إلى بني مالك بْن حنظلة تدعوهم إلى الموادعة، فخرج عطارد بْن حاجب وسروات بني مالك حَتَّى نزلوا فِي بني العنبر على سبرة بْن عمرو هُرَّابا قد كرهوا ما صنع وكيع، وخرج أشباههم من بني يربوع، حَتَّى نزلوا على الحصين بْن نيار فِي بني مازن، وقد كرهوا ما صنع مالك، فلما جاءت رسلها إلى بني مالك تطلب الموادعة، أجابها إلى ذَلِكَ وكيع، فاجتمع وكيع ومالك وسجاح، وقد وادع بعضهم بعضا، واجتمعوا على قتال الناس وقالوا: بمن نبدأ؟ بخضم، أم ببهدي، أم بعوف والأبناء، أم بالرباب؟ وكفوا عن قيس لما رأوا من تردده وطمعوا فيه، فقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثُمَّ أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب.
قَالَ: وصمدت سجاح للأحفار حَتَّى تنزل بِهَا، وقالت لهم: إن الدهناء حجاز بني تميم، ولن تعدو الرباب، إذا شدها المصاب، أن تلوذ بالدجاني والدهاني، فلينزلها بعضكم فتوجه الجفول -يعني مالك بْن نويرة- إلى الدجاني فنزلها، وسمعت بهذا الرباب فاجتمعوا لَهَا، ضبتها وعبد مناتها، فولي وكيع وبشر بني بكر من بني ضبة، وولي ثعلبة بْن سعد بْن ضبة عقة، وولي عبد مناة الهذيل فالتقى وكيع وبشر وبنو بكر من بني ضبة، فهُزما، وأسر سماعة ووكيع وقعقاع، وقتلت قتلى كثيرة، فَقَالَ فِي ذَلِكَ قيس بْن عاصم، وذلك أول ما استبان فيه الندم:
كأنك لم تشهد سماعة إذ غزا *** وما سر قعقاع وخاب وكيع
رأيتك قد صاحبت ضبة كارها *** على ندب فِي الصفحتين وجيع
ومطلق أسرى كَانَ حمقا مسيرها *** إلى صخرات أمرهن جميع
فصرفت سجاح والهذيل وعقة بني بكر، للموادعة التي بينها وبين وكيع -وَكَانَ عقة خال بشر- وقالت: اقتلوا الرباب ويصالحونكم ويطلقون أسراكم، وتحملون لهم دماءهم، وتحمد غب رأيهم أخراهم فاطلقت لهم ضبة الأسرى، وودوا القتلى، وخرجوا عنهم فَقَالَ فِي ذَلِكَ قيس يعيرهم صلح ضبة، إسعادا لضبة وتأنيبا لهم ولم يدخل فِي أمر سجاح عمري ولا سعدي ولا ربي، ولم يطمعوا من جميع هؤلاء إلا فِي قيس، حَتَّى بدا مِنْهُ إسعاد ضبة، وظهر مِنْهُ الندم ولم يمالئهم من حنظلة إلا وكيع ومالك، فكانت ممالأتهما موادعة على أن ينصر بعضهم بعضا، ويحتاز بعضهم إلى بعضهم، وقال أصم التيمي فِي ذَلِكَ:
أتتنا أخت تغلب فاستهدت ** جلائب من سراة بني أبينا
وأرست دعوة فينا سفاها *** وكانت من عمائر آخرينا
فما كنا لنرزيهم زبالا *** وما كانت لتسلم إذ أتينا
ألا سفهت حلومكم وضلت *** عشية تحشدون لَهَا ثبينا
قَالَ: ثُمَّ إن سجاح خرجت فِي جنود الجزيرة، حَتَّى بلغت النباج، فأغار عليهم أوس بْن خزيمة الهجيمي فيمن تأشب إليه من بني عمرو، فأسر الهذيل، أسره رجل من بني مازن ثُمَّ أحد بني وبر، يدعى ناشرة.
وأسر عقة، أسره عبدة الهجيمي، وتحاجزوا على أن يترادوا الأسرى، وينصرفوا عنهم، ولا يجتازوا عليهم، ففعلوا، فردوها وتوثقوا عليها وعليهما، أن يرجعوا عنهم، ولا يتخذوهم طريقا إلا من ورائهم فوفوا لهم، ولم يزل فِي نفس الهذيل على المازني، حَتَّى إذا قتل عثمان بْن عفان، جمع جمعا فأغار على سفار، وعليه بنو مازن، فقتلته بنو مازن ورموا بِهِ فِي سفار.
ولما رجع الهذيل وعقة إليها واجتمع رؤساء أهل الجزيرة قالوا لَهَا: ما تأمريننا؟ فقد صالح مالك ووكيع قومهما، فلا ينصروننا ولا يزيدوننا على أن نجوز فِي أرضهم، وقد عاهدنا هؤلاء القوم فقالت: اليمامة، فقالوا: إن شوكة أهل اليمامة شديدة، وقد غلظ أمر مسيلمة، فقالت: عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة.
فنهدت لبني حنيفة، وبلغ ذَلِكَ مسيلمة فهابها، وخاف إن هو شغل بِهَا أن يغلبه ثمامة على حجر أو شرحبيل بْن حسنة، أو القبائل التي حولهم، فأهدى لَهَا، ثُمَّ أرسل إليها يستأمنها على نفسه حَتَّى يأتيها.
فنزلت الجنود على الأمواه، وأذنت لَهُ وآمنته، فجاءها وافدا فِي أربعين من بني حنيفة -وكانت راسخة فِي النصرانية، قد علمت من علم نصارى تغلب- فَقَالَ مسيلمة: لنا نصف الأرض، وَكَانَ لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الَّذِي ردت قريش، فحباك بِهِ، وَكَانَ لَهَا لو قبلت فقالت: لا يرد النصف إلا من حنف، فاحمل النصف إلى خيل تراها كالسهف فَقَالَ مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذ طمع، ولا زال أمره فِي كل ما سر نفسه يجتمع رآكم ربكم فحياكم، ومن وحشة خلاكم، ويوم دينه أنجاكم فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار.
وقال أيضا: لما رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار، تصومون يوما، وتكلفون يوما، فسبحان الله! إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السماء ترقون! فلو أنها حبة خردلة، لقام عليها شهيد يعلم ما فِي الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور.
وَكَانَ مما شرع لهم مسيلمة أن من أصاب ولدا واحدا عقبا لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذَلِكَ الابن فيطلب الولد، حَتَّى يصيب ابنا ثُمَّ يمسك، فكان قد حرم النساء على من لَهُ ولد ذكر.
قَالَ أبو جعفر: وأما غير سيف ومن ذكرنا عَنْهُ هذا الخبر، فإنه ذكر أن مسيلمة لما نزلت بِهِ سجاح، أغلق الحصن دونها، فقالت لَهُ سجاح: انزل، قَالَ: فنحي عنك أصحابك، ففعلت فَقَالَ مسيلمة: اضربوا لَهَا قبة وجمروها لعلها تذكر الباه، ففعلوا، فلما دخلت القبة نزل مسيلمة فَقَالَ: ليقف هاهنا عشرة، وهاهنا عشرة، ثُمَّ دارسها، فَقَالَ: ما أوحي إليك؟ فقالت: هل تكون النساء يبتدئن! ولكن أنت قل ما أوحي إليك؟ قَالَ: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشي قالت: وماذا أيضا؟ قَالَ: أوحي إلي: أن الله خلق النساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهن قعسا إيلاجا، ثُمَّ نخرجها إذا نشاء إخراجا، فينتجن لنا سخالا إنتاجا قالت: أشهد أنك نبي، قَالَ: هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب! قالت: نعم، قَالَ:
ألا قومي إلى النيك *** فقد هيى لك المضجع
وإن شئت ففي البيت *** وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناك *** وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه *** وإن شئت بِهِ أجمع
قالت: بل بِهِ أجمع، قَالَ بذلك أوحي إلي فأقامت عنده ثلاثا ثُمَّ انصرفت إلى قومها، فقالوا: ما عندك؟ قالت: كَانَ على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شَيْئًا؟ قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق! فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: ما لك؟ قالت: أصدقني صداقا، قَالَ: من مؤذنك؟
قالت: شبث بْن ربعي الرياحي، قَالَ: علي بِهِ، فجاء فَقَالَ: ناد فِي أصحابك أن مسيلمة بْن حبيب رَسُول اللَّهِ قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم بِهِ محمد: صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر.
قَالَ: وَكَانَ من أصحابها الزبرقان بْن بدر وعطارد بْن حاجب ونظراؤهم.
-وذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما- فانصرفت ومعها أصحابها، فيهم الزبرقان، وعطارد بْن حاجب، وعمرو بْن الأهتم، وغيلان بْن خرشة، وشبث ابن ربعي، فَقَالَ عطارد بْن حاجب:
أمست نبيتنا أنثى نطيف بِهَا *** وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وقال حكيم بْن عياش الأعور الكلبي، وهو يعير مضر بسجاح، ويذكر ربيعة:
أتوكم بدين قائم وأتيتم *** بمنتسخ الآيات فِي مصحف طب
رجع الحديث إلى حديث سيف فصالحها على أن يحمل إليها النصف من غلات اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فباح لَهَا بذلك، وقال: خلِّفي على السلف من يجمعه لك، وانصرفي أنت بنصف العام، فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت بِهِ إلى الجزيرة، وخلفت الهذيل وعقة وزيادا لينجز النصف الباقي، فلم يفجأهم إلا دنو خالد بْن الوليد منهم، فارفضُّوا فلم تزل سجاح فِي بني تغلب، حَتَّى نقلهم معاوية عام الجماعة فِي زمانه، وَكَانَ معاوية حين أجمع عَلَيْهِ أهل العراق بعد على عليه السلام يخرج من الكوفة المستغرب فِي أمر علي، وينزل داره المستغرب فِي أمر نفسه من أهل الشام وأهل البصرة وأهل الجزيرة، وهم الذين يقال لهم النواقل فِي الأمصار، فأخرج من الكوفة قعقاع بْن عمرو بْن مالك الى إيليا بفلسطين، فطلب إليه أن ينزل منازل بني أبيه بني عقفان، وينقلهم إلى بني تميم، فنقلهم من الجزيرة إلى الكوفة، وأنزلهم منازل القعقاع وبني أبيه، وجاءت معهم وحسن إسلامها، وخرج الزبرقان والأقرع إلى أبي بكر، وقالا: اجعل لنا خراج البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا أحد، ففعل وكتب الكتاب وَكَانَ الَّذِي يختلف بينهم طلحة بْن عبيد الله وأشهدوا شهودا منهم عمر فلما أتي عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد، ثُمَّ قال: لا والله ولا كرامة! ثم مزق الكتاب ومحاه، فغضب طلحة، فأتى أبا بكر، فَقَالَ: أأنت الأمير أم عمر؟ فَقَالَ: عمر، غير أن الطاعة لي.
فسكت.
وشهدا مَعَ خالد المشاهد كلها حَتَّى اليمامة، ثُمَّ مضى الأقرع ومعه شرحبيل إلى دومة.
ذكر البطاح وخبره
كتب إلي السري بْن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بْن عطية بْن بلال، قَالَ: لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة، ارعوى مالك بْن نويرة، وندم وتحير فِي أمره، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا، فرجعا رجوعا حسنا، ولم يتجبرا، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بِهَا خالدا، فَقَالَ خالد: ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم؟ فقالا: ثأر كنا نطلبه فِي بني ضبة، وكانت أيام تشاغل وفرص، وقال وكيع فِي ذَلِكَ:
فلا تحسبا أني رجعت وأنني *** منعت وقد تحنى إلي الأصابع
ولكنني حاميت عن جل مالك *** ولاحظت حَتَّى أكحلتني الأخادع
فلما أتانا خالد بلوائه *** تخطت إليه بالبطاح الودائع
ولم يبق فِي بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما كَانَ من مالك بْن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح، فهو على حاله متحير شج.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، قَالا: لَمَّا أَرَادَ خَالِدٌ السَّيْرَ خَرَجَ مِنْ ظُفَرَ، وَقَدِ اسْتَبْرَأَ أَسَدًا وَغَطَفَانَ وَطَيِّئًا وَهَوَازِنَ، فَسَارَ يُرِيدُ الْبِطَاحَ دُونَ الْحَزَنِ، وَعَلَيْهَا مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَقَدْ تَرَدَّدَ عليه امره، وقد تردبت الأَنْصَارُ عَلَى خَالِدٍ وَتَخَلَّفَتْ عَنْهُ، وَقَالُوا: مَا هَذَا بِعَهْدِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْنَا! إِنَّ الْخَلِيفَةَ عَهِدَ إِلَيْنَا إِنْ نَحْنُ فَرَغْنَا مِنَ الْبُزَاخَةِ، وَاسْتَبْرَأْنَا بِلادَ الْقَوْمِ أَنْ نُقِيمَ حَتَّى يَكْتُبَ إِلَيْنَا.
فَقَالَ خَالِدٌ: إِنْ يَكُ عَهِدَ إِلَيْكُمْ هَذَا فَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ أَمْضِيَ، وَأَنَا الأَمِيرُ وَإِلَيَّ تَنْتَهِي الأَخْبَارُ وَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِنِي لَهُ كِتَابٌ وَلا أَمْرٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ فُرْصَةً، فَكُنْتُ إِنْ أَعْلَمْتُهُ فَاتَتْنِي لَمْ أُعْلِمْهُ حَتَّى أَنْتَهِزَهَا، كَذَلِكَ لَوِ ابْتُلِينَا بِأَمْرٍ لَيْسَ مِنْهُ عَهْدٌ إِلَيْنَا فِيهِ لَمْ نَدَعْ أَنْ نَرَى أَفْضَلَ مَا بِحَضْرَتِنَا، ثُمَّ نَعْمَلَ بِهِ.
وَهَذَا مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ بِحِيَالِنَا، وَأَنَا قَاصِدٌ إِلَيْهِ وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ، وَلَسْتُ أُكْرِهُكُمْ وَمَضَى خَالِدٌ، وَنَدِمَتِ الأَنْصَارُ، وَتَذَامَرُوا، وَقَالُوا: إِنْ أَصَابَ الْقَوْمُ خَيْرًا إِنَّهُ لَخَيْرٌ حُرِمْتُمُوهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ لَيَجْتَنِبَنَّكُمُ النَّاسُ فَأَجْمَعُوا اللِّحَاقَ بِخَالِدٍ وَجَرَّدُوا إِلَيْهِ رَسُولا، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَحِقُوا بِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى قَدِمَ الْبِطَاحَ فَلَمْ يَجِدْ بِهِ أَحَدًا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، يذكر عن شعيب ابن إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ شَجَرَةَ الْعُقْفَانِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ الْمُثْعِبَةِ الرِّيَاحِيِّ، قال: قدم خالد ابن الْوَلِيدِ الْبِطَاحَ فَلَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ أَحْدًا، وَوَجَدَ مَالِكًا قَدْ فَرَّقَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الاجْتِمَاعِ حِينَ تَرَدَّدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَقَالَ: يَا بَنِي يَرْبُوعٍ، إِنَّا قَدْ كُنَّا عَصَيْنَا أُمَرَاءَنَا إِذْ دَعَوْنَا إِلَى هَذَا الدِّينِ، وَبَطَّأْنَا النَّاسَ عنه فَلَمْ نُفْلِحْ وَلَمْ نَنْجَحْ، وَإِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ، فَوَجَدْتُ الأَمْرَ يَتَأَتَّى لَهُمْ بِغَيْرِ سِيَاسَةٍ، وَإِذَا الأَمْرُ لا يَسُوسُهُ النَّاسُ، فَإِيَّاكُمْ وَمُنَاوَأَةَ قَوْمٍ صُنِعَ لَهُمْ، فَتَفَرَّقُوا إِلَى دِيَارِكُمْ وَادْخُلُوا فِي هَذَا الأَمْرِ فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَخَرَجَ مَالِكٌ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ الْبِطَاحَ بَثَّ السَّرَايَا وَأَمَرَهُمْ بِدَاعِيَةِ الإِسْلامِ أَنْ يَأْتُوهُ بِكُلِّ مَنْ لَمْ يُجِبْ، وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَكَانَ مِمَّا أَوْصَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ: إِذَا نَزَلْتُمْ مَنْزِلا فَأَذِّنُوا وَأَقِيمُوا، فَإِنْ أَذَّنَ الْقَوْمُ وَأَقَامُوا فَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلا شيء الا الغارة، ثم اقتلوهم كُلَّ قِتْلَةٍ، الْحَرْقَ فَمَا سِوَاهُ، وَإِنْ أَجَابُوكُمْ إِلَى دَاعِيَةِ الإِسْلامِ فَسَائِلُوهُمْ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالزَّكَاةِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْهَا فَلا شَيْءٌ إِلا الْغَارَةُ وَلا كَلِمَةٌ فَجَاءَتْهُ الْخَيْلُ بِمَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، مِنْ عَاصِمٍ وَعُبَيْدٍ وَعُرَيْنٍ وَجَعْفَرٍ، فَاخْتَلَفَتِ السَّرِيَّةُ فِيهِمْ، وَفِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَكَانَ فِيمَنْ شَهِدَ أَنَّهُمْ قَدْ أَذَّنُوا وَأَقَامُوا وَصَلَّوْا فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِمْ أَمَرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ لا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، وَجَعَلَتْ تَزْدَادُ بَرْدًا، فَأَمَرَ خَالِدٌ مُنَادِيًا فَنَادَى: ادفئوا اسراكم، وكانت في لغة كنانه إذا قَالُوا: دَثِّرُوا الرَّجُلَ فَأَدْفِئُوهُ، دِفْئُهُ قَتْلُهُ وَفِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ: أَدْفِهِ فَاقْتُلْهُ، فَظَنَّ الْقَوْمُ -وَهِيَ فِي لُغَتِهِمِ الْقَتْلُ- أَنَّهُ أَرَادَ الْقَتْلَ، فَقَتَلُوهُمْ، فَقَتَلَ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ مَالِكًا، وَسِمَع خَالِدٌ الْوَاعِيَةَ، فَخَرَجَ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْهُمْ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا أَصَابَهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فِيهِمْ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هَذَا عَمَلُكَ، فَزَبَرَهُ خَالِدٌ فَغَضِبَ وَمَضَى، حَتَّى أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَغَضِبَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ فِيهِ، فَلَمْ يَرْضَ إِلا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ حَتَّى قَدِمَ مَعَهُ الْمَدِينَةَ، وَتَزَوَّجَ خَالِدٌ أُمَّ تَمِيمِ ابْنَةَ الْمِنْهَالِ، وَتَرَكَهَا لِيَنْقَضِيَ طُهْرُهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَكْرَهُ النِّسَاءَ فِي الْحَرْبِ وَتُعَايِرُهُ، وَقَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ إِنَّ فِي سَيْفِ خَالِدٍ رَهَقًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا حَقًّا، حَقَّ عَلَيْهِ أَنْ تُقِيدَهُ، وَأَكَثَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ -وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يُقِيدُ مِنْ عُمَّالِهِ وَلا وَزَعَتِهِ- فَقَالَ: هَيْهٍ يَا عُمَرُ! تَأَوَّلَ فَأَخْطَأَ، فَارْفَعْ لِسَانَكَ عَنْ خَالِدٍ وَوَدي مَالِكًا وَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، فَعَذَرَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ، وَعَنَّفَهُ فِي التَّزْوِيجِ الَّذِي كَانَتْ تَعِيبُ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: شَهِدَ قَوْمٌ مِنَ السَّرِيَّةِ أَنَّهُمْ أَذَّنُوا وَأَقَامُوا وَصَلَّوْا، فَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ.
وَشَهِدَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَقُتِلُوا وَقَدِمَ أَخُوهُ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ يُنْشِدُ أَبَا بَكْرٍ دَمَهُ، وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ فِي سَبْيِهِمْ، فَكَتَبَ لَهُ بِرَدِّ السَّبْيِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ عُمَرُ فِي خَالِدٍ أَنْ يَعْزِلَهُ، وَقَالَ: إِنَّ فِي سَيْفِهِ رَهَقًا فَقَالَ: لا يَا عُمَرُ، لَمْ أَكُنْ لأُشِيمَ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ خُزَيْمَةَ، عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ سُوَيْدٍ، قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ شَعْرًا، وَإِنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ أَثَفُّوا بِرُءُوسِهِمْ الْقُدُورَ، فَمَا مِنْهُمْ رَأْسٌ إِلا وَصَلَتِ النَّارُ إِلَى بَشْرَتِهِ مَا خَلا مَالِكًا، فَإِنَّ الْقِدْرَ نَضَجَتْ وَمَا نَضَجَ رَأْسُهُ مِنْ كَثْرَةِ شَعْرِهِ، وَقَى الشَّعْرُ الْبَشْرَةَ حَرَّهَا أَنْ يَبْلُغَ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَأَنْشَدَهُ مُتَمِّمٌ، وَذَكَرَ خَمْصَهُ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَآهُ مَقْدَمَهُ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَكَذَاكَ يَا مُتَمِّمُ كَانَ! قَالَ: أَمَّا ما أَعْنِي فَنَعَمْ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مِنْ عَهْدِهِ إِلَى جُيُوشِهِ: أَنْ إِذَا غَشِيتُمْ دَارًا مِنْ دُورِ النَّاسِ فَسَمِعْتُمْ فِيهَا أَذَانًا لِلصَّلاةِ، فَأَمْسِكُوا عَنْ أَهْلِهَا حَتَّى تَسْأَلُوهُمْ مَا الَّذِي نَقَمُوا! وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا أَذَانًا، فَشِنُّوا الْغَارَةَ، فَاقْتُلُوا، وَحَرِّقُوا.
وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ لِمَالِكٍ بِالإِسْلامِ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَقَدْ كَانَ عَاهَدَ اللَّهَ أَلا يَشْهَدَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حَرْبًا أَبَدًا بَعْدَهَا، وَكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُمْ لَمَّا غَشُوا الْقَوْمَ رَاعُوهُمْ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَأَخَذَ الْقَوْمُ السِّلاحَ قَالَ: فَقُلْنَا: إِنَّا الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، قُلْنَا: فَمَا بَالُ السِّلاحُ مَعَكُمْ! قَالُوا لَنَا: فَمَا بَالُ السِّلاحُ مَعَكُمْ! قُلْنَا: فَإِنْ كُنْتُمْ كَمَا تَقُولُونَ فَضَعُوا السِّلاحَ، قَالَ: فَوَضَعُوهَا، ثُمَّ صَلَّيْنَا وَصَلُوا وَكَانَ خَالِدٌ يَعْتَذِرُ فِي قَتْلِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ وَهُوَ يُرَاجِعُهُ: مَا أَخَالُ صَاحِبَكُمْ إِلا وَقَدْ كَانَ يقول كذا وكذا قال: او ما تَعُدُّهُ لَكَ صَاحِبًا! ثُمَّ قَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَأَعْنَاقَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ قَتْلَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، تَكَلَّمَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ فَأَكْثَرَ، وقال: عدو الله عدا عَلَى امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ نَزَا عَلَى امْرَأَتِهِ! وَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَافِلا حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ قِبَاءٌ لَهُ عَلَيْهِ صَدَأُ الْحَدِيدِ، مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ لَهُ، قَدْ غَرَزَ فِي عِمَامَتِهِ أَسْهُمًا، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَانْتَزَعَ الأَسْهُمَ مِنْ رَأْسِهِ فَحَطَّمَهَا، ثم قال: ارثاء! قتلت امْرَأً مُسْلِمًا، ثُمَّ نَزَوْتَ عَلَى امْرَأَتِهِ! وَاللَّهِ لأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكَ -وَلا يُكَلِّمُهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلا يَظُنُّ إِلا أَنَّ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مِثْلِ رَأْيِ عُمَرَ فِيهِ- حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَعَذَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَتَجَاوَزَ عَنْهُ مَا كَانَ فِي حَرْبِهِ تِلْكَ قَالَ: فَخَرَجَ خَالِدٌ حِينَ رَضِيَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: هَلُمَّ الى يا بن أُمِّ شَمْلَةَ! قَالَ: فَعَرَفَ عُمَرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ.
وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ مَالِكَ بْنِ نُوَيْرَةَ عَبْدُ بْنُ الأَزْوَرِ الأَسَدِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الَّذِي قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ ضِرَارُ بْنُ الأزور.
ذِكْرُ بَقِيَّةِ خَبَرِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَقَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ بَعَثَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ إِلَى مُسَيْلِمَةَ وَأَتْبَعَهُ شُرَحْبِيلَ عَجِلَ عِكْرِمَةُ، فَبَادَرَ شُرَحْبِيلَ لِيَذْهَبَ بِصَوْتِهَا فَوَاقَعَهُمْ، فَنَكَبُوهُ، وَأَقَامَ شُرَحْبِيلُ بِالطَّرِيقِ حَيْثُ أَدْرَكَهُ الْخَبَرُ، وَكَتَبَ عِكْرِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابو بكر: يا بن أُمِّ عِكْرِمَةَ، لا أَرَيْنَكَ وَلا تَرَانِي عَلَى حَالِهَا! لا تَرْجِعْ فَتُوهِنَ النَّاسَ، امْضِ عَلَى وَجْهِكَ حَتَّى تُسَانِدَ حُذَيْفَةَ وَعُرْفُجَةَ فَقَاتِلْ مَعَهُمَا أَهْلَ عُمَانَ وَمهْرَةَ، وَإِنْ شُغِلا فَامْضِ أَنْتَ، ثم تسير وتسير جندك تستبرئون مَنْ مَرَرْتُمْ بِهِ، حَتَّى تَلْتَقُوا أَنْتُمْ وَالْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بِالْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ.
وَكَتَبَ إِلَى شُرَحْبِيلَ يَأْمُرُهُ بِالْمُقَامِ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرُهُ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُوَجِّهَ خَالِدًا بِأَيَّامٍ إِلَى الْيَمَامَةِ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ خَالِدٌ، ثُمَّ فَرَغْتُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَالْحَقْ بِقُضَاعَةَ، حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مَنْ أَبَى مِنْهُمْ وَخَالَفَ فَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْبِطَاحِ رَضِيَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ خَالِدٍ، وَسَمِعَ عُذْرَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ وَصَدَّقَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، وَوَجَّهَهُ إِلَى مُسَيْلِمَةَ وَأَوْعَبَ مَعَهُ النَّاسَ وَعَلَى الأَنْصَارِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ فُلانٍ، وَعَلَى الْمُهَاجِرِينَ أَبُو حُذَيْفَةَ وَزَيْدٌ، وَعَلَى الْقَبَائِلِ، عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ.
وَتَعَجَّلَ خَالِدٌ حَتَّى قَدِمَ عَلَى أَهْلِ الْعَسْكَرِ بِالْبِطَاحِ، وَانْتَظَرَ الْبَعْثَ الَّذِي ضَرَبَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ نَهَضَ حَتَّى أَتَى الْيَمَامَةَ وَبَنُو حَنِيفَةَ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ، عَنْ رِجَالٍ، قَالُوا: كَانَ عَدَدُ بَنِي حَنِيفَةَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فِي قُرَاهَا وَحِجْرِهَا، فَسَارَ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا أَظَلَّ عَلَيْهِمْ أَسْنَدَ خُيُولا لِعُقةَ وَالْهُذَيْلِ وَزِيَادٍ، وَقَدْ كَانُوا أَقَامُوا عَلَى خَرْجٍ أَخْرَجَهُ لَهُمْ مُسَيْلِمَةُ لِيُلْحِقُوا بِهِ سَجَاحَ.
وَكَتَبَ إِلَى الْقَبَائِلِ مِنْ تَمِيمٍ فِيهِمْ، فَنَفَرُوهُمْ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَعَجَلَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَفَعَلَ فِعْلَ عِكْرِمَةَ، وَبَادَرَ خَالِدًا بِقِتَالِ مُسَيْلِمَةَ قَبْلَ قُدُومِ خَالِدٍ عَلَيْهِ، فَنُكِبَ، فَحَاجَزَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ خَالِدٌ لامَهُ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ خَالِدٌ تِلْكَ الْخُيُولَ مَخَافَةَ أَنْ يَأْتُوهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَكَانُوا بِأَفْنِيَةِ الْيَمَامَةِ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ فُلانٍ، قَالَ: وَأَمَدَّ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا بِسُلَيْطٍ، لَيَكُونَ رِدْءًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْفِهِ، فَخَرَجَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ خَالِدٍ وَجَدَ تِلْكَ الْخُيُولَ الَّتِي انْتَابَتْ تِلْكَ الْبِلادَ قَدْ فُرِّقُوا، فَهَرَبُوا، وَكَانَ مِنْهُمْ قَرِيبًا رِدْءًا لَهُمْ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: لا أَسْتَعْمِلُ أَهْلَ بَدْرٍ، أَدَعُهُمْ حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِهِمْ وَبِالصُّلَحَاءِ مِنَ الأُمَمِ أَكْثَرَ وَأَفْضَلَ مِمَّا يَنْتَصِرُ بِهِمْ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: وَاللَّهِ لأُشْرِكَنَّهُمْ وليُواسُنَّني.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بْن الأعلم، عن عبيد بْن عمير، عن اثال الحنفي -وكان مع ثمامة بْن أثال- قال: وكان مسيلمة يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح، وكان معه نهار الرجال بْن عنفوة، وكان قد هاجر الى النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، فبعثه معلما لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، وليشدد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد له أنه سمع محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: إنه قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وامروه بمكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه، فكان نهار الرجال بْن عنفوة لا يقول شيئا إلا تابعه عليه، وكان ينتهي الى امره، وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم، ويشهد في الأذان أن محمدا رسول اللَّه، وكان الذي يؤذن له عبد اللَّه بْن النواحة، وكان الذي يقيم له حجير بْن عمير، ويشهد له، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال: صرح حجير، فيزيد في صوته، ويبالغ لتصديق نفسه، وتصديق نهار وتضليل من كان قد أسلم، فعظم وقاره في أنفسهم قال: وضرب حرما باليمامة، فنهى عنه، وأخذ الناس به، فكان محرما فوقع في ذلك الحرم قرى الأحاليف، أفخاذ من بنى اسيد، كانت دراهم باليمامة، فصار مكان دارهم في الحرم -والأحاليف: سيحان ونمارة ونمر والحارث بنو جروة- فإن أخصبوا أغاروا على ثمار أهل اليمامة، واتخذوا الحرم دغلا، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم، وإن لم ينذروا بهم فذلك ما يريدون فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم، فقال: أنتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم ثم قال لهم: والليل الأطحم، والذئب الأدلم والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم، فقالوا: أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال! ثم عادوا للغارة، وعادوا للعدوى.
فقال: أنتظر الذي يأتيني، فقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس، فقالوا: أما النخيل مرطبة فقد جدوها، وأما الجدران يابسة فقد هدموها، فقال: اذهبوا وارجعوا فلا حق لكم.
وكان فيما يقرأ لهم فيهم: إن بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كل إنسان، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن.
وكان يقول: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها والشاء السوداء واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون!.
وكان يقول: يا ضفدع ابنة ضفدع، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين.
وكان يقول: والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه.
قال: وأتته امرأة من بني حنيفة تكنى بأم الهيثم فقالت: إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز، فادع اللَّه لمائنا ولنخلنا كما دعا مُحَمَّد لأهل هزمان.
فقال: يا نهار ما تقول هذه؟ فقال: ان اهل هزمان أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فشكوا بعد مائهم، -وكانت آبارهم جرزا- ونخلهم أنها سحق، فدعا لهم فجاشت آبارهم، وانحنت كل نخلة قد انتهت حتى وضعت جرانها لانتهائها، فحكت به الأرض حتى أنشبت عروقا ثم قطعت من دون ذلك، فعادت فسيلا مكمما ينمى صاعدا.
قال: وكيف صنع بالآبار؟ قال: دعا بسجل، فدعا لهم فيه، ثم تمضمض بفمه منه، ثم مجه فيه، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك الآبار، ثم سقوه نخلهم، ففعل النبي ما حدثتك، وبقي الآخر إلى انتهائه فدعا مسيلمة بدلو من ماء فدعا لهم فيه، ثم تمضمض منه، ثم مج فيه فنقلوه فأفرغوه في آبارهم فغارت مياه تلك الآبار، وخوى نخلهم، وإنما استبان ذلك بعد مهلكه.
وقال له نهار: برك على مولودي بني حنيفة، فقال له: وما التبريك؟ قال: كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمدا صلى الله عليه وسلم فحنكه ومسح رأسه، فلم يؤت مسيلمة بصبي فحنكه ومسح رأسه إلا قرع ولثغ واستبان ذلك بعد مهلكه.
وقالوا: تتبع حيطانهم كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يصنع فصل فيها: فدخل حائطا من حوائط اليمامة، فتوضأ، فقال نهار لصاحب الحائط: ما يمنعك من وضوء الرحمن فتسقي به حائطك حتى يروى ويبتل، كما صنع بنو المهرية، أهل بيت من بني حنيفة -وكان رجل من المهرية قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ وضوءه فنقله معه إلى اليمامة فأفرغه في بئره، ثم نزع وسقى، وكانت أرضه تهوم فرويت وجزأت فلم تلف إلا خضراء مهتزة- ففعل فعادت يبابا لا ينبت مرعاها.
وأتاه رجل فقال: ادع اللَّه لأرضي فإنها مسبخه، كما دعا محمد صلى الله عليه وسلم لسلمي على أرضه فقال: ما يقول يا نهار؟ فقال: قدم عليه سلمي، وكانت أرضه سبخة فدعا له، وأعطاه سجلا من ماء، ومج له فيه، فأفرغه في بئره، ثم نزع، فطابت وعذبت، ففعل مثل ذلك فانطلق الرجل، ففعل بالسجل كما فعل سلمي، فغرقت أرضه، فما جف ثراها، ولا أدرك ثمرها.
وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيها، فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها، وكانوا قد علموا واستبان لهم، ولكن الشقاء غلب عليهم.
كتب إلي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن خليد بن ذفرة النمري، عن عمير بْن طلحة النمري، عن أبيه، أنه جاء اليمامة، فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مه رسول اللَّه! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه، قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن، قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك كذاب وأن محمدا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، فقتل معه يوم عقرباء.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الكلبي مثله، إلا أنه قال: كذاب ربيعة أحب إلي من كذاب مضر.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بْن الأعلم، عن عبيد بْن عمير، عن رجل منهم، قال: لما بلغ مسيلمة دنو خالد، ضرب عسكره بعقرباء، واستنفر الناس، فجعل الناس يخرجون إليه، وخرج مجاعة بْن مرارة في سريه يطلب ثارا له في بني عامر وبني تميم قد خاف فواته، وبادر به الشغل، فأما ثأره في بني عامر فكانت خولة ابنة جعفر فيهم، فمنعوه منها، فاختلجها، وأما ثأره في بني تميم فنعم أخذوا له واستقبل خالد شرحبيل بْن حسنة، فقدمه وأمر على المقدمة خالد بْن فلان المخزومي، وجعل على المجنبتين زيدا وأبا حذيفة، وجعل مسيلمة على مجنبتيه المحكم والرجال، فسار خالد ومعه شرحبيل، حتى إذا كان من عسكر مسيلمة على ليله، هجم على جبيله هجوم- المقلل يقول: أربعين، والمكثر يقول: ستين- فإذا هو مجاعة وأصحابه، وقد غلبهم الكرى، وكانوا راجعين من بلاد بني عامر، قد طووا إليهم، واستخرجوا خولة ابنة جعفر فهي معهم، فعرسوا دون أصل الثنية، ثنية اليمامة، فوجدوهم نياما وأرسان خيولهم بأيديهم تحت خدودهم وهم لا يشعرون بقرب الجيش منهم، فأنبهوهم، وقالوا: من أنتم؟ قالوا: هذا مجاعة وهذه حنيفة، قالوا:
وأنتم فلا حياكم اللَّه! فأوثقوهم وأقاموا إلى أن جاءهم خالد بْن الوليد، فأتوه بهم، فظن خالد أنهم جاءوه ليستقبلوه وليتقوه بحاجته، فقال: متى سمعتم بنا؟
قالوا: ما شعرنا بك، إنما خرجنا لثأر لنا فيمن حولنا من بني عامر وتميم، ولو فطنوا لقالوا: تلقيناك حين سمعنا بك فأمر بهم أن يقتلوا، فجادوا كلهم بأنفسهم دون مجاعة بْن مرارة، وقالوا: إن كنت تريد بأهل اليمامة غدا خيرا أو شرا فاستبق هذا ولا تقتله، فقتلهم خالد وحبس مجاعة عنده كالرهينة.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعَثَ إِلَى الرَّجَّالِ فَأَتَاهُ فَأَوْصَاهُ بِوَصِيَّتِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ عَلَى الصِّدْقِ حِينَ أَجَابَهُ قَالا: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: جَلَسْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في رهط معنا الرجال ابن عُنْفُوَةَ، فَقَالَ: «إِنَّ فِيكُمْ لَرَجُلا ضَرْسُهُ فِي النَّارِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ»، فَهَلَكَ الْقَوْمُ وَبَقِيتُ أَنَا وَالرَّجَّالُ، فَكُنْتُ مُتَخَوِّفًا لَهَا، حَتَّى خَرَجَ الرَّجَّالُ مَعَ مُسَيْلِمَةَ، فَشَهِدَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، فَكَانَتْ فِتْنَةُ الرَّجَّالِ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ مُسَيْلِمَةَ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا، فَسَارَ حَتَّى إِذَا بلغ ثنية اليمامه، استقبل مجاعه ابن مِرَارَةَ- وَكَانَ سَيَّدَ بَنِي حَنِيفَةَ- فِي جَبَلٍ مِنْ قَوْمِهِ، يُرِيدُ الْغَارَةَ عَلَى بَنِي عَامِرٍ، وَيَطْلُبُ دَمًا، وَهُمْ ثَلاثَةٌ وَعِشْرُونَ فَارِسًا رُكْبَانًا قَدْ عَرَسُوا.
فَبَيَّتَهُمْ خَالِدٌ فِي مَعْرَسِهِمْ، فَقَالَ: مَتَى سَمِعْتُمْ بِنَا؟ فَقَالُوا: مَا سمعنا بكم، انما خرجنا لنثئر بِدَمٍ لَنَا فِي بَنِي عَامِرٍ فَأَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ، وَاسْتَحْيَا مُجَّاعَةَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ وَبَنُو حَنِيفَةَ حِينَ سَمِعُوا بِخَالِدٍ، فَنَزَلُوا بِعَقْرَبَاءَ، فَحَلَّ بِهَا عَلَيْهِمْ- وَهِيَ طَرَفُ الْيَمَامَةِ دُونَ الأَمْوَالِ- وَرِيفُ الْيَمَامَةِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسَيْلِمَةَ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، الْيَوْمَ يَوْمَ الْغَيْرَةِ، الْيَوْمَ إِنْ هزمتم تستردف النساء سبيات، وينكحن غير خطيبات، فَقَاتِلُوا عَنْ أَحْسَابِكُمْ، وَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ فَاقْتَتَلُوا بِعَقْرَبَاءَ، وَكَانَتْ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فَقَالُوا: تَخْشَى عَلَيْنَا مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا! فَقَالَ: بِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِذًا! وَكَانَتْ رَايَةُ الأَنْصَارِ مَعَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى رَايَاتِهَا وَمُجَّاعَةُ أَسِيرٌ مَعَ أُمِّ تَمِيمٍ فِي فُسْطَاطِهَا فَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً، وَدَخَلَ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ عَلَى أُمِّ تَمِيمٍ، فَأَرَادُوا قَتْلَهَا، فَمَنَعَهَا مُجَّاعَةُ قَالَ: أَنَا لَهَا جَارٌ، فَنِعْمَتِ الْحُرَّةُ هِيَ! فَدَفَعَهُمْ عَنْهَا، وَتَرَادَّ الْمُسْلِمُونَ، فَكَرُّوا عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَتْ بَنُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ الْمُحكمُ بْنُ الطُّفَيْلِ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، ادْخُلُوا الْحَدِيقَةَ، فَإِنِّي سَأَمْنَعُ أَدْبَارَكُمْ، فَقَاتَلَ دُونَهُمْ سَاعَةً ثُمَّ قَتَلَهُ اللَّهُ، قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَدَخَلَ الْكُفَّارُ الْحَدِيقَةَ، وَقَتَلَ وَحْشِيُّ مُسَيْلِمَةَ، وَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَشَارَكَهُ فِيهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، بِنَحْوِ حَدِيثِ سَيْفٍ هَذَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: دَعَا خَالِدٌ بِمُجَّاعَةَ وَمَنْ أُخِذَ مَعَهُ حِينَ أَصْبَحَ، فَقَالَ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، مَا تَقُولُونَ؟ قَالُوا: نَقُولُ: مِنَّا نَبِيٌّ وَمِنْكُمْ نَبِيٌّ، فَعَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، حَتَّى إِذَا بَقِيَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ سَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ وَمُجَّاعَةُ بْنُ مِرَارَةَ، قَالَ لَهُ سَارِيَةٌ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهَذِهِ الْقَرْيَةِ غَدًا خَيْرًا أَوْ شَرًّا، فَاسْتَبْقِ هَذَا الرَّجُلَ- يَعْنِي مُجَّاعَةَ- فَأَمَرَ بِهِ خَالِدٌ فَأَوْثَقَهُ فِي الْحَدِيدِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ تَمِيمٍ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: اسْتَوْصِي بِهِ خَيْرًا، ثُمَّ مَضَى حَتَّى نَزَلَ الْيَمَامَةَ عَلَى كَثِيبٍ مُشْرِفٍ عَلَى الْيَمَامَةِ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْيَمَامَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ وَقَدْ قَدِمَ فِي مُقَدِّمَتِهِ الرَّحَّالُ -قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ بِالْحَاءِ- بْنُ عُنْفُوَةَ بْنِ نَهْشَلٍ، وَكَانَ الرَّحَّالُ رَجُلا مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ، وَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْيَمَامَةَ شَهِدَ لِمُسَيْلِمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ أَشْرَكَهُ فِي الأَمْرِ فَكَانَ أَعْظَمَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ فِتْنَةً مِنْ مُسَيْلِمَةَ، وَكَانَ المسلمون يسألون عن الرجال يَرْجُونَ أَنَّهُ يَثْلِمُ عَلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ أَمْرَهُمْ بِإِسْلامِهِ، فَلَقِيَهُمْ فِي أَوَائِلِ النَّاسِ مُتَكَتِّبًا، وَقَدْ قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ، وَعِنْدَهُ أَشْرَافُ النَّاسِ وَالنَّاسُ عَلَى مُصَافِّهِمْ، وَقَدْ رَأَى بَارِقَةً فِي بَنِي حَنِيفَةَ: أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ كَفَاكُمُ اللَّهُ أَمْرَ عَدُوِّكُمْ وَاخْتَلَفَ الْقَوْمُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَنَظَرَ مُجَّاعَةُ وَهُوَ خَلْفَهُ مُوَثَّقًا فِي الْحَدِيدِ، فَقَالَ: كَلا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّهَا الْهُنْدُوَانِيَّةِ خَشَوْا عَلَيْهَا مِنْ تَحَطُّمِهَا، فَأَبْرَزُوهَا لِلشَّمْسِ لِتَلِينَ لَهُمْ، فَكَانَ كَمَا قَالَ فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ كَانَ أَوَّلُ مَنْ لقيهم الرجال بْنُ عُنْفُوَةَ، فَقَتَلَهُ اللَّهَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إسحاق، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَبِي هريرة، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا- وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَرَجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ فِي مَجْلِسٍ عِنْدَهُ:
«لَضِرْسُ أَحَدِكُمْ أَيُّهَا الْمَجْلِسُ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ».
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَضَى الْقَوْمُ لِسَبِيلِهِمْ، وَبَقِيتُ انا ورجال بْنُ عُنْفُوَةَ، فَمَا زِلْتُ لَهَا مَتَخَوِّفًا، حَتَّى سمعت بمخرج رجال، فَأَمَنْتُ وَعَرَفْتُ أَنَّ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ.
ثُمَّ الْتَقَى النَّاسُ وَلَمْ يَلْقَهُمْ حَرْبٌ قَطُّ مِثْلَهَا مِنْ حَرْبِ الْعَرَبِ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالا شَدِيدًا، حَتَّى انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَخَلَصَ بَنُو حَنِيفَةَ إِلَى مُجَّاعَةَ وَإِلَى خَالِدٍ، فَزَالَ خَالِدٌ عَنْ فُسْطَاطِهِ وَدَخَلَ أُنَاسٌ الْفُسْطَاطَ وَفِيهِ مُجَّاعَةَ عِنْدَ أُمِّ تَمِيمٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا رَجُلٌ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ مُجَّاعَةُ: مَهْ، أَنَا لَهَا جَارٌ، فَنِعْمَتِ الْحُرَّةُ! عَلَيْكُمْ بِالرِّجَالِ، فَرَعْبَلُوا الْفُسْطَاطَ بِالسُّيُوفِ ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ تَدَاعَوْا، فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: بِئْسَمَا عَوَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ -يَعْني أَهْلَ الْيَمَامَةِ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ -يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- ثُمَّ جَالَدَ بِسَيْفِهِ حَتَّى قُتِلَ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ انْكَشَفَ النَّاسُ عَنْ رِحَالِهِمْ: لا تَحُوزُ بَعْدُ الرِّحَالُ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ قَامَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -وَكَانَ إِذَا حَضَرَ الْحَرْبُ أَخَذَتْهُ الْعُرَوَاءُ حَتَّى يَقْعُدَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ تَحْتَهُمْ حَتَّى يَبُولَ فِي سَرَاوِيلِهِ، فَإِذَا بَالَ يَثُورُ كَمَا يَثُورُ الأَسَدُ- فَلَمَّا رَأَى مَا صَنَعَ النَّاسُ أَخَذَهُ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ حَتَّى قَعَدَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَمَّا بَالَ وَثَبَ، فَقَالَ: أَيْنَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمينَ! أَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ، هَلُمَّ إِلَيَّ! وَفَاءَتْ فِئَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَاتَلُوا الْقَوْمَ حَتَّى قَتَلَهَمُ اللَّهُ، وَخَلَصُوا إِلَى مُحَكِّمِ الْيَمَامَةِ -وَهُوَ مُحَكِّمُ بْنُ الطُّفَيْلِ- فَقَالَ حِينَ بَلَغَهُ الْقِتَالُ: يَا مَعْشَرَ بَنِي حَنِيفَةَ، الآنَ وَاللَّهِ تُسْتَحْقَبُ الْكَرَائِمُ غَيْرَ رَضِيَّاتٍ، وَيُنْكَحْنَ غير خطيبات، فَمَا عِنْدَكُمْ مِنْ حَسَبٍ فَأَخْرِجُوهُ فَقَاتَلَ قِتَالا شَدِيدًا، وَرَمَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِي نَحْرِهِ فَقَتَلَهُ ثُمَّ زَحَفَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى أَلْجَئُوهُمْ إِلَى الْحَدِيقَةِ، حَدِيقَةِ الْمَوْتِ، وَفِيهَا عَدُوُّ اللَّهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، فَقَالَ الْبَرَاءُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَلْقُونِي عَلَيْهِمْ فِي الْحَدِيقَةِ فَقَالَ النَّاسُ: لا تَفْعَلْ يَا بَرَاءُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَطْرِحُنِّي عَلَيْهِمْ فِيهَا، فَاحْتَمَلَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الْحَدِيقَةِ مِنَ الْجِدَارِ، اقْتَحَمَ فقاتلهم عن باب الحديقة، حتى فتحها المسلمون، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فِيهَا، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى قَتَلَ اللَّهُ مُسَيْلِمَةَ عَدُوَّ اللَّهِ، وَاشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ وَحْشِيٌّ مَوْلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كِلاهُمَا قَدْ أَصَابَهُ، أَمَّا وَحْشِيٌّ فَدَفَعَ عَلَيْهِ حَرْبَتَهُ، وَأَمَّا الأَنْصَارِيُّ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ، فَكَانَ وَحْشِيٌّ يَقُولُ: رَبُّكَ أَعْلَمُ أَيُّنَا قَتَلَهُ!
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلا يَوْمَئِذٍ يَصْرُخُ يَقُولُ، قَتَلَهُ الْعَبْدُ الأَسْوَدُ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: كَانَ الرَّجَّالُ بِحِيَالِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا دَنَا صَفَّاهُمَا، قَالَ زَيْدٌ: يَا رَجَّالُ، اللَّهَ الله! فوالله لَقَدْ تَرَكْتَ الدِّينَ، وَإِنَّ الَّذِي أَدْعُوكَ إِلَيْهِ لأَشْرَفُ لَكَ، وَأَكْثَرُ لِدُنْيَاكَ فَأَبَى، فَاجْتَلَدَا فَقُتِلَ الرِّجَّالُ وَأَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ فِي أَمْرِ مُسَيْلِمَةَ، فَتَذَامَرُوا وَحَمَلَ كُلُّ قَوْمٍ فِي نَاحِيَتِهِمْ، فَجَالَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى بَلَغُوا عَسْكَرَهُمْ، ثُمَّ أَعْرُوهُ لَهُمْ، فَقَطَعُوا أَطْنَابَ الْبُيُوتِ، وَهَتَكُوهَا، وَتَشَاغَلُوا بِالْعَسْكَرِ، وَعَالَجُوا مُجَّاعَةَ، وَهَمُّوا بِأُمِّ تَمِيمٍ، فَأَجَارَهَا، وَقَالَ: نِعْمَ أُمُّ الْمَثْوَى! وَتَذَامَرَ زَيْدٌ وَخَالِدٌ وَأَبُو حُذَيْفَةَ، وَتَكَلَّمَ النَّاسُ- وَكَانَ يَوْمَ جَنُوبٍ لَهُ غُبَارٌ -فَقَالَ زَيْدٌ: لا وَاللَّهِ لا أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ حَتَّى نَهْزِمَهُمْ أَوْ أَلْقَى اللَّهَ فَأُكَلِّمَهُ بِحُجَّتِي! عَضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَاضْرِبُوا فِي عَدُوِّكُمْ، وَامْضُوا قُدُمًا فَفَعَلُوا، فَرَدُّوهُمْ إِلَى مُصَافِّهِمْ حَتَّى أَعَادُوهُمْ إِلَى أَبْعَدِ مِنَ الْغَايَةِ الَّتِي حُيِّزُوا إِلَيْهَا مِنْ عَسْكَرِهِمْ، وَقُتِلَ زَيْدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَكَلَّمَ ثَابِتٌ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَنْتُمْ حِزْبُ اللَّهِ وَهُمْ أَحْزَابُ الشَّيْطَانِ، وَالْعِزَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَحْزَابِهِ، أَرُونِي كَمَا أُرِيكُمْ، ثُمَّ جَلَدَ فِيهِمْ حَتَّى حَازَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآِن، زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِالْفِعَالِ وَحَمَلَ فَحَازَهُمْ حَتَّى أَنْفَذَهُمْ، وَأُصِيبَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَحَمَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَالَ لِحُمَاتِهِ: لا أُوتِيَنَّ مِنْ خَلْفِي حَتَّى كَانَ بِحِيَالِ مُسَيْلِمَةَ يَطْلُبُ الْفُرْصَةَ وَيَرْقُبُ مُسَيْلِمَةَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا أُعْطِيَ سَالِمٌ الرَّايَةَ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: مَا أَعْلَمُنِي لأَيِّ شَيْءٍ أَعْطَيْتُمُونِيهَا! قُلْتُمْ: صَاحِبُ قُرْآنٍ وَسَيَثْبُتُ كَمَا ثَبَتَ صَاحِبُهَا قَبْلَهُ حَتَّى مَاتَ! قَالُوا: أَجَلْ وَقَالُوا: فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ؟ فَقَالَ: بِئْسَ وَاللَّهِ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِنْ لَمْ أَثْبُتْ! وَكَانَ صَاحِبَ الرَّايَةِ قَبْلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَفْصِ بْنِ غَانِمٍ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَالَ مُجَّاعَةُ لِبَنِي حَنِيفَةَ: وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالرَّجَّالِ، إِذَا فِئَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ فَتَفَانُوا وَتَفَانَى الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ، وتكلم رجال من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللَّهِ لا أَتَكَلَّمُ أَوْ أَظْفَرُ أَوْ أُقْتَلُ، وَاصْنَعُوا كَمَا أَصْنَعُ أَنَا، فَحَمَلَ وَحَمَلَ أَصْحَابُهُ وَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: بِئْسَمَا عَوَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! هَكَذَا عَنِّي حَتَّى أُرِيَكُمُ الْجلادَ وَقُتِلَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُبَشِّرٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حِينَ رَجَعَ: أَلا هَلَكْتَ قَبْلَ زيد! هلك زيد وأنت حي! فقال: قد حَرَصْتُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ، وَلَكِنَّ نَفْسِي تَأَخَّرَتْ، فَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ وَقَدْ هَلَكَ زَيْدٌ؟ أَلا وَارَيْتَ وَجْهَكَ عَنِّي! فَقَالَ: سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ فَأُعْطِيهَا، وَجَهَدْتُ أَنْ تُسَاقَ إِلَيَّ فَلَمْ أُعْطَهَا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بْن الأعلم، عن عبيد بْن عمير: إن المهاجرين والأنصار جبنوا أهل البوادي وجبنهم أهل البوادي، فقال بعضهم لبعض: امتازوا كي نستحيا من الفرار اليوم، ونعرف اليوم من أين نؤتى! ففعلوا وقال أهل القرى: نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم، فقال لهم أهل البادية: إن أهل القرى لا يحسنون القتال، ولا يدرون ما الحرب! فسترون إذا امتزنا من اين يجيء الخلل! فامتازوا، فما رئى يوم كان أحد ولا أعظم نكاية مما رئى يومئذ، ولم يدر أي الفريقين كان أشد فيهم نكاية! إلا أن المصيبة كانت في المهاجرين والأنصار أكثر منها في أهل البادية، وأن البقية أبدا في الشدة.
ورمى عبد الرحمن بْن أبي بكر المحكم بسهم فقتله وهو يخطب، فنحره وقتل زيد بْن الخطاب الرجال بْن عنفوة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُحَيْمٍ قَدْ شَهِدَهَا مَعَ خَالِدٍ، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ -وَكَانَتْ يَوْمَئِذٍ سِجَالا إِنَّمَا تَكُونُ مَرَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَرَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ- فَقَالَ خَالِدٌ: أَيُّهَا النَّاسُ امْتَازُوا لِنَعْلَمَ بَلاءَ كُلِّ حَيٍّ، وَلِنَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ نُؤْتَى! فَامْتَازَ أَهْلُ الْقُرَى وَالْبَوَادِي، وَامْتَازَتِ الْقَبَائِلُ من اهل البادية واهل الحاضر، فَوَقَفَ بَنُو كُلِّ أَبٍ عَلَى رَايَتِهِمْ، فَقَاتَلُوا جَمِيعًا، فَقَالَ أَهْلُ الْبَوَادِي يَوْمَئِذٍ: الآنَ يَسْتَحِرُّ الْقَتْلُ فِي الأَجْزَعِ الأَضْعَفِ، فَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي أَهْلِ الْقُرَى، وَثَبَتَ مُسَيْلِمَةُ، وَدَارَتْ رَحَاهُمْ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ خَالِدٌ أنَّهَا لا تَرْكُدُ إِلا بِقَتْلِ مُسَيْلِمَةَ، وَلَمْ تَحْفَلْ بَنُو حَنِيفَةَ بِقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ ثُمَّ بَرَزَ خَالِدٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ أَمَامَ الصَّفِّ دَعَا إِلَى الْبِرَازِ وَانْتَمَى، وَقَالَ: أَنَا ابْنُ الْوَلِيدِ الْعود، أَنَا ابْنُ عَامِرٍ وَزَيْدٍ! وَنَادَى بِشِعَارِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ يَوْمَئِذٍ: يَا مُحَمَّدَاهُ! فَجَعَلَ لا يَبْرُزُ لَهُ أَحَدٌ إِلا قَتَلَهُ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
أَنَا ابْنُ أَشْيَاخٍ وَسَيْفِي السَّخْتُ *** أَعْظَمُ شَيْءٍ حِينَ يَأْتِيكَ النَّفْتُ
وَلا يَبْرُزُ لَهُ شَيْءٌ إِلا أَكَلَهُ، ودارت رحا المسلمى وَطَحَنَتْ ثُمَّ نَادَى خَالِدٌ حِينَ دَنَا مِنْ مسيلمه -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنْ مَعَ مُسَيْلِمَةَ شَيْطَانًا لا يَعْصِيهِ، فَإِذَا اعْتَرَاهُ أَزْبَدَ كَأَنَّ شِدْقَيْهِ زَبِيبَتَانِ لا يَهِمُّ بِخَيْرٍ أَبَدًا إِلا صَرَفَهُ عَنْهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُ عَوْرَةً، فَلا تُقِيلُوهُ الْعَثْرَةَ»- فَلَمَّا دَنَا خَالِدٌ مِنْهُ طَلَبَ تِلْكَ، وَرَآهُ ثَابِتًا وَرَحَاهُمْ تَدُورُ عَلَيْهِ، وَعَرَفَ أَنَّهَا لا تَزُولُ إِلا بِزَوَالِهِ، فَدَعَا مُسَيْلِمَةَ طَلَبًا لِعَوْرَتِهِ، فَأَجَابَهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ مِمَّا يَشْتَهِي مُسَيْلِمَةُ، وَقَالَ: إِنْ قَبِلْنَا النِّصْفَ، فَأَيُّ الأَنْصَافِ تُعْطِينَا؟ فَكَانَ إِذَا هَمَّ بِجَوَابِهِ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ مُسْتَشِيرًا، فَيَنْهَاهُ شيطانه ان يَقْبَلَ، فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ مَرَّةً مِنْ ذَلِكَ، وَرَكِبَهُ خَالِدٌ فَأَرْهَقَهُ فَأَدْبَرَ، وَزَالُوا فَذَمَرَ خَالِدٌ النَّاسَ، وَقَالَ: دُونَكُمْ لا تُقِيلُوهُمْ! وَرَكِبُوهُمْ فَكَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ، فَقَالَ مُسَيْلِمَةُ حِينَ قَامَ، وَقَدْ تَطَايَرَ النَّاسُ عَنْهُ، وَقَالَ قَائِلُونَ: فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَعِدُنَا؟ فَقَالَ: قَاتِلُوا عَنْ أَحْسَابِكُمْ، قَالَ: وَنَادَى الْمُحَكِّمُ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، الْحَدِيقَةَ الْحَدِيقَةَ! وَيَأْتِي وَحْشِيٌّ عَلَى مُسَيْلِمَةَ وَهُوَ مُزْبِدٌ مُتَسَانِدٌ لا يَعْقِلُ مِنَ الْغَيْظِ، فَخَرَطَ عَلَيْهِ حَرْبَتَهُ فَقَتَلَهُ، وَاقْتَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ حَدِيقَةَ الْمَوْتِ مِنْ حِيطَانِهَا وَأَبْوَابِهَا، فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَحَدِيقَةُ الْمَوْتُ عَشَرَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن هارون، وطلحة، عن عمرو بْن شعيب وابن إسحاق أنهم لما امتازوا وصبروا، وانحازت بنو حنيفة تبعهم المسلمون يقتلونهم، حتى بلغوا بهم إلى حديقة الموت، فاختلفوا في قتل مسيلمة عندها، فقال قائلون: فيها قتل، فدخلوها وأغلقوها عليهم، وأحاط المسلمون بهم وصرخ البراء بْن مالك، فقال: يا معشر المسلمين، احملوني على الجدار حتى تطرحوني عليه، ففعلوا حتى إذا وضعوه على الجدار نظر وأرعد فنادى: أنزلوني، ثم قال: احملوني، ففعل ذلك مرارا ثم قال: أف لهذا خشعا! ثم قال: احملوني، فلما وضعوه على الحائط اقتحم عليهم، فقاتلهم على الباب حتى فتحه للمسلمين وهم على الباب من خارج فدخلوا، فأغلق الباب عليهم، ثم رمى بالمفتاح من وراء الجدار، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يروا مثله، وأبير من في الحديقة منهم، وقد قتل اللَّه مسيلمة، وقالت له بنو حنيفة: أين ما كنت تعدنا! قال: قاتلوا عن أحسابكم! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هارون وطلحة وابن إسحاق، قالوا: لما صرخ الصارخ أن العبد الأسود قتل مسيلمة، خرج خالد بمجاعة يرسف في الحديد ليريه مسيلمة، وأعلام جنده، فأتى على الرجال فقال: هذا الرِّجَالِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ أَتَى خَالِدٌ فَأُخْبِرَ، فَخَرَجَ بِمُجَّاعَةَ يَرْسُفُ مَعَهُ فِي الْحَدِيدِ لِيَدُلَّهُ عَلَى مُسَيْلِمَةَ، فَجَعَلَ يَكْشِفُ لَهُ الْقَتْلَى حَتَّى مَرَّ بِمُحَكِّمِ بْنِ الطُّفَيْلِ -وَكَانَ رَجُلا جَسِيمًا وَسِيمًا- فَلَمَّا رَآهُ خَالِدٌ، قَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ قَالَ: لا، هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَكْرَمُ، هَذَا مُحَكِّمُ الْيَمَامَةِ قَالَ: ثُمَّ مَضَى خَالِدٌ يَكْشِفَ لَهُ الْقَتْلَى حَتَّى دَخَلَ الْحَدِيقَةَ، فَقَلَبَ لَهُ الْقَتْلَى، فَإِذَا رُوَيْجِلٌ أُصَيْفِرُ أُخَيْنِس فَقَالَ مُجَّاعَةُ: هَذَا صَاحِبُكُمْ، قَدْ فَرَغْتُمْ مِنْهُ، فَقَالَ خَالِدٌ لِمُجَّاعَةَ: هَذَا صَاحِبُكُمُ الَّذِي فَعَلَ بِكُمْ مَا فَعَلَ، قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا خَالِدُ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا جَاءَكَ إِلا سَرْعَانُ النَّاسِ، وَإِنَّ جَمَاهِيرَ النَّاسِ لَفِي الْحُصُونِ فَقَالَ: وَيْلَكَ مَا تَقُولُ! قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ الْحَقُّ، فَهَلُمَّ لأُصَالِحُكَ عَلَى قَوْمِي.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الضحاك، عن أبيه، قال: كان رجل من بني عامر بْن حنيفة يدعى الأغلب بْن عامر بْن حنيفة، وكان أغلظ أهل زمانه عنقا، فلما انهزم المشركون يومئذ، وأحاط المسلمون بهم، تماوت، فلما أثبت المسلمون في القتلى أتى رجل من الأنصار يكنى أبا بصيرة ومعه نفر عليه، فلما رأوه مجدلا في القتلى وهم يحسبونه قتيلا، قالوا: يا أبا بصيرة، إنك تزعم- ولم تزل تزعم- أن سيفك قاطع، فاضرب عنق هذا الأغلب الميت، فإن قطعته فكل شيء كان يبلغنا حق، فاخترطه ثم مشى إليه ولا يرونه إلا ميتا، فلما دنا منه ثار، فحاضره، واتبعه أبو بصيرة، وجعل يقول: أنا أبو بصيرة الأنصاري! وجعل الأغلب يتمطر ولا يزداد منه إلا بعدا، فكلما قال ذلك أبو بصيرة، قال الأغلب: كيف ترى عدو أخيك الكافر! حتى أفلت كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنْ مُسَيْلِمَةَ وَالْجُنْدِ، قَالَ لَهُ عبد الله ابن عُمَرَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: ارْتَحِلْ بِنَا وَبِالنَّاسِ فَانْزِلْ عَلَى الْحُصُونِ، فَقَالَ: دَعَانِي أَبُثُّ الْخُيُولَ فَأَلْقُطُ مَنْ لَيْسَ فِي الْحُصُونِ، ثُمَّ أَرَى رَأْيِي.
فَبَثَّ الْخُيُولَ فَحَوَوْا مَا وَجَدُوا مِنْ مَالٍ وَنِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ، فَضَمُّوا هَذَا إِلَى الْعَسْكَرِ، وَنَادَى بِالرَّحِيلِ لِيَنْزِلَ عَلَى الْحُصُونِ، فَقَالَ لَهُ مُجَّاعَةُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا جَاءَكَ إِلا سَرْعَانُ النَّاسِ، وَإِنَّ الْحُصُونَ لَمَمْلُوءَةٌ رِجَالا، فَهَلُمَّ لَكَ إِلَى الصُّلْحِ عَلَى مَا وَرَائِي، فَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ دُونَ النُّفُوسِ ثُمَّ قَالَ: انْطَلِقْ إِلَيْهِمْ فَأُشَاوِرُهُمْ وَنَنْظُرُ فِي هَذَا الأَمْرِ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَيْكَ فَدَخَلَ مُجَّاعَةُ الْحُصُونَ، وَلَيْسَ فِيهَا إِلا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَمَشْيَخَةٌ فَانِيَةٌ، وَرِجَالٌ ضَعْفَى فَظَاهَرَ الْحَدِيدَ عَلَى النِّسَاءِ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَنْشُرْنَ شُعُورَهُنَّ، وَأَنْ يُشْرِفْنَ عَلَى رُءُوسِ الْحُصُونِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِنَّ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَى خَالِدًا فَقَالَ: قَدْ أَبَوْا أَنْ يُجِيزُوا مَا صَنَعْتَ، وَقَدْ أَشْرَفَ لَكَ بَعْضُهُمْ نَقْضًا عَلَيَّ وَهُمْ مِنِّي بَرَاءٌ فَنَظَرَ خَالِدٌ إِلَى رُءُوسِ الْحُصُونِ وَقَدِ اسْوَدَّتْ، وَقَدْ نَهَكَتِ الْمُسْلِمِينَ الْحَرْبُ، وَطَالَ اللِّقَاءُ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الظَّفْرِ، وَلَمْ يَدْرُوا مَا كَانَ كَائِنًا لَوْ كَانَ فِيهَا رِجَالٌ وَقِتَالٌ، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والانصار من اهل قصبه المدينة يومئذ ثلاثمائة وَسِتُّونَ قَالَ سَهْلٌ: وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ غَيْرِ اهل المدينة والتابعين باحسان ثلاثمائة من هؤلاء وثلاثمائة من هؤلاء، ستمائه أَوْ يَزِيدُونَ وَقُتِلَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ يَوْمَئِذٍ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ، فَرَمَى بِهَا قَاتلَهُ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ فِي الْفَضَاءِ بِعَقْرَبَاءِ سَبْعَةُ آلافٍ، وَفِي حَدِيقَةِ الْمَوْتِ سَبْعَةُ آلافٍ، وَفِي الطَّلَبِ نَحْوٌ مِنْهَا.
وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ فِي يَوْمِ الْيَمَامَةِ:
وَلَوْ سُئِلَتْ عَنَّا جَنُوبُ لأَخْبَرَتْ *** عَشِيَّةَ سَالَتْ عَقْرَبَاءُ وَمَلْهَمُ
وَسَالَ بِفَرْعِ الْوَادِ حَتَّى تَرَقْرَقَتْ *** حِجَارَتُهُ فِيهَا مِنَ الْقَوْمِ بِالدَّمِ
عَشِيَّةَ لا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا *** وَلا النَّبْلُ إِلا الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمِّمُ
فَإِنْ تَبْتَغِي الْكُفَّارَ غَيْرُ مَلِيمَةٍ *** جَنُوبُ، فَإِنِّي تَابِعُ الدِّينِ مُسْلِمُ
أُجَاهِدُ إِذْ كَانَ الْجِهَادُ غَنِيمَةً *** وَلَلَّهُ بِالْمَرْءِ الْمُجَاهِدِ أَعْلَمَ
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ مُجَّاعَةُ لِخَالِدٍ مَا قَالَ إِذْ قَالَ لَهُ: فَهَلُمَّ لأُصَالِحَكَ عَنْ قَوْمِي لِرَجُلٍ قَدْ نَهَكَتْهُ الْحَرْبُ، وَأُصِيبَ مَعَهُ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ مَنْ أُصِيبَ، فَقَدْ رَقَّ وَأَحَبَّ الدَّعَةَ وَالصُّلْحَ فَقَالَ: هَلُمَّ لأُصَالِحَكَ، فَصَالَحَهُ عَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْحَلَقَةِ وَنِصْفِ السَّبْيِ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي آتِي الْقَوْمَ فَأَعْرِضُ عَلَيْهِمْ مَا قَدْ صَنَعْتَ قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لِلنِّسَاءِ: الْبِسْنَ الْحَدِيدَ ثُمَّ أَشْرِفْنَ عَلَى الْحُصُونِ، فَفَعَلْنَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خَالِدٍ، وَقَدَ رَأَى خَالِدٌ الرِّجَالَ فِيمَا يَرَى عَلَى الْحُصُونِ عَلَيْهِمُ الْحَدِيدُ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى خَالِدٍ، قَالَ: أَبَوْا مَا صَالَحْتُكَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ صَنَعْتُ لَكَ شَيْئًا، فَعَزَمْتُ عَلَى الْقَوْمِ قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مِنِّي رُبْعَ السَّبْيِ وَتَدَعُ رُبْعًا قَالَ خَالِدٌ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: قَدْ صَالَحْتُكَ، فَلَمَّا فَرَغَا فُتِحَتِ الْحُصُونُ، فَإِذَا لَيْسَ فِيهَا إِلا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَقَالَ خَالِدٌ لِمُجَّاعَةَ: وَيْحَكَ خَدَعْتَنِي! قَالَ: قَوْمِي، وَلَمْ أَسْتَطِعْ إِلا مَا صَنَعْتُ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، قال: قال مجاعة يومئذ ثانية: إن شئت أن تقبل مني نصف السبي والصفراء والبيضاء والحلقة والكراع عزمت وكتبت الصلح بيني وبينك.
ففعل خالد ذلك، فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة والكراع وعلى نصف السبي وحائط من كل قرية يختاره خالد، ومزرعة يختارها خالد.
فتقاضوا على ذلك، ثم سرحه، وقال: أنتم بالخيار ثلاثا، والله لئن تتموا وتقبلوا لأنهدن إليكم، ثم لا أقبل منكم خصلة أبدا إلا القتل فأتاهم مجاعة فقال: أما الآن فاقبلوا، فقال سلمة بْن عمير الحنفي: لا والله لا نقبل، نبعث إلى أهل القرى والعبيد فنقاتل ولا نقاضي خالدا، فإن الحصون حصينة والطعام كثير، والشتاء قد حضر فقال مجاعة: إنك امرؤ مشئوم، وغرك أني خدعت القوم حتى أجابوني إلى الصلح، وهل بقي منكم أحد فيه خير، أو به دفع! وإنما أنا بادرتكم قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة، فخرج مجاعة سابع سبعة حتى أتى خالدا، فقال: بعد شد ما رضوا، اكتب كتابك، فكتب: هذا ما قاضى عليه خالد بْن الوليد مجاعة بْن مرارة وسلمة بْن عمير وفلانا وفلانا، قاضاهم على الصفراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية، ومزرعة، على أن يسلموا ثم أنتم آمنون بأمان اللَّه، ولكم ذمة خالد بْن الوليد وذمة أبي بكر خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذمه المسلمين على الوفاء.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن عكرمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا صَالَحَ خَالِدٌ مُجَّاعَةَ، صَالَحَهُ عَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْحَلَقَةِ وَكُلِّ حَائِطٍ رضَانَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ وَنِصْفِ الْمَمْلُوكِينَ. فَأَبَوْا ذَلِكَ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ عُمَيْرٍ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، قَاتِلُوا عَنْ أَحْسَابِكُمْ، وَلا تُصَالِحُوا عَلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ الْحِصْنَ حَصِينٌ، وَالطَّعَامَ كَثِيرٌ وَقَدْ حَضَرَ الشِّتَاءُ فَقَالَ مُجَّاعَةُ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، أَطِيعُونِي وَاعْصُوا سَلَمَةَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَشْئُومٌ، قَبْلَ أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة قَبْلَ أَنْ تُسْتَرْدَفَ النِّسَاءُ غَيْرَ رَضِيَّاتٍ، وَيُنْكَحْنَ غير خطيبات فَأَطَاعُوهُ وَعَصَوْا سَلَمَةَ، وَقَبِلُوا قَضْيَتَهُ.
وَقَدْ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكِتَابٍ إِلَى خَالِدٍ مَعَ سَلَمَةَ بْنِ سَلامَةَ بْنِ وَقشٍ، يَأْمُرُهُ إِنْ ظَفَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يقتل من جرت عليه المواسى مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَقَدِمَ فَوَجَدَهُ قَدْ صَالَحَهُمْ، فَوَفَّى لَهُمْ، وَتَمَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَحُشِرَتْ بَنُو حَنِيفَةَ إِلَى الْبَيْعَةِ وَالْبَرَاءَةِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إِلَى خَالِدٍ، وَخَالِدٌ فِي عَسْكَرِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَالَ سَلَمَةُ بْنُ عُمَيْرٍ لِمُجَّاعَةَ: اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى خَالِدٍ أُكَلِّمُهُ فِي حَاجَةٍ لَهُ عِنْدِي وَنَصِيحَةٍ -وَقَدْ أَجْمَعَ أَنْ يَفْتِكَ بِهِ- فَكَلَّمَهُ فَأَذِنَ لَهُ، فَأَقْبَلَ سَلَمَةُ بْنُ عُمَيْرٍ، مُشْتَمِلا عَلَى السَّيْفِ يُرِيدُ مَا يُرِيدُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الْمُقْبِلُ؟ قَالَ مُجَّاعَةُ: هَذَا الَّذِي كَلَّمْتُكَ فِيهِ، وَقَدْ أَذِنْتَ لَهُ، قَالَ: أَخْرِجُوهُ عَنِّي، فَأَخْرَجُوهُ عَنْهُ، فَفَتَّشُوهُ فَوَجَدُوا مَعَهُ السَّيْفَ، فَلَعَنُوهُ وَشَتَمُوهُ وَأَوْثَقُوهُ، وَقَالُوا: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تُهْلِكَ قَوْمَكَ، وَايْمِ اللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلا أَنْ تُسْتَأْصَلُ بَنُو حَنِيفَةَ، وَتُسْبَى الذَّرِيَّةُ وَالنِّسَاءُ، وَايْمِ اللَّهِ لَوْ أَنَّ خَالِدًا عَلِمَ أَنَّكَ حَمَلْتَ السِّلاحَ لَقَتَلَكَ، وَمَا نَأْمَنُهُ إِنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ أَنْ يَقْتُلَكَ وَأَنْ يَقْتُلَ الرِّجَالَ وَيُسْبِيَ النِّسَاءَ بِمَا فَعَلْتَ، وَيَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ مَلإٍ مِنَّا فَأَوْثَقُوهُ وَجَعَلُوهُ فِي الْحِصْنِ، وَتَتَابَعَ بَنُو حَنِيفَةَ عَلَى الْبَرَاءِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى الإِسْلامِ، وَعَاهَدَهُمْ سَلَمَةُ عَلَى أَلا يُحْدِثُ حَدَثًا وَيُعْفُوهُ، فَأَبَوْا وَلَمْ يَثِقُوا بِحُمْقِهِ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ عَهْدًا، فَأَفْلَتَ لَيْلا، فَعَمَدَ إِلَى عَسْكَرِ خَالِدٍ، فَصَاحَ بِهِ الْحَرَسُ، وَفَزِعَتْ بَنُو حَنِيفَةَ، فَاتَّبَعُوهُ فَأَدْرَكُوهُ فِي بَعْضِ الْحَوَائِطِ، فَشَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ، فَاكْتَنَفُوهُ بِالْحِجَارَةِ، وَأَجَالَ السَّيْفَ عَلَى حَلْقِهِ فَقَطَعَ أَوْدَاجَهُ، فَسَقَطَ فِي بِئْرٍ فَمَاتَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَالَحَ خَالِدٌ بَنِي حَنِيفَةَ جَمِيعًا إِلا مَا كَانَ بِالْعَرْضِ وَالْقَرْيَةِ فَإِنَّهُمْ سُبُوا عِنْدَ انْبِثَاثِ الْغَارَةِ، فَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مِمَّنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَسْمُ بِالْعَرْضِ وَالْقَرْيَةِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ أَوْ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ او يشكر، خمسمائة رَأْسٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ خَالِدًا قَالَ لِمُجَّاعَةَ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ، فَقَالَ لَهُ مُجَّاعَةُ: مَهْلا، إِنَّكَ قَاطِعٌ ظَهْرِي وَظَهْرَكَ مَعِي عِنْدَ صَاحِبِكَ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، زَوِّجْنِي، فَزَوَّجَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا يقطر الدم: لعمري يا بن أُمِّ خَالِدٍ، إِنَّكَ لَفَارِغٌ تَنْكِحُ النِّسَاءَ وَبِفِنَاءِ بَيْتِكَ دَمُ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجْفُفْ بَعْدُ! قَالَ: فَلَمَّا نَظَرَ خَالِدٌ فِي الْكِتَابِ جَعَلَ يَقُولُ: هَذَا عَمَلُ الأُعَيْسِرِ -يَعْنِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- وَقَدْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَفْدًا مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: وَيْحَكُمْ! مَا هَذَا الَّذِي اسْتَزَلَّ مِنْكُمْ مَا اسْتَزَلَّ! قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، قَدْ كَانَ الَّذِي بَلَغَكَ مِمَّا أَصَابَنَا كَانَ امرا لَمْ يُبَارِكِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ وَلا لِعَشِيرَتِهِ فِيهِ، قَالَ: عَلَى ذَلِكَ، مَا الَّذِي دَعَاكُمْ بِهِ! قَالُوا: كَانَ يَقُولُ: يَا ضُفْدَعُ نَقِّي نَقِّي، لا الشَّارِبَ تَمْنَعِينَ، وَلا الْمَاءَ تَكْدُرِينَ، لَنَا نِصْفُ الأَرْضِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفُ الأَرْضِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُّونَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَيْحَكُمْ! إِنَّ هَذَا لَكَلامٌ مَا خَرَجَ مِنْ إِلٍّ وَلا برٍّ، فَأَيْنَ يَذْهَبُ بِكُمْ! فَلَمَّا فَرَغَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْيَمَامَةِ- وَكَانَ مَنْزِلُهُ الَّذِي بِهِ الْتَقَى النَّاسَ أَبَاضَ، وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الْيَمَامَةِ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى وَادٍ مِنْ أوديتها يقال له الوبر- كان مَنْزِلُهُ بِهَا.
ذكر خبر أهل البحرين وردة الحطم ومن تجمع معه بالبحرين
قال أبو جعفر: وكان فيما بلغنا من خبر أهل البحرين وارتداد من ارتد منهم ما حَدَّثَنَا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا سيف، قال: خرج العلاء بْن الحضرمي نحو البحرين، وكان من حديث البحرين ان النبي صلى الله عليه وسلم والمنذر بْن ساوى اشتكيا في شهر واحد، ثم مات المنذر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، وارتد بعده أهل البحرين، فأما عبد القيس ففاءت، وأما بكر فتمت على ردتها، وكان الذي ثنى عبد القيس الجارود حتى فاءوا.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قال: أخبرنا سيف، عن إسماعيل بن مسلم، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: قَدِمَ الجارود بن المعلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرتادا، فَقَالَ: «أَسْلِمْ يَا جَارُودُ»، فَقَالَ: إِنَّ لِي دينا، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ دِينَكَ يَا جَارُودُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ بِدِينٍ»، فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: فَإِنْ أَنَا أَسْلَمْتُ فَمَا كَانَ مِنْ تَبَعَةٍ فِي الإِسْلامِ فَعَلَيْكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَأَسْلَمَ وَمَكَثَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى فَقِهَ.
فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَجِدُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ ظَهْرًا نَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «مَا أَصْبَحَ عِنْدَنَا ظَهْرٌ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَجِدُ بِالطَّرِيقِ ضَوَالَّ مِنْ هَذِهِ الضَّوَالِّ، قَالَ: «تِلْكَ حرق النَّارِ، فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهَا» فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَأَجَابُوهُ كُلُّهُمْ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا مَاتَ، وَارْتَدُّوا، وَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَبَعَثَ فِيهِمْ فَجَمَعَهُمْ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ عَبْدِ الْقَيْسِ، إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَأَخْبِرُونِي بِهِ إِنْ عَلِمْتُمُوهُ وَلا تُجِيبُونِي إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا قَالُوا: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، قَالَ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ لِلَّهِ أَنْبِيَاءٌ فِيمَا مَضَى؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُونَهُ أَوْ تَرَوْنَهُ؟ قَالُوا: لا بَلْ نَعْلَمُهُ، قَالَ: فَمَا فَعَلُوا؟ قَالُوا: ماتوا، قال: فان محمدا صلى الله عليه وسلم مَاتَ كَمَا مَاتُوا، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدا عبده ورسوله، قَالُوا: وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا وَثَبَتُوا عَلَى إِسْلامِهِمْ، وَلَمْ يُبْسِطُوا وَلَمْ يُبْسَطْ إِلَيْهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَ سَائِرِ رَبِيعَةَ وَبَيْنَ الْمُنْذِرِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ الْمُنْذِرُ مِشْتَغِلا بِهِمْ حَيَاتَهُ، فَلَمَّا مَاتَ الْمُنْذِرُ حُصِرَ أَصْحَابُ الْمُنْذِرِ فِي مَكَانَيْنِ حَتَّى تَنَقَّذَهُمُ الْعَلاءُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْيَمَامَةِ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَكَانَ الْعَلاءُ هو الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيِّ، فَأَسْلَمَ الْمُنْذِرُ، فَأَقَامَ بِهَا الْعَلاءُ أَمِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَاتَ الْمُنْذِرُ بْنُ سَاوَى بِالْبَحْرَيْنِ بَعْدَ مُتَوَفَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِعُمَانَ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَعَمْرٌو بِهَا فَأَقْبَلَ عَمْرٌو، فَمَرَّ بِالْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى وَهُوَ بِالْمَوْتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ الْمُنْذِرُ له: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجْعَلُ لِلْمَيِّتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ؟ قَالَ عَمْرٌو: فَقُلْتُ لَهُ: كَانَ يَجْعَلُ لَهُ الثُّلُثَ، قَالَ: فَمَا تَرَى لِي أَنْ أَصْنَعَ فِي ثُلُثِ مَالِي؟ قَالَ عَمْرٌو: فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ شِئْتَ قَسَّمْتَهُ فِي أَهْلِ قَرَابَتِكَ، وَجَعَلْتَهُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَإِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهِ فَجَعَلْتَهُ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً تَجْرِي مِنْ بَعْدِكَ عَلَى مَنْ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَيْهِ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَ مِنْ مَالِي شَيْئًا مُحَرَّمًا كَالْبُحَيْرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي وَلَكِنْ أُقَسِّمُهُ، فَأُنْفِذُهُ عَلَى مَنْ أَوْصَيْتُ بِهِ لَهُ يَصْنَعُ بِهِ مَا يَشَاءُ قَالَ:: فَكَانَ عَمْرٌو يَعْجَبُ لَهَا مِنْ قَوْلِهِ وَارْتَدَّتْ رَبِيعَةُ بِالْبَحْرَيْنِ فِيمَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ، إِلا الْجَارُودَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَنَشِ بْنِ مُعَلَّى، فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَلَى الإِسْلامِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَامَ حِينَ بَلَغَتْهُ وفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَارْتِدَادُ الْعَرَبِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأُكَفِّرُ مَنْ لا يَشْهَدُ وَاجْتَمَعَتْ رَبِيعَةُ بِالْبَحْرَيْنِ وَارْتَدَّتْ، فَقَالُوا: نَرُدُّ الْمُلْكَ فِي آلِ الْمُنْذِرِ، فَمَلَّكُوا الْمُنْذِرَ بْنَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَكَانَ يُسَمَّى الْغَرُورَ، وَكَانَ يَقُولُ حِينَ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ النَّاسُ وَغَلَبَهُمُ السَّيْفُ: لَسْتُ بِالْغَرُورِ، وَلَكِنِّي الْمَغْرُورُ حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف، عن إسماعيل بْن مسلم، عن عمير بْن فلان العبدى، قال: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم خرج الحطم بْن ضبيعة أخو بني قيس بْن ثعلبة فيمن اتبعه من بكر بْن وائل على الردة، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافرا، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة، وبعث بعثا إلى دارين، فأقاموا له ليجعل عبد القيس بينه وبينهم، وكانوا مخالفين لهم، يمدون المنذر والمسلمين، وأرسل إلى الغرور بْن سويد، أخي النعمان بْن المنذر، فبعثه الى جؤاثى، وقال: اثبت، فإني إن ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة وبعث الى جؤاثى، فحصرهم وألحوا عليهم فاشتد على المحصورين الحصر، وفي المسلمين المحصورين رجل من صالح المسلمين يقال له عبد اللَّه بْن حذف، أحد بني أبي بكر بْن كلاب، وقد اشتد عليه وعليهم الجوع حتى كادوا أن يهلكوا وقال في ذلك عبد اللَّه بْن حذف:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا *** وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام *** قعود في جؤاثى محصرينا!
كأن دماءهم في كل فج *** شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا *** وجدنا الصبر للمتوكلينا
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن الصعب بن عطية ابن بِلالٍ، عَنْ سَهْمِ بْنِ مِنْجَابٍ، عَنْ مِنْجَابِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ: بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ بِالْبَحْرَيْنِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ إِلَيْهَا، فَكَانَ بِحِيَالِ الْيَمَامَةِ، لَحِقَ بِهِ ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ فِي مُسْلِمَةِ بَنِي حنيفه مِنْ بَنِي سُحَيْمٍ وَمِنْ أَهْلِ الْقُرَى مِنْ سَائِرِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ مُتَلَدِّدًا، وَقَدْ أَلْحَقَ عِكْرِمَةَ بِعُمَانَ ثُمَّ مَهْرَةَ، وَأَمَرَ شُرَحْبِيلَ بِالْمقَامِ حَيْثُ انْتَهَى إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ أَمْرُ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يُغَاوِرُ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَهْلَ الرِّدَّةِ مِنْ قُضَاعَةَ فَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَكَانَ يُغَاوِرُ سَعْدًا وَبليا وأمر هذا بكلب ولفها، فَلَمَّا دَنَا مِنَّا وَنَحْنُ فِي عُلْيَا الْبِلادِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ لَهُ فَرَسٌ مِنَ الرَّبَابِ وَعَمْرو بن تَمِيمٍ إِلا جنبه، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ، فَأَمَّا بَنُو حَنْظَلَةَ فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا رِجْلا وَأَخَّرُوا أُخْرَى وَكَانَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ فِي الْبِطَاحِ وَمَعَهُ جُمُوعٌ يُسَاجِلُنَا وَنُسَاجِلُهُ.
وَكَانَ وَكِيعُ بْنُ مَالِكٍ فِي الْقَرْعَاءِ مَعَهُ جُمُوعٌ يُسَاجِلُ عَمْرًا وَعَمْرٌو يُسَاجِلُهُ، وَأَمَّا سَعْدُ بْنُ زَيْدِ مَنَاةَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ، فَأَمَّا عَوْفٌ وَالأَبْنَاءُ فَإِنَّهُمْ أَطَاعُوا الزِّبْرَقَانَ بْنَ بَدْرٍ، فَثَبَتُوا عَلَى إِسْلامِهِمْ وَتَمُّوا وَذَبُّوا عَنْهُ، وَأَمَّا الْمَقَاعِسُ والبطون فإنهما اصاخا وَلَمْ يُتَابِعَا، إِلا مَا كَانَ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، فَإِنَّهُ قَسَّمَ الصَّدَقَاتَ الَّتِي كَانَتِ اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ فِي الْمَقَاعِسِ وَالْبُطُونِ حِينَ شَخَصَ الزِّبْرِقَانُ بِصَدَقَاتِ عَوْفٍ وَالأَبْنَاءِ، فَكَانَتْ عَوْفٌ وَالأَبْنَاءُ مَشَاغِيلٌ بِالْمَقَاعِسِ وَالْبُطُونِ فَلَمَّا رَأَى قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ مَا صَنَعَتِ الربابُ وَعَمْرٌو مِنْ تَلَقِّي الْعَلاءِ نَدَمَ عَلَى مَا كَانَ فرط مِنْهُ، فَتَلَقَّى الْعَلاءُ بِإِعْدَادِ مَا كَانَ قسم مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَنَزَعَ عَنْ أَمْرِهِ الَّذِي كَانَ هَمَّ بِهِ، وَاسْتَاقَ حَتَّى أَبْلَغَهَا إِيَّاهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ إِلَى قِتَالِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا كَمَا قَالَ الزِّبْرِقَانُ فِي صَدَقَتِهِ حِينَ أَبْلَغَهَا أَبَا بَكْرٍ، وَكَانَ الَّذِي قَالَ الزِّبْرِقَانُ فِي ذَلِكَ:
وَفَيْتُ بِأَذْوَادِ الرَّسُولِ وَقَدْ أَبَتْ *** سُعَاةٌ فَلَمْ يَرْدُدْ بَعِيرًا مُجِيرُهَا
مَعًا وَمَنَعْنَاهَا مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ *** تُرَامِي الأَعَادِي عِنْدَنَا مَا يُضِيرُهَا
فَأَدَّيْتُهَا كَيْ لا أَخُونَ بِذِمَّتِي *** مَحَانِيقَ لَمْ تُدْرَسْ لِرَكْبٍ ظُهُورُهَا
أَرَدْتُ بِهَا التَّقْوَى وَمَجْدَ حَدِيثِهَا *** إِذَا عُصْبَة سامى قبيلي فَخُورُهَا
وَإِنِّي لَمِنْ حَيٍّ إِذَا عُدَّ سَعْيُهُمْ *** يَرَى الْفَخْرَ مِنْهَا حَيُّهَا وَقُبُورُهَا
أَصَاغِرُهُمْ لَمْ يَضْرَعُوا وَكِبَارُهُمْ *** رَزَانٌ مَرَاسِيهَا، عِفَافٌ صُدُورُهَا
وَمِنْ رَهْطِ كَنادِ تَوَفَّيْتُ ذِمَّتِي *** وَلَمْ يَثْنِ سَيْفِي نَبْحُهَا وَهَرِيرُهَا
وَلِلَّهِ ملك قَدْ دَخَلْتُ وَفَارِسٍ *** طَعَنْتُ إِذَا مَا الْخَيْلِ شَدَّ مُغِيرُهَا
فَفَرَّجْتُ أُولاهَا بِنَجْلاءِ ثَرَّةٍ *** بِحَيْثُ الَّذِي يَرْجُو الْحَيَاةَ يُضِيرُهَا
وَمَشْهَدِ صِدْقٍ قَدْ شَهِدْتُ فَلَمْ أَكُنْ *** بِهِ خَامِلا وَالْيَوْمُ يُثْنَى مَصِيرُهَا
أَرَى رَهْبَةَ الأَعْدَاءِ مِنِّي جَرَاءَةً *** وَيَبْكِي إِذَا مَا النَّفْسُ يُوحَى ضَمِيرُهَا
وَقَالَ قَيْسٌ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْعَلاءِ بِالصَّدَقَةِ:
أَلا أَبْلِغَا عَنِّي قُرَيْشًا رِسَالَةً *** إِذَا مَا أَتَتْهَا بَيِّنَاتُ الْوَدَائِعِ
حَبَوْتُ بها في الدهر اعراض منقر *** وأيأست مِنْهَا كل أطلس طامع
وجدت أبي والخال كانا بنجوة *** بقاع فلم يحلل بها من ادافع
فاكرمه العلاء، وخرج مع العلاء من عَمْرٍو وَسَعْدٍ الرَّبَّابِ مِثْلَ عَسْكَرِهِ، وَسَلَكَ بِنَا الدَّهْنَاءَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي بُحْبُوحَتِهَا وَالْحَنانَاتِ وَالْعَزَّافَاتِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَأَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرِيَنَا آيَاتِهِ نَزَلَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالنُّزُولِ، فَنَفَرَتِ الإِبِلُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَمَا بَقِيَ عِنْدَنَا بَعِيرٌ وَلا زَادٌ وَلا مَزَادٌ وَلا بِنَاءٌ إِلا ذَهَبَ عَلَيْهَا فِي عَرَضِ الرَّمْلِ، وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ النَّاسُ، وَقَبْلَ أَنْ يَحُطُّوا، فَمَا عَلِمْتُ جَمْعًا هَجَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَمِّ مَا هَجَمَ عَلَيْنَا وَأَوْصَى بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، وَنَادَى مُنَادِي الْعَلاءِ: اجْتَمِعُوا، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي ظَهَرَ فِيكُمْ وَغَلَبَ عَلَيْكُمْ؟ فَقَالَ النَّاسُ: وَكَيْفَ نُلامُ وَنَحْنُ إِنْ بَلَغْنَا غَدًا لَمْ تَحْمِ شَمْسُهُ حَتَّى نَصِيرَ حَدِيثًا! فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لا تُرَاعُوا، أَلَسْتُمْ مُسْلِمِينَ! أَلَسْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! أَلَسْتُمْ أَنْصَارَ الله! قالوا: بلى، قال: فابشروا، فو الله لا يَخْذُلُ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِكُمْ وَنَادَى الْمُنَادِي بِصَلاةِ الصُّبْحِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى بِنَا، وَمِنَّا الْمُتَيَمِّمُ، وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَزَلْ عَلَى طُهُورِهِ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ وَجَثَا النَّاسُ، فَنَصَبَ فِي الدُّعَاءِ وَنَصَبُوا مَعَهُ، فَلَمَعَ لَهُمْ سَرَابُ الشَّمْسِ، فَالْتَفَتَ إِلَى الصَّفِّ، فَقَالَ: رَائِدٌ يَنْظُرُ مَا هَذَا؟ فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: سَرَابٌ، فَأَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ، ثُمَّ لَمَعَ لَهُمْ آخَرُ فَكَذَلِكَ، ثُمَّ لَمَعَ لَهُمْ آخَرُ، فَقَالَ: مَاءٌ، فَقَامَ وَقَامَ النَّاسُ، فَمَشَيْنَا إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلْنَا عَلَيْهِ، فَشَرِبْنَا وَاغْتَسَلْنَا، فَمَا تَعَالَى النَّهَارُ حَتَّى أَقْبَلَتِ الإِبِلُ تكرد مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَنَاخَتْ إِلَيْنَا، فَقَامَ كُلُّ رَجُلٍ إِلَى ظَهْرِهِ، فَأَخَذَهُ، فَمَا فَقَدْنَا سَلكًا فَأَرْوَيْنَاهَا وَأَسْقَيْنَاهَا العللَ بَعْدَ النَّهْلِ، وَتَرَوَّيْنَا ثُمَّ تَرَوَّحْنَا -وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَفِيقِي- فَلَمَّا غِبْنَا عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، قَالَ لِي: كَيْفَ علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: أَنَا مَنْ أَهْدِي الْعَرَبَ بِهَذِهِ الْبِلادِ قَالَ: فَكُنْ مَعِي حَتَّى تُقِيمَنِي عَلَيْهِ، فَكَرَرْتُ بِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا هُوَ لا غَدِيرَ بِهِ، وَلا أَثَرَ لِلْمَاءِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهُ لَوْلا أَنِّي لا أَرَى الْغَدِيرَ لأَخْبَرْتُكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَكَانُ، وَمَا رَأَيْتُ بِهَذَا الْمَكَانِ مَاءً نَاقِعًا قَبْلَ الْيَوْمِ، وَإِذَا إِدَاوَةٌ مَمْلُوءَةٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا سَهْمٍ، هَذَا وَاللَّهِ الْمَكَانُ، وَلِهَذَا رَجَعْتُ وَرَجَعْتُ بِكَ وَمَلأتُ إِدَاوَتِي ثُمَّ وَضَعْتُهَا عَلَى شَفِيرِهِ، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ مَنًّا مِنَ الْمَنِّ وَكَانَتْ آيَةً عَرَفْتُهَا، وَإِنْ كَانَ غِيَاثًا عَرَفْتُهُ، فَإِذًا مَنٌّ مِنَ المَنِّ، فَحَمَدَ اللَّهَ، ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى نَنْزِلَ هَجَرَ قَالَ: فَأَرْسَلَ الْعَلاءُ إِلَى الْجَارُودِ وَرَجُلٍ آخَرَ أَنِ انْضَمَّا فِي عَبْدِ الْقَيْسِ حَتَّى تَنْزِلا عَلَى الْحَطمِ مِمَّا يَلِيكُمَا، وَخَرَجَ هُوَ فِيمَنْ جَاءَ مَعَهُ وَفِيمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ، حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِمَّا يَلِي هَجَرَ، وَتَجَمَّعَ الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ إِلَى الْحطمِ إِلا أَهْلَ دَارِينَ، وَتَجَمَّعَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ إِلَى الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَخَنْدَقَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَكَانُوا يَتَرَاوَحُونَ الْقِتَالَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى خَنْدَقِهِمْ، فَكَانُوا كَذَلِكَ شَهْرًا، فَبَيْنَا النَّاسُ لَيْلَةً إِذْ سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ ضَوْضَاءً شَدِيدَةً، كَأَنَّهَا ضَوْضَاءُ هَزِيمَةٍ أَوْ قِتَالٍ، فَقَالَ الْعَلاءُ: مَنْ يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد الله ابن حذفٍ: أَنَا آتِيكُمْ بِخَبَرِ الْقَوْمِ -وَكَانَتْ أُمُّهُ عِجْلِيَّةً- فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ خَنْدَقِهِمْ أَخَذُوهُ، فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُمْ، وَجَعَلَ يُنَادِي: يَا أَبْجَرَاهُ! فَجَاءَ أَبْجَرُ بْنُ بُجَيْرٍ، فَعَرَفَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: لا أَضِيعَنَّ اللَّيْلَةَ بَيْنَ اللَّهَازِمِ! عَلامَ أُقْتَلُ وَحَوْلِي عَسَاكِرُ مِنْ عِجْلٍ وَتَيْمِ اللاتِ وَقَيْسٍ وَعَنْزَةَ! أَيَتَلاعَبُ بِي الحطمُ وَنِزَاعُ الْقَبَائِلِ وَأَنْتُمْ شُهُودٌ! فَتَخَلَّصَهُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَظُنُّكَ بِئْسَ ابْنُ الأُخْتِ لأَخْوَالِكَ اللَّيْلَةَ! فَقَالَ: دَعْنِي مِنْ هَذَا وَأَطْعِمْنِي، فَإِنِّي قَدْ مِتُّ جُوعًا فَقَرَّبَ لَهُ طَعَامًا، فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ: زَوِّدْنِي وَاحْمِلْنِي وَجَوِّزْنِي انْطَلِقْ إِلَى طَيَّتِي.
وَيَقُولُ ذَلِكَ لِرَجُلٍ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّرَابُ، فَفَعَلَ وَحَمَلَهُ عَلَى بَعِيرٍ، وَزَوَّدَهُ وَجَوَّزَهُ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حذفٍ حَتَّى دَخَلَ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقَوْمَ سُكَارَى، فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حَتَّى اقْتَحَمُوا عَلَيْهِمْ عَسْكَرَهُمْ، فَوَضَعُوا السُّيُوفَ فِيهِمْ حَيْثُ شَاءُوا، وَاقْتَحَمُوا الْخَنْدَقَ هُرَّابا، فَمُتَرَدٌّ، وَنَاجٍ وَدَهِشٌ، وَمَقْتُولٌ أَوْ مَأْسُورٌ، وَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا فِي الْعَسْكَرِ، لم يفلت رَجُلٌ إِلا بِمَا عَلَيْهِ، فَأَمَّا أَبْجَرُ فَأَفْلَتَ، وَأَمَّا الْحطمُ فَإِنَّهُ بَعِلَ وَدَهِشَ، وَطَارَ فُؤَادُهُ، فَقَامَ إِلَى فَرَسِهِ -وَالْمُسْلِمُونَ خِلالُهُمْ يَجُوسُونَهُمْ- لِيَرْكَبَهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ انْقَطَعَ بِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، وَالحطمُ يَسْتَغِيثُ وَيَقُولُ: أَلا رَجُلٌ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ يَعْقِلُنِي! فَرَفَعَ صَوْتَهُ، فَعَرَفَ صَوْتَهُ، فَقَالَ: أَبُو ضُبَيْعَةَ! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَعْطِنِي رِجْلَكَ أُعْقِلَكَ، فَأَعْطَاهُ رِجْلَهُ يَعْقِلَهُ، فَنَفَحَهَا فَأَطَنَّهَا مِنَ الْفَخِذِ، وتَرَكَهُ، فَقَالَ: أَجْهِزْ عَلَيَّ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَلا تَمُوتَ حَتَّى أمضكَ.
-وَكَانَ مَعَ عَفِيفٍ عِدَّةٌ مِنْ وَلَدِ أَبِيهِ، فَأُصِيبُوا ليلتئذ- وَجَعَلَ الحطمُ لا يَمُرُّ بِهِ فِي اللَّيْلِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا قَالَ: هَلْ لَكَ فِي الْحطمِ أَنْ تَقْتُلَهُ؟ وَيَقُولُ:
ذَاكَ لِمَنْ لا يَعْرِفُهُ، حَتَّى مَرَّ بِهِ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَمَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا رَأَى فخذه نادره، قال: وا سوأتاه! لَوْ عَلِمْتُ الَّذِي بِهِ لَمْ أُحَرِّكْهُ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ مَا أَحْرَزُوا الْخَنْدَقَ عَلَى الْقَوْمِ يَطْلُبُونَهُمْ، فاتَّبَعُوهُمْ، فَلَحِقَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ أَبْجَرَ -وَكَانَ فَرَسُ أَبْجَرَ أَقْوَى مِنْ فَرَسِ قَيْسٍ- فَلَمَّا خَشِيَ أَنْ يَفُوتَهُ طَعَنَهُ فِي الْعُرْقُوبِ فَقَطَعَ الْعَصَبَ، وَسَلمَ النَّسَا، فَكَانَتْ رَادَّةً، وَقَالَ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ:
فَإِنْ يَرْقَإِ الْعُرْقُوبُ لا يَرْقَإِ النَّسَا *** وَمَا كُلُّ مَنْ يَهْوَى بِذَلِكَ عَالِمُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّا قَدْ فَلَلْنَا حُمَاتَهُمْ *** بِأَسْرَةِ عَمْرٍو وَالرَّبَابُ الأَكَارِمُ
وَأَسَرَ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْغَرُورَ بْنَ سُوَيْدٍ، فَكَلَّمَتْهُ الرَّبَابُ فِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ ابْنُ أُخْتِ التَّيْمِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُجِيرَهُ، فَقَالَ لِلْعَلاءِ: إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ هَذَا، قَالَ: وَمَنْ هَذَا؟ قَالَ: الْغَرُورُ، قَالَ: أَنْتَ غَرَرْتَ هَؤُلاءِ، قَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنِّي لَسْتُ بِالْغَرُورِ، وَلَكِنِّي الْمَغْرُورُ، قَالَ: أَسْلِمْ، فَأَسْلَمَ وَبَقِيَ بِهَجَرَ، وَكَانَ اسْمُهُ الْغَرُورُ، وَلَيْسَ بِلَقَبٍ، وَقَتَلَ عَفِيفٌ الْمُنْذِرَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَخَا الْغَرُورِ لأُمِّهِ، وَأَصْبَحَ الْعَلاءُ فَقَسَّمَ الأَنْفَالَ، وَنَفَّل رِجَالا مِنْ أَهْلِ الْبَلاءِ ثِيَابًا، فَكَانَ فِيمَنْ نُفِلَ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ وَثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَأَمَّا ثُمَامَةُ فَنُفِلَ ثِيَابًا فِيهَا خَمِيصَةٌ ذَاتُ أَعْلامٍ، كَانَ الْحطمُ يُبَاهِي فِيهَا، وَبَاع الثِّيَابَ وَقَصَدَ عَظم الفلال لدارين، فَرَكِبُوا فِيهَا السفن، وَرَجَعَ الآخَرُونَ إِلَى بِلادِ قَوْمِهِمْ، فَكَتَبَ الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى مَنْ أَقَامَ عَلَى إِسْلامِهِ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فِيهِمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى عُتَيْبَةَ بْنِ النَّهَّاسِ وَإِلَى عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الأَسْوَدِ بِلُزُومِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَالْقُعُودِ لأَهْلِ الرِّدَّةِ بِكُلِّ سَبِيلٍ، وَأَمَرَ مِسْمَعًا بِمُبَادَرَتِهِمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى خصفةَ التَّمِيمِيِّ وَالْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيِّ، فَأَقَامُوا لأُولَئِكَ بِالطَّرِيقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَنَابَ، فَقَبِلُوا مِنْهُ وَاشْتَمَلُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى وَلَج فمنع مِنَ الرُّجُوعِ، فَرَجَعُوا عَوْدهمْ عَلَى بَدْئِهِمْ، حَتَّى عَبَرُوا إِلَى دَارِينَ، فَجَمَعَهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَقَالَ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ عِجْلٍ، يُدْعَى وَهْبًا، يُعَيِّرُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْبُكُ خَلْقَهُ *** فَيَخْبُثُ أَقْوَامٌ وَيَصْفُو مَعْشَرُ
لَحَى اللَّهُ أَقْوَامًا أُصِيبُوا بِخَنْعَةٍ *** أَصَابَهُمْ زَيْدُ الضَّلال وَمَعْمَرُ!
وَلَمْ يَزَلِ الْعَلاءُ مُقِيمًا فِي عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى رَجَعَتْ إِلَيْهِ الْكُتُبُ مِنْ عِنْدِ مَنْ كَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَبَلَغَهُ عَنْهُمُ الْقِيَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْغَضَبُ لِدِينِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يَشْتَهِي، أَيْقَنَ أَنَّهُ لَنْ يُؤْتَى مِنْ خَلْفِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ، وَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى دَارِينَ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ فَخَطَبَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَ لَكُمْ أَحْزَابَ الشَّيَاطِينِ وَشَرَدَ الْحَرْبَ فِي هَذَا الْبَحْرِ، وَقَدْ أَرَاكُمْ مِنْ آيَاتِهِ فِي الْبَرِّ لِتَعْتَبِرُوا بها فِي الْبَحْرِ، فَانْهَضُوا إِلَى عَدُوِّكُمْ، ثُمَّ اسْتَعْرِضُوا الْبَحْرَ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَهُمْ، فَقَالُوا: نَفْعَلُ وَلا نَهَابُ وَاللَّهِ بَعْدَ الدَّهْنَاءِ هَوْلا مَا بَقِينَا فَارْتَحَلَ وَارْتَحَلُوا، حَتَّى إِذَا أَتَى سَاحِلَ الْبَحْرِ اقْتَحَمُوا عَلَى الصَّاهِلِ، وَالْجَامِلِ، وَالشَّاحِجِ وَالنَّاهِقِ، وَالرَّاكِبِ وَالرَّاجِلِ، وَدَعَا وَدَعَوْا، وَكَانَ دُعَاؤُهُ وَدُعَاؤُهُمْ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، يَا كَرِيمُ، يَا حَلِيمُ، يَا أَحَدُ، يَا صَمَدُ يَا حَيُّ يَا مُحْيِيَ الْمَوْتَى، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ يَا رَبَّنَا فَأَجَازُوا ذَلِكَ الْخَلِيجَ بِإِذْنِ اللَّهِ جَمِيعًا يَمْشُونَ عَلَى مِثْلِ رَمْلَةٍ مَيْثَاءَ، فَوْقَهَا مَاءٌ يَغْمُرُ أَخْفَافَ الإِبِلِ، وَإِنَّ مَا بَيْنَ السَّاحِلِ وَدَارِينَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِسُفُنِ الْبَحْرِ فِي بَعْضِ الْحَالاتِ، فَالْتَقُوا بِهَا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، فَمَا تَرَكُوا بِهَا مَخْبَرًا وَسَبُوا الذَّرَارِيَ، وَاسْتَاقُوا الأَمْوَالَ، فَبَلَغَ نَفَلُ الْفَارِسِ سِتَّةَ آلافٍ، وَالرَّاجِلِ أَلْفَيْنِ، قَطَعُوا لَيْلَهُمْ وَسَارُوا يَوْمَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا رَجَعُوا عَوْدَهُمْ عَلَى بَدْئِهِمْ حَتَّى عَبَرُوا، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَلَّلَ بَحْرَهُ *** وَأَنْزَلَ بِالْكُفَّارِ إِحْدَى الْجَلائِلِ!
دَعَوْنَا الَّذِي شَقَّ الْبِحَارَ فَجَاءَنَا *** بِأَعْجَبَ مِنْ فَلْقِ الْبِحَارِ الأَوَائِلِ
وَلَمَّا رَجَعَ الْعَلاءُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَضَرَبَ الإِسْلامُ فِيهَا بِجِرَانِهِ، وَعَزَّ الإِسْلامُ وَأَهْلُهُ، وَذُلَّ الشِّرْكُ وَأَهْلُهُ، أَقْبَلَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَا فِيهَا عَلَى الإِرْجَافِ، فَأَرْجَفَ مُرْجِفُونَ، وَقَالُوا: ها ذاك مَفْرُوقٌ، قَدْ جَمَعَ رَهْطَهُ.
شَيْبَانَ وَتَغْلِبَ وَالنَّمِرَ، فَقَالَ لَهُمْ أَقْوَامٌ منِ الْمُسْلِمِينَ: إِذَا تَشْغَلُهُمْ عَنَّا اللَّهَازِمُ- وَاللَّهَازِمُ يَوْمَئِذٍ قَدِ اسْتُجْمِعَ أَمْرُهُمْ عَلَى نَصْرِ الْعَلاءِ وَطَابَقُوا وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابن حَذفٍ فِي ذَلِكَ:
لا تُوعِدُونَا بِمَفْرُوقٍ وَأُسْرَتِهِ *** إِنْ يَأْتِنَا يَلْقَ فِينَا سُنَّةَ الْحَطَمِ
وَإِنَّ ذَا الْحَيِّ مِنْ بَكْرٍ وَإِنْ كَثُرُوا *** لأُمَّةٌ دَاخِلُونَ النَّارَ فِي أُمَمِ
فَالنَّخْلُ ظَاهِرُهُ خَيْلٌ وَبَاطِنُهُ *** خَيْلٌ تَكَدَّسَ بِالْفِتْيَانِ فِي النَّعَمِ
وَأَقْفَلَ الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ النَّاسَ، فَرَجَعَ النَّاسُ إِلا مَنْ أَحَبَّ الْمُقَامِ، فَقَفَلْنَا وَقَفَلَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا عَلَى مَاءٍ لِبَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَرَأَوْا ثُمَامَةَ، وَرَأَوْا خَمِيصَةَ الْحَطمِ عَلَيْهِ دَسُّوا لَهُ رَجُلا، وَقَالُوا: سَلْهُ كَيْفَ صَارَتْ لَهُ؟ وَعَنِ الْحطمِ: أَهُوَ قَتَلَهُ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَأَتَاهُ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: نُفِّلْتُهَا قَالَ: أَأَنْتَ قَتَلْتَ الْحطمَ؟ قَالَ: لا، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَمَا بَالُ هَذِهِ الْخَمِيصَةِ مَعَكَ؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ! فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ، فَتَجَمَّعُوا لَهُ، ثُمَّ أَتَوْهُ فَاحْتَوَشُوهُ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: أَنْتَ قَاتِلُ الحطمَ؟ قَالَ: كَذَبْتُمْ، لَسْتُ بِقَاتِلِهِ وَلَكِنِّي نُفِّلْتُهَا، قَالُوا: هَلْ يُنَفَّلُ إِلا الْقَاتِلُ! قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ، إِنَّمَا وُجِدَتْ فِي رَحْلِهِ، قَالُوا: كَذَبْتَ فَأَصَابُوهُ.
قَالَ: وَكَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ رَاهِبٌ فِي هَجَرَ، فَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ فَقِيلَ: مَا دَعَاكَ إِلَى الإِسْلامِ؟ قَالَ: ثَلاثَةُ أَشْيَاءَ، خَشِيتُ أَنْ يَمْسَخَنِي اللَّهُ بَعْدَهَا إِنْ أَنَا لَمْ أَفْعَلْ: فَيْضٌ فِي الرِّمَالِ، وَتَمْهِيدُ أَثْبَاجِ الْبِحَارِ، وَدُعَاءٌ سَمِعْتُهُ فِي عَسْكَرِهِمْ فِي الْهَوَاءِ مِنَ السَّحَرِ قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، لا إِلَهَ غَيْرُكَ، وَالْبَدِيعُ لَيْسَ قَبْلِكَ شَيْءٌ، وَالدَّائِمُ غَيْرُ الْغَافِلِ، وَالْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وَخَالِقُ مَا يَرَى وَمَا لا يَرَى، وَكُلُّ يَوْمٍ أَنْتَ فِي شَأْنٍ، وَعَلِمْتَ اللَّهُمَّ كُلَّ شَيْءٍ بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ، فَعَلِمْتَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُعَانُوا بِالْمَلائِكَةِ إِلا وَهُمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ.
فلقد كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُونَ مِنْ ذَلِكَ الْهجري بعد.
وَكَتَبَ الْعَلاءُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَجَّرَ لَنَا الدَّهْنَاءَ فَيْضًا لا تُرَى غَوَارِبُهُ، وَأَرَانَا آيَةً وَعِبْرَةً بَعْدَ غَمٍّ وَكَرْبِ، لِنَحْمَدِ اللَّهَ وَنُمَجِّدْهُ، فَادْعُ اللَّهُ وَاسْتَنْصِرْهُ لِجُنُودِهِ وَأَعْوَانِ دِينِهِ.
فَحَمَدَ أَبُو بَكْرٍ اللَّهَ وَدَعَاهُ، وَقَالَ: مَا زَالَتِ الْعَرَبُ فِيمَا تُحَدِّثُ عَنْ بُلْدَانِهَا يَقُولُونَ: إِنَّ لُقْمَانَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الدَّهْنَاءِ: أَيَحْتَفُرُونَهَا أَوْ يَدَعُونَهَا؟
نَهَاهُمْ، وَقَالَ: لا تبلغها الأرشية، وَلَمْ تقر الْعُيُونُ، وَأَنَّ شَأْنَ هَذَا الْفَيْضِ مِنْ عَظِيمِ الآيَاتِ، وَمَا سَمِعْنَا بِهِ فِي أُمَّةٍ قَبْلَهَا اللهم اخلف محمدا صلى الله عليه وسلم فِينَا.
ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ الْعَلاءُ بِهَزِيمَةِ أَهْلِ الخندق وقتل الحطم، قتله زيد ومعمر:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ اسْمُهُ سَلَبَ عَدُوَّنَا عُقُولَهُمْ، وَأَذْهَبَ رِيحَهُمْ بِشَرَابٍ أَصَابُوهُ مِنَ النَّهَارِ، فَاقْتَحَمْنَا عَلَيْهِمْ خَنْدَقَهُمْ، فَوَجَدْنَاهُمْ سُكَارَى، فَقَتَلْنَاهُمْ إِلا الشَّرِيدَ، وَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ الْحطمَ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ بَلَغَكَ عَنْ بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ تَمَامٌ عَلَى مَا بَلَغَكَ، وَخَاضَ فِيهِ الْمُرْجِفُونَ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ جُنْدًا فَأَوْطِئْهُمْ وَشَرِّدْ بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ فَلَمْ يَجْتَمِعُوا، وَلَمْ يَصر ذَلِكَ مِنْ أَرْجَافِهِمْ إِلَى شَيْءٍ.
ذكر الخبر عن ردة أهل عمان ومهرة واليمن
قال أبو جعفر: وقد اختلف في تاريخ حرب المسلمين، فقال محمد ابن إسحاق- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، عن سلمة عنه: كان فتح اليمامة واليمن والبحرين وبعث الجنود إلى الشام في سنة اثنتي عشرة.
وأما أبو زيد فحدثني عن أبي الحسن المدائني في خبر ذكره، عن أبي معشر ويزيد بْن عياض بْن جعدبة وأبي عبيدة بْن مُحَمَّد بْن أبي عبيدة وغسان بْن عبد الحميد وجويرية بْن أسماء، بإسنادهم عن مشيختهم وغيرهم من علماء أهل الشام وأهل العراق، أن الفتوح في أهل الردة كلها كانت لخالد بْن الوليد وغيره في سنة إحدى عشرة، إلا أمر ربيعة بْن بجير، فإنه كان في سنة ثلاث عشرة.
وقصة ربيعة بْن بجير التغلبي أن خالد بْن الوليد- فيما ذكر في خبره هذا الذي ذكرت عنه- بالمصيخ والحصيد، قام وهو في جمع من المرتدين فقاتله، وغنم وسبى، وأصاب ابنة لربيعة بْن بجير،، فسباها وبعث بالسبي إلى أبي بكر رحمه اللَّه، فصارت ابنة ربيعة إلى علي بْن أبي طالب عليه السلام.
فأما أمر عمان فإنه كان -فيما كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْن يحيى يخبرني عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يوسف، عن القاسم بْن مُحَمَّد والغصن بْن القاسم وموسى الجليوسى عن ابن محيريز، قال: نبغ بعمان ذو التاج لقيط بْن مالك الأزدي، وكان يسامي في الجاهلية الجلندي، وادعى بمثل ما ادعى به من كان نبيا، وغلب على عمان مرتدا، وألجأ جيفرا وعبادا الى الاجبال والبحر، فبعث جيفر إلى أبي بكر يخبره بذلك، ويستجيشه عليه فبعث أبو بكر الصديق حذيفة بْن محصن الغلفاني من حمير، وعرفجة البارقي من الأزد، حذيفة إلى عمان وعرفجة إلى مهرة وأمرهما إذا اتفقا أن يجتمعا على من بعثا إليه، وأن يبتدئا بعمان، وحذيفة على عرفجة في وجهه، وعرفجة على حذيفة في وجهه.
فخرجا متساندين، وأمرهما أن يجدا السير حتى يقدما عمان، فإذا كانا منها قريبا كاتبا جيفرا وعبادا، وعملا برأيهما فمضيا لما أمرا به، وقد كان أبو بكر بعث عكرمة إلى مسيلمة باليمامة، وأتبعه شرحبيل بْن حسنة، وسمى لهما اليمامة، وأمرهما بما أمر به حذيفة وعرفجة فبادر عكرمة شرحبيل، وطلب حظوة الظفر، فنكبه مسيلمة، فأحجم عن مسيلمة، وكتب إلى أبي بكر بالخبر، وأقام شرحبيل عليه حيث بلغه الخبر، وكتب أبو بكر إلى شرحبيل بْن حسنة، أن أقم بأدنى اليمامة حتى يأتيك أمري، وترك أن يمضيه لوجهه الذي وجهه له، وكتب إلى عكرمة يعنفه لتسرعه، ويقول: لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء، والحق بعمان حتى تقاتل أهل عمان، وتعين حذيفة وعرفجة، وكل واحد منكم على خيله، وحذيفة ما دمتم في عمله على الناس، فإذا فرغتم فامض إلى مهرة، ثم ليكن وجهك منها إلى اليمن، حتى تلاقي المهاجر ابن أبي أمية باليمن وبحضرموت، وأوطئ من بين عمان واليمن ممن ارتد، وليبلغني بلاؤك.
فمضى عكرمة في أثر عرفجة وحذيفة فيمن كان معه حتى لحق بهما قبل أن ينتهيا إلى عمان، وقد عهد إليهم أن ينتهوا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ في السير معه أو المقام بعمان، فلما تلاحقوا -وكانوا قريبا من عمان بمكان يدعى رجاما- راسلوا جيفرا وعبادا وبلغ لقيطا مجيء الجيش، فجمع جموعه وعسكر بدبا، وخرج جيفر وعباد من موضعهما الذي كانا فيه، فعسكرا بصحار، وبعثا إلى حذيفة وعرفجة وعكرمة في القدوم عليهما، فقدموا عليهما بصحار، فاستبرءوا ما يليهم حتى رضوا ممن يليهم، وكاتبوا رؤساء مع لقيط وبدءوا بسيد بني جديد، فكاتبهم وكاتبوه حتى ارفضوا عنه، ونهدوا إلى لقيط، فالتقوا على دبا، وقد جمع لقيط العيالات، فجعلهم وراء صفوفهم ليجربهم، وليحافظوا على حرمهم -ودبا هي المصر والسوق العظمى- فاقتتلوا بدبا قتالا شديدا، وكاد لقيط يستعلي الناس، فبينا هم كذلك، وقد رأى المسلمون الخلل ورأى المشركون الظفر، جاءت المسلمين موادهم العظمى من بنى ناجيه، وعليهم الخريت بْن راشد، ومن عبد القيس وعليهم سيحان بْن صوحان، وشواذب عمان من بني ناجية وعبد القيس، فقوى اللَّه بهم أهل الإسلام، ووهنَّ اللَّه بهم اهل الشرك، فولى المشركون الأدبار، فقتلوا منهم في المعركة عشرة آلاف، وركبوهم حتى أثخنوا فيهم، وسبوا الذراري، وقسموا الأموال على المسلمين، وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة، ورأى عكرمة وحذيفة أن يقيم حذيفة بعمان حتى يوطئ الأمور، ويسكن الناس، وكان الخمس ثمانمائه رأس، وغنموا السوق بحذافيرها فسار عرفجة إلى أبي بكر بخمس السبي والمغانم، وأقام حذيفة لتسكين الناس، ودعا القبائل حول عمان إلى سكون ما أفاء اللَّه على المسلمين، وشواذب عمان، ومضى عكرمة في الناس، وبدأ بمهرة، وقال في ذلك عباد الناجي:
لعمري لقد لاقى لقيط بْن مالك *** من الشر ما أخزى وجوه الثعالب
وبادى أبا بكر ومن هلَّ فارتمى *** خليجان من تياره المتراكب
ولم تنهه الأولى ولم ينكأ العدا *** فألوت عليه خيله بالجنائب
ذكر خبر مهرة بالنجد
ولما فرغ عكرمة وعرفجة وحذيفة من ردة عمان، خرج عكرمة في جنده نحو مهرة، واستنصر من حول عمان وأهل عمان، وسار حتى يأتي مهرة، ومعه ممن استنصره من ناجية والأزد وعبد القيس وراسب وسعد من بني تميم بشر، حتى اقتحم على مهرة بلادها، فوافق بها جمعين من مهرة: أما أحدهما فبمكان من أرض مهرة يقال له: جيروت، وقد امتلأ ذلك الحيز إلى نضدون -قاعين من قيعان مهرة- عليهم شخريت، رجل من بني شخراة، وأما الآخر فبالنجد، وقد انقادت مهرة جميعا لصاحب هذا الجمع، عليهم المصبح، أحد بني محارب والناس كلهم معه، إلا ما كان من شخريت، فكانا مختلفين، كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه، وكل واحد من الجندين يشتهي أن يكون الفلج لرئيسهم، وكان ذلك مما أعان اللَّه به المسلمين وقواهم على عدوهم، ووهنهم.
ولما رأى عكرمة قلة من مع شخريت دعاه إلى الرجوع إلى الإسلام، فكان لأول الدعاء، فأجابه ووهن اللَّه بذلك المصبح ثم أرسل إلى المصبح يدعوه إلى الإسلام والرجوع عن الكفر، فاغتر بكثرة من معه، وازداد مباعدة لمكان شخريت، فسار إليه عكرمة، وسار معه شخريت، فالتقوا هم والمصبح بالنجد، فاقتتلوا أشد من قتال دبا.
ثم إن اللَّه كشف جنود المرتدين، وقتل رئيسهم، وركبهم المسلمون فقتلوا منهم ما شاءوا، وأصابوا ما شاءوا، وأصابوا فيما أصابوا ألفي نجيبة، فخمس عكرمة الفيء، فبعث بالأخماس مع شخريت إلى أبي بكر، وقسم الأربعة الأخماس على المسلمين، وازداد عكرمة وجنده قوة بالظهر والمتاع والأداة، وأقام عكرمة حتى جمعهم على الذي يحب، وجمع أهل النجد، اهل رياض الروضة، وأهل الساحل، وأهل الجزائر، وأهل المر واللبان وأهل جيروت، وظهور الشحر والصبرات، وينعب، وذات الخيم، فبايعوا على الإسلام، فكتب بذلك مع البشير -وهو السائب أحد بني عابد من مخزوم- فقدم على أبي بكر بالفتح، وقدم شخريت بعده بالأخماس، وقال في ذلك علجوم المحاربي:
جزى اللَّه شخريتا وأفناء هيشم *** وفرضم إذ سارت إلينا الحلائب
جزاء مسيء لم يراقب لذمة *** ولم يرجها فيما يرجى الأقارب
أعكرم لولا جمع قومي وفعلهم *** لضاقت عليك بالفضاء المذاهب
وكنا كمن اقتاد كفا بأختها *** وحلت علينا في الدهور النوائب
ذكر خبر المرتدين باليمن
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَهْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَعَلَى مَكَّةَ وَأَرْضِهَا عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ وَالطَّاهِرُ بْنُ أَبِي هَالَةَ، عَتَّابٌ عَلَى بَنِي كِنَانَةَ، والطاهر على عك، وذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اجْعَلُوا عِمَالَةَ عَكٍّ فِي بَنِي أَبِيهَا مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ»، وَعَلَى الطَّائِفِ وَأَرْضِهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، عُثْمَانُ عَلَى أَهْلِ الْمَدَرِ وَمَالِكٌ عَلَى أَهْلِ الْوَبَرِ أَعْجَازِ هَوَازِنَ، وَعَلَى نَجْرَانَ وَأَرْضِهَا عَمْرُو بن حزم وابو سفيان ابن حَرْبٍ، عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ عَلَى الصَّلاةِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَعَلَى مَا بَيْنَ رَمْعٍ وَزَبيد إِلَى حَدِّ نَجْرَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَلَى هَمْدَانَ كُلِّهَا عَامِرُ بْنُ شَهْرٍ، وَعَلَى صَنْعَاءَ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ يسانده داذويهِ وَقَيْسُ بْنُ الْمَكْشُوحِ، وَعَلَى الْجُنْدِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى مَأْربِ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَعَلَى الأَشْعَرِيِّينَ مَعَ عَكٍّ الطَّاهِرُ بْنُ أَبِي هَالَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُعَلِّمُ الْقَوْمَ، يَتْنَقِلُ فِي عَمَلِ كُلِّ عَامِلٍ، فَنَزَا بِهِمُ الأَسْوَدُ في حياه النبي صلى الله عليه وسلم، فحاربه النبي عليه السلام بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ، وَعَادَ أَمْرُ النبي عليه السلام كما كان قبل وفاه النبي عليه السلام بِلَيْلَةٍ، إِلا أَنَّ مَجِيئَهُمْ لَمْ يُحَرِّكِ النَّاسَ، وَالنَّاسُ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ.
فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَوْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتقضت الْيَمَنُ وَالْبُلْدَانُ، وَقَدْ كَانَتْ تَذَبْذَبَتْ خُيُولُ الْعَنْسِيِّ- فِيمَا بَيْنَ نَجْرَانَ إِلَى صَنْعَاءَ فِي عَرْضِ ذَلِكَ الْبَحْرِ- لا تَأْوِي إِلَى أَحَدٍ، ولا يأوي إليها احد، فعمرو بن معد يكرب بِحِيَالِ فَرْوَةَ بْنِ مسيكٍ، وَمُعَاوُيَةُ بْنُ أَنَسٍ فِي فَالَةَ الْعَنْسِيِّ يَتَرَدَّدُ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ عمال النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاه النبي صلى الله عليه وسلم إِلا عَمْرَو بْنِ حَزْمٍ وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَلَجَأَ سَائِرُ الْعُمَّالِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَرَضَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ، فَسَلَبَهُ الصَّمْصَامَةَ.
وَرَجَعَتِ الرُّسُلُ مَعَ مَنْ رَجَعَ بِالْخَبَرِ، فَرَجَعَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالأَقْرَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَوَبْرُ بْنُ يُحَنَّسَ، فَحَارَبَ أَبُو بَكْرٍ الْمُرْتَدَّةَ جَمِيعًا بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ، كَمَا كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَارَبَهُمْ، إِلَى أَنْ رَجَعَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ مِنَ الشَّامِ، وَحَزرَ ذَلِكَ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ، إِلا ما كان من اهل ذي حمى وَذِي الْقصَّةَ ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مصادم عِنْدَ رجوع اسامه هم فَخَرَجَ إِلَى الأَبْرَقِ فَلَمْ يَصْمُدْ لِقَوْمٍ فَيَفُلَّهُمْ إِلا اسْتَنْفَرَ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ مِنْهُمْ إِلَى آخَرِينَ، فَيَفُلَّ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالْمُسْتَنْفِرَةِ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ إِلَى الَّتِي تَلِيهِمْ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ أُمُورِ النَّاسِ، وَلا يَسْتَعِينُ بِالْمُرْتَدِّينَ.
فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ إِلَيْهِ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، كَتَبَ إِلَيْهِ بِرُكُوبِ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ بِمَنْ ثَبَتَ عَلَى الإِسْلامِ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بِرُكُوبِ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ بِمَنْ ثَبَتَ عَلَى الإِسْلامِ، فاما عتاب فانه بعث خالد ابن أُسَيْدٍ إِلَى أَهْلِ تِهَامَةَ، وَقَدْ تَجَمَّعَتْ بِهَا جِمَاعٌ مِنْ مُدْلِجٍ، وَتَأَشَّبَ إِلَيْهِمْ شُذَّاذٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَفْنَاءِ كِنَانَةَ، عَلَيْهِمْ جُنْدُبُ بْنُ سَلْمَى، أَحَدُ بَنِي شَنُوقٍ، مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عَمَلِ عَتَّابٍ جَمْعٌ غَيْرُهُ، فَالْتَقَوْا بِالأَبَارِقِ، فَفَرَّقَهُمْ وَقَتَلَهُمْ، وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي بَنِي شَنُوقٍ، فَمَا زَالُوا أَذِلاءَ قَلِيلا، وَبَرِئَتْ عِمَالَةُ عَتَّابٍ، وَأَفْلَتَ جُنْدُبٌ، فَقَالَ جُنْدُبٌ فِي ذَلِكَ:
نَدِمْتُ وَأَيْقَنْتُ الْغَداةَ بِأَنَّنِي *** أَتَيْتُ الَّتِي يَبْقَى عَلَى الْمَرْءِ عَارُهَا
شَهِدْتُ بِأَنَّ اللَّهَ لا شَيْءَ غَيْرُهُ *** بَنِي مُدْلِجٍ فَاللَّهُ رَبِّي وَجَارُهَا
وَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بَعْثًا إِلَى شَنُوءَةَ، وَقَدْ تَجَمَّعَتْ بِهَا جُمَّاعٌ مِنَ الأَزْدِ وَبَجِيلَةَ وَخَثْعَمٍ، عَلَيْهِمْ حُمَيْضَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَعَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَالْتَقَوْا بِشَنُوءَةَ، فَهَزَمُوا تِلْكَ الْجُمَّاعَ، وَتَفَرَّقُوا عَنْ حُمَيْضَةَ وَهَرَبَ حُمَيْضَةُ فِي الْبِلادِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ:
فَضَضْنَا جَمْعَهُمْ وَالنَّقْعُ كَابٍ *** وَقَدْ تُعْدِي عَلَى الْغَدْرِ الْفُتُوقُ
وَأَبْرَقَ بَارِقٌ لَمَّا الْتَقَيْنَا *** فَعَادَتْ خُلَّبًا تِلْكَ الْبُرُوقُ
خبر الأخابث من عك
قال أبو جعفر: وكان أول منتقض بعد النبي صلى الله عليه وسلم بتهامة عك والأشعرون، وذلك أنهم حين بلغهم موت النبي صلى الله عليه وسلم تجمع منهم طخارير، فأقبل إليهم طخارير من الأشعرين وخضم فانضموا إليهم، فأقاموا على الأعلاب طريق الساحل، وتأشب اليهم او زاع على غير رئيس، فكتب بذلك الطاهر بْن أبي هالة إلى أبي بكر، وسار إليهم، وكتب أيضا بمسيره إليهم، ومعه مسروق العكي حتى انتهى إلى تلك الأوزاع، على الأعلاب، فالتقوا فاقتتلوا، فهزمهم اللَّه، وقتلوهم كل قتلة، وأنتنت السبل لقتلهم، وكان مقتلهم فتحا عظيما وأجاب أبو بكر الطاهر قبل أن يأتيه كتابه بالفتح:
بلغني كتابك تخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقا وقومه إلى الأخابث بالأعلاب، فقد أصبت، فعاجلوا هذا الضرب ولا ترفهوا عنهم، وأقيموا بالأعلاب حتى يأمن طريق الأخابث، ويأتيكم أمري: فسميت تلك الجموع من عك ومن تأشب إليهم إلى اليوم الأخابث، وسمي ذلك الطريق طريق الأخابث، وقال في ذلك الطاهر بْن أبي هالة.
وو الله لولا اللَّه لا شيء غيره *** لما فض بالأجراع جمع العثاعث
فلم تر عيني مثل يوم رأيته *** بجنب صحار في جموع الأخابث
قتلناهم ما بين قنة خامر *** الى القيمه الحمراء ذات النبائث
وفئنا بأموال الأخابث عنوة *** جهارا ولم نحفل بتلك الهثاهث
وعسكر طاهر على طريق الأخابث، ومعه مسروق في عك ينتظر أمر أبي بكر رحمه اللَّه.
قال أبو جعفر: ولما بلغ أهل نجران وفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ اربعون ألف مقاتل، من بني الأفعى، الأمة التي كانوا بها قبل بني الحارث، بعثوا وفدا ليجددوا عهدا، فقدموا إليه فكتب لهم كتابا:
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ عبد اللَّه أبي بكر خليفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران، أجارهم من جنده ونفسه، وأجاز لهم ذمه محمد صلى الله عليه وسلم إلا ما رجع عنه مُحَمَّد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأمر اللَّه عز وجل في أرضهم وأرض العرب، ألا يسكن بها دينان، أجارهم على أنفسهم بعد ذلك وملتهم وسائر أموالهم وحاشيتهم وعاديتهم، وغائبهم وشاهدهم، وأسقفهم ورهبانهم وبيعهم حيثما وقعت، وعلى ما ملكت أيديهم من قليل أو كثير، عليهم ما عليهم، فإذا أدوه فلا يحشرون ولا يعشرون ولا يغير أسقف من اسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ووفى لهم بكل ما كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما في هذا الكتاب من ذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار المسلمين.
وعليهم النصح والإصلاح فيما عليهم من الحق شهد المسور بْن عمرو، وعمرو مولى أبي بكر.
ورد أبو بكر جرير بْن عبد اللَّه، وأمره أن يدعو من قومه من ثبت على أمر اللَّه، ثم يستنفر مقويهم، فيقاتل بهم من ولى عن أمر اللَّه، وأمره أن يأتي خثعم، فيقاتل من خرج غضبا لذي الخلصة، ومن أراد إعادته حتى يقتلهم اللَّه، ويقتل من شاركهم فيه، ثم يكون وجهه إلى نجران، فيقيم بها حتى يأتيه أمره.
فخرج جرير فنفذ لما أمره به أبو بكر، فلم يقر له أحد إلا رجال في عدة قليلة، فقتلهم وتتبعهم، ثم كان وجهه إلى نجران، فأقام بها انتظارا أمر أبي بكر رحمه اللَّه.
وكتب إلى عثمان بْن أبي العاص أن يضرب بعثا على أهل الطائف على كل مخلاف بقدره، ويولي عليهم رجلا يأمنه ويثق بناحيته، فضرب على كل مخلاف عشرين رجلا، وأمر عليهم أخاه.
وكتب إلى عتاب بْن أسيد، أن اضرب على أهل مكة وعملها خمسمائة مقو، وابعث عليهم رجلا تأمنه، فسمى من يبعث، وأمر عليهم خالد بْن أسيد، وأقام أمير كل قوم، وقاموا على رجل ليأتيهم أمر أبي بكر، وليمر عليهم المهاجر.
ردة أهل اليمن ثانية
قال أبو جعفر: فممن ارتد ثانية منهم، قيس بْن عبد يغوث المكشوح، كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، قال: كان من حديث قيس في ردته الثانية، أنه حين وقع إليهم الخبر بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم انتكث، وعمل في قتل فيروز وداذويه وجشيش، وكتب أبو بكر إلى عمير ذي مران وإلى سعيد ذي زود وإلى سميفع ذي الكلاع، وإلى حوشب ذي ظليم، وإلى شهر ذي يناف، يأمرهم بالتمسك بالذي هم عليه، والقيام بأمر اللَّه والناس، وبعدهم الجنود:
من ابى بكر خليفه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمير بْن أفلح ذي مران، وسعيد بْن العاقب ذي زود، وسميفع بْن ناكور ذي الكلاع وحوشب ذي ظليم، وشهر ذي يناف أما بعد، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز، وجدوا معه، فإني قد وليته.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ غَزِيَّةَ الدَّثِينِيِّ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّرَ فَيْرُوزَ، وَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَسَانِدُونَ، هُوَ وَدَاذُوَيْهِ وَجَشِيشٌ وَقَيْسٌ، وَكَتَبَ إِلَى وُجُوهٍ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ قَيْسٌ أَرْسَلَ إِلَى ذِي الْكَلاعِ وَأَصْحَابِهِ:
إِنَّ الأَبْنَاءَ نُزَّاعٌ فِي بِلادِكُمْ، وَنُقَلاءُ فِيكُمْ، وَإِنْ تَتْرُكُوهُمْ لَنْ يَزَالُوا عَلَيْكُمْ، وَقَدْ أَرَى مِنَ الرَّأْيِ أَنْ أَقْتُلَ رُءُوسَهُمْ، وَأُخْرِجَهُمْ مِنْ بِلادِنَا فَتَبْرَءُوا، فَلَمْ يُمَالِئُوهُ وَلَمْ يَنْصُرُوا الأبناء، واعتزلوا وقالوا: لسنا مما هاهنا فِي شَيْءٍ، أَنْتَ صَاحِبُهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُكَ.
فَتَرَبَّصَ لَهُمْ قَيْسٌ، وَاسْتَعَدَّ لِقَتْلِ رُؤَسَائِهِمْ وَتَسْيِيرِ عَامَّتِهِمْ، فكاتب قيس تلك الفالة السيارة اللحجية، وَهُمْ يَصْعَدُونَ فِي الْبِلادِ وَيُصَوِّبُونَ، مُحَارِبِينَ لِجَمِيعِ مَنْ خَالَفَهُمْ، فَكَاتَبَهُمْ قَيْسٌ فِي السِّرِّ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَجَّلُوا إِلَيْهِ، وَلِيَكُونَ أَمْرُهُ وَأَمْرُهُمْ وَاحِدًا، وَلِيَجْتَمِعُوا عَلَى نَفْيِ الأَبْنَاءِ مِنْ بِلادِ الْيَمَنِ فَكَتَبُوا إِلَيْهِ بِالاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ سِرَاعٌ، فَلَمْ يَفْجَأْ أَهْلَ صَنْعَاءَ إِلا الْخَبَرُ بِدُنُوِّهِمْ مِنْهَا، فَأَتَى قَيْسٌ فَيْرُوزَ فِي ذَلِكَ كَالْفرقِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ وَأَتَى دَاذُوَيْهِ، فَاسْتَشَارَهُمَا لِيلبسَ عَلَيْهِمَا، وَلِئَلا يَتَّهِمَاهُ، فَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ ثُمَّ إِنَّ قَيْسًا دَعَاهُمْ مِنَ الْغَدِ إِلَى طَعَامٍ، فَبَدَأَ بِدَاذُوَيْهِ، وَثَنَّى بِفَيْرُوزَ، وَثَلَّثَ بِجَشِيشٍ، فَخَرَجَ دَاذُوَيْهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَاجَلَهُ فَقَتَلَهُ، وَخَرَجَ فَيْرُوزُ يَسِيرُ حَتَّى إِذَا دَنَا سَمِعَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى سَطْحَيْنِ تَتَحَدَّثَانِ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: هَذَا مَقْتُولٌ كَمَا قُتِلَ دَاذُوَيْهِ، فَلَقِيَهُمَا، فَعَاجَ حَتَّى يَرَى أَويَّ الْقَوْمِ الَّذِي أربأوا، فَأُخْبِرَ بِرُجُوعِ فَيْرُوزَ، فَخَرَجُوا يَرْكُضُونَ، وَرَكَضَ فَيْرُوزُ، وَتَلَقَّاهُ جَشِيشٌ، فَخَرَجَ مَعَهُ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ جَبَلِ خَوْلانَ -وَهُمْ أَخْوَالُ فَيْرُوزَ- فَسَبَقَا الْخُيُولَ إِلَى الْجَبَلِ، ثُمَّ نَزَلا، فَتَوَقَّلا وَعَلَيْهِمَا خِفَافٌ سَاذِجَةٌ، فَمَا وَصَلا حَتَّى تَقَطَّعَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَانْتَهَيَا إِلَى خَوْلانَ وَامْتَنَعَ فَيْرُوزُ بِأَخْوَالِهِ، وَآلَى أَلا يَنْتَعِلَ سَاذِجًا، وَرَجَعَتِ الْخُيُولُ إِلَى قَيْسٍ، فَثَارَ بِصَنْعَاءَ فَأَخَذَهَا، وَجَبَى مَا حَوْلَهَا، مُقَدِّمًا رِجْلا وَمُؤَخِّرًا أُخْرَى، وَأَتَتْهُ خُيُولُ الأُسُودِ.
وَلَمَّا أَوَى فَيْرُوزُ إِلَى أَخْوَالِهِ خَوْلانَ فَمَنَعُوهُ وَتَأَشَّبَ إِلَيْهِ النَّاسُ، كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْخَبَرِ فَقَالَ قَيْسٌ: وَمَا خَوْلانُ! وَمَا فَيْرُوزُ! وَمَا قَرَارٌ أَوَوْا إِلَيْهِ! وَطَابَقَ عَلَى قَيْسٍ عَوَامُّ قَبَائِلِ مَنْ كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ، وَبَقِيَ الرُّؤَسَاءُ مُعْتَزِلِينَ، وَعَمَدَ قَيْسٌ إِلَى الأَبْنَاءِ فَفَرَقَهُمْ ثَلاثَ فِرَقٍ: أَقَرَّ مَنْ أَقَامَ وَأَقَرَّ عِيَالَهُ، وَفَرَقَ عِيَالَ الَّذِينَ هَرَبُوا إِلَى فَيْرُوزَ فِرْقَتَيْنِ، فَوَجَّهَ إِحْدَاهُمَا إِلَى عَدْنٍ، لِيَحْمِلُوا فِي الْبَحْرِ، وَحَمَلَ الأُخْرَى فِي الْبَرِّ، وَقَالَ لَهُمْ جَمِيعًا: الْحَقُوا بِأَرْضِكُمْ، وَبَعَثَ مَعَهُمْ مَنْ يُسَيِّرُهُمْ، فَكَانَ عِيَالُ الدَّيْلَمِيِّ مِمَّنْ سُيِّرَ فِي الْبَرِّ وَعِيَالُ دَاذُوَيْهِ مِمَّنْ سُيِّرَ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا رَأَى فَيْرُوزُ أَنْ قَدِ اجْتَمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى قَيْسٍ، وَأَنَّ الْعِيَالَ قَدْ سُيِّرُوا وَعَرَّضَهُمْ لِلنَّهْبِ، وَلَمْ يَجِدْ إِلَى فراق عَسْكَرِهِ فِي تَنَقُّذِهِمْ سَبِيلا، وَبَلَغَهُ مَا قَالَ قَيْسٌ فِي اسْتِصْغَارِهِ الأَخْوَالِ وَالأَبْنَاءِ، فَقَالَ فَيْرُوزُ مُنْتَمِيًا وَمُفَاخِرًا وَذَكَرَ الظَّعْنَ:
أَلا نَادِيَا ظُعْنًا إِلَى الرَّمْلِ ذِي النَّخْلِ *** وَقُولا لَهَا أَلا يُقَالُ وَلا عَذْلِي
وَمَا ضَرَّهُمْ قَوْلُ الْعُدَاةِ لَوْ انه *** أَتَى قَوْمَهُ عَنْ غَيْرِ فُحْشٍ وَلا بخْلِ
فَدَعْ عَنْكَ ظُعْنًا بِالطَّرِيقِ الَّتِي هَوَتْ *** لِطَيَّتِهَا صَمْد الرِّمَالِ إِلَى الرَّمْلِ
وَإِنَّا وَإِنْ كَانَتْ بِصَنْعَاءَ دَارُنَا *** لَنَا نَسْلُ قَوْمٍ مِنْ عَرانِينِهِمْ نَسْلِي
وَلِلدَّيْلَمِ الرَّزَّامِ مِنْ بَعْدِ بَاسِلٍ *** أَبَى الْخَفْضَ وَاخْتَارَ الْحَرُورَ عَلَى الظِّلِّ
وَكَانَتْ مَنَابِيتُ الْعِرَاقِ جِسَامَهَا *** لِرَهْطِي إِذَا كِسْرَى مَرَاجِلُهُ تَغْلِي
وَبَاسِلٌ أَصْلِي إِنْ نَمَيْتُ وَمَنْصِبِي *** كَمَا كُلُّ عُودٍ مُنْتَهَاهُ إِلَى الأَصْلِ
هُمْ تَرَكُوا مَجْرَايَ سَهْلا وَحَصَّنُوا *** فِجَاجِي بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَالْحَسَبِ الْجَزْلِ
فَمَا عَزَّنَا فِي الْجَهْلِ مِنْ ذِي عَدَاوَةٍ *** أَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُعِزَّ عَلَى الْجَهْلِ
وَلا عَاقَنَا فِي السَّلْمِ عَنْ آلِ أَحْمَدَ *** وَلا خَسَّ فِي الإِسْلامِ إِذْ أَسْلَمُوا قَبْلِي
وَإِنْ كَانَ سَجْلٌ من قبيلي أرشني *** فَإِنِّي لَرَاجٌ أَنْ يُغْرِقَهُمْ سَجْلِي
وَقَامَ فَيْرُوزُ فِي حَرْبِهِ، وَتَجَرَّدَ لَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي عُقَيْلِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَسُولا بِأَنَّهُ مُتَخَفِّرٌ بِهِمْ، يَسْتَمِدُّهُمْ وَيَسْتَنْصِرُهُمْ فِي ثُقْلِهِ عَلَى الَّذِينَ يُزْعِجُونَ أَثْقَالَ الأَبْنَاءِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَكٍّ رَسُولا يَسْتَمِدُّهُمْ وَيَسْتَنْصِرُهُمْ عَلَى الَّذِينَ يُزْعِجُونَ أَثْقَالَ الأَبْنَاءِ فَرَكِبَتْ عُقَيْلٌ وَعَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْحُلَفَاءِ يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ، فَاعْتَرَضُوا خَيْلَ قَيْسٍ فَتَنَقَّذُوا أُولَئِكَ الْعِيَالَ، وَقَتَلُوا الَّذِينَ سَيَّرُوهُمْ، وَقَصَرُوا عَلَيْهِمُ الْقُرَى، إِلَى أَنْ رَجَعَ فَيْرُوزُ إِلَى صَنْعَاءَ، وَوَثَبَتْ عَكٌّ، وَعَلَيْهِمْ مَسْرُوقٌ، فَسَارُوا حَتَّى تَنَقَّذُوا عِيَالاتِ الأَبْنَاءِ، وَقَصَرُوا عَلَيْهِمُ الْقُرَى، إِلَى أَنْ رَجَعَ فَيْرُوزُ إِلَى صَنْعَاءَ، وَأَمَدَّتْ عُقَيْلٌ وَعَكٌّ فَيْرُوزَ بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا أَتَتْهُ أَمْدَادُهُمْ-فِيمَنْ كَانَ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ- خَرَجَ فِيمَنْ كَانَ تَأَشَّبَ إِلَيْهِ وَمَنْ أَمَدَّهُ مِنْ عَكٍّ وَعُقَيْلٍ، فَنَاهَدَ قَيْسًا فَالْتَقُوا دُونَ صَنْعَاءَ، فَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَ اللَّهُ قَيْسًا فِي قَوْمِهِ وَمَنْ أُنْهِضُوا، فَخَرَجَ هَارِبًا فِي جُنْدِهِ حَتَّى عَادَ مَعَهُمْ، وَعَادُوا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا بِهِ مُبَادِرِينَ حِينَ هَرَبُوا بَعْدَ مَقْتَلِ الْعَنْسِيِّ، وَعَلَيْهِمْ قَيْسٌ، وَتَذَبْذَبَتْ رَافِضَةُ الْعَنْسِيِّ وَقَيْسٍ مَعَهُمْ فِيمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَنَجْرَانَ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ بِإِزَاءِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ فِي طَاعَةِ الْعَنْسِيِّ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: وَكَانَ مِنْ أَمْرِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ أَنَّهُ كَانَ قَدِمَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
لَمَّا رَأَيْتُ مُلُوكَ حِمْيَرَ أَعْرَضَتْ *** كَالرَّجُلِ خَانَ الرَّجُلَ عِرْقُ نَسَائِهَا
يَمَّمْتُ رَاحِلَتِي أَمَامَ مُحَمَّدٍ *** أَرْجُو فَوَاضِلَهَا وَحُسْنُ ثنائها
وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ لَهُ: «هَلْ سَاءَكَ مَا لَقِيَ قومك يوم الرزم يا فروه او سرك؟» قَالَ: وَمَنْ يُصَبْ فِي قَوْمِهِ بِمِثْلِ الَّذِي أَصَبْتَ بِهِ فِي قَوْمِي يَوْمَ الرَّزْمِ إِلا سَاءَهُ ذَلِكَ! وَكَانَ يَوْمَ الرَّزْمِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَمْدَانَ عَلَى يَغُوثَ، وَثَنٍ كَانَ يَكُونُ فِي هَؤُلاءِ مَرَّةً وَفِي هَؤُلاءِ مَرَّةً، فَأَرَادَتْ مُرادٌ أَنْ تَغْلِبَهُمْ عَلَيْهِ فِي مَرَّتِهِمْ، فَقَتَلَتْهُمْ هَمْدَانُ، وَرَئِيسُهُمُ الأَجْدَعُ أَبُو مَسْرُوقٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدْهُمْ فِي الإِسْلامِ إِلا خَيْرًا»، فَقَالَ: قَدْ سَرَّنِي إِذْ كَانَ ذَلِكَ، فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَدَقَاتِ مُرَادٍ وَمَنْ نَازَلَهُمْ أَوْ نَزَلَ دَارَهُمْ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ قَدْ فَارَقَ قَوْمَهُ سَعْدَ الْعَشِيرَةِ فِي بَنِي زُبَيْدٍ واخلافها، وانحاز إِلَيْهِمْ، وَأَسْلَمَ مَعَهُمْ، فَكَانَ فِيهِمْ، فَلَمَّا ارْتَدَّ الْعَنْسِيُّ وَاتَّبَعَهُ عَوَامُّ مَذْحِجٍ، اعْتَزَلَ فَرْوَةُ فِيمَنْ أَقَامَ مَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ، وَارْتَدَّ عَمْرٌو فِيمَنِ ارْتَدَّ، فَخَلَّفَهُ الْعَنْسِيُّ، فَجَعَلَهُ بِإِزَاءِ فَرْوَةَ، فَكَانَ بِحِيَالِهِ، وَيَمْتَنِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَكَانِ صَاحِبِهِ مِنَ الْبَرَاحِ، فَكَانَا يَتَهَادَيَانِ الشِّعْرَ، فَقَالَ عَمْرٌو يَذْكُرُ إِمَارَةَ فَرْوَةَ وَيَعِيبُهَا:
وَجَدْنَا مُلْكَ فَرْوَةَ شر ملك *** حمارا ساف منخره بقذر
وكنت إذا رأيت أبا عمير *** ترى الحولاء من خُبْثٍ وَغَدْرِ
فَأَجَابَهُ فَرْوَةُ:
أَتَانِي عَنْ أَبِي ثَوْرٍ كَلامٌ *** وَقِدما كَانَ فِي الْأَبْغَالِ يَجْرِي
وَكَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ قَدِيمًا *** عَلَى مَا كَانَ مِنْ خُبْثٍ وَغَدْرِ
فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ قَدِمَ عِكْرِمَةُ أبين.
وكتب إلي السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سهل، عن القاسم وموسى بْن الغصن، عن ابن محيريز، قال: فخرج عكرمة من مهرة سائرا نحو اليمن حتى ورد أبين، ومعه بشر كثير من مهرة، وسعد بْن زيد، والأزد، وناجية، وعبد القيس، وحدبان من بني مالك بْن كنانة، وعمرو بْن جندب من العنبر، فجمع النخع بعد من أصاب من مدبريهم فقال لهم: كيف كنتم في هذا الأمر؟ فقالوا له: كنا في الجاهلية أهل دين، لا نتعاطى ما تتعاطى العرب بعضها من بعض، فكيف بنا إذا صرنا إلى دين عرفنا فضله، ودخلنا حبه! فسأل عنهم فإذا الأمر كما قالوا، ثبت عوامهم وهرب من كان فارق من خاصتهم، واستبرأ النخع وحمير، واقام لاجتماعهم، وأرز قيس بْن عبد يغوث لهبوط عكرمة إلى اليمن إلى عمرو بْن معديكرب، فلما ضامه وقع بينهما تنازع، فتعايرا، فقال عمرو بْن معديكرب يعير قيسا غدره بالأبناء وقتله داذويه، ويذكر فراره من فيروز:
غدرت ولم تحسن وفاء ولم يكن *** ليحتمل الأسباب إلا المعود
وكيف لقيس أن ينوط نفسه *** إذا ما جرى والمضرحي المسود!
وقال قيس:
وفيت لقومي واحتشدت لمعشر *** أصابوا على الأحياء عمرا ومرثدا
وكنت لدى الأبناء لما لقيتهم *** كأصيد يسمو بالعزازة أصيدا
وقال عمرو بْن معديكرب:
فما إن داذوي لكم بفخر *** ولكن داذوي فضح الذمارا
وفيروز غداة أصاب فيكم *** وأضرب في جموعكم استجارا
ذكر خبر طاهر حين شخص مددا لفيروز
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: قد كان أبو بكر رحمه اللَّه كتب إلى طاهر بْن أبي هالة بالنزول إلى صنعاء وإعانة الأبناء، وإلى مسروق، فخرجا حتى أتيا صنعاء، وكتب إلى عبد اللَّه بْن ثور بْن أصغر، بأن يجمع إليه العرب ومن استجاب له من أهل تهامة، ثم يقيم بمكانه حتى يأتيه أمره.
وكان أول ردة عمرو بْن معديكرب أنه كان مع خالد بْن سعيد فخالفه، واستجاب للأسود، فسار إليه خالد بْن سعيد حتى لقيه، فاختلفا ضربتين، فضربه خالد على عاتقه فقطع حمالة سيفه فوقع، ووصلت الضربة إلى عاتقه، وضربه عمرو فلم يصنع شيئا، فلما أراد خالد أن يثني عليه نزل فتوقل في الجبل، وسلبه فرسه وسيفه الصمصامة، ولحج عمرو فيمن لحج وصارت إلى سعيد بْن العاص الأصغر مواريث آل سعيد بْن العاص الأكبر فلما ولي الكوفة عرض عليه عمرو ابنته، فلم يقبلها، وأتاه في داره بعدة سيوف كان خالد أصابها باليمن، فقال: أيها الصمصامة؟ قال: هذا، قال: خذه فهو لك، فأخذه، ثم آكف بغلا له فضرب الإكاف فقطعه والبرذعة، وأسرع في البغل، ثم رده على سعيد، وقال: لو زرتني في بيتي وهو لي لوهبته لك، فما كنت لأقبله إذ وقع.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد عن عروة بْن غزية وموسى، عن أبي زرعه السيبانى، قال: ولما فصل المهاجر بْن أبي أمية من عند أبي بكر- وكان في آخر من فصل- اتخذ مكة طريقا، فمر بها فاتبعه خالد بْن أسيد، ومر بالطائف فاتبعه عبد الرحمن بْن أبي العاص، ثم مضى حتى إذا حاذى جرير بْن عبد اللَّه ضمه إليه، وانضم إليه عبد اللَّه بْن ثور حين حازاه، ثم قدم على أهل نجران، فانضم إليه فروة بْن مسيك، وفارق عمرو بْن معديكرب قيسا، وأقبل مستجيبا، حتى دخل على المهاجر على غير أمان، فأوثقه المهاجر، وأوثق قيسا، وكتب بحالهما إلى أبي بكر رحمه اللَّه، وبعث بهما إليه فلما سار المهاجر من نجران إلى اللحجية، والتفت الخيول على تلك الفالة استأمنوا، فأبى أن يؤمنهم، فافترقوا فرقتين، فلقي المهاجر إحداهما بعجيب، فأتى عليهم، ولقيت خيوله الأخرى بطريق الأخابث، فأتوا عليهم -وعلى الخيول عبد اللَّه- وقتل الشرداء بكل سبيل، فقدم بقيس وعمرو على أبي بكر، فقال: يا قيس، أعدوت على عباد اللَّه تقتلهم وتتخذ المرتدين والمشركين وليجة من دون المؤمنين! وهم بقتله لو وجد أمرا جليا وانتفى قيس من أن يكون قارف من أمر داذويه شيئا، وكان ذلك عملا عمل في سر لم يكن به بينة، فتجافى له عن دمه، وقال لعمرو ابن معديكرب: أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور! لو نصرت هذا الدين لرفعك اللَّه ثم خلى سبيله، وردهما إلى عشائرهما، وقال عمرو: لا جرم! لأقبلن ولا أعود.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المستنير وموسى قالا: سار المهاجر من عجيب، حتى ينزل صنعاء، وأمر أن يتبعوا شُذَّاذ القبائل الذين هربوا، فقتلوا من قدروا عليه منهم كل قتلة، ولم يعف متمردا، وقبل توبة من أناب من غير المتمردة، وعملوا في ذلك على قدر ما رأوا من آثارهم، ورجوا عندهم وكتب إلى أبي بكر بدخوله صنعاء وبالذي يتبع من ذلك.
ذكر خبر حضرموت في ردتهم
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن سهل ابن يُوسُفَ، عَنِ الصَّلْتِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وَعُمَّالُهُ عَلَى بِلادِ حَضْرَمَوْتَ: زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْبَيَاضِيُّ عَلَى حَضْرَمَوْتَ وَعُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ عَلَى السَّكَاسِكِ وَالسّكُونِ، وَالْمُهَاجِرُ عَلَى كِنْدَةَ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدُ إِلَى قِتَالِ مَنْ بِالْيَمَنِ وَالْمُضِيِّ بَعْدُ إِلَى عَمَلِهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي السائب، عطاء ابن فلان الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَالْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، أَنَّهُ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْ تبوك، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَيْهِ عَاتِبٌ، فَبَيْنَا أُمُّ سَلَمَةَ تَغْسِلُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: كَيْفَ يَنْفَعُنِي شَيْءٌ وَأَنْتَ عَاتِبٌ عَلَى أَخِي! فَرَأَتْ مِنْهُ رِقَّةً، فَأَوْمَأَتْ إِلَى خَادِمِهَا، فدعته، فلم يزل برسول الله صلى الله عليه وسلم يَنْشُرُ عُذْرَهُ حَتَّى عَذَرَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَمَّرَهُ عَلَى كِنْدَةَ فَاشْتَكَى وَلَمْ يُطِقِ الذَّهَابَ، فَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ لِيَقُومَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ وَبَرَأَ بَعْدُ، فَأَتَمَّ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إِمْرَتَهُ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ مَنْ بَيْنَ نَجْرَانَ إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ، وَلِذَلِكَ أَبْطَأَ زِيَادٌ وَعُكَّاشَةُ عَنْ مُنَاجَزَةِ كِنْدَةَ انْتِظَارًا لَهُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بن محمد، قَالَ: كَانَ سَبَبُ رِدَّةِ كِنْدَةَ إِجَابَتَهُمُ الأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ حَتَّى لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلُوكَ الأَرْبَعَةَ، وَأَنَّهُمْ قَبْلَ رِدَّتِهِمْ حِينَ أَسْلَمُوا وَأَسْلَمَ أَهْلُ بِلادِ حَضْرَمَوْتَ كُلُّهُمْ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَا يُوضَعُ مِنَ الصَّدَقَاتِ أَنْ يُوضَعَ صَدَقَةُ بعض حضرموت في كنده، وتوضع صَدَقَةِ كِنْدَةَ فِي بَعْضِ حَضْرَمَوْتَ، وَبَعْضُ حَضْرَمَوْتَ فِي السكُونِ وَالسكُونُ فِي بَعْضِ حَضْرَمَوْتَ فَقَالَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي وَلِيعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَسْنَا بِأَصْحَابِ إِبِلٍ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْنَا بِذَلِكَ عَلَى ظَهْرٍ! فَقَالَ: «إِنْ رَأَيْتُمْ!» قَالُوا: فَإِنَّا نَنْظُرُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ظَهْرٌ فَعَلْنَا فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ ذَلِكَ الإِبَانُ، دَعَا زِيَادٌ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، فَحَضَرُوهُ، فَقَالَتْ بَنُو وَلِيعَةَ: أَبْلِغُونَا كَمَا وَعَدْتُمْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّ لَكُمْ ظَهْرًا، فَهَلُمُّوا فَاحْتَمِلُوا، وَلاحُوهُمْ، حَتَّى لاحُوا زِيَادًا، وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ مَعَهُمْ عَلَيْنَا فَأَبَى الْحَضْرَمِيُّونَ، وَلَجَّ الْكِنْدِيُّونَ، فَرَجَعُوا إِلَى دَارِهِمْ، وَقَدَّمُوا رِجْلا وَأَخَّرُوا أُخْرَى، وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ زِيَادٌ انْتِظَارًا لِلْمُهَاجِرِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُ صَنْعَاءَ، كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِكُلِّ الَّذِي صَنَعَ، وَأَقَامَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ جَوَابُ كِتَابِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَإِلَى عِكْرِمَةَ أَنْ يَسِيرَا حَتَّى يَقْدَمَا حَضْرَمَوْتَ، واقر زيادا على عمله، واذن لمن معك مِنْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ فِي الْقَفْلِ، إِلا ان يؤثر قوم الجهاد وامده بعبيده ابن سَعْدٍ فَفَعَلَ، فَسَارَ الْمُهَاجِرُ مِنْ صَنْعَاءَ يُرِيدُ حَضْرَمَوْتَ، وَسَارَ عِكْرِمَةُ مِنْ أَبْيَنَ يُرِيدُ حَضْرَمَوْتَ، فَالْتَقَيَا بِمَأْرِبٍ، ثُمَّ فوزا مِنْ صهيد، حَتَّى اقْتَحَمَا حَضْرَمَوْتَ، فَنَزَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الأَشْعَثِ وَالآخَرُ على وائل كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن أبيه، عن كثير بْن الصلت، قال: وكان زياد بْن لبيد حين رجع الكنديون ولجوا ولج الحضرميون، ولى صدقات بني عمرو بْن معاوية بنفسه، فقدم عليهم وهم بالرياض، فصدق أول من انتهى إليه منهم، وهو غلام، يقال له شيطان بْن حجر، فأعجبته بكرة من الصدقة، فدعا بنار فوضع عليها الميسم، وإذا الناقة لأخي الشيطان العداء بْن حجر، وليست عليه صدقة، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها وظنها غيرها، فقال العداء: هذه شذرة باسمها، فقال الشيطان: صدق أخي، فإني لم أعطكموها إلا وأنا أراها غيرها، فأطلق شذرة وخذ غيرها، فإنها غير متروكة فرأى زياد أن ذلك منه اعتلال، واتهمه بالكفر ومباعدة الإسلام وتحري الشر.
فحمي وحمي الرجلان، فقال زياد: لا ولا تنعم، ولا هي لك، لقد وقع عليها ميسم الصدقة وصارت في حق اللَّه، ولا سبيل إلى ردها، فلا تكونن شذرة عليكم كالبسوس، فنادى العداء: يا آل عمرو، بالرياض أضام واضطهد! إن الذليل من أكل في داره! ونادى: يا أبا السميط، فأقبل ابو السميط حارثة بن سراقه بن معديكرب، فقصد لزياد بْن لبيد وهو واقف، فقال: أطلق لهذا الفتى بكرته، وخذ بعيرا مكانها، فإنما بعير مكان بعير، فقال: ما إلى ذلك سبيل! فقال: ذاك إذا كنت يهوديا! وعاج إليها، فأطلق عقالها، ثم ضرب على جنبها، فبعثها وقام دونها، وهو يقول:
يمنعها شيخ بخديه الشيب *** ملمع كما يلمع الثوب
فأمر به زياد شبابا من حضرموت والسكون، فمغثوه وتوطئوه، وكتفوه وكتفوا أصحابه، وارتهنوهم، وأخذوا البكره فعقلوها كما كانت، وقال زياد ابن لبيد في ذلك:
لم يمنع الشذرة أركوب *** والشيخ قد يثنيه أرجوب
وتصايح أهل الرياض وتنادوا، وغضبت بنو معاوية لحارثة، وأظهروا أمرهم، وغضبت السكون لزياد، وغضبت له حضرموت، وقاموا جميعا دونه وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء وهؤلاء، لا تحدث بنو معاوية لمكان أسرائهم شيئا، ولا يجد أصحاب زياد على بني معاوية سبيلا يتعلقون به عليهم، فأرسل إليهم زياد: إما أن تضعوا السلاح، وإما أن تؤذنوا بحرب، فقالوا: لا نضع السلاح أبدا حتى ترسلوا أصحابنا، فقال زياد: لا يرسلون أبدا حتى ترفضوا وأنتم صغرة قمأة يا أخابث الناس، ألستم سكان حضرموت وجيران السكون! فما عسيتم أن تكونوا وتصنعوا في دار حضرموت، وفي جنوب مواليكم! وقالت له السكون: ناهد القوم، فإنه لا يفطمهم إلا ذلك، فنهد إليهم ليلا، فقتل منهم، وطاروا عباديد، وتمثل زياد حين أصبح في عسكرهم:
وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالما *** فلما أبوا سامحت في حرب حاطب
ولما هرب القوم خلى عن النفر الثلاثة، ورجع زياد إلى منزله على الظفر ولما رجع الأسراء إلى أصحابهم ذمروهم فتذامروا، وقالوا: لا تصلح البلدة علينا وعلى هؤلاء حتى تخلو لأحد الفريقين فأجمعوا وعسكروا جميعا، ونادوا بمنع الصدقة، فتركهم زياد لم يخرج إليهم، وتركوا المسير إليه وأرسل إليهم الحصين بْن نمير، فما زال يسفر فيما بينهم وبين زياد وحضرموت والسكون حتى سكن بعضهم عن بعض، وهذه النفرة الثانية، وقال السكوني في ذلك:
لعمري وما عمرى بعرضه جانب *** ليجتلبن منها المرار بنو عمرو
كذبتم وبيت اللَّه لا تمنعونها *** زيادا، وقد جئنا زيادا على قدر
فأقاموا بعد ذلك يسيرا.
ثم إن بني عمرو بْن معاوية خصوصا خرجوا إلى المحاجر، إلى أحماء حموها، فنزل جمد محجرا، ومخوص محجرا، ومشرح محجرا، وأبضعة محجرا، وأختهم العمردة محجرا -وكانت بنو عمرو ابن معاوية على هؤلاء الرؤساء- ونزلت بنو الحارث بْن معاوية محاجرها، فنزل الأشعث بْن قيس محجرا، والسمط بْن الأسود محجرا، وطابقت معاوية كلها على منع الصدقة، وأجمعوا على الردة إلا ما كان من شرحبيل بْن السمط وابنه، فإنهما قاما في بني معاوية، فقالا: والله إن هذا لقبيح بأقوام أحرار التنقل، إن الكرام ليكونون على الشبهة فيتكرمون أن يتنقلوا منها إلى أوضح منها مخافة العار، فكيف بالرجوع عن الجميل، وعن الحق إلى الباطل والقبيح! اللهم انا لا نمالى قومنا على هذا، وإنا لنادمون على مجامعتهم إلى يومنا هذا -يعني يوم البكرة ويوم النفره- وخرج شرحبيل بْن السمط وابنه السمط، حتى أتيا زياد بْن لبيد، فانضما إليه، وخرج ابن صالح وامرؤ القيس بْن عابس، حتى أتيا زيادا، فقالا له: بيت القوم، فإن أقواما من السكاسك قد انضموا إليهم، وقد تسرع إليهم قوم من السكون وشذاذ من حضرموت، لعلنا نوقع بهم وقعة تورث بيننا عداوة، وتفرق بيننا، وإن أبيت خشينا أن يرفضَّ الناس عنا إليهم، والقوم غارون لمكان من أتاهم، راجون لمن بقي فقال: شأنكم فجمعوا جمعهم، فطرقوهم في محاجرهم، فوجدوهم حول نيرانهم جلوسا، فعرفوا من يريدون، فأكبوا على بني عمرو بْن معاوية، وهم عدد القوم وشوكتهم، من خمسة أوجه في خمس فرق، فأصابوا مشرحا ومخوصا وجمدا وأبضعة وأختهم العمردة، أدركتهم اللعنة، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، ووهنت بنو عمرو بْن معاوية، فلم يأتوا بخير بعدها، وانكفأ زياد بالسبي والأموال، وأخذوا طريقا يفضي بهم إلى عسكر الأشعث وبني الحارث بْن معاوية، فلما مروا بهم فيه استغاث نسوة بني عمرو بْن معاوية ببني الحارث ونادينه: يا أشعث، يا أشعث! خالاتك خالاتك! فثار في بني الحارث فتنقذهم- وهذه الثالثة- وقال الأشعث:
منعت بني عمرو وقد جاء جمعهم *** بأمعز من يوم البضيض وأصبرا
وعلم الأشعث أن زيادا وجنده إذا بلغهم ذلك لم يقلعوا عنه ولا عن بني الحارث بْن معاوية وبني عمرو بْن معاوية، فجمع إليه بني الحارث بْن معاوية وبني عمرو بْن معاوية، ومن أطاعه من السكاسك والخصائص من قبائل ما حولهم، وتباين لهذه الوقعة من بحضرموت من القبائل، فثبت أصحاب زياد على طاعة زياد، ولجت كندة، فلما تباينت القبائل كتب زياد إلى المهاجر، وكاتبه الناس فتلقاه بالكتاب، وقد قطع صهيد -مفازة ما بين مأرب وحضرموت- واستخلف على الجيش عكرمة، وتعجل في سرعان الناس، ثم سار حتى قدم على زياد، فنهد إلى كندة وعليهم الأشعث، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا به فهزمت كندة، وقتلت وخرجوا هرابا، فالتجأت إلى النجير وقد رموه وحصنوه، وقال في يوم محجر الزرقان المهاجر:
كنا بزرقان إذ يشردكم *** بحر يزجي في موجه الحطبا
نحن قتلناكم بمحجركم *** حتى ركبتم من خوفنا السببا
إلى حصار يكون أهونه *** سبي الذراري وسوقها خببا
وسار المهاجر في الناس من محجر الزرقان حتى نزل على النجير، وقد اجتمعت إليه كندة، فتحصنوا فيه، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، على ثلاثة سبل، فنزل زياد على أحدها، ونزل المهاجر على الآخر، وكان الثالث لهم يؤتون فيه ويذهبون فيه، إلى أن قدم عكرمة في الجيش، فأنزله على ذلك الطريق، فقطع عليهم المواد وردهم، وفرق في كندة الخيول، وأمرهم أن يوطئوهم وفيمن بعث يزيد بْن قنان من بني مالك بْن سعد، فقتل من بقرى بني هند إلى برهوت، وبعث فيمن بعث إلى الساحل خالد بْن فلان المخزومي وربيعة الحضرمي، فقتلوا أهل محا وأحياء أخر، وبلغ كندة وهم في الحصار ما لقي سائر قومهم، فقالوا: الموت خير مما أنتم فيه، جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم، فأنعم عليكم فبؤتم بنعمه، لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة فجزوا نواصيهم، وتعاقدوا وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعض، وجعل راجزهم يرتجز في جوف الليل فوق حصنهم:
صباح سوء لبني قتيرة *** وللأمير من بني المغيرة
وجعل راجز المسلمين زياد بْن دينار يرد عليهم:
لا توعدونا واصبروا حصيره *** نحن خيول ولد المغيره
وفي الصباح تظفر العشيره
فلما أصبحوا خرجوا على الناس، فاقتتلوا بأفنية النجير، حتى كثرت القتلى بحيال كل طريق من الطرق الثلاثة، وجعل عكرمة يرتجز يومئذ، ويقول:
أطعنهم وأنا على أوفاز *** طعنا أبوء به على مجاز
ويقول:
أنفذ قولي وله نفاذ *** وكل من جاورني معاذ
فهزمت كندة، وقد أكثروا فيهم القتل.
وقال هشام بْن مُحَمَّد: قدم عكرمة بْن أبي جهل بعد ما فرغ المهاجر من أمر القوم مددا له، فقال زياد والمهاجر لمن معهما: إن إخوانكم قدموا مددا لكم، وقد سبقتموهم بالفتح فأشركوهم في الغنيمة ففعلوا وأشركوا من لحق بهم، وتواصوا بذلك، وبعثوا بالأخماس والأسرى، وسار البشير فسبقهم، وكانوا يبشرون القبائل ويقرءون عليهم الفتح.
وكتب إلي السري، قال: كتب أبو بكر رحمه اللَّه إلى المهاجر مع المغيرة بْن شعبة: إذا جاءكم كتابي هذا ولم تظفروا، فإن ظفرتم بالقوم فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية إن أخذتموهم عنوة، أو ينزلوا على حكمي، فإن جرى بينكم صلح قبل ذلك فعلى أن تخرجوهم من ديارهم، فإني أكره أن أقر أقواما فعلوا فعلهم في منازلهم، ليعلموا أن قد أساءوا، وليذوقوا وبال بعض الذي أتوا.
قال أبو جعفر: ولما رأى أهل النجير المواد لا تنقطع عن المسلمين، وأيقنوا أنهم غير منصرفين عنهم، خشعت أنفسهم، ثم خافوا القتل، وخاف الرؤساء على أنفسهم، ولو صبروا حتى يجيء المغيرة لكانت لهم في الثالثة الصلح على الجلاء نجاة فعجل الأشعث، فخرج إلى عكرمة بأمان، وكان لا يأمن غيره، وذلك أنه كانت تحته أسماء ابنة النعمان بْن الجون، خطبها وهو يومئذ بالجند ينتظر المهاجر، فأهداها إليه أبوها قبل أن يبادوا، فأبلغه عكرمة المهاجر، واستأمنه له على نفسه، ونفر معه تسعة، على ان يؤمنهم وأهليهم وان يفتحوا لهم الباب، فأجابه إلى ذلك، وقال: انطلق فاستوثق لنفسك، ثم هلم كتابك أختمه.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني، عن سعيد بْن أبي بردة، عن عامر، أنه دخل عليه فاستأمنه على أهله وماله، وتسعة ممن أحب، وعلى أن يفتح لهم الباب فيدخلوا على قومه.
فقال له المهاجر: اكتب ما شئت واعجل، فكتب أمانه وأمانهم، وفيهم أخوه وبنو عمه وأهلوهم، ونسي نفسه، عجل ودهش ثم جاء بالكتاب فختمه، ورجع فسرب الذين في الكتاب.
وقال الأجلح والمجالد: لما لم يبق إلا أن يكتب نفسه وثب عليه جحدم بشفرة، وقال: نفسك أو تكتبني! فكتبه وترك نفسه.
قال أبو إسحاق: فلما فتح الباب اقتحمه المسلمون فلم يدعوا فيه مقاتلا إلا قتلوه، ضربوا أعناقهم صبرا، وأحصي ألف امرأة ممن في النجير والخندق، ووضع على السبي والفيء الأحراس، وشاركهم كثير.
وقال كثير بْن الصلت: لما فتح الباب وفُرغ ممن في النجير، وأحصي ما أفاء اللَّه عليهم، دعا الأشعث بأولئك النفر، ودعا بكتابه فعرضهم، فأجاز من في الكتاب، فإذا الأشعث ليس فيه، فقال المهاجر: الحمد لله الذي أخطاك نوءك يا أشعث، يا عدو اللَّه! قد كنت أشتهي أن يخزيك اللَّه. فشده وثاقا، وهم بقتله، فقال له عكرمة: أخره، وأبلغه أبا بكر، فهو أعلم بالحكم في هذا وإنه كان رجلا نسي اسمه أن يكتبه، وهو ولي المخاطبة أفذاك يبطل ذاك! فقال المهاجر: إن أمره لبين، ولكني أتبع المشورة وأوثرها وأخره وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فكان معهم يلعنه المسلمون ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عُرْف النار -كلام يمان يسمون به الغادر- وقد كان المغيرة تحير ليله للذي أراد اللَّه، فجاء والقوم في دمائهم والسبي على ظهر، وسارت السبايا والأسرى، فقدم القوم على أبي بكر رحمه اللَّه بالفتح والسبايا والأسرى فدعا بالاشعث، فقال: استزلك بنو وليعه، ولم تكن لتستزل لهم -ولا يرونك لذلك أهلا- وهلكوا وأهلكوك! أما تخشى ان تكون دعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إليك منها طرف! ما تراني صانعا بك؟ قال: إني لا علم لي برأيك، وأنت أعلم برأيك، قال: فإني أرى قتلك قال: فإني أنا الذي راوضت القوم في عشرة، فما يحل دمي، قال: أفوضوا إليك؟ قال: نعم، قال: ثم أتيتهم بما فوضوا إليك فختموه لك؟ قال: نعم، قال: فإنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من في الصحيفة، وإنما كنت قبل ذلك مراوضا فلما خشي أن يقع به قال: أو تحتسب في خيرا فتطلق إساري وتقيلني عثرتي، وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد علي زوجتي! وقد كان خطب أم فروة بنت أبي قحافة مقدمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل الأشعث ما فعل، فخشي ألا ترد عليه تجدني خير أهل بلادي لدين اللَّه! فتجافى له عن دمه، وقبل منه، ورد عليه أهله، وقال: انطلق فليبلغني عنك خير، وخلى عن القوم فذهبوا، وقسم أبو بكر في الناس الخمس، واقتسم الجيش الأربعة الأخماس.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ حُمَيْدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ، أَنَّ الأَشْعَثَ لَمَّا قُدِمَ بِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: مَاذَا تَرَانِي أَصْنَعُ بِكَ، فَإِنَّكَ قَدْ فَعَلْتَ مَا عَلِمْتَ! قَالَ: تَمُنَّ على فتفكتنى مِنَ الْحَدِيدِ وَتُزَوِّجْنِي أُخْتَكَ، فَإِنِّي قَدْ رَاجَعْتُ وَأَسْلَمْتُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ فَعَلْتُ فَزَوَّجَهُ أُمَّ فَرْوَةَ ابْنَةَ أَبِي قُحَافَةَ، فَكَانَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقِ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ: فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: انه لَيَقْبُحُ بِالْعَرَبِ أَنْ يَمْلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ، وَفَتَحَ الأَعَاجِمَ.
وَاسْتَشَارَ فِي فِدَاءِ سَبَايَا الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ إِلا امْرَأَةً وُلِدَتْ لِسَيِّدِهَا، وَجَعَلَ فِدَاءَ كُلِّ إِنْسَانٍ سَبْعَةَ أبعرة وسته أبعرة الا حنيفه وكنده، فَإِنَّهُ خَفَّفَ عَنْهُمْ لِقَتْلِ رِجَالِهِمْ، وَمَنْ لا يَقْدِرُ عَلَى فِدَاء لقيامهم وأهل دبا، فَتَتَبَّعَتْ رِجَالُهُمْ نِسَاءَهُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ فَوَجَدَ الأَشْعَثُ فِي بَنِي نَهْدٍ وَبَنِي غُطَيْفٍ امْرَأَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَفَ فِيهَا يَسْأَلُ عَنْ غُرَابٍ وَعُقَابٍ، فَقِيلَ: مَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَنَا يَوْمَ النُّجَيْرِ خَطَفَهُنَّ الْعُقْبَانُ وَالْغِرْبَانُ وَالذِّئَابُ وَالْكِلابُ فَقَالَ بَنُو غُطَيْفٍ: هَذَا غُرَابٌ، قَالَ: فَمَا مَوْضِعُهُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: فِي الصِّيَانَةِ، قَالَ: فَنَعَمْ، وَانْصَرَفَ وَقَالَ عُمَرُ: لا مُلْكَ عَلَى عَرَبِيٍّ، لِلَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ.
قَالُوا: وَنَظَرَ الْمُهَاجِرُ فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَ أَبُوهَا النعمان بن الجون أهداها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَوَصَفَهَا أَنَّهَا لَمْ تَشْتَكِ قَطُّ، فَرَدَّهَا، وَقَالَ: «لا حَاجَةَ لَنَا بِهَا»، بَعْدَ أَنْ أَجْلَسَهَا بين يديه وقال له: «لَوْ كَانَ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لاشْتَكَتْ» فَقَالَ الْمُهَاجِرُ لِعِكْرِمَةَ: مَتَى تَزَوَّجْتَهَا؟
قَالَ: وَأَنَا بِعَدْنٍ، فَأُهْدِيَتْ إِلَيَّ بِالْجُنْدِ، فَسَافَرْتُ بِهَا إِلَى مَأْرِبٍ، ثُمَّ أَوْرَدْتُهَا الْعَسْكَرَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَعْهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَهْلٍ أَنْ يُرْغَبَ فِيهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَدَعْهَا فَكَتَبَ الْمُهَاجِرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ أَبَاهَا النُّعْمَانَ بْنَ الجون اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَزَيَّنَهَا لَهُ حَتَّى أَمَرَهُ أَنْ يَجِيئَهُ بِهَا، فَلَمَّا جَاءَهُ بِهَا قَالَ: أُزِيدُكَ أَنَّهَا لَمْ تيجع شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ: «لَوْ كَانَ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لاشْتَكَتْ»، وَرَغِبَ عَنْهَا، فَارْغَبُوا عَنْهَا فأرسلها وبقي في قريش بعد ما أَمَرَ عُمَرُ فِي السَّبْيِ بِالْفِدَاءِ عِدَّةً، مِنْهُمْ بُشْرَى بِنْتُ قَيْسِ بْنِ أَبِي الْكَيْسَمِ، عِنْدَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُمَرَ، وَزُرْعَةُ بِنْتُ مِشْرَحٍ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَلَدَتْ لَهُ عَلِيًّا.
وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمُهَاجِرِ يُخَيِّرُهُ الْيَمَنَ أَوْ حَضْرَمَوْتَ، فَاخْتَارَ الْيَمَنَ، فَكَانَتِ الْيَمَنُ عَلَى أَمِيرَيْنِ: فَيْرُوزَ وَالْمُهَاجِرِ، وَكَانَتْ حَضْرَمَوْتَ عَلَى أَمِيرَيْنِ: عُبَيْدَةَ بْنِ سَعْدٍ عَلَى كِنْدَةَ وَالسَّكَاسِكَ، وَزِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ عَلَى حَضْرَمَوْتَ.
وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَّالِ الرِّدَّةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ أَحَبَّ مَنْ أَدْخَلْتُمْ فِي أُمُورِكُمْ إِلَيَّ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ وَمَنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ، فَأَجْمِعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَاتَّخِذُوا مِنْهَا صَنَائِعَ، وَائْذَنُوا لِمَنْ شَاءَ فِي الانْصِرَافِ، وَلا تَسْتَعِينُوا بِمُرْتَدٍّ فِي جِهَادِ عَدُوٍّ.
وَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ مئناس السَّكُونِيُّ يَبْكِي أَهْلَ النُّجَيْرِ:
لَعَمْرِي وَمَا عَمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ *** لَقَدْ كُنْتُ بِالْقَتْلَى لَحَقَّ ضَنِينِ
فَلا غَرْوَ إِلا يَوْمَ اقرع بَيْنَهُمْ *** وَمَا الدَّهْرُ عِنْدِي بَعْدَهُمْ بِأَمِينِ
فَلَيْتَ جُنُوبُ النَّاسِ تَحْتَ جُنُوبِهِمْ *** وَلَمْ تَمْشِ أُنْثَى بَعْدَهُمْ لِجَنِينِ
وَكُنْتُ كَذَاتِ الْبَوِّ رِيَعَتْ فَأَقْبَلَتْ *** عَلَى بَوِّهَا إِذْ طَرَّبَتْ بِحَنِينِ
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ: وَقَعَ إِلَى الْمُهَاجِرِ امْرَأَتَانِ مُغَنِّيَتَانِ، غَنَّتْ إِحْدَاهُمَا بشتم رسول الله صلى لله عليه وسلم، فَقَطَعَ يَدَهَا، وَنَزَعَ ثنيتَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي الَّذِي سِرْتَ بِهِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تَغَنَّتْ وَزَمَرَتْ بِشَتِيمَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَوْلا مَا قَدْ سَبَقْتَنِي فِيهَا لأَمَرْتُكَ بِقَتْلِهَا، لأَنَّ حَدَّ الأَنْبِيَاءِ لَيْسَ يُشْبِهُ الْحُدُودَ، فَمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ مُسْلِمٍ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، أَوْ مُعَاهِدٍ فَهُوَ مُحَارِبٌ غَادِرٌ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فِي الَّتِي تَغَنَّتْ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ: أَمَّا بعد، فانه بلغنى انك قطعت يدا امْرَأَةٍ فِي أَنْ تَغَنَّتْ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَزَعْتَ ثنيتَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَدَّعِي الإِسْلامَ فَأَدَبٌ وَتَقْدِمَةٌ دُونَ الْمُثْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَلَعَمْرِي لَمَا صَفَحْتَ عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ، وَلَوْ كنت تَقَدَّمَتْ إِلَيْكَ فِي مِثْلِ هَذَا لَبَلَغَتْ مَكْرُوهًا، فَاقْبَلِ الدِّعَةَ وَإِيَّاكَ وَالْمُثْلَةَ فِي النَّاسِ، فَإِنَّهَا مأثم ومنفره الا في قصاص.
حوادث متفرقة
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ -أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى عَشَرَةَ- انصرف معاذ بن جبل من اليمن.
وستقضى أَبُو بَكْرٍ فِيهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ أَيَّامَ خِلافَتِهِ كُلِّهَا.
وَفِيهَا أَمَّرَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْمَوْسِمِ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ- فِيمَا ذَكَرَهُ الَّذِينَ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ خَبَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ ذَكَرْتُ قَبْلُ فِي كِتَابِي هَذَا أَسْمَاءَهُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشَرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ تَأْمِيرِ أَبِي بَكْرٍ إِيَّاهُ بِذَلِكَ.