فتوفي عبد المطلب بعد الفيل بثماني سنين، كَذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الله بن أبي بكر: …
وكان عبد المطلب يوصى برسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، وذلك أن أبا طالب، وعبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا لأم، فكان أبو طالب هو الذي يلى امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، وكان يكون معه ثم إن أبا طالب خرج في ركب من قريش إلى الشام تاجرا، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير ضب به رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما يزعمون- فرق له أبو طالب، فقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا، أو كما قال فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له، وكان ذا علم من أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة مذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب- فيما يزعمون- يتوارثونه كابرا عن كابر فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى، صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته، عليه غمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين اظلت الشجرة، وتهصرت اغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى استظل تحتها، فلما راى ذلك بحيرى، نزل من صومعته، ثم أرسل إليهم فدعاهم جميعا، فلما راى بحيرى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته.
فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا، سال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء في حاله، في يقظته وفي نومه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيجدها بحيرى موافقة لما عنده من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، ثم قال بحيرى لعمه أبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابنى، فقال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال:
مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع به الى بلدك، واحذر عليه يهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنه شرا، فإنه كائن له شأن عظيم، فأسرع به إلى بلده فخرج به عمه سريعا حتى أقدمه مكة.
وقال هشام بن محمد: خرج ابو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بصرى من أرض الشام، وهو ابن تسع سنين.
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حدثنا ابو نوح، قال: حدثنا يونس ابن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ- وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلا يَلْتَفِتُ.
قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخُ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ قَالَ:
إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ تَبْقَ شَجَرَةٌ وَلا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، وَلا يَسْجُدُونَ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ.
ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ كَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الإِبِلِ.
قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَيْهِ، عَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ! فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ، قَالَ:
فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَلَّا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِنْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَقَتَلُوهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِسَبْعَةِ نَفَرٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهَا نَاسٌ، وَإِنَّا اخْتِرْنَا خِيرَةَ، بَعْثِنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا، قَالَ لَهُمْ: هَلْ خَلَّفْتُمْ خَلْفَكُمْ أَحَدًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟
قَالُوا: لا، إِنَّمَا اخْتِرْنَا خِيرَةً لِطَرِيقِكَ هَذَا، قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ، هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ! قَالُوا: لا، فَتَابَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِلالًا، وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ،عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا أُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بِسُوءٍ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرِسَالَتِهِ، فَإِنِّي قَدْ قُلْتُ لَيْلَةً لِغُلامٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ يَرْعَى مَعِي بِأَعْلَى مَكَّةَ: لَوْ أَبْصَرْتَ لِي غَنَمِي حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الشَّبَابُ! فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ، سَمِعْتُ عَزْفًا بِالدُّفُوفِ وَالْمَزَامِيرِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: فلان ابن فُلانٍ تَزَوَّجَ بِفُلانَةٍ بِنْتِ فُلانٍ فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَنِمْتُ فَمَا أَيْقَظَنِي إِلا مَسُّ الشَّمْسِ، قَالَ: فَجِئْتُ صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ قُلْتُ: مَا صَنَعْتُ شَيْئًا، ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ:
أَفْعَلُ، فَخَرَجْتُ فَسَمِعْتُ حِينَ جِئْتُ مَكَّةَ مِثْلَ مَا سَمِعْتُ حِينَ دَخَلْتُ مَكَّةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، فضرب الله على اذنى، فو الله مَا أَيْقَظَنِي إِلا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهَا بِسُوءٍ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرِسَالَتِهِ».