ومن ذلك ما كان من أمر ربيعة والجيش الذي كان أنفذه إليهم كسرى أبرويز لحربهم، فالتقوا بذي قار، وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم …
أنه لما بلغه ما كان من هزيمة ربيعة جيش كسرى، قال: «هذا أول يوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا» وهو يوم قراقر ويوم الحنو حنو ذي قار، ويوم حنو قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذي العجرم، ويوم الغذوان، ويوم البطحاء، بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار.
فحدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: حدثني ابو المختار فراس بن خندق- او خندقه- وعدة من علماء العرب قد سماهم، أن الذي جر يوم ذي قار، قتل النعمان بن المنذر اللخمي عدي بن زيد العبادي، وكان عدي من تراجمة أبرويز كسرى بن هرمز.
وكان سبب قتل النعمان بن المنذر عدي بن زيد، ما ذكر لي عن هشام ابن محمد، قال: سمعت إسحاق بن الجصاص- وأخذته من كتاب حماد وقد ذكر أبي بعضه- قال: ولد زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم ثلاثة: عديا الشاعر، وكان جميلا شاعرا خطيبا، وقد قرأ كتب العرب والفرس، وعمارا- وهو أبي- وعمرا- وهو سمي- ولهم أخ من أمهم، يقال له عدي بن حنظله من طيّئ وكان عمار يكون عند كسرى، فكان أحدهما يشتهي هلاك عدي بن زيد، وكان الآخر يتدين في نصرانيته، وكانوا أهل بيت يكونون مع الأكاسرة لهم معهم أكل وناحية، يقطعونهم القطائع، ويجزلون صلاتهم وكان المنذر بن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي، فهم الذين ارضعوه وربوه، وكان للمنذر ابن آخر يقال له الأسود، أمه مارية بنت الحارث بن جلهم من تيم الرباب، فارضعه، ورباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم: بنو مرينا، ينسبون إلى لخم، وكانوا أشرافا وكان للمنذر بن المنذر سوى هذين من الولد عشرة، وكان يقال لولده كلهم الأشاهب، من جمالهم، فذلك قول الأعشى:
وبنو المنذر الأشاهب بالحيرة *** يمشون غدوة بالسيوف
وكان النعمان أحمر أبرش قصيرا، وكانت أمه يقال لها سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ من اهل فدك، وكانت أمه للحارث ابن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب من كلب، وكان قابوس بن المنذر الأكبر عم النعمان وإخوته، بعث إلى كسرى بن هرمز بعدي بن زيد وإخوته، فكانوا في كتابه يترجمون له، فلما مات المنذر بن المنذر وترك ولده هؤلاء الثلاثة عشر، جعل على أمره كله إياس بن قبيصة الطائي وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى رأيه فكان عليه أشهرا، وكسرى في طلب رجل يملكه على العرب ثم إن كسرى بن هرمز دعا عدي بن زيد، فقال له: من بقي من بني المنذر؟ وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال: بقيتهم في ولد هذا الميت المنذر بن المنذر، وهم رجال، فقال: ابعث إليهم، فكتب فيهم فقدموا عليه، فأنزلهم على عدي بن زيد فكان عدي يفضل إخوة النعمان عليه في النزل، وهو يريهم أنه لا يرجوه ويخلو بهم رجلا رجلا، ويقول لهم: ان سألكم الملك: اتكفوني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلا النعمان، وقال للنعمان:
إن سألك الملك: عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز.
وكان من بني مرينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، وكان ماردا شاعرا، وكان يقول للأسود بن المنذر: إنك قد عرفت أني لك راج، وأن طلبتي ورغبتي إليك أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله لا ينصح لك أبدا فلم يلتفت إلى قوله.
فلما أمر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم عليه رجلا رجلا، فيكلمه، فكان يرى رجالا قلما رأى مثلهم، فإذا سألهم:
هل تكفونني ما كنتم تلون؟ قالوا: نكفيك العرب إلا النعمان فلما دخل عليه النعمان رأى رجلا دميما فكلمه، وقال له: أتستطيع أن تكفيني العرب؟
قال: نعم: قال، فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز فملكه وكساه، وألبسه تاجا قيمته ستون ألف درهم، فيه اللؤلؤ والذهب مفلما خرج- وقد ملك- قال عدي بن أوس بن مرينا للأسود:
دونك فإنك قد خالفت الرأي ثم إن عدي بن زيد صنع طعاما في بيعة، ثم أرسل إلى ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت، فإن لي حاجة، فأتاه في ناس فتغدوا في البيعة، وشربوا، فقال: عدي بن زيد لعدي بن مرينا: يا عدي، إن أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه، من كان مثلك، إني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحب ألا تحقد علي شيئا لو قدرت عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيتك من نفسي، فإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك فقام عدي بن زيد إلى البيعة فحلف ألا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يزوي عنه خبرا أبدا فلما فرغ عدي بن زيد قام عدي بن مرينا، فحلف على مثل يمينه الا يزال يهجوه أبدا، ويبغيه الغوائل ما بقي وخرج النعمان حتى نزل منزله بالحيرة، فقال عدي بن مرينا لعدي بن زيد:
ألا أبلغ عديا عن عدي *** فلا تجزع وإن رثت قواكا
هياكلنا تبز لغير فقر *** لتحمد أو يتم به غناكا
فإن تظفر فلم تظفر حميدا *** وإن تعطب فلا يبعد سواكا
ندمت ندامة الكسعي لما *** رأت عيناك ما صنعت يداكا
وقال عدي بن مرينا للأسود: اما إذ لم تظفر فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدي، الذي عمل بك ما عمل فقد كنت أخبرك أن معدا لا ينام مكرها امرتك أن تعصيه فخالفتني قال: فما تريد؟ قال: أريد ألا يأتيك فائدة من مالك وأرضك إلا عرضتها علي ففعل.
وكان ابن مرينا كثير المال والضيعة، فلم يك في الدهر يوم إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا، فصار من أكرم الناس عليه، وكان لا يقضي في ملكه شيئا إلا بأمر عدي بن مرينا، وكان إذا ذكر عدي بن زيد عنده أحسن عليه الثناء، وذكر فضله، وقال: إنه لا يصلح المعدي الا ان يكون فيه مكر وخديعه فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عدى ابن زيد عند الملك بخير فقولوا: إنه لكما تقول، ولكنه لا يسلم عليه أحد، وإنه ليقول: إن الملك- يعني النعمان- عامله، وإنه ولاه ما ولاه، فلم يزالوا بذلك حتى أضغنوه عليه وكتبوا كتابا على لسان عدي إلى قهرمان لعدي ثم دسوا له، حتى أخذوا الكتاب، ثم أتي به النعمان فقرأه، فأغضبه، فأرسل إلى عدي بن زيد: عزمت عليك إلا زرتني، فإني قد اشتقت إلى رؤيتك! وهو عند كسرى فاستأذن كسرى، فأذن له، فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبس في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، فجعل عدي بن زيد يقول الشعر وهو في السجن، فكان أول ما قال في السجن من الشعر:
ليت شعري عن الهمام ويأتيك *** بخبر الأنباء عطف السؤال
فقال أشعارا، وكان كلما قال عدي من الشعر، بلغ النعمان وسمعه ندم على حبسه إياه، فجعل يرسل إليه ويعده ويمنيه ويفرق أن يرسله فيبغيه الغوائل، فقال عدي:
أرقت لمكفهر بات فيه *** بوارق يرتقين رءوس شيب
وقال أيضا:
طال ذا الليل علينا واعتكر.
وقال أيضا:
ألا طال الليالي والنهار.
وقال حين أعياه ما يتضرع إلى النعمان أشعارا، يذكره فيها الموت، ويخبره من هلك من الملوك قبله، فقال:
أرواح مودع أم بكور.
وأشعارا كثيرة.
قال: وخرج النعمان يريد البحرين، فأقبل رجل من غسان، فأصاب في الحيرة ما أحب ويقال: الذي أغار على الحيرة فحرق فيها، جفنة بن النعمان الجفني، فقال عدي:
سما صقر فأشعل جانبيها *** وألهاك المروح والعزيب
فلما طال سجن عدي كتب إلى أخيه أبي، وهو مع كسرى بشعر فقال:
ابلغ أبيا على نايه *** وهل ينفع المرء ما قد علم!
بأن أخاك شقيق الفؤاد، *** كنت به والها ما سلم
لدى ملك موثق بالحديد *** إما بحق وإما ظلم
فلا أعرفنك كدأب الغلام *** ما لم يجد عارما يعترم
فأرضك أرضك إن تأتنا *** تنم نومة ليس فيها حلم
فكتب إليه اخوه:
ان يكن خانك الزمان فلا عاجز *** باع ولا ألف ضعيف
ويمين الإله لو أن جأواء *** طحونا تضيء فيها السيوف
ذات رز مجتابه غمرة الموت *** صحيح سربالها مكفوف
كنت في حميها، لجئنك أسعى *** فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف
أو بمال سئلت دونك لم يمنع *** تلاد لحاجة أو طريف
أو بأرض أسطيع آتيك فيها *** لم يهلني بعيدها أو مخوف
في الأعادي وأنت مني بعيد *** عز هذا الزمان والتعريف
إن تفتني والله إلفا فجوعا *** لا يعقبك ما يصوب الخريف
فلعمري لئن جزعت عليه *** لجزوع على الصديق أسوف
ولعمري لئن ملكت عزائي *** لقليل شرواك فيما أطوف
فزعموا أن أبيا لما قرأ كتاب عدي قام إلى كسرى فكلمه، فكتب وبعث معه رجلا، وكتب خليفة النعمان إليه: إنه قد كتب إليك في أمره فأتاه أعداء عدى من بنى بقيلة من غسان، فقالوا: اقتله الساعة، فأبى عليهم وجاء الرجل، وقد تقدم أخو عدي إليه ورشاه، وأمره أن يبدأ بعدي، فدخل عليه وهو محبوس بالصنين، فقال: ادخل عليه فانظر ما يأمرك به، فدخل الرسول على عدي، فقال: إني قد جئت بإرسالك، فما عندك؟ قال: عندي الذي تحب، ووعده عدة، وقال: لا تخرجن من عندي، وأعطني الكتاب حتى أرسل به، فإنك والله إن خرجت من عندي لأقتلن، فقال: لا أستطيع إلا أن آتي الملك بالكتاب، فأدخله عليه، فانطلق مخبر حتى أتى النعمان، فقال: إن رسول كسرى قد دخل على عدي وهو ذاهب به، وإن فعل والله لم يستبق منا أحدا، أنت ولا غيرك فبعث إليه النعمان أعداءه فغموه حتى مات، ثم دفنوه.
ودخل الرسول على النعمان بالكتاب، فقال: نعم وكرامة! وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية، وقال له: إذا أصبحت فادخل عليه، فأخرجه أنت بنفسك فلما أصبح ركب، فدخل السجن، فقال له الحرس: إنه قد مات منذ أيام، فلم نجترئ على أن نخبر الملك للفرق منه، وقد علمنا كراهته لموته فرجع إلى النعمان فقال: إني قد دخلت عليه وهو حي، وجئت اليوم فجحدنى السجان وبهتني وذكر له انه قد مات منذ ايام فقال له النعمان:
يبعثك الملك إلي فتدخل إليه قبلي! كذبت، ولكنك أردت الرشوة والخبث.
فتهدده ثم زاده جائزة وأكرمه، واستوثق منه ألا يخبر كسرى، إلا أنه قد مات قبل أن يقدم عليه.
فرجع الرسول إلى كسرى، فقال: إنه قد مات قبل أن ادخل عليه، وندم النعمان على موت عدي، واجترأ أعداء عدي على النعمان، وهابهم النعمان هيبة شديدة، فخرج النعمان في بعض صيده ذات يوم، فلقي ابنا لعدي، يقال له زيد، فلما رآه عرف شبهه، فقال: من أنت؟ قال: أنا زيد بن عدي بن زيد، فكلمه فإذا غلام ظريف، ففرح به فرحا شديدا، وقربه وأعطاه، واعتذر إليه من أمر أبيه، وجهزه، ثم كتب إلى كسرى إن عديا كان ممن أعين به الملك في نصحه ولبه، فأصابه ما لا بد منه، وانقضت مدته، وانقطع أكله، ولم يصب به أحد أشد من مصيبتي، وأما الملك فلم يكن ليفقد رجلا إلا جعل الله له منه خلفا، لما عظم الله له من ملكه وشأنه، وقد أدرك له ابن ليس دونه، وقد سرحته إلى الملك، فإن رأى الملك أن يجعله مكان أبيه، فليفعل.
فلما قدم الغلام على كسرى جعله مكان أبيه، وصرف عمه إلى عمل آخر، فكان هو الذي يلي ما كتب به إلى أرض العرب، وخاصة الملك وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة: مهران أشقران والكمأة الرطبة في حينها واليابسة، والأقط والأدم وسائر تجارات العرب، فكان زيد بن عدي بن زيد يلي ذلك، وكان هذا عمل عدي.
فلما وقع عند الملك بهذا الموقع، سأله كسرى عن النعمان، فأحسن عليه الثناء، فمكث سنوات بمنزلة أبيه، وأعجب به كسرى، وكان يكثر الدخول عليه، وكانت لملوك الأعاجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة، فإذا وجدت حملت إلى الملك غير أنهم لم يكونوا يتناولون أرض العرب بشيء من ذلك، ولا يريدونه فبدأ الملك في طلب النساء فكتب بتلك الصفة ثم دخل على كسرى فكلمه فيما دخل فيه، ثم قال: إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عالما، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة قال: فتكتب فيهن قال: أيها الملك، إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصه أنهم يتكرمون- زعموا في أنفسهم- عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهن، عمن تبعث إليه، أو يعرض عليه غيرهن، وإن قدمت أنا عليه لم يقدر أن يغيبهن، فابعثني وابعث معي رجلا من حرسك يفقه العربية، حتى أبلغ ما تحبه فبعث معه رجلا جليدا، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة.
فلما دخل عليه اعظم الملك، وقال: إنه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك فقال: وما هؤلاء النسوة؟ فقال: هذه صفتهن قد جئنا بها وكانت الصفة أن المنذر الأكبر أهدى الى انوشروان جارية، كان أصابها إذ أغار على الحارث الأكبر الغساني بن أبي شمر، فكتب إلى انوشروان يصفها له، وقال: إني قد وجهت إلى الملك جارية معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء، قمراء، ووطفاء، كحلاء دعجاء، حوراء، عيناء، قنواء، شماء، زجاء، برجاء، أسيلة الخد، شهية القد، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، لطيفة طي البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المأكمتين، عظيمة الركبة مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشى، مكسال الضحى، بضه المتجرد، سموعا للسيد، ليست بخنساء، ولا سعفاء، ذليلة الأنف، عزيزة النفر، لم تغذ في بؤس، حيية رزينه، حليمه ركينه، كريمه الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمر وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست.
فقبلها كسرى، وأمر بإثبات هذه الصفة في دواوينه، فلم يزالوا يتوارثونها حتى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز، فقرأ عليه زيد هذه الصفة، فشق عليه، فقال لزيد- والرسول يسمع: أما في عين السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم! فقال الرسول لزيد: ما العين؟ قال: البقر، فقال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك، ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به.
فأنزلهما يومين، ثم كتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي، وقال لزيد: اعذرني عنده، فلما رجع إلى كسرى، قال زيد للرسول الذى جاء معه: اصدق الملك الذي سمعت منه، فإني سأحدثه بحديثك ولا أخالفك فيه فلما دخلا على كسرى، قال زيد: هذا كتابه، فقرأه عليه، فقال له كسرى: فأين الذي كنت خبرتني به؟ قال: قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم، وأن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى إنهم ليسمونها السجن، فسل هذا الرسول الذي كان معي عن الذي قال، فإني أكرم الملك عن الذي قال ورد عليه أن أقوله، فقال للرسول: وما قال؟ قال:
أيها الملك، أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا!
فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنه قد قال: رب عبد قد أراد ما هو أشد من هذا، فيصير أمره إلى التباب وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان، وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وجعل النعمان يستعد ويتوقع، حتى أتاه كتابه: أن أقبل فإن للملك إليك حاجة، فانطلق حين أتاه كتابه فحمل سلاحه، وما قوى عليه، ثم لحق بجبلي طيّئ وكانت فرعة ابنة سعد بن حارثة بن لأم عنده، وقد ولدت له رجلا وامرأة، وكانت أيضا عنده زينب ابنة أوس بن حارثة، فأراد النعمان طيئا على أن يدخلوه بين الجبلين ويمنعوه، فأبوا ذلك عليه، وقالوا: لولا صهرك لقاتلناك، فإنه لا حاجة لنا في معاداة كسرى، ولا طاقه لنا به فاقبل يطوف على قبائل العرب ليس أحد من الناس يقبله، غير أن بني رواحة بن سعد من بني عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك- لمنة كانت له عندهم في أمر مروان القرظ- فقال: لا أحب أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى.
فأقبل حتى نزل بذي قار في بني شيبان سرا، فلقي هانئ بن مسعود ابن عامر بْن عمرو بْن أبي ربيعة بْن ذهل بن شيبان، وكان سيدا منيعا، والبيت يومئذ من ربيعة في آل ذي الجدين، لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلة، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، وعلم أن هانئا مانعه مما يمنع منه نفسه.
وتوجه النعمان إلى كسرى، فلقي زيد بن عدي على قنطرة ساباط، فقال:
انج نعيم، إن استطعت النجاء، فقال: أنت يا زيد فعلت هذا! اما والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك! فقال له زيد: امض نعيم، فقد والله وضعت لك عنده آخية لا يقطعها المهر الأرن فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه، فقيده وبعث به إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه، والناس يظنون أنه مات بساباط لبيت قاله الأعشى:
فذاك وما أنجى من الموت ربه *** بساباط حتى مات، وهو محرزق
وإنما هلك بخانقين، وهذا قبيل الإسلام، فلم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان سبب وقعة ذي قار بسبب النعمان.
وحدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: حدثنا أبو المختار فراس بن خندق، وعدة من علماء العرب قد سماهم، أن النعمان لما قتل عديا كاد أخو عدي وابنه النعمان عند كسرى، وحرفا كتاب اعتذاره إليه بشيء غضب منه كسرى، فأمر بقتله، وكان النعمان لما خاف كسرى استودع هانئ بن مسعود بن عامر الخصيب بن عمرو المزدلف بْن أبي ربيعة بْن ذهل بْن شيبان بن ثعلبة، حلقته ونعمه وسلاحا غير ذلك، وذاك أن النعمان كان بناه ابنتين له.
– قال أبو عبيدة: وقال بعضهم: لم يدرك هانئ بن مسعود هذا الأمر، إنما هو هانئ بْن قبيصة بْن هانئ بْن مسعود وهو الثبت عندي- فلما قتل كسرى النعمان، استعمل اياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان قال أبو عبيدة: كان كسرى لما هرب من بهرام مر بإياس بن قبيصة فأهدى له فرسا وجزورا، فشكر ذلك له كسرى، فبعث كسرى إلى إياس: أين تركة النعمان؟ قال: قد أحرزها في بكر بن وائل، فأمر كسرى إياسا أن يضم ما كان للنعمان ويبعث به إليه، فبعث إياس إلى هانئ: أن أرسل إلي ما استودعك النعمان من الدروع وغيرها- والمقلل يقول: كانت أربعمائة درع، والمكثر يقول: كانت ثمانمائه درع- فأبى هانئ أن يسلم خفارته قال: فلما منعها هانئ، غضب كسرى وأظهر أنه يستأصل بكر بن وائل- وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي، وهو يحب هلاك بكر بن وائل- فقال لكسرى: يا خير الملوك، أدلك على غرة بكر؟ قال نعم، قال أمهلها حتى تقيظ، فإنهم لو قد قاظوا تساقطوا على ماء لهم يقال له ذو قار، تساقط الفراش في النار، فأخذتهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم فترجموا له قوله: تساقطوا تساقط الفراش في النار، فأقرهم حتى إذا قاظوا، جاءت بكر بن وائل فنزلت الحنو، حنو ذي قار، وهي من ذي قار على مسيرة ليلة، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة: أن اختاروا واحدة من ثلاث خصال، فنزل النعمان على هانئ ثم قال له: أنا رسول الملك إليكم أخيركم ثلاث خصال: إما أن تعطوا بأيديكم فيحكم فيكم الملك بما شاء، وإما أن تعروا الديار، واما ان تأذنوا بحرب.
فتوامروا فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وكانوا يتيمنون به فقال لهم: لا ارى إلا القتال، لأنكم إن أعطيتم بأيديكم قتلتم وسبيت ذراريكم، وإن هربتم قتلكم العطش، وتلقاكم تميم فتهلككم فآذنوا الملك بحرب فبعث الملك إلى إياس وإلى الهامرز التستري- وكان مسلحه بالقطقطانة- وإلى جلابزين- وكان مسلحة ببارق- وكتب كسرى الى قيس بن مسعود ابن قيس بن خالد بن ذي الجدين- وكان كسرى استعمله على طف سفوان- أن يوافوا اياسا، فإذا اجتمعوا فإياس على الناس وجاءت الفرس معها الجنود والفيول عليها الأساورة، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ورق امر فارس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْيَوْمَ انْتَصَفَتِ الْعَرَبُ مِنَ الْعَجَمِ»
فحفظ ذلك اليوم، فإذا هو يوم الوقعة فلما دنت جيوش الفرس بمن معهم انسل قيس بن مسعود ليلا فأتى هانئا، فقال له: أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعا لأنفسهم، وكنت قد أخذت بالحزم، وان ظفروا ردوه عليك ففعل وقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه فلما دنا الجمع من بكر، قال لهم هانئ: يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيار فقال له: إنما أردت نجاتنا فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة، فرد الناس وقطع وضن الهوادج لئلا تستطيع بكر أن تسوق نساءهم إن هربوا- فسمي مقطع الوضن، وهي حزم الرحال ويقال: مقطع البطن، والبطن حزم الأقتاب- وضرب حنظلة على نفسه قبة ببطحاء ذي قار، وآلى ألا يفر حتى تفر القبة فمضى من مضى من الناس، ورجع أكثرهم، واستقوا ماء لنصف شهر، فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، فهربت ولم تقم لمحاصرتهم، فهربت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر، وعجل أوائل بكر، فتقدمت عجل، وأبلت يومئذ بلاء حسنا، واضطمت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل، ثم حملت بكر فوجدوا عجلا ثابتة تقاتل، وامرأة منهم تقول:
إن يظفروا يحرزوا فينا الغرل *** إيها فداء لكم بني عجل!
وتقول أيضا تحضض الناس:
إن تهزموا نعانق *** ونفرش النمارق
أو تهربوا نفارق *** فراق غير وامق
فقاتلوهم بالجبابات يوما ثم عطش الأعاجم فمالوا إلى بطحاء ذي قار، فأرسلت إياد إلى بكر سرا- وكانوا أعوانا على بكر مع إياس بن قبيصة: أي الأمرين أعجب إليكم؟ أن نطير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم ونفر حين تلاقوا القوم؟ قالوا: بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم قال: فصبحتهم بكر بن وائل، والظعن واقفة يذمرن الرجال على القتال وقال يزيد بن حمار السكوني- وكان حليفا لبني شيبان-: يا بني شيبان، أطيعوني وأكمنوني لهم كمينا ففعلوا، وجعلوا يزيد بن حمار رأسهم فكمنوا في مكان من ذي قار، يسمى إلى اليوم الجب، فاجتلدوا، وعلى ميمنة إياس بن قبيصة الهامرز، وعلى ميسرته الجلابزين، وعلى ميمنة هانئ بن قبيصة رئيس بكر يزيد بن مسهر الشيباني، وعلى ميسرته حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وجعل الناس يتحاضون ويرجزون، فقال حنظلة بن ثعلبة:
قد شاع أشياعكم فجدوا *** ما علتي وأنا مؤد جلد!
والقوس فيها وتر عرد *** مثل ذراع البكر أو أشد
قد جعلت أخبار قومي تبدو *** إن المنايا ليس منها بد
هذا عمير تحته ألد *** يقدمه ليس له مرد
حتى يعود كالكميت الورد *** خلوا بني شيبان واستبدوا
نفسي فداكم وأبي والجد
وقال حنظلة أيضا:
يا قوم طيبوا بالقتال نفسا *** أجدر يوم أن تفلوا الفرسا
وقال يزيد بن المكسر بن حنظلة بن ثعلبة بن سيار:
من فر منكم فر عن حريمه *** وجاره، وفر عن نديمه
أنا ابن سيار على شكيمه *** إن الشراك قد من أديمه
وكلهم يجري على قديمه *** من قارح الهجنة أو صميمه
قال فراس: ثم صيروا الأمر بعد هانئ إلى حنظلة، فمال إلى مارية ابنته- وهي أم عشرة نفر، أحدهم جابر بن أبجر- فقطع وضينها فوقعت إلى الأرض وقطع وضن النساء، فوقعن إلى الأرض، ونادت ابنة القرين الشيبانية حين وقعت النساء إلى الأرض:
ويها بني شيبان صفا بعد صف *** إن تهزموا يصبغوا فينا القلف
فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من قبل مناكبهم، لأن تخف أيديهم بضرب السيوف، فجالدوهم.
قال: ونادى الهامرز: مرد ومرد، فقال برد بن حارثة اليشكري:
ما يقول؟ قالوا: يدعو إلى البراز رجل ورجل، قال: وأبيكم لقد انصف.
فبرز له فقتله برد، فقال سويد بن أبي كاهل:
ومنا بريد إذ تحدى جموعكم *** فلم تقربوه المرزبان المسورا
أي لم تجعلوه ونادى حنظلة بن ثعلبة بن سيار: يا قوم لا تقفوا لهم فيستغرقكم النشاب، فحملت ميسرة بكر وعليها حنظلة على ميمنة الجيش، وقد قتل برد منهم رئيسهم الهامرز، وحملت ميمنة بكر وعليها يزيد بن مسهر على ميسرة الجيش، وعليهم جلابزين، وخرج الكمين من جب ذي قار من ورائهم، وعليهم يزيد بن حمار، فشدوا على قلب الجيش، وفيهم إياس ابن قبيصة، وولت إياد منهزمة كما وعدتهم، وانهزمت الفرس.
قال سليط: فحدثنا أسراؤنا الذين كانوا فيهم يومئذ، قالوا: فلما التقى الناس، ولت بكر منهزمة، فقلنا: يريدون الماء، فلما قطعوا الوادي فصاروا من ورائه، وجاوزوا الماء، قلنا: هي الهزيمة، وذاك في حر الظهيرة وفي يوم قائظ، فأقبلت كتيبة عجل كأنهم طن قصب، لا يفوت بعضهم بعضا، لا يمعنون هربا، ولا يخالطون القوم ثم تذامروا فزحفوا فرموهم بجباههم، فلم تكن إلا إياها، فأمالوا بأيديهم، فولوا، فقتلوا الفرس ومن معهم، ما بين بطحاء ذي قار، حتى بلغوا الراحضة.
قال فراس: فخبرت أنه تبعه تسعون فارسا، لم ينظروا إلى سلب ولا إلى شيء حتى تعارفوا بأدم موضع قريب من ذي قار، فوجد ثلاثون فارسا من بني عجل، ومن سائر بكر ستون فارسا، وقتلوا جلابزين، قتله حنظلة بن ثعلبة وقال ميمون بن قيس يمدح بني شيبان خاصة في قوله:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي *** وراكبها يوم اللقاء، وقلت
هم ضربوا بالحنو، حنو قراقر *** مقدمة الهامرز حتى تولت
وأفلتنا قيس وقلت لعله *** هنالك لو كانت به النعل زلت
فهذا يدل على أن قيسا قد شهد ذا قار.
وقال بكير، أصم بني الحارث بن عباد، يمدح بني شيبان:
إن كنت ساقية المدامة أهلها *** فاسقي على كرم بني همام
وأبا ربيعة كلها ومحلما *** سبقا بغاية أمجد الأيام
ضربوا بني الأحرار يوم لقوهم *** بالمشرفي على مقبل الهام
عربا ثلاثة آلف وكتيبة *** ألفين أعجم من بني الفدام
شد ابن قيس شدة ذهبت لها *** ذكرى له في معرق وشآم
عمرو وما عمرو بقحم داله *** فيها، ولا غمر ولا بغلام
فلما مدح الأعشى والأصم بني شيبان خاصة غضبت اللهازم، فقال أبو كلبة، أحد بني قيس يؤنبها بذلك:
جدعتما شاعري قوم أولي حسب *** حزت أنوفهما حزا بمنشار
أعني الأصم وأعشانا إذا اجتمعا *** فلا استعانا على سمع بإبصار
لولا فوارس لا ميل ولا عزل *** من اللهازم ما قاظوا بذي قار
نحن أتيناهم من عند أشملهم *** كما تلبس وراد بصدار؟
قال أبو عمرو بن العلاء: فلما بلغ الأعشى قول أبي كلبة، قال: صدق.
وقال معتذرا مما قال:
متى يقرن أصم بحبل أعشى *** يتيها في الضلال وفي الخسار
فلست بمبصر ما قد يراه *** وليس بسامع أبدا حواري
وقال الأعشى في ذلك اليوم:
أتانا عن بني الأحرار *** قول لم يكن أمما
أرادوا نحت انلتنا *** وكنا نمنع الخطما
وقال أيضا لقيس بن مسعود:
أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد *** وأنت امرؤ ترجو شبابك وائل
أتجمع في عام غزاة ورحلة *** ألا ليت قيسا غرقته القوابل!
وقال أعشى بني ربيعة:
ونحن غداة ذي قار أقمنا *** وقد شهد القبائل محلبينا
وقد جاءوا بها جأواء فلقا *** ململمة كتائبها طحونا
ليوم كريهة حتى تجلت *** ظلال دجاه عنا مصلتينا
فولونا الدوابر واتقونا *** بنعمان بن زرعة أكتعينا
وذدنا عارض الأحرار وردا *** كما ورد القطا الثمد المعينا