ففيها كَانَتْ غزوة مُعَاوِيَة حصن المرأة من أرض الروم من ناحية ملطية فِي قول الْوَاقِدِيّ وفيها كَانَتْ غزوة عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح إفريقية …
الثانية حين نقض أهلها العهد.
وفيها قدم عَبْد اللَّهِ بن عَامِر الأحنف بن قيس إِلَى خُرَاسَان وَقَدِ انتقض أهلها، ففتح المروين: مرو الشاهجان صلحا، ومرو الروذ بعد قتال شديد، وتبعه عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، فنزل أَبْرَشَهْر، ففتحها صلحا فِي قول الْوَاقِدِيّ.
وأما أَبُو معشر فإنه قَالَ- فيما حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه، قَالَ: كَانَتْ قبرس سنة ثلاث وثلاثين، وَقَدْ ذكرنا قول من خالفه فِي ذَلِكَ، والخبر عن قبرس.
وفيها: كَانَ تسيير عُثْمَان بن عَفَّانَ من سير من أهل العراق إِلَى الشام.
اختلف أهل السير فِي ذَلِكَ، فأما سَيْفٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْهُ، عَنْ مُحَمَّد وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لا يَغْشَاهُ إِلا نَازِلَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَوُجُوهُ أَهْلِ الأَيَّامِ وَأَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ وَقُرَّاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْمُتَسَمِّتُونَ، وَكَانَ هَؤُلاءِ دخلته إِذَا خَلا، فَأَمَّا إِذَا جَلَسَ للناس فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، فَجَلَسَ لِلنَّاسِ يوما، فدخلوا عليه، فبيناهم جُلُوسٌ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ خُنَيْسُ بْنُ فُلانٍ: مَا أَجْوَدَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ! فَقَالَ سَعِيدُ ابن الْعَاصِ: إِنَّ مَنْ لَهُ مِثْلُ النَّشَاسْتَجَ لَحَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ جَوَادًا، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَهُ لأَعَاشَكُمُ اللَّهُ عَيْشًا رَغْدًا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خُنَيْسٍ- وَهُوَ حَدَثٌ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الْمِلْطَاطَ لَكَ- يَعْنِي مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى عَلَى جَانِبِ الْفُرَاتِ الَّذِي يَلِي الْكُوفَةَ- قَالُوا: فَضَّ اللَّهُ فَاكَ! وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْنَا بِكَ، فَقَالَ: خُنَيْسٌ غُلامٌ فَلا تُجَازُوهُ، فَقَالُوا: يَتَمَنَّى لَهُ مِنْ سَوَادِنَا! قَالَ: وَيَتَمَنَّى لَكُمْ أَضْعَافَهُ، قَالُوا: لا يَتَمَنَّى لَنَا وَلا لَهُ، قَالَ: مَا هَذَا بِكُمْ! قَالُوا: أَنْتَ وَاللَّهِ أَمَرْتَهُ بِهَا، فَثَارَ إِلَيْهِ الأَشْتَرُ وَابْنُ ذِي الْحُبْكَةِ وَجُنْدُبٌ وَصَعْصَعَةُ وَابْنُ الْكَوَّاءِ وَكُمَيْلُ بن زياد وعمير بن ضائى، فَأَخَذُوهُ فَذَهَبَ أَبُوهُ لِيَمْنَعَ مِنْهُ فَضَرَبُوهُمَا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِمَا، وَجَعَلَ سَعِيدٌ يُنَاشِدُهُمْ وَيَأْبَوْنَ، حَتَّى قَضَوْا مِنْهُمَا وَطَرًا، فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ بَنُو أَسَدٍ، فجاءوا وفيهم طُلَيْحَةُ فَأَحَاطُوا بِالْقَصْرِ، وَرَكِبَتِ الْقَبَائِلُ، فَعَاذُوا بِسَعِيدٍ، وقالوا: افلتنا وخلصنا.
فَخَرَجَ سَعِيدٌ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَوْمٌ تَنَازَعُوا وَتَهَاوَوْا، وَقَدْ رَزَقَ اللَّهُ الْعَافِيَةَ ثم قعدوا وعادوا في حديثهم، وتراجعوا فساءهم وِرْدَهُمْ، وَأَفَاقَ الرَّجُلانِ، فَقَالَ: أَبِكُمَا حَيَاةٌ؟ قَالا: قَتَلَتْنَا غَاشِيَتُكَ، قَالَ: لا يَغْشُونِي وَاللَّهِ أَبَدًا، فَاحْفَظَا عَلَيَّ أَلْسِنَتَكُمَا وَلا تُجَرِّئَا عَلَيَّ النَّاسَ فَفَعَلا وَلَمَّا انْقَطَعَ رَجَاءُ أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ ذَلِكَ قَعَدُوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَأَقْبَلُوا عَلَى الإِذَاعَةِ حَتَّى لامَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: هَذَا أَمِيرُكُمْ وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أُحَرِّكُ شَيْئًا، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُحَرِّكَ شَيْئًا فَلْيُحَرِّكْهُ.
فَكَتَبَ أَشْرَافُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَصُلَحَاؤُهُمْ إِلَى عُثْمَانَ فِي إِخْرَاجِهِمْ، فَكَتَبَ:
إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَلْحِقُوهُمْ بِمُعَاوِيَةَ فَأَخْرِجُوهُمْ، فَذُلُّوا وَانْقَادُوا حَتَّى أَتَوْهُ- وَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ- فَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ، وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ:إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ أَخْرَجُوا إِلَيْكَ نَفَرًا خُلِقُوا لِلْفِتْنَةِ، فَرَعْهُمْ وَقُمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ آنَسْتَ مِنْهُمْ رُشْدًا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَعْيَوْكَ فَارْدُدْهُمْ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ رَحَّبَ بِهِمْ وَأَنْزَلَهُمْ كَنِيسَةً تُسَمَّى مَرْيَمَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ بِأَمْرِ عُثْمَانَ مَا كَانَ يُجْرَى عَلَيْهِمْ بِالْعِرَاقِ، وَجَعَلَ لا يَزَالُ يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ لَكُمْ أَسْنَانٌ وَأَلْسِنَةٌ، وَقَدْ أَدْرَكْتُمْ بِالإِسْلامِ شَرَفًا وَغَلَبْتُمُ الأُمَمَ وَحَوَيْتُمْ مَرَاتِبَهُمْ وَمَوَارِيثَهُمْ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ نَقِمْتُمْ قُرَيْشًا، وَأَنَّ قُرَيْشًا لَوْ لَمْ تَكُنْ عُدْتُمْ أَذِلَّةً كَمَا كُنْتُمْ، إِنَّ أَئِمَّتَكُمْ لكم الى اليوم جنه فلا تشذوا عَنْ جُنَّتِكُمْ، وَإِنَّ أَئِمَّتَكُمُ الْيَوْمَ يَصْبِرُونَ لَكُمْ عَلَى الْجَوْرِ، وَيَحْتَمِلُونَ مِنْكُمُ الْمَئُونَةَ، وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيَبْتَلِيَنَّكُمُ اللَّهُ بِمَنْ يَسُومُكُمْ، ثُمَّ لا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاء لهم فِيمَا جَرَرْتُمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ فِي حَيَاتِكُمْ وَبَعْدَ مَوْتِكُمْ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ الْعَرَبِ وَلا أَمْنَعَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتُخَوِّفُنَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْجُنَّةِ فَإِنَّ الْجُنَّةَ إِذَا اخْتُرِقَتْ خَلَصَ إِلَيْنَا.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَرَفْتُكُمُ الآنَ، عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي أَغْرَاكُمْ عَلَى هَذَا قِلَّةُ الْعُقُولِ، وَأَنْتَ خَطِيبُ الْقَوْمِ، وَلا أَرَى لَكَ عَقْلا، أُعَظِّمُ عَلَيْكَ أَمْرَ الإِسْلامِ، وَأُذَكِّرُكَ بِهِ، وَتُذَكِّرُنِي الْجَاهِلِيَّةَ! وَقَدْ وَعَظْتُكَ وَتَزْعُمُ لِمَا يَجِنُّكَ أَنَّهُ يُخْتَرَقُ، وَلا يُنْسَبُ مَا يُخْتَرَقُ إِلَى الْجُنَّةِ، أَخْزَى اللَّهُ أَقْوَامًا أَعْظَمُوا أَمْرَكُمْ، وَرَفَعُوا إِلَى خَلِيفَتِكُمْ! افْقَهُوا- وَلا أَظُنُّكُمْ تَفْقَهُونَ- أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَعِزَّ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ إِلا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ تَكُنْ بِأَكْثَرِ الْعَرَبِ وَلا أَشَدَّهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَكْرَمَهُمْ أَحْسَابًا، وَأَمْحَضَهُمْ أَنْسَابًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَخْطَارًا، وَأَكْمَلَهُمْ مُرُوءَةً، وَلَمْ يَمْتَنِعُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالنَّاسُ يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا بِاللَّهِ الَّذِي لا يُسْتَذَلُّ مَنْ أَعَزَّ، وَلا يُوضَعُ مَنْ رَفَعَ، فَبَوَّأَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُتَخَطَّفُ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهِمْ! هَلْ تَعْرِفُونَ عُرْبًا أَوْ عُجْمًا أَوْ سُودًا أَوْ حُمْرًا إِلا قَدْ أَصَابَهُ الدَّهْرُ فِي بَلَدِهِ وَحُرْمَتِهِ بِدَوْلَةٍ، إِلا مَا كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُمْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِكَيْدٍ إِلا جَعَلَ الله خَدَّهُ الأَسْفَلَ، حَتَّى أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَنَقَّذَ مَنْ أَكْرَمَ وَاتَّبَعَ دِينَهُ مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا وَسُوءِ مَرَدِّ الآخِرَةِ، فَارْتَضَى لِذَلِكَ خَيْرَ خَلْقِهِ، ثُمَّ ارْتَضَى لَهُ أَصْحَابًا فَكَانَ خِيَارُهُمْ قُرَيْشًا، ثُمَّ بَنَى هَذَا الْمُلْكَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْخِلافَةَ فِيهِمْ، وَلا يَصْلُحُ ذَلِكَ إِلا عَلَيْهِمْ، فَكَانَ اللَّهُ يَحُوطُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، أَفَتَرَاهُ لا يَحُوطُهُمْ وَهُمْ عَلَى دِينِهِ وَقَدْ حَاطَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا يَدِينُونَكُمْ! أُفٍّ لَكَ وَلأَصْحَابِكَ! وَلَوْ أَنَّ مُتَكَلِّمًا غَيْرَكَ تَكَلَّمَ، وَلَكِنَّكَ ابْتَدَأْتَ فَأَمَّا أَنْتَ يَا صَعْصَعَةُ فَإِنَّ قَرْيَتَكَ شَرُّ قُرَى عَرَبِيَّةً، أَنْتَنُهَا نَبْتًا، وَأَعْمَقُهَا وَادِيًا، وَأَعْرَفُهَا بِالشَّرِّ، وَأَلأَمُهَا جِيرَانًا، لَمْ يَسْكُنْهَا شَرِيفٌ قَطُّ وَلا وَضِيعٌ إِلا سُبَّ بِهَا، وَكَانَتْ عَلَيْهِ هُجْنَةً، ثُمَّ كَانُوا أَقْبَحَ الْعَرَبِ أَلْقَابًا، وَأَلأَمَهُ أَصْهَارًا، نُزَّاعَ الأُمَمِ، وَأَنْتُمْ جِيرَانُ الْخَطِّ وَفَعَلَةُ فَارِسٍ، حتى أصابتكم دعوه النبي صلى الله عليه وسلم وَنَكَبَتْكَ دَعْوَتُهُ، وَأَنْتَ نَزِيعُ شَطِيرٍ فِي عُمَانَ، لَمْ تَسْكُنِ الْبَحْرَيْنَ فَتُشْرِكَهُمْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْتَ شَرُّ قَوْمِكَ، حَتَّى إِذَا أَبْرَزَكَ الإِسْلامُ، وَخَلَطَكَ بِالنَّاسِ، وَحَمَلَكَ عَلَى الأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْكَ، أَقْبَلْتَ تَبْغِي دِينَ اللَّهِ عِوَجًا، وَتَنْزَعُ إِلَى اللآمة وَالذِّلَّةِ وَلا يَضَعُ ذَلِكَ قُرَيْشًا، وَلَنْ يَضُرَّهُمْ، وَلَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ تَأْدِيَةِ مَا عَلَيْهِمْ، إِنَّ الشَّيْطَانَ عَنْكُمْ غَيْرُ غَافِلٍ، قَدْ عَرَفَكُمْ بِالشَّرِّ مِنْ بَيْنِ أُمَّتِكُمْ، فَأَغْرَى بِكُمُ النَّاسَ، وَهُوَ صَارِعُكُمْ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ بِكُمْ قَضَاءً قَضَاهُ اللَّهُ، وَلا أَمْرًا أَرَادَهُ اللَّهُ، وَلا تُدْرِكُونَ بِالشَّرِّ أَمْرًا أَبَدًا إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شَرًّا مِنْهُ وَأَخْزَى.
ثُمَّ قَامَ وَتَرَكَهُمْ، فَتَذَامَرُوا فَتَقَاصَرَتْ إِلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُمْ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ فَاذْهَبُوا حَيْثُ شئتم، لا والله لا ينفع الله بِكُمْ أَحَدًا وَلا يَضُرُّهُ، وَلا أَنْتُمْ بِرِجَالِ مَنْفَعَةٍ وَلا مَضَرَّةٍ، وَلَكِنَّكُمْ رِجَالُ نَكِيرٍ.
وَبُعْدٍ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ النَّجَاةَ فَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ، وَلِيَسَعَكُمْ مَا وَسِعَ الدَّهْمَاءَ، وَلا يَبْطِرَنَّكُمُ الأَنْعَامُ، فَإِنَّ الْبَطَرَ لا يَعْتَرِي الْخِيَارَ، اذْهَبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، فَإِنِّي كَاتِبٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيكُمْ فَلَمَّا خَرَجُوا دَعَاهُمْ فَقَالَ: إِنِّي مُعِيدٌ عَلَيْكُمْ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعْصُومًا فَوَلانِي، وَأَدْخَلَنِي فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَلانِي، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَلانِي، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ فَوَلانِي، فَلَمْ أَلِ لأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَمْ يُوَلِّنِي إِلا وَهُوَ رَاضٍ عَنِّي، وَإِنَّمَا طَلَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِلأَعْمَالِ أَهْلَ الْجَزَاءِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْغِنَاءِ، وَلَمْ يَطْلُبْ لَهَا أَهْلَ الاجْتِهَادِ وَالْجَهْلِ بِهَا وَالضَّعْفِ عَنْهَا، وَإِنَّ اللَّهَ ذُو سَطَوَاتٍ وَنَقَمَاتٍ يَمْكُرُ بِمَنْ مَكَرَ بِهِ، فَلا تَعْرِضُوا لأَمْرٍ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ غَيْرَ مَا تُظْهِرُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ تَارِكُكُمْ حَتَّى يَخْتَبِرَكُمْ وَيُبْدِي لِلنَّاسِ سَرَائِرَكُمْ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:{الۤـمۤ} * {أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1-2].
وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ: إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيَّ أَقْوَامٌ لَيْسَتْ لَهُمْ عُقُولٌ وَلا أَدْيَانٌ، أَثْقَلَهُمُ الإِسْلامُ، وَأَضْجَرَهُمُ الْعَدْلُ، لا يُرِيدُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ، وَلا يَتَكَلَّمُونَ بِحُجَّةٍ، إِنَّمَا هَمَّهُمُ الْفِتْنَةُ وَأَمْوَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاللَّهُ مُبْتَلِيهِمْ وَمُخْتَبِرُهُمْ، ثُمَّ فَاضِحُهُمْ وَمُخْزِيهِمْ، وَلَيْسُوا بِالَّذِينَ يَنْكُونَ أَحَدًا إِلا مَعَ غَيْرِهِمْ، فَانْهَ سَعِيدًا وَمَنْ قِبَلَهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ ليسوا لاكثر مِنْ شَغْبٍ أَوْ نَكِيرٍ.
وَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ دِمَشْقَ فَقَالُوا: لا تَرْجِعُوا إِلَى الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُمْ يَشْمَتُونَ بِكُمْ، وَمِيلُوا بِنَا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَدَعُوا الْعِرَاقَ وَالشَّامَ فَأَوَوْا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَسَمِعَ بِهِمْ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- وكان مُعَاوِيَةُ قَدْ وَلاهُ حِمْصَ وَوَلَّى عَامِلَ الْجَزِيرَةِ حَرَّانَ وَالرُّقَّةَ- فَدَعَا بِهِمْ، فَقَالَ: يَا آلَةَ الشَّيْطَانِ، لا مَرْحَبًا بِكُمْ وَلا أَهْلا! قَدْ رَجَعَ الشَّيْطَانُ مَحْسُورًا وَأَنْتُمْ بَعْدُ نِشَاطٌ، خَسَّرَ الله عبد الرحمن ان لم يؤد بكم حَتَّى يُحَسِّرْكُمْ يَا مَعْشَرَ مَنْ لا أَدْرِي أَعُرْبٌ أَمْ عُجْمٌ، لِكَيْ لا تَقُولُوا لِي مَا يَبْلُغُنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ لِمُعَاوِيَةَ، أَنَا ابْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَا ابْنُ مَنْ قَدْ عَجِمَتْهُ الْعَاجِمَاتُ، أَنَا ابْنُ فَاقِئِ الرِّدَّةِ، وَاللَّهِ لئن بلغنى يا صعصعة ابن ذُلٍّ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ مَعِي دَقَّ أَنْفَكَ ثم امصك لأَطِيرَنَّ بِكَ طَيْرَةً بَعِيدَةَ الْمَهْوَى فَأَقَامَهُمْ أَشْهُرًا كُلَّمَا رَكِبَ أَمْشَاهُمْ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ صَعْصَعَةُ قال: يا بن الْحُطَيْئَةِ، أَعَلِمْتَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصْلِحْهُ الْخَيْرُ أَصْلَحَهُ الشَّرُّ! مَا لَكَ لا تَقُولُ كَمَا كَانَ يَبْلُغُنِي أَنَّكَ تَقُولُ لِسَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ! فَيَقُولُ وَيَقُولُونَ:
نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، أَقِلَّنَا أَقَالَكَ اللَّهُ! فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
وَسَرَّحَ الأَشْتَرَ إِلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ فَاخْرُجُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَقِيمُوا وَخَرَجَ الأَشْتَرُ، فَأَتَى عُثْمَانَ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالنُّزُوعِ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: سَلَّمَكُمُ اللَّهُ وَقَدِمَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِلأَشْتَرِ: احْلِلْ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ: مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ؟ وَذَكَرَ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَالَ: ذَاكَ إِلَيْكُمْ، فَرَجَعَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بَعَثَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ إِلَى الْكُوفَةِ أَمِيرًا عَلَيْهَا، حِينَ شَهِدَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ الْوَلِيدَ بن عقبه قال: قدم سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْكُوفَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْوَلِيدِ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ قَالَ: فَتَضَجَّعَ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى أَخِيكَ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْعَثَكَ إِلَيْهِ، قَالَ: وَمَا صَعِدَ مِنْبَرَ الْكُوفَةِ حَتَّى أَمَرَ بِهِ أَنْ يُغْسَلَ، فَنَاشَدَهُ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا مَعَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا قَبِيحٌ، وَاللَّهِ لَوْ أَرَادَ هَذَا غَيْرُكَ لَكَانَ حَقًّا أَنْ تَذُبَّ عَنْهُ، يَلْزَمُهُ عَارُ هَذَا أَبَدًا قَالَ: فَأَبَى إِلا أَنْ يَفْعَلَ، فَغَسَلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَى الْوَلِيدِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ دَارِ الإِمَارَةِ، فَتَحَوَّلَ مِنْهَا، وَنَزَلَ دَارَ عُمَارَةَ بْنِ عُقْبَةَ، فَقَدِمَ الْوَلِيدُ عَلَى عُثْمَانَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُصَمَائِهِ، فَرَأَى أَنْ يَجْلِدَهُ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي شَيْبَانُ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:
قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْكُوفَةَ، فَجَعَلَ يَخْتَارُ وجوه الناس يدخلون عليه وَيَسْمُرُونَ عِنْدَهُ، وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ لَيْلَةً وُجُوهُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الأَرْحَبِيُّ، وَالأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ النَّخْعِيَّانِ، وَفِيهِمْ مَالِكٌ الأَشْتَرُ فِي رِجَالٍ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّمَا هَذَا السَّوَادُ بُسْتَانٌ لِقُرَيْشٍ، فَقَالَ الأَشْتَرُ: أَتَزْعُمُ أَنَّ السَّوَادَ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِأَسْيَافِنَا بُسْتَانٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ! وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ أَوْفَاكُمْ فِيهِ نَصِيبًا إِلا أَنْ يَكُونَ كَأَحَدِنَا، وَتَكَلَّمَ مَعَهُ الْقَوْمُ.
قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيُّ- وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ سَعِيدٍ:
أَتَرُدُّونَ عَلَى الأَمِيرِ مَقَالَتَهُ! وَأَغْلَظَ لَهُمْ، فَقَالَ الأَشْتَرُ: مِنْ هَاهُنَا! لا يَفُوتَنَّكُمُ الرَّجُلَ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَوَطَئُوهُ وطأ شَدِيدًا، حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جُرَّ بِرِجْلِهِ فَأُلْقِيَ، فَنُضِحَ بِمَاءٍ فَأَفَاقَ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَبِكَ حَيَاةٌ؟ فَقَالَ: قَتَلَنِي مَنِ انْتَخَبْتُ- زَعَمْت- لِلإِسْلامِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا يَسْمُرُ مِنْهُمْ عِنْدِي أَحَدٌ أَبَدًا، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ يَشْتِمُونَ عُثْمَانَ وَسَعِيدًا، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى كَثُرَ مَنْ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِمْ فَكَتَبَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَهْطًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ- سَمَّاهُمْ لَهُ عَشَرَةً- يُؤَلِّبُونَ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى عَيْبِكَ وَعَيْبِي وَالطَّعْنِ فِي دِينِنَا، وَقَدْ خَشِيتُ إِنْ ثَبُتَ أَمْرُهُمْ أَنْ يَكْثُرُوا، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى سَعِيدٍ: أَنْ سَيِّرْهُمْ إِلَى مُعَاوِيَةَ- وَمُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الشَّامِ- فَسَيَّرَهُمْ- وَهُمْ تِسْعَةُ نَفَرٍ- إِلَى مُعَاوِيَةَ، فِيهِمْ مَالِكٌ الأَشْتَرُ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مُنَقَّعٍ، وَكُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ النَّخَعِيُّ، وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ.
ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ السَّرِيِّ، عَنْ شُعَيْبٍ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: فقال صعصعة:
فان اخترقت الجنه، افليس يَخْلُصُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ الْجُنَّةَ لا تُخْتَرَقُ، فَضَعْ أَمْرَ قُرَيْشٍ عَلَى أَحْسَنَ مَا يَحْضُرُكَ.
وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا: إِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا عَادَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقَابِلَةِ وَذَكَّرَهُمْ، قَالَ فِيمَا يَقُولُ: وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمُرُكُمْ بِشَيْءٍ إِلا قَدْ بَدَأْتُ فِيهِ بِنَفْسِي وَأَهْلِ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ أَكْرَمَهَا وَابْنَ أَكْرَمِهَا، إِلا مَا جَعَلَ اللَّهُ لنبيه نبى الرحمه صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ اللَّهَ انْتَخَبَهُ وَأَكْرَمَهُ، فَلَمْ يَخْلُقْ فِي أَحَدٍ مِنَ الأَخْلاقِ الصَّالِحَةِ شَيْئًا إِلا أَصْفَاهُ اللَّهُ بِأَكْرَمِهَا وَأَحْسَنِهَا، وَلَمْ يَخْلُقْ مِنَ الأَخْلاقِ السَّيِّئَةِ شَيْئًا فِي أَحَدٍ إِلا أَكْرَمَهُ اللَّهُ عنها وَنَزَّهَهُ، وَإِنِّي لأَظُنُّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَوْ وُلِدَ النَّاسُ لَمْ يَلِدْ إِلا حَازِمًا قَالَ صَعْصَعَةُ: كَذَبْتَ! قَدْ وَلَدَهُمْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ،{وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة: 9]، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ، فَكَانَ فِيهِمُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالأَحْمَقُ وَالْكَيِّسُ.
فَخَرَجَ تِلَكَ اللَّيْلَةَ مِنْ عِنْدِهِمْ، ثُمَّ أَتَاهُمُ الْقَابِلَةَ، فَتَحَدَّثَ عِنْدَهُمْ طَوِيلا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْقَوْمُ، رُدُّوا عَلَيَّ خَيْرًا أَوِ اسْكُتُوا وَتَفَكَّرُوا وَانْظُرُوا فِيمَا يَنْفَعُكُمْ وَيَنْفَعُ أَهْلِيكُمْ، وَيَنْفَعُ عَشَائِرَكُمْ، وَيَنْفَعُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَاطْلُبُوهُ تَعِيشُوا وَنَعِشْ بِكُمْ فَقَالَ صَعْصَعَةُ: لَسْتَ بِأَهْلِ ذَلِكَ، وَلا كَرَامَةَ لَكَ أَنْ تُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.
فقال: او ليس مَا ابْتَدَأَتْكُمْ بِهِ أَنْ أَمَرْتُكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وطاعته وطاعه نبيه صلى الله عليه وسلم، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا! قَالُوا: بَلْ أَمَرْتَ بِالْفُرْقَةِ وَخِلافِ مَا جَاءَ بِهِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَإِنِّي آمُرُكُمُ الآنَ، إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ فَأَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَآمُرُكُمْ بِتَقْوَاهُ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ نبيه ص وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَكَرَاهَةِ الْفُرْقَةِ، وَأَنْ تُوَقِّرُوا أَئِمَّتَكُمْ وَتَدُلُّوهُمْ عَلَى كُلِّ حَسَنٍ مَا قَدَرْتُمْ، وَتَعِظُوهُمْ فِي لِينٍ وَلُطْفٍ فِي شَيْءٍ إِنْ كَانَ مِنْهُمْ.
فَقَالَ صَعْصَعَةُ: فَإِنَّا نَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ عَمَلَكَ، فَإِنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: مَنْ كَانَ أَبُوهُ أَحْسَنَ قَدَمًا مَنْ أَبِيكَ، وَهُوَ بِنَفْسِهِ أَحْسَنَ قَدَمًا مِنْكَ فِي الإِسْلامِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فِي الإِسْلامِ قَدَمًا، وَلَغَيْرِي كَانَ أَحْسَنَ قَدَمًا مِنِّي، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي زَمَانِي أَحَدٌ أَقْوَى عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنِّي، وَلَقَدْ رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرِي أَقْوَى مِنِّي لَمْ يَكُنْ لِي عِنْدَ عُمَرَ هَوَادَةً وَلا لِغَيْرِي، وَلَمْ أُحْدِثْ مِنَ الْحَدَثِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْتَزِلَ عَمَلِي، وَلَوْ رَأَى ذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ لَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّ يَدِهِ فَاعْتَزَلْتُ عَمَلَهُ، وَلَوْ قَضَى اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَرَجَوْتُ أَلا يَعْزِمَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلا وَهُوَ خَيْرٌ، فَمَهْلا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ وَأَشْبَاهِهِ مَا يَتَمَنَّى الشَّيْطَانُ وَيَأْمُرُ، وَلَعَمْرِي لَوْ كَانَتِ الأُمُورُ تُقْضَى عَلَى رَأْيِكُمْ وَأَمَانِيِّكُمْ مَا اسْتَقَامَتِ الأُمُورُ لأَهْلِ الإِسْلامِ يَوْمًا وَلا لَيْلَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَقْضِيهَا وَيُدَبِّرُهَا، وَهُوَ {بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]، فعاودوا الخبر وَقُولُوهُ.
فَقَالُوا: لَسْتَ لِذَلِكَ أَهْلا، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ لِلَّهِ لَسَطَوَاتٍ وَنَقَمَاتٍ، وَإِنِّي لَخَائِفٌ عليكم ان تتايعوا فِي مُطَاوَعَةِ الشَّيْطَانِ حَتَّى تُحِلَّكُمْ مُطَاوَعَةُ الشَّيْطَانِ وَمَعْصِيَةُ الرَّحْمَنِ دَارَ الْهَوَانِ مِنْ نَقَمِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ الأَمْرِ، وَالْخِزْيِ الدَّائِمِ فِي الآجِلِ.
فَوَثَبُوا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: مَهْ، إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِأَرْضِ الْكُوفَةِ، وَاللَّهِ لَوْ رَأَى أَهْلُ الشَّامِ مَا صَنَعْتُمْ بِي وَأَنَا إِمَامُهُمْ مَا مَلَكْتُ أَنْ أَنْهَاهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَلَعَمْرِي إِنَّ صَنِيعَكُمْ لَيُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ أَقَامَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مُدْخَلا مَا بَقِيتُ.
ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِعَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَمَّا بَعْدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّكَ بَعَثْتَ إِلَيَّ أَقْوَامًا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةِ الشَّيَاطِينِ وَمَا يُمْلُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَأْتُونَ النَّاسَ- زَعَمُوا- مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، فَيُشَبِّهُونَ عَلَى النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَعْلَمُ مَا يُرِيدُونَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ فُرْقَةً، وَيُقَرِّبُونَ فِتْنَةً، قَدْ أَثْقَلَهُمُ الإِسْلامُ وَأَضْجَرَهُمْ، وَتَمَكَّنَتْ رُقَى الشَّيْطَانِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَقَدْ أَفْسَدُوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَسْتُ آمَنُ إِنْ أَقَامُوا وَسْطَ أَهْلِ الشَّامِ أَنْ يُغْرُوهُمْ بِسِحْرِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، فَارْدُدْهُمْ إِلَى مِصْرِهِمْ، فَلْتَكُنْ دَارُهُمْ فِي مِصْرِهِمُ الَّذِي نَجَمَ فِيهِ نِفَاقُهُمْ، وَالسَّلامُ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْكُوفَةِ، فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُونُوا إِلا أَطْلَقَ أَلْسِنَةً مِنْهُمْ حِينَ رَجَعُوا.
وَكَتَبَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ يَضِجُّ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى سَعِيدٍ أَنْ سَيِّرْهُمْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى حِمْصَ وَكَتَبَ إِلَى الأَشْتَرِ وَأَصْحَابِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ سَيَّرْتُكُمْ إِلَى حِمْصَ، فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هذا فاخرجوا إليها، فإنكم لستم تالون الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ شَرًّا وَالسَّلامُ.
فَلَمَّا قَرَأَ الأَشْتَرُ الكتاب، قال: اللهم اسوانا نَظَرًا لِلرَّعِيَّةِ وَأَعْمَلُنَا فِيهِمْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَعَجِّلْ لَهُ النِّقْمَةَ.
فَكَتَبَ بِذَلِكَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ، وَسَارَ الأَشْتَرُ وَأَصْحَابُهُ إِلَى حِمْصَ، فَأَنْزَلَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ السَّاحِلَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ رِزْقًا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أبي إِسْحَاق الهمداني، قَالَ: اجتمع نفر بالكوفة- يطعنون عَلَى عُثْمَانَ- من أشراف أهل العراق: مالك بن الْحَارِث الأَشْتَر، وثابت بن قيس النخعي، وكميل بن زياد النخعي، وزَيْد بن صُوحَانَ العبدي، وجندب بن زهير الغامدي، وجندب بن كعب الأَزْدِيّ، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي.
فكتب سَعِيد بن الْعَاصِ إِلَى عُثْمَانَ يخبره بأمرهم، فكتب إِلَيْهِ أن سيرهم إِلَى الشام وألزمهم الدروب.