قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل بعض الأخبار الواردة عن أول وقت مجيء جبريل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بالوحي من الله، …
وكم كان سن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، ونذكر الآن صفة ابتداء جبريل إياه بالمصير إليه، وظهوره له بتنزيل ربه.
فَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْجَوْزَاءِ، قَالَ: حدثنا وهب ابن جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ رَاشِدٍ، يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَوَّلُ مَا ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، كَانَتْ تَجِيءُ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، فَكَانَ بغار بحراء يَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ! قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فَجَثَوْتُ لِرُكْبَتَيَّ وَأَنَا قَائِمٌ، ثُمَّ زَحَفْتُ تَرْجُفُ بَوَادِرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي! حَتَّى ذَهَبَ عَنِّي الرَّوْعُ، ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَطْرَحَ نَفْسِي مِنْ حَالِقٍ مِنْ جَبَلٍ، فَتَبَدَّى لِي حِينَ هَمَمْتُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنَا جِبْرِيلُ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَتَّنِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ قَالَ: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] فَقَرَأْتُ فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: لَقَدْ أَشْفَقْتُ عَلَى نفسي، فأخبرتها خبري، فقالت: ابشر، فو الله لا يخزيك الله ابدا، وو الله انك لتصل الرحيم، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتُؤَدِّي الأَمَانَةَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِي إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ، قَالَتِ: اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعٌ! لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ! قُلْتُ: أَمُخْرِجِيَّ هم؟ قال: نعم، انه لم يجيء رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِيَ، وَلَئِنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَيَّ مِنَ الْقُرْآنِ بعد اقْرَأْ: {نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ* مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ*وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ*وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [القلم: 1-5] و {يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1-2] و {وَٱلضُّحَىٰ*وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ} [الضحى: 1-2]».
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ مِنَ الْقُرْآنِ.
إِلَى آخِرِهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، قَالَ: اتى جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأْ؟ فَقَالَ: «مَا أَقْرَأُ؟»
قَالَ: فَضَمَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَقْرَأُ؟» قَالَ: فَضَمَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأْ، قَالَ: «وَمَا أَقْرَأُ؟» قَالَ: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1-2] حَتَّى بَلَغَ {عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، قَالَ: فَجَاءَ إِلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: «يَا خَدِيجَةُ، مَا أَرَانِي إِلا قَدْ عُرِضَ لِي»، قَالَتْ: كلا وَاللَّهِ مَا كَانَ رَبُّكَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكَ،] مَا أَتَيْتَ فَاحِشَةً قَطُّ قَالَ: فَأَتَتْ خَدِيجَةُ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ صَادِقَةً، إِنَّ زَوْجَكِ لَنَبِيٌّ، وَلَيَلْقَيَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ شِدَّةً، وَلَئِنْ أَدْرَكْتُهُ لأُومِنَنَّ بِهِ.
قَالَ: ثُمَّ أَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلا قَدْ قَلاكَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَٱلضُّحَىٰ*وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ*مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} [الضحى: 1-3] .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللَّيْثِيِّ: حَدِّثْنَا يَا عُبَيْدُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من النبوه حين جاء جبريل عليه السلام؟ فَقَالَ عُبَيْدٌ- وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنَ النَّاسِ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَحَنَّثَ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- وَالتَّحَنُّثُ: التَّبَرُّرُ- وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:
وَرَاقٍ لَيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلٌ.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشَّهْرَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، يُطْعِمُ من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ، كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ- إِذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ- الْكَعْبَةَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ، مِنَ السَّنَةِ الَّتِي بَعَثَهُ فِيهَا، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى حِرَاءٍ- كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ- مَعَهُ أَهْلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ وَرُحِمَ الْعِبَادُ بِهَا، جَاءَهُ جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،«فَجَاءَنِي وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ، فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟ فَغَتَّنِي، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَاذَا أَقْرَأُ؟ وَمَا أَقُولُ ذَلِكَ إِلا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ إِلَيَّ بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي، قَالَ: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، قَالَ: فَقَرَأْتُهُ، قَالَ: ثُمَّ انْتَهَى، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي، وَكَأَنَّمَا كُتِبَ فِي قَلْبِي كِتَابًا . قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ مَجْنُونٍ، كُنْتُ لا أُطِيقُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهِمَا، قَالَ: قُلْتُ إِنَّ الأَبْعَدَ- يَعْنِي نَفْسَهُ- لَشَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، لا تُحَدِّثُ بِهَا عَنِّي قُرَيْشٌ أَبَدًا! لأَعْمَدَنَّ إِلَى حَالِقٍ مِنَ الْجَبَلِ فَلأَطْرَحَنَّ نَفْسِي مِنْهُ فَلأَقْتُلَنَّهَا فَلأَسْتَرِيحَنَّ قَالَ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنَ الْجَبَلِ، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، قَالَ: فرفعت راسى الى السماء، فإذا جبرئيل فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وانا جبرئيل قَالَ: فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَشَغَلَنِي ذَلِكَ عَمَّا أَرَدْتُ، فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ فَلا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إِلا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ، فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدَّمُ أَمَامِي، وَلا أَرْجِعُ وَرَائِي، حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، حَتَّى بَلَغُوا مَكَّةَ وَرَجَعُوا إِلَيْهَا وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي وَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِي، حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَجَلَسْتُ إِلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَيْنَ كنت؟ فو الله لَقَدْ بَعَثْتُ رُسُلِي فِي طَلَبِكَ، حَتَّى بَلَغُوا مَكَّةَ وَرَجَعُوا إِلَيَّ قَالَ: قُلْتُ لَهَا: إِنَّ الأَبْعَدَ لَشَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، فَقَالَتْ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ! مَا كَانَ اللَّهُ لِيَصْنَعَ ذَلِكَ بِكَ مَعَ مَا أَعْلَمُ مِنْكَ مِنْ صِدْقِ حَدِيثِكَ، وَعِظَمِ أَمَانَتِكَ، وَحُسْنِ خُلُقِكَ، وَصِلَةِ رَحِمِكَ! وَمَا ذَاكَ يا بن عَمٍّ! لَعَلَّكَ رَأَيْتَ شَيْئًا؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: نَعَمْ ثُمَّ حَدَّثْتُهَا بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ يا بن عم واثبت، فو الذى نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ، ثُمَّ قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ- وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ- فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ، فَقَالَ وَرَقَةُ: قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ! وَالَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ، لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي يَا خَدِيجَةُ، لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ- يَعْنِي بالناموس جبرئيل ع الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى- وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ، فَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْهَمِّ»، فَلَمَّا قَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم جِوَارَهُ، وَانْصَرَفَ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، وَبَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وهو يطوف بالبيت، فقال: يا بن أَخِي، أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ، فَأَخْبَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى مُوسَى، وَلَتُكَذِّبُنَّهُ وَلَتُؤْذِيَنَّهُ، وَلَتُخْرِجُنَّهُ، وَلَتُقَاتِلُنَّهُ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ لأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ فَقَبَّلَ يَافُوخَهُ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِلَى مَنْزِلِهِ.
وَقَدْ زَادَهُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ وَرَقَةَ ثَبَاتًا، وَخَفَّفَ عَنْهُ بَعْضَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْهَمِّ.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ خديجه انها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا يُثَبِّتُهُ فِيمَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نبوته: يا بن عَمِّ، أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ؟
قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَتْ: فَإِذَا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبرئيل عليه السلام كما كان يأتيه، [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة: «يا خديجه هذا جبرئيل قد جاءني»، فقالت: نعم، فقم يا بن عَمٍّ، فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى، فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ عَلَيْهَا، قَالَتْ:
هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاقْعُدْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى، فَتَحَوَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ،» قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي، فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فتحسرت، فالقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قال: «لا»، فقالت:
يا بن عم، اثبت وابشر، فو الله إِنَّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ .
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ تُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ خَدِيجَةَ، إِلا أَنِّي قَدْ سَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَدْخَلَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبرئيل، فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذَا لَمَلَكٌ، وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى- يَعْنِي ابْنَ أَبِي كَثِيرٍ- قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ:
أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلَ؟ فقال: {يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، فقلت: يقولون:
{ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ! فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله: اى القرآن انزل أول؟ فقال: {يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، فَقُلْتُ: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ، فَقَالَ فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَخَلْفِي وَقُدَّامِي، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ فَوْقَ رَأْسِي، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَخَشِيتُ مِنْهُ- قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: هَكَذَا قال عثمان بن عمر، وانما هو فجئثت مِنْهُ فَلَقِيتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، وَصَبُّوا على ماء، وانزل على:
{يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1-2].
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ أَوَّلِ ما نزل من القرآن، قال: نزلت: {يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] أَوَّلَ، قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: لا أُحَدِّثُكَ إِلا مَا [حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، هَبَطْتُ فَسَمِعْتُ صَوْتًا، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً، قَالَ: فدثرونى وصبوا على ماء باردا، فنزلت:
{يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] .
وَحَدَّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: اتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا أَتَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَلَيْلَةَ الأَحَدِ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، فَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ، وَعَلَّمَهُ الصَّلاةَ، وَعَلَّمَهُ: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الاثْنَيْنِ، يَوْمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ، أَرْبَعُونَ سَنَةً.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ [قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيٌّ أَوَّلَ مَا عَلِمْتَ، حَتَّى عَلِمْتَ ذَلِكَ وَاسْتَيْقَنْتَ؟ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَعْضِ بَطْحَاءِ مَكَّةَ، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا فِي الأَرْضِ وَالآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ هُوَ، قَالَ: فَزِنْهُ بِرَجُلٍ، فَوُزِنْتُ بِرَجُلٍ فَرَجَحْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِعَشَرَةٍ، فَوَزَنَنِي بِعَشَرَةٍ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ، فَوَزَنَنِي بِمِائَةٍ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ، فَوَزَنَنِي بِأَلْفٍ فَرَجَحْتُهُمْ، فَجَعَلُوا يَنْتَثِرُونَ عَلَيَّ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ، قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ:
لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ رَجَحَهَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: شُقَّ بَطْنَهُ، فَشَقَّ بَطْنِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَخْرِجْ قَلْبَهُ- أَوْ قَالَ: شُقَّ قَلْبَهُ- فَشَقَّ قَلْبِي، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَغْمَزَ الشَّيْطَانِ وَعَلَقَ الدَّمِ، فَطَرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: اغْسِلْ بَطْنَهُ غَسْلَ الإِنَاءِ، وَاغْسِلْ قَلْبَهُ غَسْلَ الإِنَاءِ- أَوِ اغْسِلْ قَلْبَهُ غَسْلَ الْمُلاءَةِ- ثُمَّ دَعَا بِالسِّكِّينَةِ، كَأَنَّهَا وَجْهُ هِرَّةٍ بَيْضَاءَ فَأُدْخِلَتْ قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: خِطْ بَطْنَهُ، فَخَاطَا بَطْنِي، وَجَعَلا الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَمَا هُوَ إِلا أَنْ وَلَّيَا عَنِّي فَكَأَنَّمَا أُعَايِنُ الأَمْرَ مُعَايَنَةً» .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتْرَةً، فَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا، جَعَلَ يَغْدُو إِلَى رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيَتَرَدَّى مِنْهَا، فَكُلَّمَا أَوْفَى بذروه جبل تبدى له جبرئيل، فَيَقُولُ: إِنَّكَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَيَسْكُنَ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وترجع اليه نفسه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ عَنْ ذَلِكَ، [قَالَ: «فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي يَوْمًا، إِذْ رَأَيْتُ الْمَلَكَ الَّذِي كَانَ يَأْتِينِي بِحِرَاءٍ، عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي»، فَزَمَّلْنَاهُ- أَيْ دَثَّرْنَاهُ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1-4] ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] حَتَّى بَلَغَ {عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5].
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ: «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا، وَجِئْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي! فدثرونى، فانزل الله عز وجل: {يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3] إِلَى قَوْلِهِ: {وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ} [المدثر: 5]، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ».
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُومَ بِإِنْذَارِ قَوْمِهِ عِقَابَ اللَّهِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مُقِيمِينَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِمُ الآلِهَةَ وَالأَصْنَامَ دُونَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ، وَأَنْ يُحَدِّثَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] ، وَذَلِكَ- فِيمَا زَعَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ- النُّبُوَّةُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق:
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] ، أَيْ مَا جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ فَحَدِّثِ، اذْكُرْهَا وَادْعُ إِلَيْهَا قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ سِرًّا إِلَى مَنْ يَطْمَئِنُّ اليه من أَهْلِهِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ وَآمَنَ بِهِ واتبعه من خلق الله- فيما ذكر- زوجته خَدِيجَةُ رَحِمَهَا اللَّهُ.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ الواقدي: أَصْحَابُنَا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ اسْتَجَابَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رَحِمَهَا اللَّهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الأَوْثَانِ وَالأَصْنَامِ وَخَلْعِ الأَنْدَادِ الصَّلاةَ- فِيمَا ذُكِرَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاه جبرئيل وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي ناحيه الوادى، فانفجرت منه عين، فتوضأ جبرئيل عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إِلَيْهِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطُّهُورُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما راى جبرئيل عليه السلام توضأ، ثم قام جبرئيل عليه السلام، فصلى به وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بصلاته ثم انصرف جبرئيل عليه السلام، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خَدِيجَةَ، فَتَوَضَّأَ لَهَا يُرِيهَا كَيْفَ الطُّهُورُ لِلصَّلَاةِ، كما أراه جبرئيل عليه السلام، فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبرئيل عليه السلام، فَصَلَّتْ بِصَلَاتِهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَحَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ حين نبى النبي صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يَنَامُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَنَامُ حولها، فأتاه ملكان: جبرئيل وَمِيكَائِيلُ، فَقَالا:
بِأَيِّهِمْ أُمِرْنَا؟ فَقَالا: أُمِرْنَا بِسَيِّدِهِمْ، ثُمَّ ذَهَبَا ثُمَّ جَاءَا مِنَ الْقِبْلَةِ، وَهُمْ ثَلاثَةٌ، فَأَلْفَوْهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَلَّبُوهُ لِظَهْرِهِ، وَشَقُّوا بَطْنَهُ، ثُمَّ جَاءُوا بِمَاءٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَغَسَلُوا مَا كَانَ فِي بَطْنِهِ مِنْ شَكٍّ أَوْ شِرْكٍ أَوْ جَاهِلِيَّةٍ أَوْ ضَلالَةٍ، ثُمَّ جاءوا بطست من ذهب، مليء إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَمُلِئَ بَطْنُهُ وَجَوْفُهُ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جبرئيل، فقالوا:
من هذا؟ فقال: جبرئيل، فَقَالُوا: مَنْ مَعَكَ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالُوا:
وَقَدْ بُعِثَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: مَرْحَبًا، فَدَعَوْا لَهُ فِي دُعَائِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ جسيم وسيم، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، ثُمَّ أَتَوْا بِهِ الى السماء الثانيه، فاستفتح جبرئيل، فَقِيلَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَالُوا فِي السَّمَوَاتِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ وَقِيلَ لَهُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا دَخَلَ، إِذَا بِرَجُلَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ هؤلاء يا جبرئيل؟ فَقَالَ: يَحْيَى وَعِيسَى ابْنَا الْخَالَةِ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ إِذَا هُوَ برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ قَالَ: هَذَا أَخُوكَ يُوسُفُ، فُضِّلَ بِالْحُسْنِ عَلَى النَّاسِ، كَمَا فُضِّلَ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى الْكَوَاكِبِ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَإِذَا هو برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ فَقَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 57]، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَإِذَا هُوَ برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ قَالَ: هَذَا هَارُونُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يا جبرئيل؟ فَقَالَ: هَذَا موسى، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يا جبرئيل؟ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، بِجَنْبَتَيْهِ قِبَابُ الدُّرِّ، فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ فَقَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أعطاك ربك، وهذه مساكنك، قال: وأخذ جبرئيل بِيَدِهِ مِنْ تُرْبَتِهِ، فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ سِدْرَةُ نَبْقٍ أَعْظَمُهَا أَمْثَالُ الْجِرَارِ، وَأَصْغَرُهَا أَمْثَالُ الْبَيْضِ، فَدَنَا رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ} [النجم: 9] ، فَجَعَلَ يَتَغَشَّى السِّدْرَةَ مِنْ دُنُوِّ رَبِّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَمْثَالُ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ أَلْوَانٌ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ، وَفَهَّمَهُ وَعَلَّمَهُ وَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاةً، فَمَرَّ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ فَقَالَ: خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الأُمَمِ قُوَّةً، وَأَقَلُّهَا عُمْرًا، وَذَكَرَ مَا لَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَجَعَ فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، ثُمَّ مَرَّ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ، كَذَلِكَ حَتَّى جَعَلَهَا خَمْسًا، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ: لَسْتُ بِرَاجِعٍ، غَيْرَ عَاصِيكَ، وَقَذَفَ فِي قَلْبِهِ أَلا يَرْجِعَ، [فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لا يُبَدَّلُ كَلامِي، وَلا يُرَدُّ قَضَائِي وَفَرْضِي،] وَخَفَّفَ عَنْ أُمَّتِي الصَّلاةَ لِعُشْرٍ قَالَ أَنَسٌ: وَمَا وَجَدْتُ رِيحًا قَطُّ وَلا رِيحَ عَرُوسٍ قَطُّ، أَطْيَبَ رِيحًا مِنْ جِلْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، أَلْزَقْتُ جِلْدِي بِجِلْدِهِ وَشَمَمْتُهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَصَلَّى مَعَهُ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كان أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وَصَلَّى مَعَهُ وَصَدَّقَهُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ الله على بن ابى طالب ع ذكر بعض من قال ذلك ممن حضرنا ذكره:
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى عَلِيٌّ.
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَحْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ جَابِرٍ، قال:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَصَلَّى عَلِيٌّ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِلنَّخَعِيِّ، فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حَمْزَةَ مَوْلَى الأَنْصَارِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على بن ابى طالب.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أبا حمزه جلا مِنَ الأَنْصَارِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، يَقُولُ: أَوَّلُ رَجُلٍ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَلاءُ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
[سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَنَا عبد الله وأخو رسوله، وَأَنَا الصِّدِّيقُ الأَكْبَرُ، لا يَقُولُهَا بَعْدِي إِلا كاذب مفتر، صليت مع رسول الله قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ] حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ أَسَدِ بْنِ عَبْدَةَ الْبَجَلِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَفِيفٍ، عَنْ عَفِيفٍ، قَالَ: جِئْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلْتُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَحَلَّقَتْ فِي السَّمَاءِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَقْبَلَ شَابٌّ، فَرَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ، فَقَامَ مُسْتَقْبِلَهَا، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى جَاءَ غُلامٌ، فَقَامَ عَنْ يَمِينِهِ قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ، فَقَامَتْ خَلْفَهُمَا، فَرَكَعَ الشَّابُّ، فَرَكَعَ الْغُلامُ وَالْمَرْأَةُ، فَرَفَعَ الشَّابُّ فَرَفَعَ الْغُلامُ وَالْمَرْأَةُ، فَخَرَّ الشَّابُّ سَاجِدًا فَسَجَدَا مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ، أَمْرٌ عَظِيمٌ! فَقَالَ: أَمْرٌ عَظِيمٌ! أَتَدْرِي مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: لا، قَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ أَخِي أَتَدْرِي مَنْ هَذَا مَعَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: هَذَا عَلِيُّ بن ابى طالب ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ أَخِي أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي خَلْفَهُمَا؟ قُلْتُ:
لا، قَالَ: هَذِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، زَوْجَةُ ابْنِ أَخِي، وَهَذَا حَدَّثَنِي أَنَّ رَبَّكَ رَبُّ السَّمَاءِ، أَمَرَهُمْ بِهَذَا الَّذِي تَرَاهُمْ عَلَيْهِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ كُلِّهَا أَحَدًا عَلَى هَذَا الدِّينِ غَيْرَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي الأَشْعَثِ الْكِنْدِيُّ، مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ عَفِيفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده، قال:
كنت امرا تَاجِرًا، فَقَدِمْتُ أَيَّامَ الْحَجِّ، فَأَتَيْتُ الْعَبَّاسَ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَامَ تِجَاهَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ مَعَهُ تُصَلِّي، وَخَرَجَ غُلامٌ فَقَامَ يُصَلِّي مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ، مَا هَذَا الدِّينُ؟ إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بِهِ، وَأَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ آمَنَتْ بِهِ، وَهَذَا الْغُلامُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، آمَنَ بِهِ.
قَالَ عَفِيفٌ: فَلَيْتَنِي كنت آمنت يومئذ فكنت أكون رابعا! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ وَعَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، قَالَ سَلَمَةُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي الأَشْعَثِ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَنْ كِتَابِي عَنْ يَحْيَى بْنِ الأَشْعَثِ- عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِيَاسِ بْنِ عَفِيفٍ الْكِنْدِيِّ- وَكَانَ عَفِيفٌ، أَخَا الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ لأُمِّهِ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّهِ- عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عفيف، قال: كان العباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِي صَدِيقًا، وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى الْيَمَنِ، يَشْتَرِي الْعِطْرَ فَيَبِيعُهُ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِمِنًى، فأتاه رَجُلٌ مُجْتَمِعٌ، فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَتَوَضَّأَتْ وَقَامَتْ تُصَلِّي ثُمَّ خَرَجَ غُلامٌ قَدْ رَاهَقَ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى جَنْبِهِ يُصَلِّي، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ يَا عَبَّاسُ! مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ رَسُولا، وَهَذَا ابْنُ أَخِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَدْ تَابَعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ ابْنَةُ خُوَيْلِدٍ، قَدْ تَابَعَتْهُ عَلَى دِينِهِ قَالَ عَفِيفٌ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ وَرَسَخَ الإِسْلامُ فِي قَلْبِهِ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ رَابِعًا! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ سَوَادَةَ بْنِ الْجَعْدِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو حَازِمٍ الْمَدَنِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، قَالُوا: عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
كان أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وَصَلَّى مَعَهُ وَصَدَّقَهُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ به على على بن ابى طالب، انه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الاسلام حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ أَبِي الْحَجَّاجِ، قَالَ: كَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمَا صَنَعَ اللَّهُ لَهُ وَأَرَادَهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ- وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ: «يَا عَبَّاسُ، إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ هذه الازمه، فانطلق بنا فلنخفف عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ، آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلا، وَتَأْخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلا، فَنَكْفِهِمَا عَنْهُ» قَالَ الْعَبَّاسُ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ، فَقَالا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفِّفَ عَنْكَ مِنْ عِيَالِكَ حَتَّى يَنْكَشِفَ عَنِ النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالِبٍ: إِذَا تَرَكْتُمَا لِي عَقِيلا فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا، فَأَخَذَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفَرًا فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَلَمْ يَزَلْ جَعْفَرٌ عِنْدَ الْعَبَّاسِ حَتَّى أَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، خَرَجَ إِلَى شِعَابِ مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَخْفِيًا مِنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَجَمِيعِ أَعْمَامِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ، فَيُصَلِّيَانِ الصَّلَواتِ فِيهَا، فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا، فَمَكَثَا كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَا ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بن أَخِي، مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَرَاكَ تَدِينُ بِهِ؟ «قال: أَيْ عَمِّ، هَذَا دِينُ اللَّهِ وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ وَدِينُ رُسُلِهِ، وَدِينُ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ- أَوْ كَمَا قَالَ- بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولًا إِلَى الْعِبَادِ، وَأَنْتَ يَا عَمُّ أَحَقُّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ النَّصِيحَةَ، وَدَعَوْتُهُ إِلَى الْهُدَى، وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي إِلَيْهِ، وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ »- أَوْ كَمَا قال] فقال ابو طالب:
يا بن أَخِي، إِنِّي لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لا يَخْلُصُ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مَا حَيِيتُ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَيْ بُنَيَّ، مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ؟ [قَالَ: يَا أَبَهْ، آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَصَدَّقْتُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ لِلَّهِ] فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّهُ لا يَدْعُوكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ، فَالْزَمْهُ.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا إبراهيم بن نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قال:
أسلم علي وهو ابن عشر سنين.
قَالَ الْحَارِثُ: قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالَ الْوَاقِدِيُّ: واجتمع أصحابنا على أن عليا أسلم بعد ما تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة، فأقام بمكة اثنتي عشرة سنة.
وقال آخرون: أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرَاءَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَوَّلُ النَّاسِ
إِسْلامًا؟
فَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ:
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ *** فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلا
خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلُهَا *** بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلا
الثَّانِي التَّالِي الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ *** وَأَوَّلُ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلا
وحدثني سَعِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ واضح، قال: حدثنا الهيثم ابن عَدِيٍّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ.
حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ الْخَوْلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى وَضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ وَأَبُو طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عبسه قال:
اتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَازِلٌ بِعُكَاظٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ تَبِعَكَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ؟ قَالَ: «اتَّبَعَنِي عَلَيْهِ رَجُلانِ، حُرٌّ وَعَبْدٌ:
أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ،» قَالَ: فَأَسْلَمْتُ عِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي إذ ذاك رُبْعَ الإِسْلامِ.
حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَخِيهِ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ وَابْنُ عَبْسَةَ كِلاهُمَا يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي رُبْعَ الإِسْلامِ، وَلَمْ يُسْلِمْ قَبْلِي إِلا النَّبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ، كِلاهُمَا لا يَدْرِي مَتَّى أَسْلَمَ الآخَرُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قال: قال إبراهيم النخعي: أبو بكر أول من اسلم وقال آخرون: أسلم قبل أبي بكر جماعة ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا كِنَانَةُ بْنُ جَبَلَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلَكُمْ إِسْلَامًا؟
فَقَالَ: لا، وَلَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ، وَلَكِنْ كَانَ أَفْضَلَنَا إِسْلَامًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ آمن واتبع النبي صلى الله عليه وسلم مِنَ الرِّجَالِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ ذِكْرُ من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال الواقدي:
حدثني ابن أبي ذئب، قال: سألت الزهري: من أول من أسلم؟
قال: من النساء خديجة، ومن الرجال زيد بن حارثة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن ابى الأسود، عن سليمان ابن يسار، قال: أول من أسلم زيد بن حارثة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد- يعني ابن عمر- قال: حدثنا ربيعة بن عثمان، عن عمران بن أبي أنس مثله.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حدثنا عبد الملك ابن مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ:
أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ ما حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ: ثُمَّ أَسْلَمَ زَيْدُ بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أَوَّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ، وَصَلَّى بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ الصِّدِّيقُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَظْهَرَ إِسْلامَهُ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ قال: وكان ابو بكر رجلا مألفا لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلا، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَكَانَ رَجُلا تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأَمْرِ، لِعِلْمِهِ وَتَجَارِبِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى الإِسْلامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ- فِيمَا بَلَغَنِي- عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ، فَأَسْلَمُوا وَصَلُّوا، فَكَانَ هَؤُلاءِ الثَّمَانِيَةُ، النَّفَرَ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى الإِسْلامِ، فَصَلُّوا وصدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وَآمَنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ، الرِّجَالُ مِنْهُمْ وَالنِّسَاءُ، حَتَّى فَشَا ذِكْرُ الإِسْلامِ بِمَكَّةَ وَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ.
وَقَالَ الواقدي فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، عَنْهُ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ اهل القبله استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، ثُمَّ اخْتُلِفَ عِنْدَنَا فِي ثَلاثَةِ نَفَرٍ: فِي أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، أَيُّهُمْ أَسْلَمَ أَوَّلَ.
قَالَ: وَقَالَ الواقدي: أَسْلَمَ مَعَهُمْ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ خَامِسًا، وَأَسْلَمَ أَبُو ذَرٍّ، قَالُوا: رَابِعًا أَوْ خَامِسًا، وَأَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ عَبْسَةَ السُّلَمِيُّ، فَيُقَالُ: رَابِعًا أَوْ خَامِسًا قَالَ: فَإِنَّمَا اخْتُلِفَ عِنْدَنَا فِي هَؤُلاءِ النَّفَرِ أَيُّهُمْ أَسْلَمَ أَوَّلَ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ قَالَ: فَيُخْتَلَفُ فِي الثَّلاثَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَفِي هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَتَبْنَا بَعْدَهُمْ حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَسْوَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: كَانَ إِسْلامُ الزُّبَيْرِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، كَانَ رَابِعًا أَوْ خَامِسًا.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ العاص وامراته امينه بِنْتَ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ، مِنْ خُزَاعَةَ، أَسْلَمَا بَعْدَ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ غَيْرَ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الإِسْلامِ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجل امر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِثَلاثِ سِنِينَ أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ، وَأَنْ يُبَادِيَ النَّاسَ بِأَمْرِهِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ- فِي السِّنِينَ الثَّلاثِ مِنْ مَبْعَثِهِ، إِلَى أَنْ أُمِرَ بِإِظْهَارِ الدُّعَاءِ إِلَى الله- مستسرا مخفيا امره صلى الله عليه وسلم، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ (214) وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 214-216]، قال: وكان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّوْا ذَهَبُوا إِلَى الشِّعَابِ، فَاسْتَخْفَوْا مِنْ قَوْمِهِمْ، فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي نفر من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ إِذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ، حَتَّى قَاتَلُوهُمْ، فَاقْتَتَلُوا، فَضَرَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ جَمَلٍ فَشَجَّهُ، فَكَانَ أَوَّلَ دَمٍ أُهْرِيقَ فِي الإِسْلامِ.
فَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الصَّفَا، فَقَالَ: «يَا صَبَاحَاهْ!» فَاجْتَمَعَتْ اليه قريش، فقالوا: مالك؟ قال: «ارايت إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمْسِيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي!» قَالُوا: بَلَى، قَالَ:«فَإِنِّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ! أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا- أَوْ جَمَعْتَنَا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ: «يَا صَبَاحَاهْ!» فَقَالُوا: مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِفُ؟
قَالُوا: مُحَمَّدٌ، فَقَالَ: «يَا بَنِي فُلانٍ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ!» فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يدي عذاب شديد» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ! مَا جَمَعْتَنَا إِلا لِهَذَا! ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بن عمرو، عن عبد الله ابن الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] ، دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: «يَا عَلِيُّ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الأَقْرَبِينَ، فَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعًا، وَعَرَفْتُ أَنِّي مَتَى أُبَادِيهِمْ بِهَذَا الأَمْرِ أَرَى مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ عليه حتى جاءني جبرئيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ إِلا تَفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ يُعَذِّبْكَ رَبُّكَ، فَاصْنَعْ لَنَا صَاعًا من طعام، واجعل عليه رحل شَاةٍ، وَامْلأْ لَنَا عُسًّا مِنْ لَبَنٍ، ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أُكَلِّمَهُمْ، وَأُبَلِّغَهُمْ مَا أُمِرْتُ بِهِ»، فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ ثُمَّ دَعَوْتُهُمْ لَهُ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلا، يَزِيدُونَ رَجُلا أَوْ يَنْقُصُونَهُ، فِيهِمْ أَعْمَامُهُ: أَبُو طَالِبٍ وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ وَأَبُو لَهَبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ دَعَانِي بِالطَّعَامِ الَّذِي صَنَعْتُ لَهُمْ، فَجِئْتُ بِهِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِذْيَةً مِنَ اللَّحْمِ، فَشَقَّهَا بِأَسْنَانِهِ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي نَوَاحِي الصَّحْفَةِ ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا بِسْمِ اللَّهِ»، فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى مَا لَهُمْ بِشَيْءٍ حَاجَةٌ وَمَا أَرَى إِلا مَوْضِعَ أَيْدِيهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ الَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مَا قَدَّمْتُ لِجَمِيعِهِمْ ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ الْقَوْمَ»، فَجِئْتُهُمْ بِذَلِكَ الْعُسِّ، فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى رُوُوا مِنْهُ جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مثله، فلما اراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ إِلَى الْكَلامِ، فقال: «لهدما سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ!» فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «الْغَدَ يَا عَلِيُّ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَبَقَنِي إِلَى مَا قَدْ سَمِعْتَ مِنَ الْقَوْلِ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَهُمْ، فَعُدَّ لَنَا مِنَ الطَّعَامِ بِمِثْلِ مَا صَنَعْتَ، ثُمَّ اجْمَعْهُمْ إِلَيَّ». قَالَ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ ثُمَّ دَعَانِي بِالطَّعَامِ فَقَرَّبْتُهُ لَهُمْ، فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ بِالأَمْسِ، فَأَكَلُوا حَتَّى مَا لَهُمْ بِشَيْءٍ حَاجَةٌ ثُمَّ قَالَ: «اسْقِهِمْ»، فَجِئْتُهُمْ بِذَلِكَ الْعُسِّ، فَشَرِبُوا حَتَّى رُوُوا مِنْهُ جَمِيعًا، ثُمَّ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَابًّا فِي الْعَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا قَدْ جِئْتُكُمْ بِهِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَقَدْ أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذَا الأَمْرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي وَوَصِيِّي وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ؟» قَالَ: فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ عَنْهَا جَمِيعًا، وَقُلْتُ: وَإِنِّي لأَحْدَثُهُمْ سِنًّا، وَأَرْمَصُهُمْ عَيْنًا، وَأَعْظَمُهُمْ بَطْنًا، وَأَحْمَشُهُمْ سَاقًا، أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَكُونُ وَزِيرَكَ عَلَيْهِ فَأَخَذَ بِرَقَبَتِي، ثُمَّ قَالَ: «ان هذا أخي ووصى وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» قَالَ: فَقَامَ الْقَوْمُ يَضْحَكُونَ، وَيَقُولُونَ لأَبِي طَالِبٍ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ لابْنِكَ وَتُطِيعَ.
حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي صَادِقٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ ناجد، ان رجلا قال لعلى ع: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِمَ وَرِثْتَ ابْنَ عَمِّكَ دُونَ عَمِّكَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: هَاؤُمُ! ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى اشْرَأَبَّ النَّاسُ، وَنَشَرُوا آذَانَهُمْ ثُمَّ قَالَ: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم- أَوْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ- بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْهُمْ رَهْطَهُ، كُلَّهُمْ يَأْكُلُ الْجَذَعَةَ وَيَشْرَبُ الْفَرْقَ، قَالَ: فَصَنَعَ لَهُمْ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ الطَّعَامُ كَمَا هُوَ، كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِغَمْرٍ فَشَرِبُوا حَتَّى رُوُوا وَبَقِيَ الشَّرَابُ كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ وَلَمْ يَشْرَبُوا قَالَ: ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِخَاصَّةٍ وَإِلَى النَّاسِ بِعَامَّةٍ، وَقَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ هَذَا الأَمْرِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، فَأَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي وَصَاحِبِي وَوَارِثِي؟ فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ- وَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ- قَالَ: فقال: اجلس، قال: ثُمَّ قَالَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ أَقُومُ إِلَيْهِ، فَيَقُولُ لِي: اجْلِسْ، حَتَّى كَانَ فِي الثَّالِثَةِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى يَدِي، قَالَ: «فَبِذَلِكَ وَرِثْتُ ابْنَ عَمِّي دُونَ عَمِّي» .
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يَا بَنِي قُصَيٍّ- قَالَ: ثُمَّ فَخَّذَ قُرَيْشًا قَبِيلَةً قَبِيلَةً، حَتَّى مَرَّ عَلَى آخِرِهِمْ- إِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وانذركم عذابه».
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَارِيَةُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنْ يُبَادِيَ النَّاسَ بِأَمْرِهِ، وَأَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَكَانَ يَدْعُو مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ ثَلاثَ سِنِينَ، مُسْتَخْفِيًا، إِلَى أَنْ أُمِرَ بِالظُّهُورِ لِلدُّعَاءِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، عنه:
فصدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِ اللَّهِ، وَبَادَى قَوْمَهُ بِالإِسْلَامِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ، وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ بَعْضَ الرَّدِّ- فِيمَا بَلَغَنِي- حَتَّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ نَاكَرُوهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى خِلافِهِ وَعَدَاوَتِهِ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالإِسْلَامِ، وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ، وَحَدَبَ عَلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ عَمُّهُ وَمَنَعَهُ، وَقَامَ دُونَهُ، وَمَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى أَمْرِ اللَّهِ مُظْهِرًا لأَمْرِهِ، لا يَرُدُّهُ عَنْهُ شَيْءٌ فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء يكرهونه مما أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدَبَ عَلَيْهِ، وَقَامَ دُونَهُ فَلَمْ يُسَلِّمْهُ لَهُمْ، مَشَى رِجَالٌ مِنْ اشراف قريش الى ابى طالب: عتبة ابن رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَالأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ- أَوْ مَنْ مَشَى إِلَيْهِ مِنْهُمْ- فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ، فَنُكْفِيكَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدَّهُمْ رَدًّا جَمِيلًا، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، يُظْهِرُ دِينَ اللَّهِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ قَالَ: ثُمَّ شَرِيَ الأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتَّى تَبَاعَدَ الرِّجَالُ، وَتَضَاغَنُوا، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَهَا، وَتَذَامَرُوا فِيهِ، وَحَضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّ لَكَ سِنًّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا، وَإِنَّا قَدِ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ فَلَمْ تَنْهَهْ عَنَّا، وَإِنَّا وَاللَّهِ لا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا حَتَّى تَكُفَّهُ عنا او تنازله وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ- أَوْ كَمَا قَالُوا ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ على ابى طالب فراق قومه وعدواتهم لَهُ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا، فِيهِمْ أَبُو جهل ابن هشام والعاص بن وائل، والأسود بن الْمُطَّلِبِ، وَالأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فِي نَفَرٍ مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَنُكَلِّمْهُ فِيهِ، فَلْيَنْصِفْنَا مِنْهُ، فَيَأْمُرُهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَمُوتَ هَذَا الشَّيْخُ فَيَكُونُ مِنَّا شَيْءٌ فَتُعَيِّرُنَا الْعَرَبُ، يَقُولُونَ: تَرَكُوهُ، حَتَّى إِذَا مَاتَ عَمُّهُ تَنَاوَلُوهُ.
قَالَ: فَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُدْعَى الْمُطَّلِبُ، فَاسْتَأْذَنَ لهم عَلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ وَسَرَوَاتُهُمْ، يَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْكَ، قَالَ: أَدْخِلْهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَأَنْصِفْنَا مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَمُرْهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ.
قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بن أَخِي، هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ وَسَرَوَاتُهُمْ، وَقَدْ سَأَلُوكَ النَّصَفَ، أَنْ تَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ وَيَدَعُوكَ وَإِلَهَكَ قَالَ: «أَيْ عَمِّ، أَوَلَا أَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهَا»؟ قَالَ: وَإِلَامَ تَدْعُوهُمْ؟ قَالَ: «أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَيَمْلِكُونَ بِهَا الْعَجَمَ» قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ مِنْ بَيْنَ الْقَوْمِ: مَا هِيَ وَأَبِيكَ؟ لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعَشْرًا أَمْثَالَهَا قَالَ: «تَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،» قَالَ: فَنَفَرُوا وتفرقوا وَقَالُوا: سَلْنَا غَيْرَ هَذِهِ، فَقَالَ: «لَوْ جِئْتُمُونِي بِالشَّمْسِ حَتَّى تَضَعُوهَا فِي يَدِي مَا سَأَلْتُكُمْ غَيْرَهَا!» قَالَ: فَغَضِبُوا وَقَامُوا مِنْ عِنْدِهِ غَضَابَى، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنَشْتُمَنَّكَ وَإِلَهَكَ الَّذِي يَأْمُرُكَ بِهَذَا، {وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6]، إلى قوله: {ٱخْتِلاَقٌ} [ص: 7] واقبل على عمه فقال له عمه: يا بن أَخِي، مَا شَطَطْتَ عَلَيْهِمْ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَمِّهِ فدعاه، فَقَالَ: «قُلْ كَلِّمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،» فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّبَكُمْ بِهَا الْعَرَبُ، يَقُولُونَ: جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ لَأَعْطَيْتُكَهَا، وَلَكِنْ عَلَى مِلَّةِ الأَشْيَاخِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [القصص: 56] .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، دَخَلَ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ، وَيَقُولُ وَيَقُولُ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَنَهَيْتَهُ! فبعث اليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِسِ رَجُلٍ، قَالَ: فَخَشِيَ أَبُو جَهْلٍ إِنْ جَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ المجلس ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: أَيِ ابْنَ أَخِي! مَا بَالُ قَوْمِكَ يَشْكُونَكَ، يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ وَتَقُولُ وَتَقُولُ! قَالَ: وَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا عَمّ، إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا، تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ» فَفَزِعُوا لِكَلِمَتِهِ وَلِقَوْلِهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ: نَعَمْ وَأَبِيكَ عَشْرًا فَمَا هِيَ؟ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَأَيُّ كَلِمَةٍ هي يا بن أَخِي؟ قَالَ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ»، قَالَ: فَقَامُوا فَزِعِينَ يَنْفُضُونَ ثِيَابَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: {أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] قَالَ: وَنَزَلَتْ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ الى قوله: {لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} [ص: 8] لَفْظُ الْحَدِيثِ لأَبِي كُرَيْبٍ.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق فحدثنا ابن حميد، قال:
حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني يعقوب ابن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدث أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالَتْ لأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ المقاله، بعث الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا بن أَخِي، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ! فَظَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ بَدَاءٌ، وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسَلِّمُهُ، وَأَنَّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ والقيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عماه، لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ ما تركته» ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَبَكَى ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو طالب، فقال: اقبل يا بن أخي، فاقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما احببت فو الله لَا أُسَلِّمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا عَرَفَتْ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ أَبَى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وَإِسْلَامَهُ وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَعَدَاوَتَهُمْ، مَشَوْا إِلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالُوا لَهُ- فِيمَا بَلَغَنِي: يَا أَبَا طَالِبٍ، هَذَا عماره ابن الْوَلِيدِ أَنْهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ وَأَشْعَرُهُ وَأَجْمَلُهُ، فَخُذْهُ فَلَكَ عَقْلُهُ وَنُصْرَتُهُ، وَاتَّخِذْهُ وَلَدًا، فَهُوَ لَكَ، وَأَسْلِمْ لَنَا ابْنَ أَخِيكَ- هَذَا الَّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِكَ، وَسفه أَحْلَامَهُمْ- فَنَقْتُلُهُ، فَإِنَّمَا رَجُلٌ كَرَجُلٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي! أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ، وَأُعْطِيكُمُ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ! هَذَا وَاللَّهِ ما لا يكون ابدا فقال المطعم ابن عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: وَاللَّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ، لَقَدِ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ، وَجَهِدُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا تَكْرَهُهُ، فَمَا أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةِ الْقَوْمِ عَلَيَّ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ! أَوْ كَمَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ.
قَالَ: فَحَقِبَ الأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَحَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ، وَبَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا عَلَى مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين أَسْلَمُوا مَعَهُ فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْهُمْ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ حِينَ رَأَى قُرَيْشًا تَصْنَعُ مَا تَصْنَعُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَالْقِيَامِ دُونَهُ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وَأَجَابُوا إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الدَّفْعِ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ مِنْ قَوْمِهِ مَا سَرَّهُ مِنْ جِدِّهِمْ مَعَهُ، وَحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ، جَعَلَ يَمْدَحُهُمْ، وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ، وَمَكَانَهُ مِنْهُمْ لِيَشُدَّ لَهُمْ رَأْيَهُمْ.
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَعَبْدُ الوارث بن عبد الصمد ابن عَبْدِ الْوَارِثِ- قَالَ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَقَالَ عَبْدُ الوارث: حَدَّثَنِي أَبِي- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَمَّا بعد، فانه- يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم- لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لَمْ يَبْعُدُوا مِنْهُ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمْ، وَكَادُوا يَسْمَعُونَ لَهُ، حَتَّى ذَكَرَ طَوَاغِيتَهُمْ وَقَدِمَ نَاسٌ مِنَ الطَّائِفِ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُمْ أَمْوَالٌ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال لهم، وَأَغْرُوا بِهِ مَنْ أَطَاعَهُمْ، فَانْصَفَقَ عَنْهُ عَامَّةُ النَّاسِ، فَتَرَكُوهُ إِلَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَلِيلٌ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمَّ ائْتَمَرَتْ رُءُوسُهُمْ بِأَنْ يَفْتِنُوا مَنْ تَبِعَهُ عَنْ دِينِ اللَّهِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، فَكَانَتْ فِتْنَةً شَدِيدَةَ الزِّلْزَالِ عَلَى من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ، فَافْتُتِنَ مَنِ افْتُتِنَ، وَعَصَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ فَلَمَّا فُعِلَ ذَلِكَ بالمسلمين، امرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ- وَكَانَ بِالْحَبَشَةِ مَلِكٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ النَّجَاشِيُّ، لا يُظْلَمُ احد بارضه، وكان ينثى عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ صَلَاحٌ، وَكَانَتْ أَرْضُ الْحَبَشَةِ مَتْجَرًا لِقُرَيْشٍ يَتْجَرُونَ فِيهَا، يَجِدُونَ فِيهَا رِفَاغًا مِنَ الرِّزْقِ، وَأَمْنًا وَمَتْجَرًا حَسَنًا- فأمرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ إِلَيْهَا عَامَّتُهُمْ لَمَّا قُهِرُوا بِمَكَّةَ، وَخَافَ عَلَيْهِمُ الْفِتَنَ، وَمَكَثَ هُوَ فَلَمْ يَبْرَحْ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ سَنَوَاتٍ، يَشْتَدُّونَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ.
ثُمَّ إِنَّهُ فَشَا الإِسْلَامُ فِيهَا، وَدَخَلَ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ مَنْ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَهَاجَرَ إِلَيْهَا هَذِهِ الْهِجْرَةَ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ الأُولَى.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، عن رجل من قومه.
قال: وأخبرنا عبيد الله بن العباس الهذلي، عن الحارث بن الفضيل، قالا: خرج الذين هاجروا الهجرة الأولى متسللين سرا، وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، حتى انتهوا إلى الشعيبه، منهم الراكب والماشي، ووفق الله للمسلمين ساعة جاءوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة، من حين نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر، حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحدا.
قالوا: وقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار، أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني يونس بن محمد، عن أبيه قال: وحدثني عبد الحميد، عن محمد بن يحيى بن حبان، قالا: تسمية القوم الرجال والنساء: عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امراته سهله بنت سهيل ابن عمرو، والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، ومصعب بن عمير بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدار، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ابن الحارث بن زهرة، وأبو سلمة بْن عبد الأسد بْن هلال بْن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر ابن مخزوم، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعامر بن ربيعة العنزي، من عنز بن وائل- ليس من عنزة- حليف بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بْن أبي رهم بْن عبد العزى العامري، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وسهيل بن بيضاء، من بني الحارث بن فهر، وعبد الله بن مسعود حليف بني زهرة قال أبو جعفر: وقال آخرون: كان الذين لحقوا بأرض الحبشة، وهاجروا إليها من المسلمين- سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا وولدوا بها- اثنين وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشك فيه! ذكر من قال ذلك:
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال:
لما راى رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ وَعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالَ لَهُمْ: لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ! فَإِنَّ بها ملكا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ! فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَفِرَارًا إِلَّى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِدِينِهِمْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ ابى العاص ابن أُمَيَّةَ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، أَحَدِ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ.
فَعَدَّ النَّفَرَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْوَاقِدِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَنِي عامر بن لؤي ابن غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رَهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَيُقَالُ: بَلْ أَبُو حَاطِبِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ ابن عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ قَالَ: وَيُقَالُ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَهَا، فَجَعَلَهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَشَرَةً، وَقَالَ: كَانَ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةُ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ- فِيمَا بَلَغَنِي. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى اجْتَمَعُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَكَانُوا بِهَا، مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِأَهْلِهِ مَعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ لا أَهْلَ مَعَهُ، ثُمَّ عَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَمَامَ اثْنَيْنَ وَثَمَانِينَ رَجُلًا، بِالْعَشَرَةِ الذين ذكرت باسمائهم، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَعَهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، وَمَنْ وُلِدَ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لا أَهْلَ مَعَهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَمَّا خَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مهاجرا إليها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُقِيمٌ بِمَكَّةَ، يَدْعُو إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا، قَدْ مَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَبِمَنِ اسْتَجَابَ لِنُصْرَتِهِ مِنْ عَشِيرَتِهِ، وَرَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ، رَمَوْهُ بِالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالْجُنُونِ، وَأَنَّهُ شَاعِرٌ، وَجَعَلُوا يَصُدُّونَ عَنْهُ مَنْ خَافُوا مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَهُ فَيَتْبَعُهُ، فَكَانَ أَشَدَّ مَا بَلَغُوا مِنْهُ حِينَئِذٍ- فِيمَا ذُكِرَ- مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتُ قريشا اصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ! قَالَ: قَدْ حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ! سَفَّهَ أَحْلامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتِنَا! لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ- أَوْ كَمَا قَالُوا.
فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ. قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ مِثْلَهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ مَرَّ بِهِمُ الثَّالِثَةَ، فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَوَقَفَ فَقَالَ: «أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ!» قَالَ: فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، وَحَتَّى ان اشدهم فيه وصاه قبل ذلك ليرفؤه بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدا، فو الله مَا كُنْتَ جَهُولا! قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ، اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ، وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا باداكم بما تكرهون تركتموه! فبيناهم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا! لِمَا يَبْلُغُهُمْ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَيَقُولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ»، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلا مِنْهُمْ آخِذًا بِجَمْعِ رِدَائِهِ قَالَ: وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ دُونَهُ، يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: وَيْلَكُمْ! أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله! ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ.
فَإِنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ.
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ رَأَيْتَ الْمُشْرِكِينَ صَنَعُوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، وَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ، فَدَفَعَهُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ:
يَا قَوْمُ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ} [غافر: 28] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من أسلم كان واعيه، ان أبا جهل ابن هشام مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص له- وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة- فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع الى بيته، قالت: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا قبل أن تأتي من ابى الحكم بن هشام! وجده هاهنا جالسا فسبه وآذاه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد.
قال: فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج سريعا- لا يقف على أحد كما كان يصنع- يريد الطواف بالكعبة، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه بها ضربة فشجه بها شجة منكرة، وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول! فرد ذلك علي إن استطعت! وقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا وتم حمزة على إسلامه، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما كانوا ينالون مِنْهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ:
اجْتَمَعَ يَوْمًا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطُّ، فَمَنْ رَجُلٌ يسمعهموه؟ فقال عبد الله ابن مَسْعُودٍ: أَنَا، قَالُوا: إِنَّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنَ الْقَوْمِ إِنْ أَرَادُوهُ، فَقَالَ: دَعُونِي، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَمْنَعُنِي، قَالَ: فَغَدَا ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضُّحَى، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا، حَتَّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمَّ قَالَ: {بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ} – رافعا بها صوته- {ٱلرَّحْمَـٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ (2) خَلَقَ ٱلإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ} [الرحمن: 1-4] ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَأُ فِيهَا، قَالَ:
وَتَأَمَّلُوا وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا يَقُولُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ! ثم قالوا: انه ليتلو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَدْ أَثَّرُوا بِوَجْهِهِ، فَقَالُوا:
هَذَا الَّذِي خَشِينَا عَلَيْكَ! قَالَ: مَا كان أعداء الله اهون على منهم الان! لَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنَّهُمْ غَدًا بِمِثْلِهَا، قَالُوا: لا، حَسْبُكَ، فَقَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ قال أبو جعفر: ولما استقر بالذين هاجروا إلى أرض الحبشة القرار بأرض النجاشي واطمأنوا، تآمرت قريش فيما بينها في الكيد بمن ضوى إليها من المسلمين، فوجهوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي إلى النجاشي، مع هدايا كثيرة أهدوها إليه وإلى بطارقته، وأمروهما أن يسألا النجاشي تسليم من قبله وبأرضه من المسلمين إليهم فشخص عمرو وعبد الله إليه في ذلك، فنفذا لما أرسلهما إليه قومهما، فلم يصلا إلى ما أمل قومهما من النجاشي، فرجعا مقبوحين، وأسلم عمر بن الخطاب رحمه الله، فلما أسلم- وكان رجلا جلدا جليدا منيعا، وكان قد اسلم قبل ذلك حمزه ابن عبد المطلب، ووجد أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنفسهم قوة، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، وحمى النجاشي من ضوى إلى بلده منهم- اجتمعت قريش، فائتمرت بينها: أن يكتبوا بينهم كتابا يتعاقدون فيه، على الا ينكحوا إلى بني هاشم وبني المطلب، ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا بذلك صحيفة، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيدا بذلك الأمر على أنفسهم، فلما فعلت ذلك قريش، انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه، واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش، وظاهرهم عليه، فأقاموا على ذلك من أمرهم سنتين أو ثلاثا، حتى جهدوا ألا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرا، مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش وذكر أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم! والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة! فجاء أبو البختري بن هشام بن الحارث ابن اسد، فقال: مالك وله! قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعام لعمته عنده بعثت اليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها! خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير، فضربه فشجه، ووطئه وطئا شديدا، وحمزه ابن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون ان يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه، فيشمتوا بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ذلك، يدعو قومه سرا وجهرا، آناء الليل وآناء النهار، والوحي عليه من الله متتابع بأمره ونهيه، ووعيد من ناصبه العداوة، والحجج لرسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه فذكر أن أشراف قومه اجتمعوا له يوما- فِيمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس، ان قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطُوهُ مَالا فَيَكُونَ أَغْنَى رَجُلٍ بِمَكَّةَ، وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَطَئُوا عَقِبَهُ، فَقَالُوا: هَذَا لَكَ عِنْدَنَا يَا مُحَمَّدُ، وَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا فَلا تَذْكُرْهَا بِسُوءٍ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً فَهِيَ لَكَ وَلَنَا فِيهَا صَلاحٌ قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً، اللاتَ وَالْعُزَّى، وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ رَبِّي! فَجَاءَ الْوَحْيُ مِنَ اللوح المحفوظ: {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ (1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1-2] السُّورَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] إِلَى قَوْلِهِ: {بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66].
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ علية، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن ميناء، مولى أبي البختري، قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب واميه بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما في أيدينا، كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه فأنزل الله عز وجل: {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، حتى انقضت السورة.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على صلاح قومه، محبا مقاربتهم بما وجد إليه السبيل، قد ذكر أنه تمنى السبيل الى مقاربتهم، لكان من أمره في ذلك مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زِيَادٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: لَمَّا راى رسول الله صلى الله عليه وسلم تَوَلِّي قَوْمِهِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَرَى مِنْ مَبَاعَدَتِهِمْ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ، تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ مَا يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَكَانَ يَسُرُّهُ مَعَ حُبِّهِ قَوْمَهُ، وَحِرْصِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَلِينَ لَهُ بَعْضُ مَا قَدْ غَلُظَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمْ، حَتَّى حَدَّثَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، وَتَمَنَّاهُ وَأَحَبَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ} [النجم: 1-3]، فلما انتهى إلى قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ (19) وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ} [النجم: 19-20] ، أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، لَمَّا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَتَمَنَّى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَوْمَهُ: تلك الغرانيق العلا، وان شفاعتهن لترتجى، فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ فَرِحُوا، وَسَرَّهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ ما ذكر به آلهتهم، فاصاخوا لَهُ- وَالْمُؤْمِنُونَ مُصَدِّقُونَ نَبِيَّهُمْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ عَنْ رَبِّهِمْ، وَلا يَتَّهِمُونَهُ عَلَى خَطَإٍ وَلا وَهْمٍ وَلا زَلَلٍ- فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا وَخَتَمَ السُّورَةَ سَجَدَ فِيهَا، فَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ بِسُجُودِ نَبِيِّهِمْ، تَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ، وَاتِّبَاعًا لأَمْرِهِ، وَسَجَدَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، لِمَا سَمِعُوا مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤْمِنٌ وَلا كَافِرٌ إِلَّا سَجَدَ، إِلَّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلَمْ يَسْتَطِعِ السُّجُودَ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ حِفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ فَسَجَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَفَرَّقَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ، وَقَدْ سَرَّهُمْ مَا سَمِعُوا مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ، يَقُولُونَ: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، قَدْ زَعَمَ فِيمَا يَتْلُو: أَنَّهَا الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ تُرْتَضَى وَبَلَغَتِ السَّجْدَةُ مَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ، فَنَهَضَ مِنْهُمْ رِجَالٌ، وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ، وَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاذَا صَنَعْتَ! لَقَدْ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقُلْتَ مَا لَمْ يَقُلْ لَكَ! فَحَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ حُزْنًا شَدِيدًا، وَخَافَ مِنَ اللَّهِ خَوْفًا كَثِيرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ- وَكَانَ بِهِ رَحِيمًا- يُعَزِّيهِ وَيُخَفِّضُ عَلَيْهِ الأَمْرَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُ قَبْلَهُ نَبِيٌّ وَلا رَسُولٌ تَمَنَّى كَمَا تَمَنَّى، وَلا أَحَبَّ كَمَا أَحَبَّ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ قَدْ أَلْقَى فِي أُمْنِيَّتِهِ، كَمَا القى على لسانه صلى الله عليه وسلم، فَنَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ، أَيْ فَإِنَّمَا أَنْتَ كَبَعْضِ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ نَبِيِّهِ الْحَزَنَ، وَآمَنَهُ مِنَ الَّذِي كَانَ يَخَافُ، وَنَسَخَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ: أَنَّها الْغَرَانِيقُ الْعُلَا وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ تُرْتَضَى، بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ ذَكَرَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى:
{أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ (21) وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ} [النجم: 21-22] أي عوجاء، {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم} [النجم: 23] – الى قوله- {لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ} [النجم: 26] ، أَيْ فَكَيْفَ تَنْفَعُ شَفَاعَةُ آلِهَتِكُمْ عِنْدَهُ! فَلَمَّا جَاءَ مِنَ اللَّهِ مَا نَسَخَ مَا كَانَ الشَّيْطَانُ أَلْقَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ مَنْزِلَةِ آلِهَتِكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَغَيَّرَ ذَلِكَ وَجَاءَ بِغَيْرِهِ، وَكَانَ ذَانِكَ الْحَرْفَانِ اللَّذَانِ أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ وَقَعَا فِي فَمِ كُلِّ مُشْرِكٍ، فَازْدَادُوا شَرًّا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَشِدَّةً عَلَى من اسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وَأَقْبَلَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ لَمَّا بَلَغَهُمْ مِنْ إِسْلَامِ أَهْلِ مكة حين سجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ، بَلَغَهُمْ أَنَّ الَّذِي كَانُوا تَحَدَّثُوا بِهِ مِنْ إِسْلَامِ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ بَاطِلًا، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِجِوَارٍ، أَوْ مُسْتَخْفِيًّا، فَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ مَكَّةَ مِنْهُمْ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، عُثْمَانُ بن عفان ابن أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ مَعَهُ امْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ مَعَهُمْ، عَدَدُهُمْ ثَلاثَةٌ وَثَلاثُونَ رَجُلًا.
حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن أبي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَمُحَمَّدِ بن قيس، قالا: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ، كَثِيرٍ أَهْلُهُ، فتمنى يومئذ الا يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ} [النجم: 1-2]، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا بَلَغَ: {أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ (19) وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ} [النجم: 19-20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ كَلِمَتَيْنِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى، فَتَكَلَّمَ بِهِمَا، ثُمَّ مَضَى فَقَرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا، فَسَجَدَ فِي آخِرِ السُّورَةِ، وَسَجَدَ الْقَوْمُ مَعَهُ جَمِيعًا، وَرَفَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تُرَابًا إِلَى جَبْهَتِهِ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ- وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ- فَرَضَوْا بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَلَكِنَّ آلِهِتَنَا هَذِهِ تَشْفَعُ لَنَا عِنْدَهُ، فَإِذَا جَعَلْتَ لَهَا نَصِيبًا فَنَحْنُ مَعَكَ قَالَا: فَلَمَّا امسى أتاه جبرئيل عليه السلام، فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ، قَالَ: مَا جِئْتُكَ بِهَاتَيْنِ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ، وَقُلْتُ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْ»، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 75] ، فَمَا زَالَ مَغْمُومًا مَهْمُومًا، حَتَّى نَزَلَتْ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52] – الى قوله: {وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] قَالَ: فَسَمِعَ مَنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا كُلَّهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى عَشَائِرِهِمْ، وَقَالُوا: هُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا، فَوَجَدُوا الْقَوْمَ قَدِ ارْتَكَسُوا حِينَ نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، ثم قام- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، في نقض الصحيفة التي كانت قريش كتبت بينها على بني هاشم وبني المطلب- نفر من قريش وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن الحارث العامري، من عامر بن لؤي- وكان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه- وأنه مشى الى زهير ابن أبي أمية بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم- وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب- فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت، لا يبايعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم! أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم ابن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا قال:
ويحك يا هشام! فماذا أصنع! إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها قال: قد وجدت رجلا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال له زهير: ابغنا ثالثا، فذهب الى المطعم بن عدى ابن نوفل بن عبد مناف، فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! أما والله لئن امكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا قال: ويحك! فماذا أصنع! إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثا، قال: قد فعلت، قال من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال:
نعم، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك.
قال: ابغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بْن الأَسْوَدِ بْن المطلب بْن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم فاتعدوا له خطم الحجون الذي بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم، وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أولكم يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية، عليه حلة له، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونشرب الشراب، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبايعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، قال أبو جهل- وكان في ناحية المسجد: كذبت، والله لا تشق! قال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت، قال أبو البختري:
صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به! قال المطعم بن عدي:
صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وتشوور فيه بغير هذا المكان- وأبو طالب جالس في ناحية المسجد وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها، إلا ما كان من باسمك اللهم، وهي فاتحة ما كانت تكتب قريش، تفتتح بها كتابها إذا كتبت.
قال: وكان كاتب صحيفة قريش- فيما بلغني- التي كتبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطه من بني هاشم وبني المطلب، منصور بن عكرمه ابن هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بن قصي، فشلت يده.
وأقام بقيتهم بأرض الحبشه، حتى بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، فحملهم في سفينتين، فقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بخيبر بعد الحديبية وكان جميع من قدم في السفينتين ستة عشر رجلا.
ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما مع قريش بمكة يدعوهم إلى الله سرا وجهرا، صابرا على أذاهم وتكذيبهم إياه واستهزائهم به، حتى إن كان بعضهم- فيما ذكر- يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، ويطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم- فيما بلغني- حجرا يستتر به منهم إذا صلى.
حدثنا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني عمر بن عبد الله بن عروة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ بِذَلِكَ إِذَا رُمِيَ بِهِ فِي دَارِهِ عَلَى الْعُودِ فَيَقِفُ عَلَى بَابِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَيُّ جِوَارٍ هَذَا! ثُمَّ يُلْقِيهِ بِالطَّرِيقِ» .
ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ- وذلك فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين، فعظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاكهما، وذلك أن قريشا وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه، حتى نثر بعضهم على رأسه التراب.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَثَرَ ذَلِكَ السفيه التراب على راس رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْتَهُ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَغْسِلُ عَنْهُ التُّرَابَ، وَهِيَ تَبْكِي، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهَا: «يَا بُنَيَّةُ لا تَبْكِي، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ»! قَالَ: وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ»] وَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ يَلْتَمِسُ مِنْ ثَقِيفٍ النَّصْرَ وَالْمَنَعَةَ لَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهِمْ وَحْدَهُ، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ عَمَدَ إِلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ- هُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ، وَهُمْ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ: عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، ومسعود ابن عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَعِنْدَهُمُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ- فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَكَلَّمَهُمْ بِمَا جَاءَ لَهُمْ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الإِسْلَامِ، وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ:
هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ! وَقَالَ الآخَرُ: مَا وَجَدَ الله أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَكَ! وَقَالَ الثَّالِثُ: وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً أَبَدًا، لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، لأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الْكَلَامَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِمْ، وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وقد [قال لهم- فيما ذكر لي-: إذ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَلَيَّ] وَكَرِهَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَلِّغَ قَوْمَهُ عَنْهُ، فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا وَأغروا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، يَسُبُّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَلْجَئُوهُ إِلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُمَا فِيهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ، فَعَمَدَ إِلَى ظِلِّ حَبَلَةٍ مِنْ عِنَبٍ، فَجَلَسَ فِيهِ، وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ، وَيُرِيَانِ مَا لَقِيَ مِنْ سُفَهَاءِ ثقيف وقد لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فِيمَا ذُكِرَ لِي- تِلْكَ الْمَرْأَةَ مِنْ بَنِي جمح، فقال لها: «ماذا لقينا من احمائك!» فلما اطمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلْنِي! إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي! وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتِ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطِكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ.»
فَلَمَّا رَأَى ابْنَا رَبِيعَةَ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ مَا لَقِيَ، تَحَرَّكَتْ لَهُ رَحِمَهُمَا، فَدَعَوْا لَهُ غُلامًا لَهُمَا نَصْرَانِيًّا، يُقَالُ لَهُ عَدَّاسٌ، فَقَالَا لَهُ: خُذْ قِطْفًا مِنْ هَذَا الْعِنَبِ وَضَعْهُ فِي ذَلِكَ الطَّبَقِ، ثُمَّ اذْهَبْ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقُلْ لَهُ يَأْكُلْ مِنْهُ، فَفَعَلَ عَدَّاسٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ حَتَّى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ»، ثُمَّ أَكَلَ، فَنَظَرَ عَدَّاسٌ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هذا الكلام مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، قَالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ؟ وَمَا دِينُكَ؟» قَالَ: أَنَا نَصْرَانِيٌّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟» قَالَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ بْنُ متى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ،» فَأَكَبَّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، قَالَ: يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمَّا غُلَامُكَ فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْكَ فَلَمَّا جَاءَهُمَا عَدَّاسٌ قَالَا لَهُ:
وَيْلَكَ يَا عَدَّاسُ! مَا لَكَ تُقَبِّلُ رَأْسَ هَذَا الرَّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ! قَالَ: يَا سَيِّدِي مَا فِي هَذِهِ الأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ! لَقَدْ خَبَّرَنِي بِأَمْرٍ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ، فَقَالَا: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ! لَا يُصْرِفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ، فَإِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ.
ثُمَّ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنَ الطَّائِفِ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ حِينَ يَئِسَ مِنْ خَبَرِ ثَقِيفٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِنَخْلَةٍ، قَامَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يُصَلِّي، فَمَرَّ بِهِ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- سَبْعَةٌ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ اهل نَصِيبِينَ الْيَمَنِ، فَاسْتَمَعُوا لَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَدْ آمَنُوا وَأَجَابُوا إِلَى مَا سَمِعُوا، فَقَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ:
{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] – إِلَى قَوْلِهِ: {وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31] وَقَالَ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ} [الجن: 1] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ مِنْ خَبَرِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَتَسْمِيَةُ النَّفَرِ مِنَ الجن الذين اسْتَمَعُوا الْوَحْيَ- فِيمَا بَلَغَنِي- حَسَا، وَمَسَا، وَشَاصِرٌ، وناصر، وايناالارد، واينين، والاحقم.
قال: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَقَوْمُهُ أَشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الطَّائِفِ مُرِيدًا مَكَّةَ مَرَّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، [فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي رِسَالَةً أُرْسِلُكَ بِهَا؟» قال: نعم، قال: «ائت الاخنس ابن شَرِيقٍ، فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ مُحَمَّدٌ: هَلْ أَنْتَ مُجِيرِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي؟» قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ الأَخْنَسُ: إِنَّ الْحَلِيفَ لا يُجِيرُ عَلَى الصَّرِيحِ قَالَ: فَأَتَى النبي صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: «تَعُودُ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «ائْتِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ لَكَ: هَلْ أَنْتَ مُجِيرِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّي؟» فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبٍ قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: «تَعُودُ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «ائْتِ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ لَكَ: هَلْ أَنْتَ مُجِيرِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي؟»
قَالَ: نَعَمْ، فَلْيَدْخُلْ، قَالَ: فَرَجَعَ الرجل اليه، فاخبره، واصبح المطعم ابن عَدِيٍّ قَدْ لَبِسَ سِلَاحَهُ هُوَ وَبَنُوهُ وَبَنُو أَخِيهِ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جَهْلٍ، قَالَ: أَمُجِيرٌ أَمْ مُتَابِعٌ؟ قَالَ: بَلْ مُجِيرٌ، قَالَ: فَقَالَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتَ، فَدَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَأَقَامَ بِهَا، فَدَخَلَ يَوْمًا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْمُشْرِكُونَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جَهْلٍ، قَالَ: هَذَا نَبِيُّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَاف، قَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: وَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مِنَّا نَبِيٌّ أَوْ مَلَكٌ! فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النبي صلى الله عليه وسلم- أَوْ سَمِعَهُ- فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ:
أَمَّا أَنْتَ يَا عتبة بن ربيعه فو الله مَا حَمَيْتَ لِلَّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ، وَلَكِنْ حَمَيْتَ لأَنْفِكَ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هشام، فو الله لا يَأْتِي عَلَيْكَ غَيْرُ كَبِيرٍ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى تَضْحَكَ قَلِيلًا وَتَبْكِي كَثِيرًا وَأَمَّا أَنْتُمْ يا معشر الملا من قريش، فو الله لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ غَيْرُ كَبِيرٍ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى تَدْخُلُوا فِيمَا تُنْكِرُونَ، وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ] وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ- إِذَا كَانَتْ- عَلَى قبائل العرب، يدعوهم الى الله والى نصرته وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ وَيَمْنَعُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَهُ بِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عَبَّادٍ يُحَدِّثُ أَبِي، قَالَ: إِنِّي لَغُلامٌ شَابٌّ مع ابى بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ الْقَبَائِلِ مِنَ الْعَرَبِ، فَيَقُولُ: «يَا بَنِي فُلانٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ هَذِهِ الأَنْدَادِ، وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِي وَتُصَدِّقُونِي وَتَمْنَعُونِي، حَتَّى أُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ» .
قَالَ: وَخَلْفَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ، لَهُ غَدِيرَتَانِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ عَدَنِيَّةٌ، فَإِذَا فَرَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ، وَمَا دَعَا إِلَيْهِ، قَالَ الرَّجُلُ:
يَا بَنِي فُلانٍ، إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَسْلَخُوا اللاتَ وَالْعُزَّى مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، وخلفاءكم مِنَ الْجِنِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلالَةِ، فَلا تُطِيعُوهُ وَلا تَسْمَعُوا لَهُ.
قَالَ: فَقُلْتُ لأَبِي: يَا أَبَتِ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ، يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: هَذَا عَمُّهُ عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَتَى كِنْدَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَفِيهِمْ سَيِّدٌ لَهُمْ، يُقَالُ لَهُ مَلِيحٌ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّهُ أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلِهِمْ إِلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لَهُمْ: «يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ».
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الله، وعرض عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَقْبَحَ رَدًّا عَلَيْهِ مِنْهُمْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: قال محمد بن إِسْحَاقَ: وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ لأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: «الأَمْرُ إِلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ» قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَفَتَهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا ظَهَرْتَ كَانَ الأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ، رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إِلَى شَيْخٍ لَهُمْ، قَدْ كَانَتْ أَدْرَكَتْهُ السِّنُّ، حَتَّى لا يَقْدِرَ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُمُ الْمَوْسِمَ، فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ، حَدَّثُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْسِمِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَامَ، سَأَلَهُمْ عَمَّا كَانَ فِي مَوْسِمِهِمْ، فَقَالُوا: جَاءَنَا فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيَدْعُو إِلَى أَنْ نَمْنَعَهُ وَنَقُومَ مَعَهُ، وَنَخْرُجَ بِهِ مَعَنَا إِلَى بِلادِنَا قَالَ: فَوَضَعَ الشَّيْخُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ، هَلْ لَهَا مِنْ تَلافٍ! هَلْ لِذَنَابَاهَا مِنْ مُطَّلِبٍ! وَالَّذِي نَفْسُ فُلانٍ بِيَدِهِ مَا تَقَوَّلَهَا إِسْمَاعِيلِيٌّ قَطُّ! وَإِنَّهَا لَحَقٌّ، فَأَيْنَ كَانَ رَأْيُكُمْ عَنْهُ!
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، كُلَّمَا اجْتَمَعَ لَهُ النَّاسُ بِالْمَوْسِمِ أَتَاهُمْ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الإِسْلامِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، لا يَسْمَعُ بِقَادِمٍ يَقْدَمُ مِنَ الْعَرَبِ، لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ إِلا تَصَدَّى لَهُ فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الظفري، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت- أخو بني عمرو بن عوف- مكة حاجا أو معتمرا، قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده وشعره، ونسبه وشرفه، وهو الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى *** مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشحم ما كان شاهدا *** وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه *** نميمة غش تبتري عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتم *** ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر
فرشني بخير طالما قد بريتني *** وخير الموالي من يريش ولا يبري
مع أشعار له كثيره يقولها
قال: فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام قال: فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي! [فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما الذي معك؟» قال: مجلة لقمان- يعني حكمه لقمان- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضها علي»، فعرضها عليه، فقال: «إن هذا لكلام حسن، معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله علي، هدى ونور» قال: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن .
ثم انصرف عنه، وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لبيد، أخي بنى الأَشْهَلِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ، وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟» قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، بَعَثَنِي إِلَى الْعِبَادِ، أَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْكِتَابَ.»
ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ- وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: أَيْ قَوْمِ، هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ قَالَ: فَيَأْخُذُ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ، فَضَرَبَ بها وجه اياس ابن مُعَاذٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا قَالَ: فَصَمَتَ إِيَاسٌ، وَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنُهْم وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَلْبثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ:
فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ، وَيُحَمِّدُهُ وَيُسَبِّحُهُ، حَتَّى مَاتَ، فَمَا كَانُوا يَشُكُّونَ أَنْ قَدْ مَاتَ مُسْلِمًا، لَقَدْ كَانَ اسْتَشْعَرَ الإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حِينَ سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا سَمِعَ.
قَالَ: فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِظْهَارَ دِينَهُ وَإِعْزَازَ نَبِيَّهُ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدَهُ له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ النَّفَرَ مِنَ الأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ إِذْ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا.
قال ابن حميد: قال سلمة: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عاصم ابن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، [قال لهم: «من أنتم؟» قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالي يهود:» قالوا: نعم، قال: «أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟» قالوا: بلى، قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن .
قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا الآن مبعوث قد أظل زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: تعلمن والله أنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.
فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فان يجمعهم الله عليه، فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا.
وهم- فيما ذكر لي- ستة نفر من الخزرج: منهم من بني النجار- وهم تيم الله- ثم من بني مالك بن النجار بن ثعلبه بن عمرو بن الخزرج ابن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد ابن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابو امامه، وعوف بن الحارث ابن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء ومن بني زريق بن عامر بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم ابن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، رافع بن مالك بن العجلان ابن عمرو بن عامر بن زريق.
ومن بني سلمه بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بني سواد، قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمه.
ومن بنى حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمه، عقبه ابن عامر بن نابي بن زيد بن حرام.
ومن بنى عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد.
قال: فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة، وهي العقبه الاولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض عليهم الحرب، منهم من بني النجار أسعد بن زراره ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك ابن النجار، وهما ابنا عفراء.
ومن بني زريق بن عامر، رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر ابن زريق، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق.
ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني غنم بن عوف- وهم القواقل- عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف ابن الخزرج، وأبو عبد الرحمن، وهو يزيد بن ثعلبه بن خزمه بن اصرم ابن عمرو بن عمارة، من بني غضينة من بلي، حليف لهم
ومن بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج عباس بن عبادة ابن نضله بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف.
ومن بني سلمة، ثم من بني حرام، عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة.
ومن بني سواد، قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة.
وشهدها من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بني الأشهل: أبو الهيثم بن التيهان، اسمه مالك، حليف لهم.
ومن بني عمرو بن عوف، عويم بن ساعدة بن صلعجة، حليف لهم.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عُسَيْلَةَ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ:
كُنْتُ فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا، فَبَايَعْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الحرب، على الا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِقَ وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ أَوْلادَنَا، وَلا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشَّيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأُخِذْتُمْ بِحَدِّهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَإِنْ سُتِرْتُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَكُمْ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، أن ابْنَ شِهَابٍ ذَكَرَ عَنْ عَائِذِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
فلما انصرف عنه القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدار بن قصي، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى مصعب بالمدينة: المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبي أمامة.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال:
وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ ابن عمرو بن حزم، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير، يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان ابن امرئ القيس، ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر، على بئر يقال لها بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد ابن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا، ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه قال مصعب: إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشتما، فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعفاءنا! اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ قال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله.
ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا، إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ ثم أخذ حربته، وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله، لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي، قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فو الله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة، قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، قال: فقام سعد مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة فأخذ الحربة من يده، ثم قال:
والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني تغشانا في دارنا بما نكره! وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب! جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لم يخالف عليك منهم اثنان، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة، فجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به، في إشراقه وتسهله.
ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟
قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.
قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم، قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال: فو الله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.
ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله، وهم من أوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت، وهو صيفي، وكان شاعرا لهم، وقائدا يسمعون منه، ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق قال: ثم إن مصعب بن عمير، رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته، والنصر لنبيه صلى الله عليه وسلم وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ- وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الأَنْصَارِ- حَدَّثَهُ ان أباه كعب ابن مَالِكٍ حَدَّثَهُ- وَكَانَ كَعْبُ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِهَا، قَالَ: خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا، وَقَدْ صلينا وفقهنا، ومعنا البراء ابن مَعْرُورٍ، سَيِّدُنَا وَكَبِيرُنَا فَلَمَّا وَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا، وَخَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْبَرَاءُ لَنَا: وَاللَّهِ يَا هَؤُلاءِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَتُوَافِقُونَنِي عَلَيْهِ أَمْ لا! قَالَ: فَقُلْنَا: وما ذاك؟ قال: قد رايت الا أَدَعَ هَذِهِ الْبِنْيَةَ مِنِّي بِظَهْرٍ- يَعْنِي الْكَعْبَةَ- وَأَنْ أُصَلِّيَ إِلَيْهَا قَالَ: فَقُلْنَا: وَاللَّهِ مَا بَلَغَنَا عَنْ نَبِيِّنَا أَنَّهُ يُصَلِّي إِلا إِلَى الشَّامِ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ قَالَ: فَقَالَ: إِنِّي لَمُصَلٍّ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنَّا لا نَفْعَلُ، قَالَ: فَكُنَّا إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ صَلَّيْنَا إِلَى الشَّامِ، وَصَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ.
قَالَ: وَقَدْ عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، وَأَبَى إِلا الإِقَامَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا قد منا مكة قال لي: يا بن أخي، انطلق بنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَسْأَلَهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ خِلافِكُمْ إِيَّايَ فِيهِ.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وَكُنَّا لا نَعْرِفُهُ، وَلَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ- فَلَقِينَا رَجُلا مِنْ اهل مكة، فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِهِ؟ قُلْنَا: لا، قَالَ: فَهَلْ تعرفان العباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ- قَالَ: وَقَدْ كُنَّا نَعْرِفُ الْعَبَّاسَ، كَانَ لا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا- قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرجل الجالس مع العباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَإِذَا الْعَبَّاسُ جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ مَعَ الْعَبَّاسِ، فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ: «هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟» قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ- قَالَ: فو الله ما انسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشَّاعِرُ؟» قَالَ: نَعَمْ- قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، وَقَدْ هَدَانِي اللَّهُ لِلإِسْلامِ، فرايت الا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبِنْيَةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ، حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا!» فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إِلَى قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ قَالَ: وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ، وَوَاعَدَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ، وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم لَهَا، وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، أَبُو جَابِرٍ، أَخْبَرْنَاهُ، وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِنَا أَمْرَنَا، فَكَلَّمْنَاهُ، وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إِنَّكَ سَيِّدٌ من سادتنا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا ثُمَّ دَعَوْنَاهُ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِيَّانَا الْعَقَبَةَ.
قَالَ: فَأَسْلَمَ، وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ- وَكَانَ نَقِيبًا- فَبِتْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِينَ تَسَلُّلَ الْقَطَا، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلا، وَمَعَهُمُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِمْ: نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلَمَةَ، وَهِيَ أُمُّ مَنِيعٍ، فَاجْتَمَعْنَا بِالشِّعْبِ ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، وَيَتَوَثَّقَ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ- وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِنَّمَا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ: الْخَزْرَجَ، خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا- إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا، وَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إِلا الانْقِطَاعَ إِلَيْكُمْ وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ، فَمِنَ الآنَ فَدَعُوهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ.
قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَخُذْ لِنَفْسِكَ وَرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ.
قَالَ: فَتَكَلَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَلا الْقُرْآنَ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ، وَرَغَّبَ فِي الإِسْلامِ، ثُمَّ قَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ» .
قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الْحَلَقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ- وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم- أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِبَالا وَإِنَّا قَاطِعُوهَا- يَعْنِي الْيَهُودَ- فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ، وَتَدَعَنَا! قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «بل الدم الدم، الهدم الْهَدْمَ! أَنْتُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْكُمْ، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ» وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا،] يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ» فَأَخْرَجُوا اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، تِسْعَةً مِنَ الْخَزْرَجِ وَثَلاثَةً مِنَ الأَوْسِ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلنُّقَبَاءِ: «أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي،» قَالُوا: نَعَمْ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اجتمعوا لبيعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الأَنْصَارِيُّ، ثُمَّ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، هَلْ تَدْرُونَ عَلامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا نُهِكَتْ أَمْوَالُكُمْ مُصِيبَةً، وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلا أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الآنَ فَهُوَ وَاللَّهِ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِنْ فَعَلْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ، عَلَى نُهْكَةِ الأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الأَشْرَافِ فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا؟ قَالَ: الْجَنَّةُ، قَالُوا:
ابْسُطْ يَدَكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ.
وَأَمَّا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ الْعَبَّاسُ ذَلِكَ إِلا ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ الْعَبَّاسُ ذَلِكَ إِلا لِيُؤَخِّرَ الْقَوْمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رَجَاءَ أَنْ يحضرها عبد الله بن ابى بن سَلُولٍ، فَيَكُونَ أَقْوَى لأَمْرِ الْقَوْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فَبَنُو النَّجَارِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدَيْهِ، وَبَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ يقولون: بل ابو الهيثم ابن التَّيِّهَانِ.
قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَلَمَةُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَمَّا مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَحَدَّثَنِي- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وحدثني سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ- قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ:
فَحَدَّثَنِي فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الْبَرَاءَ بْنَ مَعْرُورٍ، ثُمَّ تَتَابَعَ الْقَوْمُ، فَلَمَّا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصُّبَاةُ مَعَهُ، قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حربكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَقُولُ عَدُوُّ اللَّهِ؟ هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أَزِيبٍ، اسْمَعْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَمَا والله لافرغن لك» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفضوا الى رحالكم» فقال له العباس ابن عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ غَدًا عَلَى أَهْلِ مِنًى بِأَسْيَافِنَا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنِ ارْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ» قَالَ: فَرَجَعْنَا إِلَى مَضَاجِعِنَا، فَنِمْنَا عَلَيْهَا، حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جُلَّةُ قُرَيْشٍ حَتَّى جَاءُونَا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا:
يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إِنَّا قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ أَبْغَضَ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ، قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللَّهِ: مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ وَمَا عَلِمْنَاهُ.
قَالَ: وَصَدَقُوا لَمْ يَعْلَمُوا قَالَ: وَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، وَقَامَ الْقَوْمُ وَفِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَلَيْهِ نَعْلانِ جَدِيدَانِ.
قَالَ: فَقُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشْرِكَ القوم بها فِيمَا قَالُوا: يَا أَبَا جَابِرٍ، أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ وَأَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ؟
قَالَ: فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ، فَخَلَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ رَمَى بِهِمَا الى، وقال: والله لتنتعلنهما قَالَ: يَقُولُ أَبُو جَابِرٍ: مَهْ أَحْفَظْتَ وَاللَّهِ الْفَتَى! فَارْدُدْ عَلَيْهِ نَعْلَيْهِ، قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَرُدُّهُمَا، فَأْلٌ وَاللَّهِ صَالِحٌ، وَاللَّهِ لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ لأَسْلُبَنَّهُ.
فَهَذَا حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ الْعَقَبَةِ وَمَا حَضَرَ مِنْهَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ مقدم من قدم على النبي صلى الله عليه وسلم لِلْبَيْعَةِ مِنَ الأَنْصَارِ فِي ذِي الْحَجَّةِ، وَأَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُمْ بِمَكَّةَ بَقِيَّةَ ذِي الْحَجَّةِ مِنْ تِلْكَ السنه، والمحرم وَصَفَرَ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَقَدِمَهَا يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ ليله خلت منه.
وحدثنى عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ- قَالَ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ:
حَدَّثَنِي أَبِي- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَنْ رَجَعَ مِنْهَا مِمَّنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَيْهَا قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، جَعَلَ أَهْلُ الإِسْلَامِ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ، وَإِنَّهُ أَسْلَمَ مِنَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَفَشَا بِالْمَدِينَةِ الإِسْلَامُ، فَطَفِقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَأْتُونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ تَذَامَرَتْ عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ، وَيَشْتَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهُمْ وَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ، فَأَصَابَهُمْ جَهْدٌ شَدِيدٌ، وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ الآخِرَةُ، وَكَانَتْ فِتْنَتَيْنِ: فِتْنَةٌ أَخْرَجَتْ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حِينَ أَمَرَهُمْ بِهَا، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَفِتْنَةٌ لَمَّا رَجَعُوا وَرَأَوْا مَنْ يَأْتِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
ثم انه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ سَبْعُونَ نَقِيبًا، رُءُوسُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَوَافُوهُ بِالْحَجِّ فَبَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، وَأَعْطُوهُ عُهُودَهُمْ، عَلَى أَنَّا مِنْكَ وَأَنْتَ مِنَّا، وَعَلَى أَنَّهُ مَنْ جَاءَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَوْ جِئْتَنَا فَإِنَّا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ قُرَيْشٌ عند ذلك، فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الْفِتْنَةُ الآخِرَةُ التي اخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ وَخَرَجَ، وَهِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ} [الأنفال: 39] حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قَالَ: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، أنهم أتوا عبد الله بن ابى بن سلون- يعني قريشا- فقالوا مثل ما ذكر كعب بن مالك من القول لهم، فقال لهم: إن هذا لأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا علي بمثل هذا وما علمته كان فانصرفوا عنه، وتفرق الناس من منى، فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بالحاجر، والمنذر بن عمرو أخا بنى ساعده ابن كعب بن الخزرج، وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة، يضربونه ويجبذونه بجمته- وكان ذا شعر كثير- فقال سعد:
فو الله إني لفي أيديهم، إذ طلع علي نفر من قريش، فيهم رجل أبيض وضيء شعشاع حلو من الرجال قال: قلت: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند هذا، فلما دنا مني رفع يديه فلطمني لطمة شديدة.
قال: قلت في نفسي: والله ما عندهم بعد هذا خير قال: فو الله إني لفي أيديهم يسحبونني، إذ أوى إلي رجل منهم ممن معهم، فقال: ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد! قال: قلت: بلى والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف «تجاره،» وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن أُمَيَّة بن عبد شمس بن عبد مناف قال: ويحك! فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما.
قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح، وإنه ليهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جوارا، قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله إن كان ليجير تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده.
قال: فجاءا فخلصا سعدا من أيديهم وانطلق وكان الذى لكم سعدا سهيل ابن عمرو، أخو بني عامر بن لؤي.
قال أبو جعفر: فلما قدموا المدينة، أظهروا الإسلام بها، وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من أهل الشرك، منهم عمرو بن الجموح ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة، وكان ابنه معاذ بن عمرو قد شهد العقبه، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتيان منهم، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بايع من الأوس والخزرج في العقبة الآخرة، وهي بيعة الحرب حين أذن الله عز وجل في القتال بشروط غير الشروط في العقبة الأولى، وأما الأولى فإنما كانت على بيعة النساء، على ما ذكرت الخبر به عن عبادة بن الصامت قبل، وكانت بيعة العقبة الثانية على حرب الأحمر والأسود على ما قد ذكرت قبل، عن عروة بن الزبير وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ الْوَلِيدِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ- قَالَ: بَايَعْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى بَيْعَةِ الْحَرْبِ، وَكَانَ عُبَادَةُ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَايَعُوا فِي الْعَقَبَةِ الأُولَى.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لرسوله صلى الله عليه وسلم في الْقِتَالِ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ} [الأنفال: 39] ، وَبَايَعَهُ الأَنْصَارُ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ بَيْعَتِهِمْ، امر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ مِمَّنْ هُوَ مَعَهُ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الأَنْصَارِ، وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ فِيهَا» فَخَرَجُوا إرسالا، واقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ بِالْخُرُوجِ من مكة، فكان أول من هاجر من المدينة والهجره إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ بْن هلال بْن عبد الله بْن عمر بْنِ مَخْزُومٍ، هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ اصحاب العقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنه، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من ارض الحبشه، فلما آذَتْهُ قُرَيْشٌ، وَبَلَغَهُ إِسْلامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الأَنْصَارِ، خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ، عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ، حَلِيفَ بَنِي عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أَبِي حَثْمَةَ بْنِ غَانِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عدى بن كعب ثم عبد الله ابن جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ- وَكَانَ رَجُلا ضَرِيرَ الْبَصَرِ، وَكَانَ يَطُوفُ مَكَّةَ أَعْلاهَا وَأَسْفَلَهَا بِغَيْرِ قَائِدٍ- ثُمَّ تَتَابَعَ أَصْحَابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة إرسالا.
واقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مَعَهُ بِمَكَّةَ أَحَدُ الْمُهَاجِرِينَ إِلا أُخِذَ فَحُبِسَ أَوْ فُتِنَ إِلا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجره، [فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَعْجَلْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ صَاحِبًا» فَطَمِعَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَهُ، فَلَمَّا رات قريش ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ، وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِمْ، عَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا، وَأَصَابُوا منهم منعه، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ لِحَرْبِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَهِيَ دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلابٍ، الَّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لا تَقْضِي أَمْرًا إِلا فِيهَا، يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم حِينَ خَافُوهُ! فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ أَبِي الْحَجَّاجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وحدثني الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَاتَّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ، وَيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الَّذِي اتَّعَدُوا لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى الزَّحْمَةَ، فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، عَلَيْهِ بَتٌّ لَهُ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا، قَالُوا: مَنِ الشَّيْخُ؟
قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، سَمِعَ بِالَّذِي اتَّعَدْتُمْ لَهُ، فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ، وَعَسَى أَلا يَعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْيٌ وَنُصْحٌ، قَالُوا: أَجَلْ، فَادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ كُلُّهُمْ، مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ، مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ شَيْبَةُ وَعُتْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حرب، ومن بنى نوفل ابن عَبْدِ مَنَافٍ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ وَجُبَيْرُ بْنُ مطعم والحارث بن عامر ابن نَوْفَلٍ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيِّ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ نَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ وَمِنْ بَنِي جُمَحَ أُمَيَّةُ بن خلف، ومن كان معهم وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لا يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ أَمْرُهُ مَا قَدْ كَانَ وَمَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا بِمَنْ قَدِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رايا، قال: فتشاروا ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمُ: احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ، وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ قَبْلَهُ:
زُهَيْرًا، وَالنَّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ، مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتَّى يُصِيبَهُ مِنْهُ مَا أَصَابَهُمْ.
قَالَ: فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لا وَاللَّهِ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، وَاللَّهِ لَوْ حَبَسْتُمُوهُ- كَمَا تَقُولُونَ- لَخَرَجَ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الَّذِي أَغْلَقْتُمُوهُ دُونَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ فَيَنْتَزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يُكَاثِرُوكُمْ حَتَّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ هَذَا، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ.
ثُمَّ تَشَاوَرُوا، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَنَنْفِيهِ مِنْ بَلَدِنَا، فإذا خرج عنا فو الله مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ، وَلا حَيْثُ وَقَعَ، إذا غاب عنا وَفَرَغْنَا مِنْهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا، وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ.
قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ، وَحَلاوَةَ مَنْطِقِهِ، وَغَلَبَتَهُ عَلَى قُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ! وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُ أَنْ يَحِلَّ عَلَى حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتَّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَيْكُمْ حَتَّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ، فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمَّ يَفْعَلَ بِكُمْ مَا أَرَادَ أَدِيرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا! قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ! قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ قبيله فَتًى شَابًّا جَلْدًا، نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا، ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا ثُمَّ يَعْمِدُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُونَهُ فَنَسْتَرِيحُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، وَرَضُوا مِنَّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ.
قَالَ: فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: الْقَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ، هَذَا الرَّأْيُ لا رَأْيَ لَكُمْ غَيْرُهُ.
فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ، فَأَتَى جِبْرِيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لا تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِكَ الَّذِي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ! قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الْعَتَمَةُ مِنَ اللَّيْلِ، اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ فَتَرَصَّدُوهُ مَتَى يَنَامُ، فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكَانَهُمْ، قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَاتَّشِحْ بِبُرْدِي الْحَضْرَمِيِّ الأَخْضَرِ، فَنَمْ فَإِنَّهُ لا يَخْلُصُ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إِذَا نَامَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: زَادَ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَقَالَ لَهُ:
«إِنْ أَتَاكَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فَأَخْبِرْهُ أَنِّي تَوَجَّهْتُ إِلَى ثَوْرٍ، فَمُرْهُ فَلْيَلْحَقْ بِي، وَأَرْسِلْ إِلَيَّ بِطَعَامٍ، وَاسْتَأْجِرْ لِي دَلِيلا يَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، وَاشْتَرِ لِي رَاحِلَةً» ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَعْمَى اللَّهُ أَبْصَارَ الَّذِينَ كَانُوا يَرْصُدُونَهُ عَنْهُ، وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ:
اجْتَمَعُوا لَهُ، وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إِنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الأُرْدُنِّ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَكُمْ مِنْهُ ذَبْحٌ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، فَجُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا.
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ: «نَعَمْ، أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ»، أَنْتَ أَحَدُهُمْ وَأَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الآيات من يس: {يسۤ (1) وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ (3) عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يس: 1-4] إِلَى قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9] ، حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ هَؤُلَاءِ الآيَاتِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ الا وقد وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ.
فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قَالُوا:
مُحَمَّدًا، قَالَ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ! قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟
قَالَ: فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا يَطَّلِعُونَ، فَيَرَوْنَ عَلِيًّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجِيًّا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمٌ، عَلَيْهِ بُرْدُهُ، فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَقَامَ عَلِيٌّ عَنِ الْفِرَاشِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَنَا الذى كان حدثنا، فَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 30-31] وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَتَى عليا فسأله عن نبى الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَحِقَ بِالْغَارِ مِنْ ثَوْرٍ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ لَكَ فِيهِ حَاجَةٌ فَالْحَقْهُ، فَخَرَجَ ابو بكر مسرعا، فلحق نبى الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جَرَسَ أَبِي بَكْرٍ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَحَسِبَهُ من المشركين، فاسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَشْيَ، فَانْقَطَعَ قِبَالُ نَعْلِهِ فَفَلَقَ إِبْهَامَهُ حَجَرٌ فَكَثُرَ دَمُهَا، وَأَسْرَعَ السَّعْيَ، فَخَافَ أَبُو بَكْرٍ ان يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع صوته، وتكلم، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَامَ حَتَّى أَتَاهُ، فَانْطَلَقَا وَرِجْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْتَنُّ دَمًا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْغَارِ مَعَ الصبح، فدخلاه وَأَصْبَحَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْصُدُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فدخلوا الدار، وقام على عَنْ فِرَاشِهِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ عَرَفُوهُ، فَقَالُوا له: اين صاحبك؟ قال: لا ادرى، او رقيبا كُنْتُ عَلَيْهِ! أَمَرْتُمُوهُ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ، فَانْتَهَرُوهُ وَضَرَبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَحَبَسُوهُ سَاعَةً ثُمَّ تَرَكُوهُ، وَنَجَّى اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ مَكْرِهِمْ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لرسوله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ بِالْهِجْرَةِ، فَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ الْجَهْضَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ- يَعْنِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم- وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي أُمِرُوا فِيهَا بِالْقِتَالِ، اسْتَأْذَنَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِهِ، حبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ لَهُ: انْظُرْنِي، فَإِنِّي لا أَدْرِي، لَعَلِّي يُؤْذَنُ لِي بِالْخُرُوجِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدِ اشْتَرَى رَاحِلَتَيْنِ يَعِدُّهُمَا لِلْخُرُوجِ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة، فلما استنظره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي يَرْجُو مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالْخُرُوجِ، حَبَسَهُمَا وَعَلَفَهُمَا، انْتِظَارَ صُحْبَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَسْمَنَهُمَا، فَلَمَّا حَبَسَ عَلَيْهِ خُرُوجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَطْمَعُ أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَانْتَظَرَهُ فَمَكَثَ بِذَلِكَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ، أَنَّهُمْ بَيْنَا هُمْ ظُهْرًا فِي بَيْتِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا ابْنَتَاهُ: عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ، إذا هم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حِينَ قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ- وَكَانَ لا يُخْطِئُهُ يَوْمًا أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ- فَلَمَّا رَأَى أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ ظُهْرًا، قَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِلَّا أَمْرٌ حَدَثَ؟ فَلَمَّا دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ، قَالَ لأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ»، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْنَا عَيْنٌ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصَّحَابَةَ، الصَّحَابَةَ! قَالَ: الصَّحَابَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: خُذْ إِحْدَى الرَّاحِلَتَيْنِ- وَهُمَا الرَّاحِلَتَانِ اللَّتَانِ كَانَ يَعْلِفُهُمَا أَبُو بَكْرٍ، يَعِدُّهُمَا لِلْخُرُوجِ، إِذَا اذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهُ إِحْدَى الرَّاحِلَتَيْنِ، فَقَالَ:
خُذْهَا يَا رَسُولَ الله فارتحلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ،» وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مولدا من مولدي الأزد، كان للطفيل ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَةَ، وَهُوَ أَبُو الْحَارِثِ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَكَانَ أَخَا عَائِشَةَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ لأُمِّهِمَا، فَأَسْلَمَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمْ، فَاشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهُ، وَكَانَ حَسَنَ الإِسْلَامِ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، كَانَ لأَبِي بَكْرٍ مَنِيحَةٌ مِنْ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرًا فِي الْغَنَمِ إِلَى ثَوْرٍ، فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرُوحُ بِتِلْكَ الْغَنَمِ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِالْغَارِ فِي ثَوْرٍ، وَهُوَ الْغَارُ الَّذِي سَمَّاهُ الله في القرآن، فأرسل بِظَهْرِهِمَا رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ، حَلِيفًا لِقُرَيْشٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، ثُمَّ آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَذَلِكَ الْعَدَوِيُّ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، وَلَكِنَّهُمَا اسْتَأْجَرَاهُ، وَهُوَ هَادٍ بِالطَّرِيقِ وَفِي اللَّيَالِي الَّتِي مَكَثَا بِالْغَارِ كَانَ يَأْتِيهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حِينَ يُمْسِي بِكُلِّ خَبَرٍ بِمَكَّةَ، ثُمَّ يُصْبِحُ بِمَكَّةَ وَيُرِيحُ عَامِرٌ الْغَنَمَ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَيَحْلِبَانِ، ثُمَّ يَسْرَحَ بُكْرَةً فَيُصْبِحُ فِي رُعْيَانِ النَّاسِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ، حَتَّى إِذَا هَدَأَتْ عَنْهُمَا الأَصْوَاتُ، وَأَتَاهُمَا أَنْ قَدْ سُكِتَ عَنْهُمَا، جَاءَهُمَا صَاحِبُهُمَا بِبَعِيرَيْهِمَا، فَانْطَلَقَا وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا بِعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ يَخْدِمُهُمَا وَيُعِينُهُمَا، يَرْدَفُهُ أَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُبُهُ عَلَى رَحْلِهِ، لَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ إِلَّا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَأَخُو بَنِي عَدِيٍّ يَهْدِيهِمَا الطَّرِيقَ، فَأَجَازَ بِهِمَا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، ثُمَّ مَضَى بِهِمَا حَتَّى حَاذَى بِهِمَا السَّاحِلَ، أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ، ثُمَّ اسْتَجَازَ بِهِمَا حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ بَعْدَ مَا جَاوَزَ قَدِيدًا، ثُمَّ سَلَكَ الْخَرَّارَ، ثُمَّ أَجَازَ عَلَى ثَنِيَّةِ الْمُرَّةِ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَى طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا الْمُدْلَجَةِ بَيْنَ طَرِيقِ عمق وَطَرِيقِ الرَّوْحَاءِ، حَتَّى تَوَافَوْا طَرِيق الْعرجِ، وَسَلَكَ مَاءً يُقَالُ لَهُ الْغَابِرُ عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةَ، حَتَّى يَطْلُعَ عَلَى بَطْنِ رِئْمٍ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةِ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قِبَلَ الْقَائِلَةِ فَحُدِّثْتُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَّا يَوْمَيْنِ- وَتَزْعُمُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَنْ قَدْ أَقَامَ فِيهِمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ- فَاقْتَادَ رَاحِلَتَهُ فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى دَخَلَ فِي دُورِ بنى النجار، فأراهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مِرْبَدًا كَانَ بَيْنَ ظَهْرَيْ دُورِهِمْ.
وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُخْطِئُهُ أَحَدُ طَرَفَيِ النَّهَارِ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ إِمَّا بُكْرَةً، وَإِمَّا عَشِيَّةً، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ بِالْهِجْرَةِ، وَبِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ، فِي سَاعَةٍ كَانَ لا يَأْتِي فِيهَا.
قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: مَا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هَذِهِ السَّاعَةَ إِلا لأَمْرٍ حَدَثَ قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ تَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إِلا أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ»، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، وَمَا ذَاكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذِنَ لِي بِالْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الصُّحْبَةَ.
قالت: فو الله مَا شَعُرْتُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَايَ، كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِهَذَا فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَدَ- رَجُلا مِنْ بَنِي الدِّيلِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا- يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ، وَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، فَكَانَتَا عِنْدَهُ يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا، وَلَمْ يَعْلَمْ- فيما بلغنى- بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ حِينَ خَرَجَ إِلا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم- فِيمَا بَلَغَنِي- أَخْبَرَهُ بِخُرُوجِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بَعْدَهُ بِمَكَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ الا وضعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لِمَا يُعْرَفُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ فَلَمَّا أَجْمَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لِلْخُرُوجِ أَتَى أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ، فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ، ثُمَّ عَمَدَا إِلَى غَارٍ بِثَوْرِ جَبَلٍ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ، فَدَخَلاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَسْمَعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَبَرِ، وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ، ثُمَّ يُرِيحَهَا عَلَيْهِمَا إِذَا أَمْسَى بِالْغَارِ وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَأْتِيهِمَا مِنَ الطَّعَامِ إِذَا أَمْسَتْ بما يصلحهما، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ ثَلاثًا، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ فَقَدُوهُ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ وَمَعَهُمْ، وَيَسْتَمِعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ يَرْعَى فِي رُعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ، فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا، فَإِذَا غَدَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى مَكَّةَ اتَّبَعَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ، حَتَّى يُعْفِي عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا مَضَتِ الثَّلاثُ، وَسَكَنَ عَنْهُمَا النَّاسُ، أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الَّذِي اسْتَأْجَرَا بِبَعِيرَيْهِمَا، وَأَتَتْهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بِسُفْرَتِهِمَا، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا فَلَمَّا ارْتَحَلا ذَهَبَتْ لِتُعَلِّقَ السُّفْرَةَ، فَإِذَا لَيْسَ فِيهَا عِصَامٌ فَحَلَّتْ نِطَاقَهَا، فَجَعَلَتْهُ لَهَا عِصَامًا، ثُمَّ عَلَّقَتْهَا بِهِ- فَكَانَ يُقَالُ لأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، لِذَلِكَ- فَلَمَّا قَرَّبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّاحِلَتَيْنِ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَرَّبَ لَهُ أَفْضَلَهُمَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: ارْكَبْ فداك ابى وأمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي،» قَالَ: فَهُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! قَالَ: «لا وَلَكِنْ مَا الثَّمَنُ الَّذِي ابْتَعْتَهَا بِهِ؟» قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «قَدْ أَخَذْتُهَا بِذَلِكَ،» قَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَكِبَا فَانْطَلَقَا، وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلاهُ خَلْفَهُ يَخْدُمُهُمَا بِالطَّرِيقِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَحَدَّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكِ يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي وَاللَّهِ أَيْنَ أَبِي! قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يده- وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا- فَلَطَمَ خَدِّي لَطْمَةً طَرَحَ مِنْهَا قُرْطِي قَالَتْ: ثُمَّ انْصَرَفُوا وَمَكَثْنَا ثَلاثَ لَيَالٍ، لا نَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ، مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ يُغَنِّي بِأَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ غِنَاءَ الْعَرَبِ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى الله رب الناس خير جزائه *** رفيقين حلا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلاهَا بِالْهُدَى وَاغْتَدَوْا بِهِ *** فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
لِيَهْنَ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ *** وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
قَالَتْ: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وَجَّهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا أَرْبَعَةً: رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ دَلِيلُهُمَا.
قال أبو جعفر: حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: حدثنا هشام ابن محمد بن السائب الكلبي، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي عبس بن محمد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه، قال: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد *** بمكة لا يخشى خلاف المخالف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ سعد بكر، سعد تميم، سعد هذيم! فلما كان في الليلة الثانية، سمعوه يقول:
أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا *** ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا *** على الله في الفردوس منية عارف
فإن ثواب الله للطالب الهدى *** جنان من الفردوس ذات رفارف
فلما أصبحوا، قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
قال أبو جعفر: وقدم دليلهما بهما قباء، على بني عمرو بن عوف، لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأول، يوم الاثنين حين اشتد الضحى، وكادت الشمس أن تعتدل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالُ قَوْمِي مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، وَتَوَكَّفْنَا قُدُومَهُ، كُنَّا نَخْرُجُ إِذَا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ إِلَى ظَاهِرِ حَرَّتِنَا، نَنْتَظِرُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فو الله مَا نَبْرَحُ حَتَّى تَغْلِبَنَا الشَّمْسُ عَلَى الظِّلَالِ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ ظِلًّا دَخَلْنَا بُيُوتَنَا، وَذَلِكَ فِي أَيَّامٍ حَارَّةٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي اليوم الذى قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جَلَسْنَا كَمَا كُنَّا نَجْلِسُ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ ظِلٌّ دَخَلْنَا بُيُوتَنَا، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ دَخَلْنَا الْبُيُوتَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَآهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ رَأَى مَا كُنَّا نَصْنَعُ، وَإِنَّا كُنَّا نَنْتَظِرُ قُدُومَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي قَيْلَةَ هَذَا جَدُّكُمْ قَدْ جَاءَ.
قَالَ: فَخَرَجْنَا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي ظِلِّ نَخْلَةٍ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي مِثْلِ سِنِّهِ وَأَكْثَرُنَا مَنْ لَمْ يَكُنْ راى رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ: وَرَكِبَهُ النَّاسُ، وَمَا نَعْرِفُهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، حَتَّى زَالَ الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَظَلَّهُ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفْنَاهُ عِنْدَ ذلك، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَذْكُرُونَ- عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هدم، أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عُبَيْدٍ، وَيُقَالُ:
بَلْ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ.
وَيَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هدمٍ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ كُلْثُومِ بْنِ هدمٍ، جَلَسَ لِلنَّاسِ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا لا أَهْلَ لَهُ، وَكَانَ مَنَازِلُ الْعُزَّابِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُ، فَمِنْ هُنَالِكَ يُقَالُ: نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ: بَيْتُ الْعُزَّابِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، كُلًّا قَدْ سَمِعْنَا.
وَنَزَلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عَلَى خَبِيبِ بن اساف، أخي بنى الحارث ابن الْخَزْرَجِ بِالسَّنْحِ، وَيَقُولُ قَائِلٌ: كَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ.
وَأَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامِهَا، حَتَّى أَدَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ إِلَى النَّاسِ، حَتَّى إذا فرغ منها لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل معه على كلثوم ابن هدمٍ، فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: وَإِنَّمَا كَانَتْ إِقَامَتُهُ بِقُبَاءٍ عَلَى امْرَأَةٍ لا زَوْجَ لَهَا مُسْلِمَةٍ، لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ: كُنْتُ نَزَلْتُ بِقُبَاءٍ عَلَى امْرَأَةٍ لا زَوْجَ لَهَا مُسْلِمَةٍ، فَرَأَيْتُ إِنْسَانًا يَأْتِيهَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بَابَهَا، فَتَخْرُجُ إِلَيْهِ فَيُعْطِيهَا شَيْئًا مَعَهُ، قَالَ: فَاسْتَرَبْتُ لِشَأْنِهِ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أَمَةَ اللَّهِ، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَضْرِبُ عَلَيْكِ بَابَكِ كُلَّ لَيْلَةٍ فَتَخْرُجِينَ إِلَيْهِ، فَيُعْطِيكِ شَيْئًا، مَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لا زَوْجَ لَكِ! قَالَتْ: هَذَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ بْنِ وَاهِبٍ، قَدْ عَرَفَ أَنِّي امْرَأَةٌ لا أَحَدَ لِي، فَإِذَا أَمْسَى عَدَا عَلَى أَوْثَانِ قَوِمِه فَكَسَرَهَا، ثُمَّ جَاءَنِي بِهَا، وَقَالَ: احْتَطِبِي بِهَذَا فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَأْثُرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ حِينَ هَلَكَ عِنْدَهُ بِالْعِرَاقِ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني هذا الحديث عَلِيُّ بْنُ هِنْدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَيَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَكَثَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ويقول بعضهم: إن مقامه بقباء كان بضعة عشر يوما.
قال أبو جعفر: واختلف السلف من أهل العلم في مده مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد ما استنبئ، فقال بعضهم: كانت مدة مقامه بها إلى أن هاجر إلى المدينة عشر سنين.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَدَنِيُّ- يُقَالُ لَهُ أَبُو زُكَيْرٍ- قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَذْكُرُ عَنْ أَنَسِ ابن مالك، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ الآمِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ موسى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أخبرتني عائشة وابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قال: حدثنا يحيى ابن سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: انزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا احمد، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُنْزِلَ على النبي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ عَشْرًا.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِ عَشْرٍ مِنْ مَخْرَجِهِ قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل أقام بعد ما استنبئ بمكة ثلاث عشرة سنة.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ- يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ-، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حدثنا حماد ابن سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، عَنِ ابن عباس، قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قال: حدثنا زكرياء ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ.
قال أبو جعفر: وقد وافق قول من قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، أخي بني عدي بن النجار، في قصيدته التي يقول فيها، وهو يصف كرامة الله إياهم بما أكرمهم به من الإسلام، ونزول نبى الله صلى الله عليه وسلم، عليهم:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة *** يذكر لو يلقى صديقا مواتيا!
ويعرض في اهل المواسم نفسه *** فلم ير من يؤوى، ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه *** فأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وألفى صديقا واطمأنت به النوى *** وكان له عونا من الله باديا
يقص لنا ما قال نوح لقومه *** وما قال موسى إذ أجاب المناديا
وأصبح لا يخشى من الناس واحدا *** قريبا، ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا *** وأنفسنا عند الوغى والتأسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره *** ونعلم ان الله افضل هاديا
فاخبر ابو القيس في قصيدته هذه أن مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه قريش كان بعد ما استنبئ وصدع بالوحي من الله بضع عشرة حجة.
وقال بعضهم كان مقامه بمكة خمس عشرة سنة:
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حدثني بذلك الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عمر، عن إبراهيم بن إسماعيل، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عباس، واستشهد بهذا البيت من قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، غير أنه أنشد ذلك:
ثوى في قريش خمس عشرة حجة *** يذكر لو يلقى صديقا مواتيا!
قال أبو جعفر: وقد روي عن الشعبي إن إسرافيل قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه ثلاث سنين.
حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ- قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ مَنْصُورٌ عَنِ الأَشْعَثِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ- قَالَ:
قُرِنَ إِسْرَافِيلُ بِنُبُوَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ سِنِينَ، يَسْمَعُ حِسَّهُ، وَلا يَرَى شَخْصَهُ ثم كان بعد ذلك جبريل ع قال الواقدي:
فذكرت ذلك لمحمد بن صالح بن دينار، فقال: والله يا بن أخي لقد سمعت عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وعاصم بن عمر بن قتادة يحدثان في المسجد ورجل عراقي يقول لهما هذا، فأنكراه جميعا وقالا: ما سمعنا ولا علمنا إلا أن جبريل هو الذي قرن به، وكان يأتيه بالوحي من يوم نبئ إلى أن توفى صلى الله عليه وسلم.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلاثَ سِنِينَ، فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمَّا مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عَشْرَ سِنِينَ بِمَكَّةَ وَعَشْرَ سِنِينَ بِالْمَدِينَةِ.
قال أبو جعفر: فلعل الذين قالوا: كان مقامه بمكة بعد الوحي عشرا عدوا مقامه بها من حين أتاه جبريل بالوحي من الله عز وجل، وأظهر الدعاء إلى توحيد الله وعد الذين قالوا: كان مقامه ثلاث عشرة سنة من أول الوقت الذي استنبئ فيه، وكان إسرافيل المقرون به وهي السنون الثلاث التي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة.
وقد روي عن قتادة غير القولين اللذين ذكرت، وذلك ما حدثت عن روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين بمكة وعشرا بعد ما هاجر، وكان الحسن يقول: عشرا بمكة وعشرا بالمدينة.