الأستاذ الدكتور هشام نشابة
عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة
ما زال علم الحديث من أجلّ العلوم في الدراسات الإسلامية، تكفي الإشارة إلى فضل علم مصطلح الحديث وما لهذا العلم من فضل على تطور علم التاريخ، عند المسلمين أولاً، ثم من خلالهم، على تطور علم التاريخ في العالم.
فقد أدرك المؤرخون المسلمون، أن علم مصطلح التاريخ هو العلم الذي ينبثق منطقياً من علم مصطلح الحديث. فكما يلجأ علماء الحديث إلى قواعد للتحقق من صحة الأحاديث النبوية الشريفة ووقائع السيرة النبوية الشريفة، كذلك يلجأ علماء التاريخ إلى مثل هذه القواعد للتحقق من صحة ما يتناقله المؤرخون من أحداث الزمان.
ولئن انبثقت عن علم مصطلح الحديث علوم متعددّة – لعلها أهمها علم الرجال– كذلك وضع علماء التاريخ قواعد وأصول فروع علم التاريخ ونظريات في فلسفة هذا العلم اصبحت اليوم ذات أثر بالغ الشأن في تدوين وفهم الأحداث التاريخية واتجاهات المجتمعات الإنسانية في مختلف العصور والأصقاع في العالم.
- أول هذه الخواطر يتعلق بعلم الحديث وأثره على تطور الحضارة عموماً، وتطور فهمنا لاتجاهاتها. فان ما بذله المسلمون منذ القرن الثاني لظهور الإسلام، كان الأساس للوعي التاريخي الذي ميّز المجتمعات البشرية منذ ذلك الوقت. ثم تطور هذا الوعي منذ القرن الرابع عشر الميلادي – عصر بن خلدون- جعل التاريخ علماً، له أصوله وقواعده ومناهجه التي نفهم في ضوئها الماضي، ونعي الحاضر ونستشرف المستقبل.
- ولعلّ أول المسائل التي واجهت علماء الحديث، فضلاً عن التحقق من الأمانة في رواية الحديث النبوي الشريف، هي مسألة اختيار ما يجب الحفاظ عليه من أحداث السيرة النبوية الشريفة. فكل واقعة أو حدث أو قول للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، جديرة بالحفظ ثم الرواية. فالرسول عليه الصلاة والسلام هو خير الناس في كل ما يقول ويعمل ويقرّ ويمنع، أدّبه رب العالمين ليكون قدوة للناس كافة. «كان خلقه القرآن »- كما قالت عائشة رضي الله عنها– فكل ما يصدر عن الرسول جدير بالاتباع، ومعرفة الحكمة منه سعي مشكور.
- وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الموقف الذي هو من صلب الدين والتدين إلى جمع كم هائل من الوقائع والأحداث عن عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فكل من عاصر النبي من أهل الحجاز، سمع من النبي عليه الصلاة والسلام، أو شهد حدثاً، أو نُقل اليه خبر عنه، حرص أن ينقله إلى من بعده. بل لعل البعض ادّعى أنه سمع قولاً عن الرسول عليه الصلاة والسلام طمعاً في شهرة أو مكانة بين الناس. وأي شرف أعظم من أن يقال عن شخص إنه سمع أو شهد أو نقل خبراً ارتبط بحياة النبي عليه الصلاة والسلام ؟!
وهكذا فإن ما تجمع من الأحاديث والأخبار المتصلة بالرسول عليه الصلاة والسلام والتي نسبت اليه، خاصة في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، أدّى إلى تطورين أساسيين أحدهما إيجابي والآخر سلبي. - أما التطور الإيجابي فهو تسجيل تفاصيل دقيقة عن حياة الرسول عليه الصلاة والسلام شملت كل صغيرة وكبيرة من تصرفاته العامة والخاصة، وهكذا أصبحت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم شخصية قريبة إلى كل مسلم يتذكرها ويتمثّلها، ويحبّها ويحاول الاقتداء بها. وكلما قُرِّبت شخصية المثل الأعلى من أتباعه زاد إعجابهم وتعلقهم بها. ولولا حرص النبي عليه الصلاة والسلام، وحرص القرآن الكريم على التأكيد على إنسانية الرسول – أي كونه بشر مخلوق كسائر البشر – لظهر في الإسلام من يرفعه إلى مقام الألوهية، بل إن في تاريخ الفرق الإسلامية من ذهب هذا المذهب. ولكن الدعوة الإسلامية التي لا تقبل التساهل بموضوع وحدانية الله عزّ وجل، خالق كل شيء وليس كمثله شيء، ولولا تأكيد القرآن على أن محمداً «بشر مثلكم يوحى اليه » لكان لهذه المذاهب شأن أكبر في تاريخ الفكر الإسلامي.
- ثم إن ما اجتمع في الأدبيات الإسلامية من أخبار السيرة والأحاديث المنسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ساعد على التقريب بين المُثُل العليا وبين حياة الناس اليومية. ولولا ذلك لابتعدت المثل العليا عن حياة الناس ولأصبحت طموحاً لا يمكن بلوغه أو نظرة غير واقعية وغير قابلة للتطبيق في حياة الناس. إن السيرة النبوية هي الجسر الرابط بين المُثُل العليا والحياة، أي، بين هذه المثل والواقع. وهكذا أصبح الإسلام أقرب إلى مفهوم الناس وحياتهم.
- غير أن هذه الخاصية المميزة للإسلام كان لها ثمن لا بدّ من تأديته. ذلك أن الدخول في التفاصيل الدقيقة يؤدي دائماً إلى تفسيرات قد تبعد المتتبع لها عن جوهر الدين، بل عن الحقيقة أيضاً، مما يفسح المجال لاختلاق وقائع وأحاديث لا أساس لها من الصحة، بل إن بعض هذه الوقائع والأحاديث الموضوعة قد أساء إلى كمال وسمو الخلُقُ الذي تميّز به الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا هو الجانب السلبي الأهم من جمع هذا الكم الهائل من الأدبيات المرتبطة بالسيرة النبوية الشريفة.
- عندما اكتمل علم الحديث في القرن الثاني الهجري وأصبحت له قواعده وأصوله، ومناهجه وأساليبه وأعلامه المشهورين، نشأت علوم فرعية عديدة كعلم لغة الحديث، وعلم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، وعلم التأريخ للسيرة النبوية الشريفة. ثم أخذ العلماء في توسيع نطاق هذا العلم الجليل ليُستفاد منه في التأريخ لأعلام المسلمين من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من العلماء في مختلف العلوم، ممن برزوا واشتهروا في مختلف العصور.
وهكذا أصبح ما يُعرف بكتب « الطبقات » جزءاً مهماً من أدبيات كل عصر. بل أصبح لكل قرن من قرون التاريخ الإسلامي، من يؤرخ لأعلامه، وبقي هذا التقليد قائماً حتى عصر المحبي (ت: 111 هـ/ 1699 م) والمرادي (ت: 1206 هـ/ 1791 م).
وعندما بدأت أساليب البحث العلمي تتأثر بالتقاليد الغربية وظهرت الموسوعات التي أحصت آلاف الأعلام، بادرت المؤسسات العلمية في البلاد الإسلامية إلى السير على هذا النهج. ولعلّ أحدث الجهود في هذا المجال ما تقوم به حالياً المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) في إصدارها «موسوعة الأدباء والعلماء العرب والمسلمين» . وقد صدر من هذه الموسوعة حتى كتابة هذه السطور أربعاً وعشرين مجلداً، ومن المتوقع أن تصل أعداد مجلداتها إلى اثنين وثلاثين في غضون السنوات القليلة المقبلة. - لا أعلم بين حضارات الأمم، حضارة أولت إحصاء أعلامها ما أولته الحضارة الإسلامية من جهد، حتى شمل هذا الإحصاء العلماء والشعراء وأصحاب المهن والفنانين، وشكّلت هذه الكتب تراثاً فكرياً إنسانياً فريداً يجدر التنويه به عندما تُذكر الإنجازات الحضارية الكبرى في العالم.
- الخاطرة التالية تتعلق بتعلُّم الحديث النبوي الشريف وتعليمه: لئن كان حفظ القرآن الكريم وتفسير آياته وإتقان علومه يحتاج إلى قدرات واستعداد خاص عند الحفّاظ والدارسين فإن حفظ متون الأحاديث وأسانيدها، ودراسة علوم الحديث يحتاج إلى جهود واستعدادات عظيمة وخاصة. غير أن حبّ المسلمين للنبي عليه الصلاة والسلام جعل الإقبال على علوم الحديث محبباً إلى نفوس المؤمنين إلى يومنا هذا. وهكذا كثرت الكتب التي تعنى بالحديث النبوي في كل عصر.
ولكن الكمّ الهائل من هذه الأحاديث، واختلاف مراتبها من الصحة والضعف، جعل من الضروري اختيار ما يجب معرفته ودراسته وما يمكن تجاوزه.
وهنا تكمن المشكلة بالنسبة لمعلّم الحديث في النظام التربوي: فأي الأحاديث وأي المتون يجب أن تُحفظ وأيّها يُدرّس، متناً وإسناداً، علماً أن في كل جهد يبذل في هذا السبيل ثواب وفضل عظيم ؟
إن من البديهي القول بأن مصدر كل توجيه في النظام التربوي الإسلامي هو القرآن الكريم، ثم السنّة النبوية الشريفة. وإن ما يساعد المربي المسلم أن الحديث الشريف والسنّة النبوية وأخبار الصحابة والتابعين ومن تبعهم من العلماء والصالحين، توفر مادة تعليمية غنية ومرنة تتكيّف مع متطلبات التربية الحديثة. ففيها من القصص والأمثال الكثير الذي يستطيع المعلّم أن يستفيد منه لجذب انتباه طالب العلم الصغير والكبير. وفيها من ضروب البلاغة ومواقف النبل والشهامة والتقي والورع ما ينمّي الفضائل ويقدّم القدوة الصالحة من جهة، ويوثّق الصلّة بين طالب العلم والتراث من جهة، ويساعد على بناء مجتمع صالح في المستقبل.
ولكن على واضع البرامج الدينية أن يكون واعياً لمشكلات العصر الذي يعيش فيه لكي يحدد على ضوئها ما يختار من السنن والأحاديث وما يجب تدريسه في مختلف المراحل الدراسية. هنا قد تتباين الآراء بين المربين. فمن هؤلاء من يضع في رأس ما يجب الاهتمام به القيم والفضائل الدينية والعبادات، ومنهم من يضع القضايا المعاصرة كالبيئة، وصيانة الأسرة، وقضية المرأة، وحقوق الإنسان والتعاون، ومحاربة الفساد الخ… وكل ذلك أساسي وهو يستوجب بالتالي وضع برامج متوازنة يقدَّم فيها الأهم على المهم. فعلى واضعي برامج التعليم أن يحصوا على تكثيف الاعتماد على السيرة النبوية الشريفة والحديث النبوي الشريف لأن السيرة والحديث هما مادة تعليمية دسمة وسهلة الفهم، وقريبة إلى مدارك التلامذة والطلاّب، وهي خير ما يستشهد به عند الدعوة إلى الالتزام بالشرع والعمل بالمبادئ الأخلاقية التي هي أساس الدين.
وبعد، فهذه خواطر رأيت أن أضعها بين أيدي المربين لعلّها تحفزهم على مزيد من العناية بالتعليم الديني عموماً وتعليم الحديث النبوي الشريف.
والله الموفق هو نعم المولى والنصير