وفي التاسع منه توجّه إلى عرفة، وهناك خطب خطبته الشريفة التي بيّن فيها الدّين كله أسه وفرعه وهاك نصّها: …
«الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستعفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد ألاإله إلّا الله واحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله: أوصيكم عبّاد الله بتقوى الله وأحثّكم على طاعته واستفتح بالذي هو خير، أما بعد: أيها الناس اسمعوا منّي أبيّن لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.
أيها الناس إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها. إنّ ربا الجاهلية موضوع، وإنّ أول ربا أبدأ ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإنّ دماء الجاهلية موضوعة وأوّل دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإنّ ماثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية، والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
أيها الناس: إن النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما، ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاث متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد.
أيها الناس: إنّ لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهنّ حق ألا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلّا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإنّ الله أذن لكم أن تعضلوهنّ وتهجروهنّ في المضاجع، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيرا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة ولا يحلّ لامرىء مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه، ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعنّ بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده كتاب الله. ألا هل بلّغت؟ اللهم أشهد.
أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لادم وادم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلّا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد منكم الغائب.
أيها الناس: إنّ الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارث وصيته في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، والسلام عليكم ورحمة الله»
وفي هذا اليوم أمتنّ الله على المؤمنين بقوله في سورة المائدة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] فلا غرابة أن اتخذه المسلمون عيدا ويوما سعيدا يظهرون فيه شكر الله على هذه النعمة الكبرى. ثم إنه عليه الصلاة والسلام أدّى مناسك الحجّ من رمي الجمار والنحر والحلق والطواف، وبعد أن أقام بمكّة عشرة أيام قفل إلى المدينة، ولما راها كبّر ثلاثا وقال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ايبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» .