ولما وصل هذا الكتاب قيصر قال: انظروا لنا من قومه أحدا نسأله عنه، وكان أبو سفيان بن حرب بالشام مع رجال من قريش في تجارة، …
فجاءت رسل قيصر لأبي سفيان ودعوه لمقابلة الملك فأجاب، ولما قدموا عليه في القدس قال لترجمانه: سلهم أيهم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان: أنا، لأنه لم يكن في الركب من بني عبد مناف غيره، فقال قيصر: أدن منّي، ثم أمر بأصحابه فجعلوا خلف ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه: إنما قدّمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وقد جعلتكم خلفه كيلا تخجلوا من ردّ كذبه عليه إذا كذب، ثم سأله كيف نسب هذا الرجل فيكم؟
قال: هو فينا ذو نسب. قال: هل تكلّم بهذا القول أحد منكم قبله؟ قال: لا، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال لا، قال: فهل كان من ابائه من ملك؟ قال: لا، قال: فأشراف الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، قال: فهل يزيدون أم ينقصون، قال: بل يزيدون، قال: هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه قال: لا. قال: هل يغدر إذا عاهد؟ قال: لا، ونحن الان منه في ذمة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: فهل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف حربكم وحربه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سجال مرة لنا ومرة علينا، قال: فبم يأمركم؟ قال: يقول: «اعبدوا الله واحده ولا تشركوا به شيئا، وينهى عما كان يعبد اباؤنا ويأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة».
فقال الملك: إني سألتك عن نسبه، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟
فزعمت أن لا، فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتمّ بقول قيل قبله، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقلت:
ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك هل كان من ابائه من ملك؟ فقلت: لا، فلو كان من ابائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون، فقلت: بل يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه؟ فقلت: لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، وإن الحرب بينكم وبينه سجال، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك بماذا يأمر؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن: لا، وكذلك الرسل لا تغدر، فعلمت أنّه نبيّ، وقد علمت أنه مبعوث، ولم أظن أنه فيكم، وإن كان ما كلمتني به حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين، ولو أعلم أني أخلص إليه لتكلفت ذلك، قال أبو سفيان: فعلت أصوات الذين عنده وكثر لغطهم فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا.
فلمّا خرج أبو سفيان مع أصحابه قال: لقد بلغ أمر ابن أبي كبشة أن يخافه ملك بني الأصفر !
ولمّا سار قيصر إلى حمص أذن لعظماء الروم في دسكرة له ثم أمر بأبوابها فأغلقت ثم قال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها مغلقة، فلمّا رأى قيصر نفرتهم قال: ردّوهم عليّ، فقال لهم: إني قلت مقالتي اختبر بها شدّتكم على دينكم، فسكتوا له ورضوا عنه، فغلبه حبّ ملكه على الإسلام، فذهب بإثمه وإثم رعيته كما قال عليه الصلاة والسلام، ولكنه ردّ دحية ردّا جميلا.