ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى الجعرانة حيث ترك السبي فأحصاه، وخمّسه …
وأعطى منه شيئا كثيرا لأناس ضعف إسلامهم يتألّفهم بذلك، وأعطى أناسا لم يسلموا ليحبّب إليهم الإسلام، ومن الأوّلين: أبو سفيان أعطاه أربعين أوقية من الذهب ومائة من الإبل، وكذلك ابناه معاوية ويزيد، فقال له: بأبي أنت وأمي لأنت كريم في السلم والحرب. ومنهم حكيم بن حزام أعطاه كأبي سفيان فاستزاده فأعطاه. ثم استزاده فأعطاه مثلها. وقال: «يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السّفلى» فأخذ حكيم المائة الأولى وترك ما عداها، ثم قال: والذي بعثك بالحقّ لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدّنيا، فكان الخلفاء بعد رسول الله يعرضون عليه العطاء. الذي يستحقه من بيت المال فلا يأخذه. وأعطى عليه الصلاة والسلام عيينة بن حصن مائة من الإبل، وكذلك الأقرع بن حابس والعباس بن مرداس وأعطى صفوان ابن أمية شعبا مملوا نعما وشاء، كان راه يرمقه فقال له: «هل يعجبك هذا؟» قال نعم، قال: «هو لك». فقال صفوان: ما طابت بمثل هذا نفس أحد، وكان سبب إسلامه. وكان عليه الصلاة والسلام يقصد من هذه العطايا تأليف القلوب وجمعها على الدين القويم، وهذا ضرب من ضروب السياسة الدينية حتى جعل من الصدقات قسما للمؤلفة قلوبهم، وقد عاد ذلك بفائدة عظمى، فإن كثيرين ممّن أعطوا في هذا اليوم ولم يكونوا أشربوا في قلوبهم حبّ الإسلام صاروا بعد من أجّلاء المسلمين، وأعظمهم نفعا كصفوان بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، والحارث بن هشام وغيرهم.
ثم أمر عليه الصلاة والسلام زيد بن ثابت فأحصى ما بقي من الغنائم، وقسّمه على الغزاة بعد أن اجتمع إليه الأعراب، وصاروا يقولون له: اقسم علينا حتى ألجؤوه إلى شجرة فتعلق رداؤه فقال «ردّوا ردائي أيها الناس، فو الله إن كان لي شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا» ثم قام إلى بعيره، وأخذ وبرة من سنامه، وقال: «أيها الناس، والله مالي من غنيمتكم ولا هذه الوبرة إلّا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدّوا الخياط والمخيط، فإن الغلول «1» يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم القيامة» فصار كل من أخذ شيئا من الغنائم خلسة يرده ولو كان زهيدا، ثم شرع يقسم فأصاب الرجل أربعة من الإبل وأربعون شاة، والفارس ثلاثة أمثال ذلك، فقال رجل من المنافقين: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى أحمر وجهه، وقال: «ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟!» 3 فلم يؤده غضبه أن ينتقم لنفسه حاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك بل لم يزد على أن نصح وحذّر، وقال له عمر وخالد بن الوليد: دعنا يا رسول الله نضرب عنقه، فقال: لا! لعلّه أن يكون يصلّي، فقال خالد: وكم من مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق عن بطونهم».
ولما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا لقريش وقبائل العرب، وترك الأنصار غضب بعضهم حتى قالوا: إن هذا لهو العجب يعطي قريشا. ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم!!! فبلغه ذلك فأمر بجمعهم وليس معهم غيرهم. فلمّا اجتمعوا قال: «يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم بي؟ إن قريشا حديثو عهد بكفر ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأ تألّفهم، أغضبتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لشيء قليل من الدنيا ألّفت به قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم الثابت الذي لا يزلزل؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمّد بيده، لولا الهجرة لكنت امرا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار». فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف عليه الصلاة والسلام وتفرّقوا.