وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبا بكر الصديق في غار ثور …
بعد أن خرجا من مكة المكرمة في رحلة الهجرة الشريفة مبيتين فيه، وهي الليلة الثانية لهما في الغار.
وكانت قريش قد طافت جبال مكَّة كلها بحثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر ومعهم المختصون في اقتفاء الآثار، حتى انتهوا فعلاً لمنطقة جبل ثور بحلول الليل، حتى إذا كانوا على مسافة ٢٠ متراً تقريباً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وقد أعماهم الله عنهما فاختلطت عليهم الآثار؛ وقف أحدهم بمواجهة الغار، فقال أبوبكر : “يا رسول الله إن هذا الرجل ليرانا!”، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “كلا، إن ملائكة تسترُنا بأجنحتها“، فجلس الرجل يبول في مواجهة الغار، فقال النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم لأبي بكر: “لو كان يرانا ما فعل هذا!”.
ثم قال سُراقة بن مالك المدلجي لمن معه: “هذا الحجَرَ…، ثم لا أدري أين وضع رِجْلهَ بعدها!”، ومعه شباب قرُيش يحملون الأسياف والعصيّ والهرِاَوَات، فداروا حول الجبل ومشَّطوا المكان حوله فلم يجدوا أحدًا، فرجعوا إلى مكّة خائبين، أملاً أن يكُملوا بحثهم في الصباح، وقال الفتِيةَ لسرُاقة: “أنت لم تُخطئ منذ الليلة!”، متعجبين من عجزه عن اقتفاء أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر رضي الله عنه.
ولماّ كان بعد العشاء جاءهم عامر بن فهيرة يحلب لهم من الشياه، وأتاهم عبد الله بن أبي أبكر بالأخبار وبقي عندهم حتى وقت السَحَر -قبُيل طلوع الفجر قليلاً-، ثم انصرف عبد الله إلى مكّة قبل الفجر كأنه كان مبيتاً بها، ثم أراح عامر بن فهيرة غنماته على آثاره وآثار عبد الله عائدًا لمكّة أيضًا.
وفي الصباح عاودت قرُيش ومعهم سُراقة بن مالك المدلجي -وغيره من مقتفي الآثار-، تمشيط المكان على جبل ثور وحوله، وظلوّا يمروّن أمام الغار وتحاذي أرجلهم باب الغار ولا يرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر ولا يلتفتون للغار من حفظ الله لهما؛ فيقول أبو بكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه؟!” فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما!” ثم قال سُراقة لمن معه: “انظروا في الغار” ثم سبقهم إليه، حتى إذا كان على بُعد ٣٠ مترا -خمسين ذراعاً- تقريباً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وجد الحمامتين البريَتّين فرجع ، فقالوا له: ”لم رجعت؟”، فقال : ”وجدت حمامتين بريَتّين على باب الغار فعلمت أنه ليس فيه أحد!”، فسمع حديثهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلم أن الله صرفهم عنهم بهاتين الحمامتين، ورجعوا جميعاً خائبين.
وخرج عبد الله بن أبي بكر إلى أماكن تجمعّ كبار قريش في نواديهم كما أمره أبا بكر رضي الله عنه ليتسمع أخبارهم، وما يدُّبرِون حتى إذا غربت الشمس تجهّز للعودة بالأخبار للغار.
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر لم يخرجا من الغار مُدّة إقامتهما أوَّل الليل، ولم يستطلعا هلال ربيع الأوَّل بعد غروب الشمس، وإنما أخبرهم به عبد الله أو عامر بن فهيرة أو كليهما هذه الليلة والله أعلى وأعلم.