وفيه اجتمع ملأ قريش للتشاور بدار الندوة ٢١ وقت الضُحى – العاشرة صباحًا تقريباً – …
وذلك لماّ رأوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كَثرُ أَتباعه، ورأوا أيضًا خروج بعضا صحابه مهاجرين إلى المدينة المنوَّرة – وكان اسمها يثرب -، وقد وجدوا فيها ملاذًا آمنا من بطش مشركي مكّة وبيئة خصبة لاحتضان الدعوة الوليدة، إلى جانب دخول عدد لا يسُتهان به من أهل يثرب في دين الإسلام، فخاف المشركون أن تكون هذه بداية قوة لدعوة النبّي صلى الله عليه وآله وسلم، فيتحصّن ومن معه بيثرب وتقَوىَ شوكتهم بها فينازعوا قريش سلطانها ومصالحها في الجزيرة العربية.
وجائهم إبليس في هيئة شيخ مسُن، من أهل نجد، مرتدياً ثياباً سميكة، ووقف على باب دار الندوة فلمَاّ رأوه واقفا دار هذا الحوار:
• قالوا: “من الشيخ؟”
• قال: “شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى ألا يعدمكم رأيا ونصحا”.
• قالوا: “نعم!، فادخل”
فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش وفيهم:
١. عتبة بن ربيعة
٢. شيبة بن ربيعة
٣. أبو سفيان بن حرب (من بني عبد شمس)
٤. طعيمة بن عدي
٥. جبير بن مطعم
٦. الحرث بن عامر بن نوفل (من بني نوفل بن عبد مناف)
٧. النضر بن الحرث بن كلدة (من بني عبدالدار بن قصي)
٨. أبو البختري بن هشام (من بني أسد بن عبد العزى)
٩. نبيه بن الحجاج السهمي (من بني سهم)
١٠ . منبه بن الحجاج السهمي (من بني سهم)
١١ . أمية بن خلف
١٢ . زمعة بن الأسود
١٣ . حكيم بن حزام
١٤ . أبوجهل بن هشام (من بني مخزوم)
وغيرهم ممن يعُد من غير قرُيش، فقال لهم أبو البختري بن هشام: “إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجْمِعوا فيه رأياً”، فتشاوروا قليلاً، ثم قال قائل منهم: “احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذي كانوا قبله زهيراً والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم”.
فقال الشيخ النجدي: “لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجَُنّ أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم ليكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره فتشاوروا فيه”.
ثم قال أبو الأسود ربيعة بن عمرو – أحد بني عامر بن لؤي -: “نُخرِجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا أُخرِج عنا فوالله مانبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب غنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت”.
قال الشيخ النجدي: “لا والله، ما هذا لكم برأي، ألم ترَوَا حُسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟!، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يَحلِّ على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأياً غير هذا”.
فقال أبو جهل بن هشام: “والله إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد”
قالوا: “وما هو يا أبا الحكم؟” قال: “أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً قويًّا نسيباً حسيباً في قومه، ثم نعُطي كل فتى منهم سيفًا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه به ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرَقّ دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالدِّية ففديناه لهم”.
قال الشيخ النجدي: “لله در الفتى! هذا والله الرأي وإلا فلا!” فتفرقوا وقد أجمعوا على أن يفعلوا ذلك، فجاء جبر يل عليه السلام إلى النبي صلى اللهعليه وآله وسلم وأخبره بما حدث من قريش وما اتفقوا عليه، وأخبره ألا يبيت في بيته ولا ينام على فراشه هذه الليلة.
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقت حرّ الظهيرة قاصدًا بيت أبيي بكر الصديق رضي الله عنه ببيوت بني جُمح جنوب مكَّة في وقت كان لا يأتيه فيه عادةً، وكان من عادته صلى اللهعليه وآله وسلم أن يذهب إلى أبي بكر أول النهار أو آخره، فلما رآه أبو بكر شعر بالقلق وقال: “ما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث!”.
فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام له أبوبكر رضي الله عنه من على سريره ليجلس عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس في الغرفة إلا أسماء وعائشة بنتي أبي بكر، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: “أَخْرِج عني من عندك”، فقال: “يا رسول الله، إنما هما بنِتْاَي، وهم أَهْلكَ، وما ذاك؟!، فداك أبي وأمي؟” وقد بدأت حدة القلق والحيرة تبدوا على أبي بكر لما أشعره كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخطورة الأمر، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة”، فقال أبو بكر: “الصُّحبة يا رسول الله!” -يقصد أتيتني بقصد الصُحبة يا رسول الله؟-، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “نعم، الصُّحبة“، فبكى أبوبكر فرحًا!، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها راو ية القصة: ”فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ!”.
ثم رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته ليتجَهَّز للخروج، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم علياً أن ينام مكانه، وطمأنه على حياته قائلاً: “نم على فراشي وتسج – تغطى – ببرْدِي – ثوبي – هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم“، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتغطى بذلك الثوب عند النوم، وأخبره بهجرته وأَمرَه بُالبقاء بمكّة بعده ثلاث ليال ليرَدُ الأمانات والودائع التي كانت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن يلحق به بعد ردها لأصحابها، وكان المشركون اعتادوا حفظ أماناتهم وودائعهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عهدوا من صدقه وأمانته، حتىّ لقَّبوه ب”الصادق الأمين” قبل البعَثة، واستمروّا على حفظ أماناتهم عنده وهم على شرِكِهِم ومخالفتهم لدينه بعد بعثته صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا أبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً خلفه ليرَدُّ الأمانات والودائع إلى أهلها، فإنهّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدر على كلُ حال، ولو خططوا لقتله.