ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله، …
فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوا إلى قتال الروم، فإذا قال لهم: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92].
كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها، ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم، فكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: «ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم» ، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود.
وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله ـ وكانت أربعة آلاف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته. وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاءوا بمال. وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مُدّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها. وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم.
ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} [التوبة: 79].