سماحة السيد جواد الخوئي
عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة
بسم الله الرحمن الرحيم
{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]
المقدمة :
تبقى الرحمةُ هي الدعامةَ الرئيسةَ لكافةِ الأديانِ السماويةِ لكونها أساسَ القيمِ النبيلةِ التي بُنيَ عليها حبُ الخيرِ للآخرِ، ومرساةً للتكافُلِ بين الفردِ وباقي المجتمعاتِ الإنسانيةِ، وهي رأسُ الهرمِ لمكارمِ الأخلاقِ التي بعث اللهُ جلّ شأنُه أنبياءَه ورسلَه من أجلِها، لما لها من آثارٍ إيجابيةٍ على بني الإنسانِ في التقاربِ واندماجِ النفوسِ البشريةِ، حيثُ لا لذّةَ في الحياةُ ولا ازدهارَ إلا بالتراحُمِ، بدءًا بالأسرةِ الصغيرةِ {وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] وانتهاءً بالمجتمعاتِ الكبيرةِ {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. فإذا كان بناءُ الأسرةِ سليماً من فترة الحضانةِ وتحتَ مِظلةِ التراحمِ والتواددِ، أنتجتْ جيلاً صالحاً يرفدُ المجتمعَ بكلِّ ما هو إيجابيٌّ، وكذلك بناءُ أُسر التعليم الديني والأكاديمي له الأثرُ البالغُ في تنميةِ قدراتِ الفردِ في التربيةِ السليمةِ، والمحصلةُ الأخيرةُ ستنعكسُ تلك السلوكياتُ على المحيطِ المجتمعيِّ الأكبرِ، والعكسُ صحيحٌ؛ فاذا فُقِدَت الرحمةُ وطغت الشدةُ والغلظةُ والتظالمُ، حينها تنعكسُ الحالةُ السلبيةُ على الدائرةِ نفسِها، وعلى إثرِ ذلك تشقَى المُجتمعاتُ الصغيرةُ والكبيرةُ وتخلَقُ بيئةٌ مشحونةٌ بالكراهيةِ والعنفِ، فتتخاصمُ وتتناحرُ المجتمعاتُ فيما بينها، وتكونُ قد فقدت السلمَ والتآلف.
معنى الرحمة:
للرحمةِ آفاقٌ عِدةٌ ومساحةٌ واسعةٌ من المعاني والتعاريفِ لا حصرَ لها، وفي مفهومِها العامِّ هي : العطفُ وتقديمُ العونِ للمرحوم.
وأحببتُ من شعرِ بشار بنِ بُردٍ:
يا رحمةَ الله حِلّلّي في منازلِنا *** وجاورينا فدتْكِ النفسُ من جارِ
وقد وصفها ابنُ القيّم قائلا: «الرحمةُ صفةٌ تقتضي إيصالَ المنافعِ والمصالحِ إلى العبدِ وإن كرهتْها نفسُه وشقّتْ عليها فهذه هي الرحمةُ الحقيقيةُ فأرحمُ الناسِ بك من شقّ عليك في إيصالِ مصالحِك ودفعِ المضارِّ عنك، فمن رحمةِ الأبِ بولدِه: أن يُكرهَه على التأدبِ بالعلمِ والعملِ ويشقَّ عليه في ذلك بالضربِ وغيرِه ويمنعَه شهواتِهِ التي تعودُ بضررِه ومتى أهملَ ذلك من ولدِه كان لقلةِ رحمتِه به وإن ظنَّ أنّه يرحمُه ويرفِّهُه ويريحُه فهذه رحمةٌ مقرونةٌ بجهلٍ»(1)
وعرّفها ابنُ منظور بقوله في مادة (رحم): الرَّحمةُ الرِّقَّةُ والتَّعَطُّفُ، والمرْحمَةُ مثله، وقد رَحمْتُهُ وتَرَحَّمْتُ عليه وتَراحَمَ القومُ رَحِمَ بعضُهم بعضًا، والرّحمَةُ المغفرة.(2)
وعرفها البعضُ بأنها الشفقةُ والرفقُ والرأفةُ النابعةُ من الذاتِ الإنسانيةِ الى ما يحيطُ به من كائناتٍ حيةٍ بشريةً كانت أو حيوانيةً وما يترتبُ على ذلك من آثارٍ إيجابيةٍ في الحياةِ العامّة.
الرحمة في القرآن الكريم:
لا شكَّ أنَّ الرحمةَ صُبتْ في القرآن الكريمِ صباً وجاءت بزخمٍ كبيرٍ وفضاءٍ غيرِ محدودٍ، {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} [الحجر: 49]، وتكرر لفظُها (268) مرة، ووردت بعدّة صور، فتارة وردت اس ما ما من أسماءِ الله الحسنى وأخرى وردت صفةً {وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133] وتأتي فعلا {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} [الأعراف: 149]، وما اشتمل عليها من ألفاظ ؛ فقد تكرر (57) مرةً ذكرُ الرحمنِ و (115) مرةً ذكرُ الرحيم.
وهناك حقيقةٌ ثابتةٌ هي أن الذاتَ الإلهيةَ المقدسّةَ تستجمعُ كلَّ صفاتِ الكمالِ، وأن الرحمةَ تتصدرُ أسماءَه وكلامَه وصفاتِه وأفعالَه التي يخبرُ عنها سبحانه وتعالى حيثُ لا بُخلَ في ساحةِ رحمتِهِ ولا يأسَ منها {قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وشمِلت حتى المذنبين، واحتماليةُ الصفحِ عن المنافقين على وفقِ مشيئتِهِ جلّ شأنُه {وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 24] فكانت لها مساحةُ مطلقةٌ في كتابهِ العزيزِ لا حدودَ لحصرها.
ومن سعةِ رحمتهِ ووافرِ ألطافهِ تبارك وتعالى بالعبادِ أن شاءت حكمتُه جلّ شأنُه اختيارَ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم أن يبعثَه رحمةً للعالمين {مَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، لما له من مؤهلاتٍ لتحمّلِ أعباءِ أعظمِ رسالةٍ سماويةٍ خُتمَ بها جميعُ الأديانِ، وله صفاتٌ ظاهرةٌ تميّزُه ممّن سواه، وقدراتٌ اختصَّ بها دون غيرهِ تتقدمُها الرحمةُ فهي السِمةُ البارزةُ في شخصيتهِ والتي أفاضت بظلالِها على كلّ المحيطين به، خلالَ أربعةِ عقودٍ من عمرهِ الشريفِ قبل أن يُبعثَ نبياً، وبانت حقيقةُ هذا الفتى العربيِّ الهاشميِّ القرشيِّ وما يحملُ بين جنبيه من حكمةٍ ومودةٍ ورأفةٍ ورحمةٍ ترجمَها على أرضِ الواقعِ خلالَ مسيرتهِ من ولادتهِ، ثم طفولتهِ، ثم شبابهِ، ثم البعثةِ، والى الهجرة ولقاءِ ربهِ، قولاً وفعلاً، جوهرًا ومظهرًا، فكان بينهم متواضعًا عفيفًا، صادقاً أمينًا، لقّبتهُ قريشٌ بالصادقِ الأمينِ، ولا غرابةَ فكان خيرَهم طُرّاً، وأكثرَهم هَدْياً وَأفضلَهم خُلُقاً ومنطقاً وَأَشَرفَهُمْ مَنْزِلَةً، عجز الواصفُ عن وصفهِ، وكيف لا، وقد قال فيه ربُّه {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
فمنذ نشأتهِ صلواتُ الله وسلامُه عليه وآلِه، وبرغمِ الوقائعِ الصادمةِ التي مرَّ بها وحرمانهِ العطفَ الأبويَّ والتفاعلَ الحسَّي للأمِّ لم تضطربْ شخصيتُهُ ولم تنعكسْ أيةُ شائبةٍ على قدراتهِ وسلوكياتهِ لذا لم تُؤشر عليه أيةُ مَثلبةٍ طوالَ عمرهِ الشريفِ صلى الله عليه وسلم، ويشهدُ بذلك المخالفُ قبلَ المُوالي، بل العكسُ تعطّرَ عمرُه الطاهرُ بعَبقِ رحمتهِ وطيبِ نفسهِ بما سكَب اللهُ في قلبهِ من العلمِ والحلمِ اللذينِ اشتملا على طباعهِ ليبذلَ مهجتَه التي أفاضت على الدنيا، حياةً بعد موتٍ، ومحبةً بعد بغضاءٍ، ونورًا بعد ظلمةٍ، لم ختصَّ بفرقةٍ ولا بلونٍ بل شمِلتْ كلَّ سكانِ الأرضِ كما جاء في حديثهِ الشريفِ صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحمون يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمنُ، ارْحَموا مَنْ في الأرضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السَّمَاءِ» (رواه أبو داود والترمذي) وفي حديثٍ آخرَ اشتملت فيه الرحمةُ فوقَ هذا فأثنى عليه بارئُه بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وكانت مناقبُه صلى الله عليه وسلم واحدةً بإثرِ أخرى لم ينازعْه أحدٌ من خلق الله منذُ الأزلِ، وكان سلوكُه عنصراً يجذبُ الناسَ نحوَ الفضيلةِ، وقد ترجمَ فعلَه قبل قولهِ لحديثهِ الشريفِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحمهمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الَجسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحمُّى» فكان للناسِ أباً رحيماً وكانوا بجمعِهِم له عيالاً فحملَ أثقالَ ما عنه ضعفوا، فعزّز ألفتَهم، وقوّى مودَّتهم بعد صراعاتِهم، وتماسكَهم بعد فرقتِهم، فشمِلت رحمتُه الصغارَ والكبارَ، والمؤمنين والكفارَ، والخدمَ والعبيدَ. ولازمتْه هذه الأخلاقُ في كافّةِ تعاملاتِهِ بدءًا بالسلامِ والمصافحةِ والمجالسةِ والنظرِ والمحادثةِ مع
الأفرادِ وانتهاءً الى أصعبِ الأوقاتِ في مقارعةِ الأعداِء وتحمّلِ أذاهُم، إذ يختلي بربِّهِ ويدعو لهم «اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون»(3)
وأفنى جُلَّ حياتِهِ ليجعلَ البشريةَ أسرةً واحدةً حين نادى فيهم: «يَا أَيُّها النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لعربيٍّ على عَجَمِيٍّ، ولا لِعَجَميٍّ عَلى عَرَبيٍّ، و لا لأحمَر على أَسْوَدَ، ولا لأَسْوَدَ عَلى أَحمَرَ إلَّا بالتَّقْوَى» (4) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
ولذكرِ بعضٍ من آثاره صلى اللهُ عليه وآله وسلم خلال تعاملاتِهِ اليوميةِ مع محيطِهِ الذي يعيشُ فيه، ومن شمِلتْهم النفَحاتُ المحمّديةُ المحفوفةُ بالرحمةِ والرأفةِ والشفقةِ أسرِدُ بعضاً منها في المحاور التالية:
رأفته بالطفولة:
أولى النبيُّ الأكرمُ اهتماماً خاصًا بالطفولةِ وصانَ حقوقَها من قبلِ الولادةِ الى الصبا، كحفظِ حقِّ المولودِ في النسبِ المعلومِ والموثَّقِ والمشهودِ عليه، وحقِّهِ في التسميةِ الحسنةِ بأن يكونَ اسمُه غيرَ مستنكَرٍ ولا مستهزأ به، وحقِّهِ في الرضاعةِ الطبيعيةِ، وحقِّهِ في أن ينشأَ في بيئةٍ سليمةٍ، وحقِّهِ في تربيةٍ إيمانيةٍ حسنةٍ على وفقِ ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أحاديثَ فضلاً عما جاء بالرسالةِ السماويةِ عن طريقِهِ صلى الله عليه وسلم في حقِّ الطفلِ في الميراثِ والوصيةِ، وأكّدتْ
تأكيدًا كبيرًا حقَّ اليتيمِ في الرعايةِ والعنايةِ الكاملتينِ، وأن يح يحفَظَ له مالُه، وأن يحميَه مجتمعُه ويعطفَ عليه، ويرعاه ويكفُلَه الكفالةَ التامّة.
فكان صلى الله عليه وسلم أولَ الذين لمِسوا آلامَ اليتيمِ وأحزانَه، وقد أولى له اهتماماً بالغاً من حيث تربيتُه ورعايتُه ومعاملتُه، وضمانُ سبلِ عيشٍ كريمٍ له، حتى ينشأَ عضواً نافعاً، يندمجُ مع غيرهِ من أفرادِ المجتمعِ من دونِ أيةِ عقدةِ نقصٍ أو غيرهِ، ليكونَ عنصرًا إيجابيًا فاعلاً في الحياةِ، ففي صحيحِ مسلمٍ عن طريقِ مالك عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله: «كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيِرهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَين في الجنَّةِ» وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.(5)
والكفالةُ هي تبنّي أمورِ اليتيمِ من نفقةٍ وكسوةٍ وتأديبٍ وتربيةٍ وغيرِ ذلك؛ وهذه الفضيلةُ تحصلُ لمن كفَلَه من مالِ نفسِهِ أو من مالِ اليتيمِ بولايةٍ شرعيةٍ ؛ وسواءٌ أكان الكافلُ قريباً له، كجدِّهِ وأمِّهِ وجدّتهِ وأخيه وأختهِ وعمّهِ وخالهِ وعمّتهِ وخالتهِ وغيرِهم من أقاربِهِ، أو كان أجنبيًا عنه، فعظّمَ منزلةَ الكفيلِ ووعدَه بجزاءِ ربّهِ الكريم.
وكان صلواتُ الله عليه يُسلّمُ على الأطفالِ ولا يتبرّمُ ولا يتملّلُ من لقائِهم، بل كما رُوي عنه كان يبَشُّ لهم ويسعُدُ بهم، ولا يتأفّفُ ولم يُعنِّفْهُم بل يدعو لهم ويكررُ دعاءَه ثلاثًا.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي لأدْخُلُ في الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجوَّزُ في صَلاَتي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ»، ومن كثرةِ حبِّهِ لهم وحملِهِ لهم، ولم يقتصرْ حملُه على الصبيانِ بل البناتِ أيضًا وكان يجلسُهم في حُجرِهِ ويداعبُهم فلم يجزعْ أو يمَلَّ منهم وتكرَّر أن تبوَّل كثيرٌ منهم على ثوبه.(6)
وَعَنْ عَبدِ الله بْنِ شَدَّادِ عَنْ أَبيهِ قَالَ: خَرَجَ عَلَينْاَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في إحْدَى صَلاتَي العِشَاءِ، وَهُوَ حَامِلٌ حَسَناً أَوْ حُسَيْناً، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فوضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ للِصَّلاة، فَسَجَدَ بَين يَن ظَهْرا ين يِّن صَلاتِه سَجْدَةً أَطَالها، فَرَفَعَ شَدَّادُ رأسَهُ، فَإِذَا الصبيُّ عَلى ظَهْرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَما قضى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رسولَ الله! إنَّك سجدْتَ بين ظهرا ين يِّن صلاتِكَ سَجْدةً أطلتَها، حَتَّى ظَنَنَّا أنَّه قَدْ حدثَ أمرٌ، أو أَنَّه يُوحَى إِلَيْكَ. قَالَ: «كُلُّ ذلكَ لم يكُنْ، ولكِنَّ ابْنِي ارْتحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضيَ حَاجَتَه» (رواه النسائي وصححه الألباني).
«وَمِنْ رَحمةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالأطْفَالِ أَنَّهُ كَانَ يَزُورُ الأنْصَارَ، وَيُسلِّمُ عَلى صِبيَانِهمْ، وَيَمْسَحُ رُؤوسَهُمْ» (رواه النسائي وصححه الألباني).
«وَمِنْ رَحمتِهِ صلى الله عليه وسلم بالصِّغَارِ أنَّه كَانَ يُؤتَى بالصِّبْيَانِ فَيبرِّكُ عَلَيْهِم ويحنِّكُهم». (رواه مسلم). «وَمَعْنَى يُبرّكُ عَلَيْهِمْ: يَمسَحُهم بيدِه الشريَفَةِ ويدْعُو لهمْ».
ومن شمائلِ رحمتهِ في تعاملِهِ مع خادمهِ :
عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنه قال خدمتُ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلّم عشرَ سنينَ، والله ما قال أفٍّ قطُّ، ولا قال لشيءٍ : لمَ فعلتَ كذا وهلاّ فعلتَ كذا، وكان رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلَّم من أحسنِ الناسِ خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجةٍ، فقلتُ: والله لا أذهبُ، وفي نفسي أن أذهبَ، فخرجتُ حتى أمُرَّ على الصبيانِ وهم يلعبون في السوقِ، فإذا النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ، قد قبضَ بقفايَ من ورائي، وقال: نظرتُ إليه وهو يضحكُ، قال: «يا أنيسُ، ذهبتَ حيثُ أمرتُك»؟ قال: نعم.. أنا ذاهبٌ يا رسولَ الله – أي في رقّةٍ ولطفٍ، فأمرَه ولم ينفِّذِ الأمرَ وضبطَه يلعبُ مع الصغارِ، فقال له: «يا أنيسُ، ذهبتَ حيثُ أمرتُك»؟ قال: نعم.. أنّا ذاهبٌ يا رسولَ الله.(7)
وقال أنسٌ أيضاً: وخدمتُ النبيَّ سنينَ، فما سبَّني سُبّةً قطُّ، ولا ضربَني ضربةً، ولا انتهرَني، ولا عبَس في وجهي، ولا أمرَني بأمرٍ فتوانيتُ فيه فعاتبَني عليه، فإن عاتبَني عليه أحدٌ من أهلِه قال: دعُوه.. فلو قُدِّرَ شيءٌ لكانَ.
وكان صلى الله عليه وسلم يجلسُ مع خدَمِه ويأكلُ معهم ولم يكتفِ بل اهتمَّ بهم وبتربيتِهِم ووعدَ بمكانةٍ عاليةٍ جدّا في الآخرةِ لمن يفعلُ مثلَه وسيكونُ رفيقَه صلواتُ الله وسلامُهُ عليه، كما جاء في حديثهِ الشريفِ «مَنْ عَالَ جَارِيَتَ ين يِن حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ، وَضَمَّ أَصَابِعَهُ».(8)
وقد أوصى بهم وساواهم مع سادا ه تم في كثيرٍ من الأمورِ وجعلَهم ركاءَ في المعيشةِ بعيدًا عن التمييزِ وحثَّ على إعانتِهِم «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ الله تحتَ أَيْدِيكُمْ؛ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تحْتَ يَدِهِ؛ فَلْيُطْعِمْهُ مماَّ يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مماَّ يَلْبَسُ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ؛ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»(9)
وعن أنسٍ أيضاً قال: خدَمتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تسعَ سنينَ، فما قال لي لَشيءٌ أسأتَ ولا بئسَ ما صنعتَ، وكان إذا انكسرَ الشيءُ يقولُ: قُضي. أي انتهى أجلُه.
رحمتُهُ بأهلِه:
كان صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آلِه خيرَ الناسِ وأعطفَهم بأهلِه؛ زوجةً، وأبناءً، وبناتٍ «خَيركُمْ، خَيركُمْ لأهلِهِ، وَأَنَا خَيُركُمْ لأهَلي»(10) «مَا ضربَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلا امْرَأَةً وَ لا لا خَادِمًا».(11) بل كان أروعَ أنموذجٍ للبشريةِ في العلاقةِ الزوجيةِ فقد كانت تَعمُّه الابتسامةُ والبشاشةُ في بيتهِ و خدِمُ نفسَه ويساعدُ زوجاتِهِ ويُوسِّعُ عليهِنَّ بالنفقةِ وكما ورد عن عائشةَ «كَانَ رَسُولُ الله – صلى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ – يخصِفُ نَعْلَهُ، وَ يخيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ في بَيْتِهِ كما يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ في بَيْتِهِ»(12)
فكان صلواتُ الله وسلامُه عليه، له من الأبناءِ ثلاثةٌ؛ القاسمُ، وإبراهيمُ، وعبدُ الله، ومن البناتِ أربعُ، زينبُ، ورقيةُ، وأمُّ كلثوم، وفاطمةُ، ومع انشغالهِ بأعباءِ الرسالةِ والدعوةِ إلى الله تعالى ذكرُه، لا ينشغلُ عن أداءِ حقوقِهم، وتفقدِ أحوا هلهلم، فقد كان رحيماً، عطوفاً، شفيقاً عليهم، سواءٌ عند ولادتهم، أو في صغرِهم، أو كبرِهم، أو عند وفاتهم واهتمّ بهم اهتماماً كبيراً وزرعَ فيهم الرحمةَ ورسّخَ فيهم المودّةَ والرأفةَ وكان يعايشُهم ويتبسّط إليهم وقد صاغ لهم منهجًا في التعاملِ التربويِّ والعلميِّ، مما أنتجَ
شخصياتٍ ناجحةً مُنجِزةً، وقياداتٍ متميّزةً فذّةً لم يج يجارِهم أحدٌ في علمِهم وحلمِهم ورعايتهِم للناسِ، فعن أبي هريرة: «كناّ نُصلي مع رسولِ الله صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وسلّم العشاءَ؛ فإذا سجدَ وثبَ الحسنُ والحسينُ على ظهرِه، فإذا رفعَ رأسَه أخذَهما بيدِه من خلفِه أخْذًا رفيقًا ويضعُهما على الأرضِ، فإذا عادَ عادا، حتى إذا قضى صلاتَهُ أقعدَهما على فخِذَيهِ»(13)
وصنعَ من المرأةِ أنموذجاً رائعاً وجعلَ لها كيانا محترما في عصرِ وأْد البناتِ؛ كما ورد عن عائشةَ رضي اللهُ عنها «وكانتْ إذا دخلتْ عليه فاطمةُ قامَ إليها، فقبَّلَها، وأجلسَها في مجلسِه».(14)
خُلُقُه مع جارِه :
اهتمّ صلواتُ الله وسلامُه عليه با جارِ وجعلَ له حقوقا كبيرة حتى بلغت له منزلةً عاليةً في ظرفٍ كانت الصفةُ الغالبةُ للمجتمعِ الإساءةَ للجارِ ولا تُعَدُّ تلك الحالةُ منقصةً عند كثيرٍ منهم، فقد وصفَهم جعفرُ بنُ أبي طالبٍ ابنُ عمِّ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم حين كانَ يبثُّ شكواه من القومِ، للنجاشيِّ ملكِ الحبشةِ قائلا: «إنّا كنّا أهلَ جاهليةٍ وشرٍّ، نقطعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجوارَ…»(15)
ومن خلالِ الأحاديثِ الشريفةِ والسلوكِ الرائعِ لنبيِّنا الأكرمِ صلى الله عليه وسلم فقد ضربَ أروعَ المُثُل في المحبّةِ والتعاونِ في جيرتِهِ مع اختلافِ دينِهم وعِرْقِهم وهي كثيرةٌ ؛ عن الطبرانيِّ قال صلواتُ الله وسلامُه عليه «ما آمَنَ بي مَن بات شبعانًا وجارُه جائعٌ إلى جنبِه، وهو يعلمُ »(16). وفي كتابِ العللِ «أَوْصَاني جِبريلُ عَلَيْهِ السَّلامُ باِلَجارِ حَتَّى ظَننَتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»(17)، ولا يخصّصُ الجارَ بدينٍ أو عرقٍ، مؤمنٍ أو كافرٍ.
وفي إبعادِ الأذى عن الجارِ قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يُؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ، فلا يُؤذِ جارَه» (متفق عليه).
خُلُقُه مع أصحابِ الأديانِ الأخرى:
من صميمِ مبادئِهِ وسلوكِهِ صلى الله عليه وسلم وامتثا لا لا لإرادةِ بارئِهِ عزّ وجلّ تعامَلَ مع كلِّ المجتمعاتِ وخاصةً من كانَ في ديارِ المسلمينَ تعاملاً إنسانياً مثاليًا؛ إذ كان يُلبِّي دعو ه تم إلى الطعام، ويزورُ مرضاهم، ويُواسيهم في مصا هب هبم، ولا يُكرِهُهُم على الدخولِ في الإسلام، ولا يُفرِّقُ بينهم، على وفقِ ما جاء في قولِهِ تعالى {لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وشدّدَ على عدمِ قتلِهم أو إيذائِهم والتجاوزِ على حقوقِهم، بل أمرَ المسلمين بالبِرِّ والإحسانِ لهم، وممارسةِ طقوسِهِم بحريةٍ وكان له معهم تحالفاتٌ واتفاقياتٌ في السلمِ والحربِ ولكنَّ اليهودَ نقضوا المعاهدة.
وهناك جملةٌ من أحاديثِهِ صلواتُ الله وسلامُه عليه في ذلك «من ظلمَ معاهدًا، أو انتقصَه حقًا، أو كلَّفَه فوقَ طاقتِهِ، أو أخذَ منه شيئًا بغيرِ طِيبِ نفسٍ منه، فأنا حجيجُه يومَ القيامةِ» (رواه البيهقي وأبو داوود)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من آذى ذِمّيًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله» (رواه الخطيب بإسناد حسن). وكذلك عهدُهُ صلى اللهُ عليه وآله وسلّم لأهلِ نجرانَ «أنَّه لا يُؤخَذُ منهم رجلٌ بظلمِ آخرَ» (رواه الطبراني في الأوسطِ بإسنادٍ حسنٍ). وفي حديثٍ آخرَ «مَن قتلَ معاهدًا لم يرحْ رائحةَ الجنةِ، وإنَّ ريحَها ليُوجدُ من مسيرةِ أربعينَ عامًا»(18) وآخر «إنَّ اللهَ يعذّبُ الذين يُعذِّبون الناسَ في الدُّنيا»(19)، وكلمةُ الناسِ هنا مُطلقةٌ، وعندما نرى اليهوديَّ يتحاكمُ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فلها دلالةٌ كبيرةٌ وثقةٌ مطلقةٌ بأنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم سيُعطيهِ حقَّه كاملاً، والشكوى في حدِّ ذاتها تدلُّ على أنَّ إيذاءَ أحدٍ من اليهودِ شيءٌ غريبٌ ومُستهجَنٌ.
«ولقد عفا عن المرأةِ اليهوديةِ، التي قدّمتْ له طعاماً مسموماً»(20)
والموقفُ المشهورُ مع النصارى، في مقابلتِهِ صلى اللهُ عليه وآلِه وسلم لوفدِ نصارى نجرانَ دليلٌ على حسنِ معاملتِهِ للنصارى في عصرِه، وهي منطقةٌ قريبةٌ من مكةَ، كان أهلُها نصارى، جاؤوا إلى المدينة، فاستقبلَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وتلطّفَ معهم، وأوضحَ لهم معالمَ الحقِّ، ثم تركَهم بعد ذلك على ما يرغبون، فاختاروا البقاءَ على دينِهِم، فتركَهم وشأنهم، ثم طلبوا منه أن يُرسلَ معهم أحدَ أصحابِهِ يستعينون به في إدارةِ أمورِهِم، وحلِّ مشاكلِهِم، فقال, سوف أُرسلُ معهم رجلاً أميناً، فأرسلَ معهم أبا عبيدةَ بنَ الجرّاحِ، وقال: هذا أمينُ هذهِ الأمّة.(21)
يقولُ المفكّرُ الفرنسيُّ المعروفُ غوس تاف لوبون: «إنَّ مسامحةَ محمَّدٍ لليهودِ والنصارى كانت عظيمةً للغاية».
رأفتُهُ بأعدائِه :
لم يشهدْ تاريخُ البشريةِ أرحمَ من رسولِ الله صلى اللهُ عليه وآلِه وسلّم مع الأعداءِ برغمِ ما لاقى منهم من أذًى وظلمٍ وترويعٍ فكانت شيمتُهُ العفوَ عند المقدرةِ فكان صلى الله عليه وسلم من سموِّ خُلُقِهِ يقابلُهم بأعلى معاني الرحمةِ والشفقةِ لا يجاريهِ بها أحدٌ من الخلقِ. . وخيرُ شاهدٍ ما فعلَه مع كفارِ قريشٍ في فتحِ مكةَ؛ بعد أكثرَ من عشرين سنةً من المعاناةِ لقِيَ فيها أنواعَ الظلمِ والعذابِ له ولأصحابِهِ من قومِهِ الذين عاش معهم دهرًا. . وخلافَ ما يتصوّرُهُ العدوُّ اللئيمُ بأنّه صلى الله عليه وسلم سيقتصُّ منهم ويُريَهمِ العذابَ الأليمَ، سألهم رسولُ الرحمةِ صلى الله عليه وسلم بكلِ لطفٍ وعطفٍ : «يَا مَعْشَر قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟» قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ. قال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطّلَقَاءُ»(22)!!. فعفا عنهم وهو بموقعِ القائدِ الظافرِ المنتصِرُ بعد ما مكّنَه اللهُ سبحانه وتعالى منهم، وفي إحدى الغزَواتِ برزتْ إليهِ سفّانةُ بنتُ حاتمٍ الطائيِّ وهي أسيرةٌ فأطلقَ سراحَها وخلَّى سبيلَها حين عرَّفتْه بنفسِها وقالتْ (يا رسولَ الله، هلكَ الوالدُ، وغاب الوافدُ، فامنُنْ عليَّ منَّ اللهُ عليك، وخلِّ عنّي، ولا تُشمتْ بي أحياءَ العربِ، فإنَّ أبي كان سيِّدَ قومي، يَفكُّ العاني، ويعفو عن الجاني، ويحفظُ الجارَ، ويحمي الذمارَ، ويُفرِّجُ عن المكروبِ، ويُطعِمُ الطعامَ، ويُفشي السلامَ، ويحملُ الكَلَّ (الضعيف)، ويُعينُ على نوائبِ الدهرِ، وما أتاه أحدٌ بحاجةٍ فردَّهُ خائباً، أنا بنتُ حاتمٍ الطائيِّ) فقال صلى الله عليه وسلم: «ارحموا عزيزَ قومٍ ذلّ وغنيّاً افتقر وعالمًا ضاع في زمان جُهّالٍ» (ذكرَ القصةَ ابنُ هشامٍ في سيرتِهِ، والطبريُّ في تاريخِهِ).
وأعظمُ مأساةٍ شهِدَها صلى الله عليه وسلم كانت يومَ اُحُد بعدَ حربٍ طويلةٍ ألمَّتْ به وقُتِل فيها سبعون رجلاً من خيرةِ الصحابةِ، إذ مُثِّل بأجسادِ الشهداءِ وفي مقدّمتِهِم عمُّه حمزةُ رضوانُ الله عليه وهذا ما لم تشهدْه قيمُ العربِ وأعرافُهم في الجزيرةِ العربيةِ، فكان له صلى الله عليه وسلم موقفٌ مروِّعٌ بين أجسادِ أصحابِه مقطَّعةً من حولِهِ، وعدوٍّ شرسٍ ملأ جسمَه الطاهرَ بالجراحاتِ إذ لا يَقوَى على القيامِ فصلّى يومَها جالسًا، والدماءُ تسيلُ على نورِ وجههِ وقد حُوصَر مع ثُلّةٍ من أصحابهِ في الجبلِ، وفي هذه الأجواءِ القاسيةِ المؤلمةِ، يمسحُ الدمَ عن وجههِ الشريفِ ويقولُ: «رَبّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنّهمْ لا يَعْلَمُونَ»(23)، فأيُّ رحمةٍ تُضاهي تلكَ الرحمةَ بعدَ رحمةِ الله جلَّ شأنُه فهو أرحمُ الراحمين، فكانت رحمتُهُ كالأبِ الحنونِ في تعاملِهِ مع أولادِه.
وفي معركةِ بدرٍ عندما أسرَ المسلمون سبعين رجلاً من المشركين قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابهِ: «استوصُوا بالأسارى خيراً». وكان صلى الله عليه وسلم يُوصي أصحابَه قائلا : «من كانَ بينَه وبينَ قومٍ عهدٌ فلا يحلَّنَّ عقداً، ولا يشُدّنَّه حتى أَمَدُهُ، أو يَنْبِذَ إليهم على سواء».
وكان صلى الله عليه وسلم لا ينقضُ عهدًا حتى مع أعدائهِ، فلما أسَرت قريشٌ حذيفةَ بنَ اليمانِ وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكانوا خارجين إلى بدرٍ، فقال الرسولُ صلى الله عليه وسلم: «انصرِفا، نَفِي لهم بعهدِهِم، ونستعينُ اللهَ عليهِم».
الخاتمة :
كان صلواتُ الله عليه وآلِه مشروعاً سماويًا متكاملاً ختمَ عمرَه الشريفَ بحياةٍ حافلةٍ بالخلقِ العظيمِ ونفسٍ تفيضُ بالعاطفةِ رسمتْ للناسِ كافةٍ أسمى معاني الرحمةِ، باللينِ والرفقِ والسخاءِ، ما جعلَه قدوةً لوُلْدِ آدمَ، وكان رجلَ سلامٍ ومحبّةٍ من قبلِ أنْ يُبعثَ نبياً يومَ حلَّ نزاعَ القبائلِ العربيةِ في أيِهما تنالُ شَرفَ وضعِ الحجرِ الأسود. .
وما أحوجَنا في أيامِنا هذه، وفي خِضمِّ التحدّياتِ الجِسامِ التي تواجهُ المسلمين، وعمومَ البشريةِ، أن نستنشقَ من عبيرِ هذه الشخصيةِ الطاهرةِ، ونأخذَ الدروسَ من سيرةِ خاتمِ النبيينَ وسيدِ المرسلينَ، ونجعلَها انطلاقةً لتحقيقِ خيرِ الدنيا والآخرةِ، ولنخرجَ من وضعِنا المأزومِ الناتجِ عن الانحرافاتِ عن نهجِهِ وهديِهِ ومسارِهِ الشريفِ، بعد أن فقدتْ مجتمعاتُنا التراحمَ والتواددَ بينها.
لذا نجدُ العالَمَ يضجُّ بالمظلومياتِ، وانتهاكاتِ حقوقِ الإنسانِ، وقد نجدُ بعضَ الحكوماتِ الإسلاميةِ قد تتعاملُ مع شعبِها بعطفٍ ورحمةٍ وتوفيرِ كافةِ متطلباتِهم، ولكنّها في الوقتِ نفسِهِ لا تعبأُ بما يجري على الصعيدِ الخارجيِّ، وقد نرى بعضَ الدولِ ومنها إسلاميةٌ تعتاشُ على زعزعةِ الأمنِ لدولةٍ جارةٍ أو بعيدةٍ عن حدودِها ظناً منها أنها ستؤمِّنُ شعوبها، والبعضُ منها تختلقُ الحروبَ والصراعاتِ في سبيلِ توفيرِ السلمِ الداخليِّ لبقاءِ الحكمِ وديمومتِهِ، وهذا مخالفٌ لمكارمِ الأخلاقِ التي جاءتْ بها القيمُ السماويةُ والشريعةُ المحمّدية، ولا يصحُّ إلا الصحيحُ اتفاقاً مع الحديثِ الشريفِ «من لا يَرْحمُ لا يُرْحَمُ». صدق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
والسلامُ عليكم. .