وكان بعض إيذائهم هذا سبباً لإسلام عمّه حمزة بن عبد المطلب، فقد أدركته الحميّة عندما عيّرته بعض الجواري بإيذاء أبي جهل لابن أخيه، …
فتوجه إلى ذلك الشقي وغاضبه وسبّه، وقال: كيف تسبّ محمداً وأنا على دينه؟ ثُمَّ أنار الله بصيرته بنور اليقين حتى صار من أحسن الناس إسلاماً، وأشدّهم غيرة على المسلمين، وأقواهم شكيمة على أعداء الدين حتى سمي أسدَ الله.
وكما أُوذي الرسول عليه الصلاة والسلام، أُوذي أصحابه لاتّباعهم له، خصوصاً من ليس له عشيرة تحميه، وتردّ كيد عدوه عنه، وكل هذا الأذى كان حلواً في أعينهم ما دام فيه رضاء الله، فلم يفتنوا عن دينهم بل ثبتهم الله حتى أتمّ أمره على أيديهم، وصاروا ملوك الأرض بعد أن كانوا مستضعفين فيها، كما قال جلّ ذكره في سورة القصص: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] وقد حقق ما أراد.
ومن الذين أُوذوا في الله: بلال بن رباح كان مملوكاً لأميّة بن خلف الجمحي القرشي، فكان يجعل في عنقه حبلاً ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به، وهو يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ. لم يَشْغَلْهُ ما هو فيه عن توحيد الله. وكان أمية يخرج به في وقت الظهيرة في الرمضاء ــــ وهي الرمل الشديد الحرارة لو وضعت عليه قطعة لحم لَنَضجَتْ ــــ ثم يؤمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى، فيقول: أحد أحد. مرَّ به أبو بكر يوماً فقال: يا أمية أما تتقي الله في هذا المسكين، حتى متى تعذبه؟ قال: أنت أفسدته فأنقذْه مما ترى. فاشتراه منه وأعتقه فأنزل الله فيه وفي أمية في سورة الليل: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى(14) لاَ يَصْلَاهَآ إِلاَّ الاْشْقَى(15) الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16) وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى(17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى(18) وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى(19) إِلاَّ ابْتِغَآء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 14 ــــ 21] بما يعطيه الله في الأخرى جزاء أعماله. وقد نبّه الله جلّ ذكره على أن بذل الصديق ماله في شراء بلال وعتقه لم يكن إلا ابتغاء وجه ربه، وكفى بهذا شرفاً وفضلاً للصدّيق رضي الله عنه وأرضاه، وقد أعتق غير بلال جماعة من الأرقاء أسلموا فعذبهم مواليهم.
ومنهم: حَمَامَةُ أُم بلال، وعامربن فُهَيرة كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، وأبو فُكَيهة، كان عبداً لصفوانبن أميةبن خلف.
ومنهم امرأة تسمى زنيرة عذّبت في الله حتى عميت فلم يزدها ذلك إلا إيماناً، وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون لهؤلاء وأتباعهم؟ لو كان ما أتى به محمد خيراً ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد؟ فأنزل الله في سورة الأحقاف: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11]. وممن أعتق أبو بكر بعد شرائه: أم عنيس كانت أَمَة لبني زهرة وكان يعذبها الأسود بن عبد يغوث.
وممّن عُذب في الله: عماربن ياسر، وأخوه، وأبوه، وأمه، كانوا يعذبون بالنار فمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صبراً آل ياسر فموعدكم الجنة، اللهمّ اغفر لآل ياسر وقد فعلت». أما أبو عمار وأمه فماتا تحت العذاب رحمهما الله، وأما هو فثقل عليه العذاب فقال بلسانه كلمة الكفر، فإن أبا جهل كان يجعل له دروعاً من الحديد في اليوم الصائف ويلبسه إيّاها، فقال المسلمون: كفر عمار، فقال عليه الصلاة والسلام: «عمارٌ ملىء إيماناً من فرقه إلى قدمه» وأنزل الله في شأنه استثناءً في حكم المرتد، فقال جلّ ذكره في سورة النحل: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
وممّن أوذي في الله: خبَّاببن الأرَتِّ، سُبي في الجاهلية فاشترته أُم أنمار، وكان حداداً وكان النبي يألفه قبل النبوّة، فلما شرّفه الله بها أسلم خباب، فكانت مولاته تعذبه بالنار فتأتي بالحديدة المحمّاة فتجعلها على ظهره ليكفر فلا يزيده ذلك إلا إيماناً. وجاء خباب مرة إلى رسول الله وهو متوسد بُرْدَة في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد عليه الصلاة والسلام محمرّاً وجهه فقال: «إنه كان مَنْ قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشقّ، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئبَ على غنمه». قال ذلك عليه الصلاة والسلام وهو في هذه الحال الشديدة التي لا يتصور فيها أعقل العقلاء، وأنبل النبلاء، قوة منتظرة أو سعادة مستقبلة، اللهمّ إلا أن ذلك وحي يوحى إليه، ثم أنزل الله تعالى تثبيتاً للمؤمنين أول سورة العنكبوت: {الم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 1 – 3].
وممّن أُوذي في الله: أبو بكر الصديق، ولما اشتد عليه الأذى أجمع أمره على الهجرة من مكة إلى جهة الحبشة، فخرج حتى أتى برْكَ الغِماد فلقيه ابن الدُّغُنَّة (وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها القَارَةُ) فقالَ: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: مِثْلُك يا أبا بكر لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتَصِل الرَحم وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل ابن الدغنة معه، وطاف في أشراف قريش، فقال لهم: أبو بكر لا يُخْرَجُ مثله. أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟ فلم تُكذِّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلِّ فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإِنّا نخشى أن يفتِن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بِفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. وكان رجلاً بكَّاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنّا كنّا قد أجَرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإِنّا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل، وإن أبي إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْه أن يردّ إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نُخْفِرَكَ ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان. فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: لقد علمتَ الذي عاقدتُ لك عليه. فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن تُرْجع إليّ ذمتي، فإني لا أُحب أن تسمع العرب
أني أُخْفِرْتُ في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أردّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله. رواه البخاري. وكان ذلك سبباً لإيصال أذى عظيم إلى أبي بكر رضي الله عنه.
وبالجملة فلم يخل أحد من المسلمين من أَذِيّةٍ لحقته، ولكن كل ذلك ضاع سدًى تلقاء ثباتهم وعظيم إيمانهم، فإنهم لم يسلموا لغرض دنيوي يرجون حصوله فيسهل إرجاعهم، ولكن وفقهم الله لإدراك حقيقة الإيمان فرأوا كل شيء دونه سهلاً.
ولما رأى كفار قريش أن ذلك الأذى لم يُجْدِهم نفعاً، بل كلما زادوا المسلمين أذًى ازداد يقينهم، اجتمعوا للشورى فيما بينهم، فقال لهم عتبةبن ربيعة العبشمي من بني عبد شمسبن عبد مناف ــــ وكان سيداً مطاعاً في قومه ــــ: يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد فأُكلِّمه وأعرضُ عليه أموراً علَّه يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكفَّ عنّا؟ فقالوا: يا أبا الوليد فقمْ إليه فكلمه. فذهب إلى رسول الله وهو يصلي في المسجد، وقال: يابن أخي إنك منّا حيث قد علمتَ من خيارنا حسباً ونسباً، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم، وسفَّهتَ أحلامهم، وعِبتَ آلهتهم ودينهم، وكفَّرت من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها، فقال عليه الصلاة والسلام: «قل يا أبا الوليد أسمع».
فقال: يا ابن أخي إن كنتَ تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ تُريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطعَ أمراً دونك، وإن كنتَ تُريد مُلكاً ملكناكَ علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئّياً من الجن لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى، فقال عليه الصلاة والسلام: «فقد فرغتَ يا أبا الوليد؟» قال: نعم، قال: «فاسمع مني» فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أول سورة فصِّلت:
{بسم الله الرحمان الرحيم} {حم(1) تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(2) كِتَابٌ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ(4) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5) قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله واحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ(6) الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ بِالاْخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(7) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(8) قُلْ أَءنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآء لّلسَّآئِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ(11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَآء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ(13) إِذْ جَآءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآء رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 1- 14]
فأمسك عتبة بفيه، وناشده الرحم أن يَكُفَّ عن ذلك، فلما رجع عتبة سألوه فقال: والله لقد سمعت قولاً ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلُّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننَّ لكلامه الذي سمعت نبأ، فَإِنْ تُصِبْهُ العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزه عزّكم، فقالوا: لقد سحرك محمد، فقال: هذا رأيي.
ثم عرضوا عليه بعد ذلك أن يشاركهم في عبادتهم ويشاركوه في عبادته فأنزل الله تعالى في ذلك: {قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ(3) وَلا أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ(4) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ(5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} [الكافرون 1-6] فلا تتوهموا أني أجيبكم لطلبكم من الإشراك بالله، فأيسوا منه وطلبوا بعد ذلك أن ينزع من القرآن ما يغيظهم من ذم الأوثان والوعيد الشديد، فيأتي بقرآن غيره أو يبدِّلع فأنزل الله جواباً لهم في سورة يونس: {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَآء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} [يونس: 15].
وقد حصل له مع كفار قريش نادرة تكون لمن استهان بالضعيف كمصباح يستضيء به، وهو أنه بينما الرسول عليه الصلاة والسلام مع كُبراء قريش وأشرافهم يتألفهم ويعرض عليهم القرآن وما جاء به من الدين إذ أقبل عليه عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى ــــ وهو ممّن أسلموا قديماً ــــ والنبي مشتغل بالقول، وقد لقي منهم مؤانسة حتى طمع في إسلامهم، فقال له عبد الله: يا رسول الله علِّمني مما علّمك الله وأكثر عليه القول، فشقّ ذلك على الرسول، وكره قطعه لكلامه، وخاف عليه الصلاة والسلام أن يكون التفاته لذلك المسكين ينفر عنه قلب أولئك الأشراف، فأعرض عنه فعاتبه الله على ذلك بقوله أوَّلَ سورة عبس: {عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَن جَآءهُ الاْعْمَى(2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى(4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى(5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى(6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى(7) وَأَمَّا مَن جَآءكَ يَسْعَى(8) وَهُوَ يَخْشَى(9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1- 10] فما عبس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها في وجه فقير، وكان إذا أقبل عليه عبدالله ابن أُم مكتوم يقول له: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي».
ولمّا رأى المشركون أن هذه المطالب التي يعرضونها لا تُقبل منهم أرادوا أن يدخلوا في باب آخر، وهو تعجيز الرسول بطلب الآيات، فاجتمعوا، وقالوا: يا محمد إن كنت صادقاً فأرِنا آيةً نطلبها منك وهي أن تشقّ لنا القمر فرقتين، فأعطاه الله هذه المعجزة، وانشقَّ القمر فرقتين فقال رسول الله: «اشهدوا» وهذه القصة رواها عبد اللهبن مسعود وهو من السابقين الأوّلين رُويت عنه من طرق كثيرة، ورواها عبد اللهبن عباس وغيره، ورواها عنهم جمع غزير حتى صار الحديث كالمتواتر وقد ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى في أول سورة القمر: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] فحينما رأى المعاندون هذه الآية الكبرى قال بعضهم: لقد سحركم ابن أبي كبشة فأنزل الله فيهم: {وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] ثم سألوا الرسول بعد ذلك آيات لا يقصدون بذلك إلا التعنت والعناد، فمنها أن قالوا كما في سورة الإسراء {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الاْنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ} [الإسراء: 90 ــــ 93] ولم يجبهم الله إلا بقوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: 93] لأن الله علم ما تُكِنُّه جوانحهم من التعصب والعناد، فلا يؤمنون مهما جاءهم من البينات كما قال جلّ ذكره في سورة الأنعام: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] وكيف يرجى الخير ممّن قالوا كما في سورة الأنفال: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السَّمَآء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، وهذه سّنة من سُنن الأنبياء إذا رأوا من طلاب الآيات عناداً، وأنهم يطلبونها تعجيزاً لا يسألون الله إنفاذ هذه الآيات كيلا يحلّ بقومهم الهلاك كما حصل لعاد وثمود وغيرهم. وهذا هو المراد من قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاْوَّلُونَ} [الإسراء: 59].
وقد حصل للمسيح عليه السلام أنه لمّا وقفَ أمام هيرودس طلب منه آية فلم يُجِبْهُ إلى طلبه، فلما رأى ذلك سخر منه وردّه إلى عدوه بيلاطس بعد أن كان يأسف عليه ويتمنى لقاءه، وذلك مذكور في الإصحاح الثالث والعشرين من إنجيل لوقا.
هذا ولما رأى المشركون ضعفهم عن مقاومة المسلمين بالبرهان، تحولوا إلى سياسة القوة التي اختارها قوم إبراهيم عندما عجزوا عنه حيث قالوا: {حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 68] كما في سورة الأنبياء أما هؤلاء فازدادوا بالأذى على كل مَن أسلم رجاء صدّهم عن اتّباع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يتركوا باباً إلا ولجوه، فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «تفرقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم»، فسألوه عن الوجه فأشار إلى الحبشة.