غزوة بني قُريظة (إعدام المجرمين)
وفي صبيحته أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعمل الخنادق في السّوق [^1] لدفن من يُنفّذ فيه حُكم الإعدام من بني قُريظة، وجلس النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وحوله كبار الصحابة، وأمر أن يُخرجوا مجموعات لتنفيذ الإعدام في السّوق حيث حُفِرَت لهم المدافن.
وقال اليهود لقائدهم كعب بن أسد: “ما ترى محمدًا يصنع بنا؟”، قال كعب: “ما يسوءكم وما ينوءكم، ويلكم!، على كل حال لا تعقلون!، ألا ترون أن الدّاعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو واللا السيف قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم!”، قالوا: “ليس هذا بحين عتاب، لولا أنّا كرهنا أن نعيب رأيك ما دخلنا في نقض العهد الذي كان بيننا وبين محمد!”، قال حُيَيّ بن أخطب: “اتركوا ما ترون من التّلاوم فإنه لا يرُدّ عليكم شيئًا، واصبروا للسيف!”.
وكان علي بن أبي طالب والزبير بن العوّام مسئولان عن تنفيذ حُكم الإعدام فيهم، وخرجوا بحُييّ بن أخطب ويداه مربوطتان تحت رقبته، وقد شقّ ملابسه حتى لا يلبسها بعد موته أحد، فلمّا رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ألم يُمكِّن الله منك يا عدو الله؟”، قال حُييّ: “بلى، والله ما لُمت نفسي في عداوتك، ولقد التمست العزّ في مكانه، وأبى الله إلا أن يمكنك منّي، ولقد ذهبتُ في كل وجه، ولكنّه من يخذُل الله يُخذَل”، ثم توجه حُييّ إلى اليهود وقال: “يا أيها الناس، لا بأس بأمر الله، قدر وكتاب ملحمة كُتبت على بني إسرائيل”، ثم أعدموه.
ثم جاءوا بنبّاش بن قيس للإعدام، وقد قاوم من أخرجه من المسلمين، فضربه المُسلم على أنفه فنزفت دمًا، فلمّا رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال للرجل الذي جاء به: “لم صنعت هذا؟؟ أما كان في السيف كفاية؟” -يعني هو سيُعدم، فلماذا تضربه وتُهينه؟-، فقال الرجل: “يا رسول الله قاومني ليهرب”، فقال نبّاش بن قيس: “كذب والتوراة يا أبا القاسم، ولو خلّاني ما تأخرت عن موطن قُتِل فيه قومي حتى أكون كأحدهم”، ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسلمين وقال: “أحسنوا إسارهم، وأجلسوهم في الظلّ، وأطعموهم واسقوهم الماء حتى يأتي وقتهم، لا تجمعوا عليهم حرّ الشمس وحرّ السلاح”.
وجاءت أم المنذر سلمى بنت قيس الأنصاريّة رضي الله عنها تحوم حول مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي من أقارب جدّه عبد المطلب من بني النجّار، ومن أوائل من أسلم بالمدينة، وكان رفاعة بن السموأل من محاسيبها ومحاسيب أخيها سليط بن قيس، وكان حين حُبس أرسل لها يطلب منها أن تُكلِّم النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يتركه، فلا أنسى لك هذا الفضل للأبد، وأنا محسوب عليكم وعلى أهل داركم، ورآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلوذ بها، فنظر إليها وقال: «ما لك يا أم المُنذر؟»، قالت: “يا رسول الله، رفاعة بن سموأل كان يغشانا، وله بنا حُرمة، فهبه لي”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم، هو لكِ»، ثم قالت: “يا رسول الله إنه سيصلي ويأكل لحم الجمل -سيترك اليهوديّة-“[^2]، فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: «إن يُصَلِّ فهو خيرٌ له، وإن يثبت على دينه فهو شر له»، فأسلم رفاعة بن سموأل.
وجاء سعد بن عُبادة والحُباب بن المنذر رضي الله عنهما فقالا: “يا رسول الله، إن الأوس كرهت قتل بني قُريظة لمكان حلفهم”، فقال سعد بن مُعاذ: “يا رسول الله ما كرهه من الأوس من فيه خير، فمن كرهه من الأوس لا أرضاه الله”، فقام أُسيد بن حُضير فقال: “يا رسول الله، لا تُبقيّن دارًا من دور الأوس إلا فرقتهم فيها -يعني تعطيهم من الجُناة يعدمونهم بأيديهم-، فمن سخط ذلك فلا يُرغِم الله إلا أنفه، فابعث إلى داري أول دورهم”.
فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم اثنين إلى بني عبد الأشهل، فأعدمهما أُسيد بن حُضير وأبو نائلة، وأرسل إلى بني حارثة باثنين، فأعدمهما أبو بردة بن نيار، وأبو عبس بن جبر، وبعث إلى بني ظفر باثنين، فأعدمهما قتادة بن النّعمان والنضر بن الحارث، وأرسل إلى بني معاوية اثنين، فأعدمهما جبر بن عتيك ونعمان بن عَصْر، وأرسل إلى بني عمرو بن عوف اثنين، أعدمهما عويم بن ساعدة وسالم بن عُمير، وأرسل إلى جميع عائلات الأوس من ينفذوا فيه حُكم الإعدام حتى لا يعترض مُعترض على حُكم القاضي.
وجاء كعب بن أسد ويداه مربوطتان تحت رقبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كعب بن أسد؟»، قال كعب: “نعم يا أبا القاسم”، قال: «وما انتفعتم بنُصح ابن خِراش -من علماء اليهود-[^3] وكان مُصدّقًا بي؟، أما أمركم باتّباعي، وإن رأيتموني تُقرئوني منه السلام؟»، قال كعب: “بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تُعيرني اليهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكني على دين اليهود”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قدّمه فاضرب عُنُقَه»، فأعدموه.
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بألا يُقتل إلا من بلغ الحُلُم من مقاتليهم، فكان المسلمون إذا شكّوا في أحدهم وبلوغه كشفوا على عورته، فإن وجدوه قد أنبت الشّعر أُعدِم، وإلّا تُرِك مع الأطفال لا يُقتل.
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعادة سعد بن مُعاذ رضي الله عنه إلى خيمة رُفيْدَة رضي الله عنها بمسجده الشريف حتى تُمَرِّضه.
وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المرأة اليهوديّة التي قتلت خلّاد بن سويد بأن ألقت عليه قرص الرحى من فوق الحصن، هي نباتة النضريّة، وكانت قد دخلت مع النساء إلى دار أسامة بن زيد ورملة بنت الحارث، ثم كانت تجلس إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي تتكلم وتضحك وتحكي القصص، فنادوا عليها: “يا نُباتة”، فقالت: “أنا والله التي أُدعى”، فقالت عائشة رضي الله عنها: “ولِمَ؟”، قالت: “قتلني زوجي”، فقالت عائشة: “وكيف قتلك زوجك؟”، قالت: “كنت في حصن الزبير بن باطا، فأمرني فدليت رحى على أصحاب محمد فشدخت رأس رجل منهم فمات، فأنا أُقتَل به”، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “لا أنسى طيب نفس نُباتة وكثرة ضحكها، وقد عَرَفَت أنّها تُقتل!”، واستمر اعدام هؤلاء المجرمون حتى غروب الشمس.
[^1]: سوق المدينة القديم قريب من أحجار الزيت.
[^2]: لأن اليهود لا يأكلون لحم الحيوان الذي له ظافر مشقوق وليس له أنياب، فهم لا يأكلون لحم الجمل ولا الأرنب، ويحرّمون الخنزير كالمسلمين.[^3]: ومات خِراش هذا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان من كبار علماء اليهود، وكان يعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفته المذكورة في التوراة وبشَّرَهم به وأمرهم أن يتبعوه.