غزوة الأحزاب (حصار الأحزاب للمدينة المنورة – اليوم الثالث)
وفي ليلته استمرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يحرسون #~~~الخندق~~~# والأحزاب يحاصرونهم، وفيها حاولت بنو قريظة الهجوم على #~~~المدينة المنوَّرة~~~#، وبلغ الخبر النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فأمر فرقتين من المقاتلين ومعهم بعض الخيل يطوفون بالمدينة ليلًا لحراستها ويُكبّرون بالصوت العالي، وجعل الفرقة الأولى من مائتي رجل يقودهم سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي، والأُخرى ثلاثمائة فارس يقودهم زيد بن حارثة، فإذا أصبحوا استراحوا وهكذا كل يوم.
وكانت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنه في الخيمة مع النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وقام صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بالليل، ثم خرج يتابع الحراسات على الخندق، فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «هذه خيل المشركين تطيف بالخندق، من لهم؟»، ثم نادى: «يا عَبّاد بن بِشر»، فقال عبّاد: “لبيك”، قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أمعك أحد؟»، قال عبّاد: “نعم أنا في نفر من أصحابي، كنّا حول خيمتك”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فانطلق في أصحابك فأطف بالخندق، فهذه خيل من خيلهم تُطيف بكم يطمعون أن يُصيبوا منكم غرّة، اللهم ادفع عنّا شرّهم، وانصرنا عليهم، واغلبهم لا يغلبهم غيرك»، فسار عبّاد بن بشر بمن معه على حافّة الخندق، فإذا أبو سفيان بن حرب في كتيبة من المشركين يطيفون بثغرة ضيّقة بالخندق يريدون النّفاذ منها، فانتبهت لهم حراسات المسلمين، فرموهم بالحجارة والنّبل، ووقف عبّاد بن بشر يرمي معهم حتى أضعفوهم فانكشفوا راجعين، ورجع عبّاد بن بشر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فوجده يُصَلّي فأخبره بما كان.
ونام النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم والسيّدة أم سلمة رضي الله عنها، حتى سمعت صوتًا شديدًا مخيفًا، وكأنّ أحدهم ينادي يقول: “يا خيل الله”، وكان هذا شعار المُهاجرين يعرفون به بعضهم، ففزع النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من نومه لمّا سمع الصوت، فخرج من الخيمة، وعبّاد بن بِشر ومعه مجموعته يحيطون بخيمته يحرسونها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما بال النّاس؟»، قال عبّاد: “يا رسول الله، هذا صوت عُمر بن الخطّاب، والليلة نُوبته ناحية شَمَال جبل سَلْع، وهو الذي يُنادي الحراسات لتأتي إليه”، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اذهب فانظر، ثم ارجع إلي إن شاء الله فأخبرني»، ووقف النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ينتظر عبّاد رضي الله عنه، فجاء عبّاد وقال: “يا رسول الله هذا عمرو بن عبد وُد في خيل المُشركين معه مسعود بن رُخية الغطفاني في خيل غطفان، والمسلمون يُرامونهم بالنّبل والحجارة”، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فلبس درعه ومغفره -رزد ينسج من الدّروع على قدر الرأس يُلبس تحت العمامة- وركب فرسه حتى أتى الثغرة، فما تأخّر وعاد مسرورًا وهو يقول: “صرفهم الله وقد كثرت فيهم الجراحة”، ثم نام صلى الله عليه وآله وسلَّم، تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها: “حتى سمعت غطيطه”، ثم سمعا صوتًا شديدًا مرّة أُخرى، ففزع النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ووثب فصاح: «يا عبّاد بن بِشر»، قال عبّاد: “لبّيك”، قال: «انظر ما هذا»، فذهب عبّاد ثم رجع، فقال: “هذا ضرار بن الخطّاب في خيل من المشركين معه عيينة بن حصن في خيل غطفان عند #~~~جبل بني عُبيد~~~# -جاءوا من عنده-، والمسلمون يرامونهم بالحجارة والنّبل، فلبس النّبي صلى الله عليه وآله وسلم درعه وركب فرسه مرّة أخرى، ثم خرج معه أصحابه إلى تلك الثغرة، ثم رجع وقت السَّحَر وهو يقول: «رجعوا مفلولين قد كثرت فيهم الجراحة»، ثم صلّى بالنّاس الصبح وجلس.
وكان المسلمون في جوع شديد وكان بعض أهل المدينة يرسلون لأقاربهم في الخندق بما يستطيعون من طعام يتقوتون به، فأرسلت عَمْرَة بنت رَوَاحَة -أُخت عبد الله بن رواحة- ابنتها، بحفنة -حوالي 500 جرام تقريبًا- تمر عجوة، فقالت: “يا بُنيَّة اذهبي إلى أبيك بشير بن سعد وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما”، فانطلقت البنت حتى وصلت عند الخندق، والنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم جالس في أصحابه وهي تبحث عن أبيها وخالها، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تعالي يا بُنيَّة، ما هذا معك؟»، قالت: “بعثتني أمي إلى أبي وخالي بغدائهما”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هاتيه»، فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كفَّيه، ثم أمر بثوب أن يُبسط على الأرض، ثم نثر التّمر فوقه، وقال لجُعال بن سُراقة: «نادِ بأهل الخندق أن هلُمّ إلى الغداء»، فاجتمع أهل الخندق يأكلون منه حتى شبعوا وانتهوا والتمر يفيض من أطراف الثّوب، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلَّم.
أُسيد بن حُضير وسلمان الفارسي يوسّعان جزء ضيّق من الخندق
وعند ناحية أُخرى من الخندق كانت الليلة مُناوبة أُسيد بن حُضير وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم ومجموعتهم في حراسة الخندق، وكان موضع من الخندق مُتقارب قد حفروه سريعًا يمكن للخيل العبور منه بصعوبة، فجائت فِرقة من المشركين مائة فارس يقودهم عمرو بن العاص يريدون النّفاذ منها، فتصدّى لهم أُسيد بن حُضير ومن معه من الرُّماة حتى أفشلوا محاولتهم في العبور. وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه لأُسيْد بعدما انصرف عمرو بمن معه من المُشركين: “إنّ هذا مكان من الخندق مُتقارب، ونحن نخاف تعبره خيلهم، وكان النّاس تعجّلوا في حفره، فما رأيك أنّ نوَسِّعَه؟”، فبادرت المجموعة إلى العمل وباتوا يوسّعونه حتى صار كباقي الخندق في الصّباح.
وكان خوف المسلمين على المدينة من بني قُريظة أشدّ من خوفهم من جيوش الأحزاب، فكان أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه يقف على #~~~جبل سَلْع~~~# ينظر لبيوت المدينة خوفًا على أهلها من بني قُريظة، فإذا رأى الجو هادئًا حمد الله عزّ وجلّ.
وفي الصّباح حاول اليهود الهجوم على المدينة المنوَّرة، فخرجت مجموعة غزال بن سمؤال اليهودي، فجاءوا إلى حصن من حصون المدينة المنوَّرة وفيه نساء وأطفال المسلمين وكبار السِّن، وكان فيه صفيّة بنت عبد المطلب عمّة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وأُم الزبير بن العوّام رضي الله عنها، وكان فيه حسّان بن ثابت رضي الله عنه، فهجمت مجموعة اليهود على الحصن بالنِّبال وحاول أحدهم فتح بابه، فقالت صفيّة لحسان: “لا تتركهم يدخلون الحصن يا حسّان”، فقال حسّان: “لا والله لا أُعَرِّض نفسي لهؤلاء اليهود” -وكان حسّان رضي الله عنه جبانًا-، فنزلت صفيّة رضي الله عنها فأخذت خشبة فضربت اليهودي على رأسه ففلقتها ومات من فوره، وهرب الباقون، وصعدت صفيّة رضي الله عنه للحصن وقالت لحسّان: “انزل يا حسّان فخُذ سلاحه وعتاده ودرعه الذي يلبسه -فهذه أشياء ذات قيمة عالية وتستخدم في الحرب-، فأنا امرأة ولا يمكنني فعل ذلك”، قال لها حسّان: “ولا حاجة لي بذلك!”.
وكان سعد بن مُعاذ رضي الله عنه عاد يمر بحصن بني حارثة بالمدينة ذاهبًا للخندق، وقد لبس درعًا وشمّرها عن ذراعيه -والدّرع كان يُصنع من زرد يُنسج فيُلبس-، وقد تطيّب بطيب له لون وبان اللّون في ذراعيه، وأُمّه في الحصن مع السيدة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -قبل فرض الحجاب-، فمرّ بها يطمئن عليها، والسيدة عائشة رضي الله عنها تقول لها لمّا رأته هكذا: “والله يا أُم سعد إنّي لأخاف عليه من تشميرة درعه”، فأنشد سعد يقول:
لبث قليلًا يدرك الهيجا حمل *** ما أحسن الموت إذا حان الأجل
فقالت أمّه: “يا بُنيّ الحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد والله تأخرت”، ثم قالت لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “يقضي الله ما هو قاضٍ!”.
وكان بعض المسلمين أحيانًا يستأذن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع للمدينة للاطمئنان على أهله منتصف النّهار في حصونهم القريبة من بني قُريظة، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهاهم خوفًا عليهم، فإن ألحّوا عليه أذِن لهم وأمرهم أن يأخذوا السلاح خوفًا من بني قُريظة. فخرج هلال بن أُميّة ومعه مجموعة من قومه ومن بني عمرو بن عوف -ومنازلهم قُرب بني قريظة-، حتى إذا كانوا قُرب #~~~قُباء~~~# وجدوا مجموعة من اليهود قائدهم نبّاش بن قيس، فرماهم اليهود بالنِّبال، فوقفوا لهم وردّوا الهجوم بالنِّبال أيضًا وجُرِح الفريقان، ثم رجع كل فريق عن الآخر ولم يتمادوا في القتال.
وفيه اجتمعت بنو حارثة، وأرسل أوس بن قيظي الحارثي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: “يا رسول الله إن بيوتنا عورة؛ وليس لنا دار من دور الأنصار مثل دارنا، ليس بيننا وبين غَطَفَان أحد يردعهم عنا، فأْذَن لنا، فنرجع إلى دورنا فنحمي أبنائنا ونساءنا، فأذن لهم النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وتهيئوا للانصراف، فعرف سعد بن معاذ بما قالوه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “يا رسول الله لا تأذن لهم إنّا والله ما أصابنا وإيّاهم شدّة قط إلا صنعوا هكذا!”، ثم وجَّه كلامه إليهم فقال: “أنتم دائمًا هكذا في تصرّفكم معنا، ما أصابنا وإياكم شدّة أبدًا إلا صنعتم هكذا”، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجعو لمواقعهم، وأنزل المولى عزّ وجل فيمن استأذن وقت اشتداد الحصار ينعي عليهم قوله تعالى في سورة الأحزاب: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً} {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً} {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب:13-16]، وأنزل يمدح المؤمنين وثباتهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22].
سريّة خوّات بن جُبير الأنصاري إلى بني قُريظة
وفيه طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خَوَّات بن جُبَيْر الأنصاري رضي الله عنه فقال له: “انطلق إلى بني قُريظة فانظر هل ترى لهم غرّة أو خللًا من موضع فتخبرني”، فخرج خَوَّات مُتّجهًا إلى حُصون بني قُريظة جنوب المدينة المنوّرة، فعبر من عند #~~~معسكر الخندق~~~# حتى الجانب الآخر من الجبل 400 متر في ربع ساعة تقريبًا وغربت الشمس وهو عند #~~~ثنية الوداع~~~#.