وهو يوم النحر ويوم العيد، وفي ليلته أمسى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم منصرفًا من (((عَرَفَات))) …
بعد غروب شمس يوم عَرَفَة، فأردَفَ أسامة بن زيد خلفه وضم زمام ناقته إليه جداً، وكلما وجد فُسحة بين الناس أسرع بالناقة، وإذا وجد رَبوَة -مكان عالٍ- أرخى للناقة زمامها قليلًا حتى تصعد وهو يأمر الناس من حوله بالسكينة في السير.
واتجه غربًا ناحية (((المزدلفة))) وهي بين (((مِنَى))) و(((عَرَفَات))) ولما استقبل الطريق نزل فقضى حاجته وصبّ عليه أسامة الماء فتوضأ وضوءًا خفيفًا فقال أسامة : «الصلاة» -يعني؛ نصلي يا رسول الله؟- فقال صلى الله عليه وآله وسلم «الصلاة أمامك»-أي سر، سنُصَلّي حين نَصِل-، ثم ركب حتى وصل المزدلفة سائرًا حوالي 9 كم قطعهم في ساعتين ونصف ووصل المزدلفة بعد أول وقت العشاء.
ولما وصل المزدلفة أمر بلالاً فأذَّنَ وجَمَعَ المغرب والعشاء بإقامتين ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا، ثم بات صلى الله عليه وآله وسلم عند أمّ سَلَمَة رضي الله عنها، واستأذنته أمهات المؤمين أم سَلَمَة وسَوْدَة بنت زمعة وأم حبيبة رضي الله عنهن في أن يدفعوا من مزدلفة ليلًا فأذن لهن، وأذن أيضًا للنساء والضعفاء في ذلك بعد وقوفهم بمزدلفة وذكّرهم الله تعالى بها، واضطجع حتى طلع الفجر، ثم قام وخرج لصلاة الصبح، فصلَّاها بمكانه في مزدلفة.
وبعد صلاة الصبح أتاه عُروة بن مُضرَس الطائي وهو بمُزدلفة فقال يا رسول الله إني جئت من جبل طَيْء أَكْلَلْتُ راحِلَتي وأتعَبْتُ نَفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلًا أو نهارًا، فقد تمّ حجّه وقضى تفثه».
ثم أتى صلى الله عليه وآله وسلم (((المشعر الحرام))) بمزدلفة -عند جبل قُزَح- فاستقبل القبلة ودعا وكبر وهلل ووحد وأخبرهم أن مزدلفة كلها موقف إلا بطن (((وادي المحسر)))، ووقف حتى أنارت السماء بنور النهار قُبيل طلوع الشمس قليلًا أي حوالي الساعة 6:20 صباحًا تقريبًا بتوقيت مكة، ثم أردف الفضل بن العباس رضي الله عنهما خلفه وسار من مزدلفة متجها إلى (((مِنَى))) وانطلق أسامة بن زيد على رجليه أمامهم وهو صلى الله عليه وآله وسلّم يُلبِّي في مسيره، وسألته في الطريق امرأة من خثعم عن أبيها الذي لا يطيق الحج فأمرها أن تحج عنه وكانت امرأة جميلة وكان الفضل أبيض وسيمًا؛ فجعل الفضل بن العبّاس ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل صلى الله عليه وآله وسلم يصرف بيده الشريفة وجه الفضل ابن العباس عن النظر إليها، وسأله رجل عن مثل ما سألت المرأة الخثعمية فقال له: «أرأيت لو كان على أمك دَيْن، أكنت قاضيه؟» قال الرجل: «نعم»، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «فحج عن أمك».
وسار حوالي 6 كم إلى أن وصل عند (((جمرة العقبة الكبرى))) قطعهم في ساعة ونصف تقريبًا، ووصل في وقت الضُحى حوالي الساعة 8 صباحًا تقريبًا، فأمر عبدالله بن عباس فالتقط له سبع حصيات من موقفه في حجم ما يُمسك بثلاث أصابع وأمر بمثلها -في الحجم- ونفضها بيده الشريفة وقال: «بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم»، فرماها راكبًا بسبع حصيات واحدة بعد واحدة يقول مع كل حصاة: «الله أكبر»، وكان قد قطع التلبية من قبل الرمي، وأسامة يمسك بخطام ناقته صلى الله عليه وآله وسلم، وبلال يظلّه بثوب على عود -مثل الشمسيّة- من الحر.
ثم خطب صلى الله عليه وآله وسلم الناس بمنى خطبة كرر فيها أيضًا تحريم الدماء والأموال والأعراض وأعلمهم بحرمة اليوم وهو يوم النحر وحرمة مكة على جميع البلاد وأمر بالسمع والطاعة لمن قام بكتاب الله عز وجل وأمرهم أن يأخذوا عنه مناسكهم فلعلّه لا يحج بعد عامه هذا وأمر بالتبليغ عنه، وقال «رُبّ مُبَلَّغٍ أَوعَى من سَامِع»، أي لعل بعض من يبلغه كلامه صلى الله عليه وآله وسلم يكون أوعى من بعض من سمعه، وأمر صلى الله عليه وآله وسلم المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد وأمر الأنصار فنزلوا من وراء المسجد ثم نزل الناس بعد ذلك.
ثم انصرف بحدود الساعة 8:20 صباحًا إلى منزله بمنى قُرب (((جمرة العقبة الكبرى))) التي رماها، فأمر ناجية بن جُنْدُب الأسلمي وكانت مهمة ناجية رعاية الهدي وسوقه من المدينة مع فِتيَة من قبيلة أسلم، وكان ناجية جزارًا، فأمره صلى الله عليه وآله وسلّم أن يجهّز الهدي للنحر، فنحر صلى الله عليه وآله وسلم بيده الشريفة 7 بدنات مما كان أتى به من المدينة ومما جاء به علي بن أبي طالب من اليمن وأتم علي نحر باقي المائة، والظاهر أنهم كانوا يجهزون الذبيحة له فينحر هو صلى الله عليه وآله وسلم بيده الشريفة ثم يتولون باقي الجزارة، ولعل عدة جزارين كانوا يذبحون بالتوازي ذبائح هديه صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لم تذكر المصادر عددهم ولا أسماءهم بخلاف ناجية بن جُندب، وقال صلى الله عليه وآله وسلم عند النحر «هذا المنحر وكل منى منحر» يريد أن مكان نحره ليس من النُّسُك.
ثم ضحى بعد ذبح الهدي عن نفسه بكبشين أملحين، وضحى عن نسائه بالبقر وذبح عمن اعتمرت منهن -كلهن إلا عائشة رضي الله عنهن- هديًا بقرًا أيضا.
ثم حلق رأسه الشريف وقسَّم شعره فأعطى من نصفه الشعرة والشعرتين، وأعطى النصف الآخر كله أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه، وحَلَقَ بعض الصحابة وقصَّر بعضهم فدعا صلى الله عليه وآله وسلم للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة كما فعل في الحديبية، وقلَّم صلى الله عليه وآله وسلم أظافره وأخذ من شاربه وعارِضَيْه -جوانب لحيته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم- وقيل أمر بدفن الأظافر وذلك الشعر.
وأمر أن يؤخذ من كل بَدَنَة مما نحر بُضعة فجُعلت في قدر وطبخت فأكل هو صلى الله عليه وآله وسلم وعلي رضي الله عنه من لحمها وشربا من مرقها ثم أمر عليًا بقسمتها وأن لا يعطي الجازر منها شيئًا على جزارتها وأعطى صلى الله عليه وآله وسلم الأجرة على ذلك من عند نفسه.
ثم تطَّيَب صلى الله عليه وآله وسلم، طيَّبَتْه عائشة بطِيب فيه مسك، ثم ركب وسار إلى (((مكة))) حوالي 4.5 كم قطعهم في ساعة وربع تقريبًا، ووصل بعد أذان الظهر فصلّاه بها، ثم طاف بالكعبة سبعًا وهو طواف الإفاضة~(انظر الملحق “ج”)~.
ثم أردف صلى الله عليه وآله وسلم أسامة بن زيد بعد أن قضى طوافه وأتى السِّقاية -وهي أحواض كانوا يضعون فيها ماء زمزم وينقعون فيه الزبيب والتمر فيصير شرابًا مُحلّى يشربونه قبل أن يختمر، ويُسَمّونَه نبيذًا- فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اسقوني»، قال العبَّاس رضي الله عنه : يا فضل اذهب إلى أمك فائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بشراب من عندها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اسقني»، قال العبّاس: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «اسقني مما يشرب النّاس»، فشرب صلى الله عليه وآله وسلم منه وأعطى بقيّة شرابه لأسامة بن زيد فشربه، ثم قال لهم: «أحسنتم وأجملتم، هكذا فاصنعوا».
ثم أتى صلى الله عليه وآله وسلم زمزم وهم يسقون الناس، فقال: «لولا أن يغلبكم الناس عليها يا ولد عبدالمطلب لنزلت فسقيت معكم»، فأشفق صلى الله عليه وآله وسلم عليهم إن ساعدهم في السقاية أن يغلبهم الناس ويكاثروهم تأسيًا به صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذات الوقت دلَّهم أن ما يفعلون فضل ومزيَّة لهم اختصهم الله بها وحثَّهم عليها وأمرهم أن ينزعوا له دلوًا من زمزم، وقيل بل نزعه بنفسه فشرب منه صلى الله عليه وآله وسلّم.
واستأذنته عائشة رضي الله عنها وقد طَهُرَتْ من حَيْضِها، إذ استمر حيضها حتى يوم عرفة، فطافت طواف الإفاضة وطافت أيضًا صفية رضي الله عنهما اليوم.
وسُئل صلى الله عليه وآله وسلم في هذا اليوم عدة مرات عن ما تقدم بعضه على بعض من الرمي والحلق والنحر والإفاضة فقال في كل ذلك «لا حرج».
ثم ركب في حدود الساعة 4:30 مساءً وسار عائدًا إلى منى قاطعًا حوالي 4.5 كم في ساعة وربع تقريبًا، وغربت الشمس وهو بها.