فقد أصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان …
حتى وقعت على وجنته. فردّها علي الصلاة والسلام، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما، وبصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قرد. فما ضرب عليه ولا قاح. وأصاب ابن ملاعب الأسنّة استسقاء، فبعث إلى النبي عليه الصلاة والسلام. فأخذ بيده حثوة من الأرض، فتفل عليها، ثم أعطاها رسوله، فأخذها متعجّبا يرى أنه قد هزىء به، فأتاه بها، وهو على شفا فشربها، فشفاه الله. وتقدّم حديث علي ورمده في غزوة خيبر وغير ذلك كثير مما يعجز قلمنا عن عدّه، ورواه ثقات المسلمين الأعلام.
أما ما منحه الله إياه من إجابة دعواته، فروي عن أنس بن مالك قال: قالت أمي سليم: يا رسول الله خادمك أنس، أدع الله له، فقال: “اللهم أكثر ماله وولده، وبارك فيه فيما اتيته“، قال أنس: فو الله إنّ مالي لكثير، وإنّ ولدي وولد ولدي ليعادّون اليوم نحو المائة، ودعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة فكان نصيب كل زوجة من زوجاته الأربع من تركته ثمانون ألفا. وتصدّق مرّة بعير فيها سبعمائة بعير. وردت عليه تحمل من كل شيء، فتصدّق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها.
ودعا لمعاوية بالتمكين في الأرض فنال الخلافة. ودعا لسعد بإجابة الدعوة. فما دعا على أحد إلّا استجيب له. وتقدم دعاؤه لعمر بن الخطاب أن يعزّ الإسلام به. وقال لأبي قتادة: “أفلح وجهك، اللهم! بارك في شعره وبشره“، فمات وهو ابن سبعين سنة، كأنه ابن خمس عشرة. ودعواته عليه الصلاة والسلام المستجابة أكثر من أن تحصى يطّلع عليها قارىء سيرتنا هذه.
أما ما أطلعه الله عليه من علم ما لم يكن فمما سارت به الركبان فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما. فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا راه عرفه. وما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه، والله ما ترك عليه الصلاة والسلام من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدّنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا قد سمّاه لنا باسمه، واسم أبيه وقبيلته. وقد خرّج أهل الصحيح والأئمة ما أعلم به أصحابه ممّا وعدهم به من الظّهور على أعدائه، وفتح مكّة، وبيت المقدس، واليمن، والشام، والعراق، وظهور الأمن، حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة، لا تخاف إلّا الله. وإنّ المدينة ستغزى، وتفتح خيبر على يد علي في غد يومه. وما يفتح الله على أمّته من الدّنيا، ويؤتون من زهرتها. وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر. وقد قدّمنا كثيرا من ذلك في هذه السيرة. وقدمنا ما في القران من ذلك. وهذا يغنينا عن الإطالة في هذا المقام فحسبك ما سمعت.
ومما ينير بصيرتك أيها القارىء ما منّ الله به على رسولنا من عصمته له من النّاس. وكفايته من اذاه قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وقال {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا} [الطور: 48] وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وقال: {إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] ، ولمّا نزل: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] صرف حجابه. وقال: “انصرفوا فقد عصمني ربي عزّ وجلّ“. وقدّمنا حديث دعثور وإرادته قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم. وعصمة الله لنبيّنا. وذكرنا كثيرا مما حصل من أبي جهل لما أراد بالرسول المكايد. فكفاه الله شرّه. وما منّ به عليه ليلة الهجرة. وحديث سراقة في الطريق، وعلى الجملة فيكفينا من هذا الباب أنه عليه الصلاة والسلام مكث بين أعداء الدّاء بمكّة ثلاث عشرة سنة، وبين مشابهيهم من المنافقين واليهود عشر سنين. فما تمكّن أحد من إيصال أذى إليه صلّى الله عليه وسلّم بل كفاه مولاه شرّ أعدائه حتى أظهر الدّين وتمّمه.
والحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافىء مزيده. ونسأله أن يوفق قارئي هذه السيرة إلى اتّباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وأنصاره.