وقت حدوثها
وقال ابن إسحاق: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس، وقال ابن سعد: في ذي القعدة.
أسماء من تآمر من اليهود
فحدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير… عن عبد اللّٰه بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد اللّٰه بن أبي بكر وغيرهم من علمائنا، كل قد اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق، وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض قالوا: إنه كان من حديث الخندق أن نفرًا من يهود، منهم سلام بن مشكم، وابن أبي الحقيق، وحُيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضريون، وهوذة بن قيس، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ومن بني وائل.
كلامهم مع قريش
وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، يدعونهم إلى حرب رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، قالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فأنزل اللّٰه فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ…} [النساء: 51] إلى قوله: {وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} [النساء: 55].
سرور قريش بالحرب على المسلمين
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عَيْلان، فدعوهم إلى حرب رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشًا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فيه.
قادة الجيش المعادي
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف المرُِّي في بني مرة، ومسعود بن رُخَيْلة فيمن تابعه من أشجع.
حفر الخندق
فلما سمع بهم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وبما أجمعوا له من الأمر ضرب على المدينة الخندق، فعمل فيه رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب ودأبوا.
ٺثبيط المنافقين لهمم المسلمين
وأبطأ عن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجالٌ من المنافقين، وجعلوا يوَُرُّون بالضعف من العمل، ويتسللون إليهم بغير علم من رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم ولا إذن.
نشاط الصادقين
وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها، يذكر ذلك لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بها، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان عليه من عمله؛ رغبة في الخير، واحتسابًا به.
دعوة مَنْ ذهب للرجوع
عن ابن عمر، قال: بعثني خالي عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف، فأتيت النبي صلى اللّٰه عليه وسلم فاستأذنته وهو بالخندق؛ فأذن لي وقال لي: “من لقيت منهم فقل لهم إن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا“.
قال: فكان ذلك في برد شديد، فلقيت الناس، فقلت لهم: إن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا، قال: واللّٰه ما عطف عليَّ منهم اثنان أو واحد . كذا وقع في هذا الخبر عثمان بن مظعون، وعثمان بن مظعون توفي قبل هذا،
تأخر إخوة عثمان بن مظعون
وأخوة عثمان قدامة و السائب و عبد اللّٰه تأخروا. وقدامة مذكور فيمن شهد الخندق، وهم أخوال عبد اللّٰه بن عمر رضي اللّٰه عنهم.
فرض الاستئذان
قال ابن إسحاق: فأنزل اللّٰه عز وجل في ذلك: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ …} [النور: 62] إلى قوله: {إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 62] ثم قال – يعني للمنافقين- الذين كانوا يستللون من العمل ويذهبون من غير إذن {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً…} الآية إلى قوله: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ …} [النور: 63 – 64] من صدق أو كذب… إلى قوله: {وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} [النور : 64].
استعدادات قريش للحرب
وقال ابن سعد: وتجهزت قريش، وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب.
عتاد الجيش
فكانوا أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن أبي طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان بن حرب بن أمية.
لحاق بني سليم للجيش
ووافتهم بنو سليم ب مرِّ الظَّهْران، وكانوا سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية.
التعريف بقائد بني سليم
وهو أبو أبي الأعور السلمي الذي كان مع معاوية بصفين.
لحاق بني أسد بالجيش
وخرجت معهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي.
لحاق بني فزارة بالجيش
وخرجت فزارة فأوعبت وهم ألف، يقودهم عيينة بن حصن.
لحاق أشجع بهم
وخرجت أشجع وهم أربعمائة، يقودهم مسعود بن رخيلة.
لحاق بني مرة بهم
وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة، يقودهم الحارث بن عوف، وخرج معهم غيرهم.
تحقيق القول في شهود بني مرة الخندق
وقد روى الزهري: أن الحارث بن عوف رجع ببني مرة فلم يشهد الخندق منهم أَحَدٌ، وكذلك روت بنو مرة، والأول أثبت أنهم قد شهدوا الخندق مع الحارث بن عوف.
عدد جموع الجيش
فكان جميع القوم الذين وافوا الخندق ممن ذكر من القبيلة عشرة آلاف وهم الأحزاب.
أبو سفيان قائدهم
وكانوا ثلاثة عساكر، وعِناَج الأمر إلى أبي سفيان.
بلوغ النبي خبرهم
فلما بلغ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم ندب الناس، وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم في أمرهم.
مشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق
فأشار عليه سلمان بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين.
مكان جيش المسلمين وعدده
وعسكر بهم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إلى سفح سَلْع، وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، واستخلف على المدينة عبد اللّٰه ابن أم مكتوم.
كم استغرق حفر الخندق؟
ثم خندق على المدينة، فعمل فيه رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بيده لينشط الناس وكمل في ستة أيام. انتهى ما نقله ابن سعد، وغيره يقول: حفر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وأصحابه في الخندق بضع عشرة ليلة، وقيل أربعًا وعشرين.
علامات النبوة
وكان في حفر الخندق آيات من أعلام النبوة: منها: أن جابرًا كان يحدث أنه اشتد عليهم في بعض الخندق كُدْيةٌَ فشكوا ذلك إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فأخذ المعول وضرب، فعاد كثيباً أهيل . وروي في هذا الخبر أنه عليه السلام “دعا بماء فتفل عليه، ثم دعا بما شاء اللّٰه أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكُدْيةَ“، فيقول من حضرها: فو الذي بعثه. بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب، ما تردُّ فأسًا ولا مسحاة.
ومنها: خبر الحنفية من التمر الذي جاءت به ابنة بشير بن سعد لأبيها وخالها عبد اللّٰه بن رواحة ليتغديا به، فقال لها رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “هاتيه، فصبته في كفي رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فما ملأ هما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد، حتى. صَدَرَ أهل الخندق عنه، وأنه ليسقط من أطراف الثوب”
ومنها: حيث شُوَيْهَة جابر، وكانت غير جد سمينة، قال: صنعتها وإنما أريد أن ينصرف معي رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وحده، فلما قلت له أمر صارخًا، فصرخ أن انصرفوا مع رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد اللّٰه، قال: قلت: إنا للّٰه وإنا إليه راجعون، قال: فأقبل الناس معه فجلس، فأخرجناها إليه، فبرك ثم سمى اللّٰه عز وجل ثم أكل، وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا وجاء آخرون، حتى صدر أهل الخندق عنها. رواه البخاري، وفيه: وهم ألف، فأقسم باللّٰه لقد . أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن بُرْمَتنَا لتغطُّ كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو.
ومنها: حديث سلمان الفارسي، أنه قال: “ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليَّ، ورسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان عليَّ، نزل فأخذ المعول من يدي، فضربه ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول اللّٰه، ما هذا الذي رأيت يلمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: أَوَقدَْ رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: قلت: نعم، قال: أما الأولى، فإن. اللّٰه فتح عليَّ بها اليمن، وأما الثانية، فإن اللّٰه فتح عليَّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة، فإن اللّٰه فتح عليَّ بها المشرق ”
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن أبي هريرة، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمن عمر وزمن عثمان : افتتحوا ما بدا لكم، فو الذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى اللّٰه محمدًا صلى اللّٰه عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
أماكن نزول الجيوش
ولما فرغ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت ب مجتمع الأسيال وغطفان ومن تبعهم بذَنَب نقَمَى إلى جانب أحد، وخرج رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالنساء والذراري أن يُجعلوا في الآطام.
حاملو ألوية المسلمين
وقال ابن سعد: كان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة ، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة.
إرسال البعوث للمدينة خوفا من بني قريظة
وكان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يبعث سلمة بن أسلم من مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، وذلك أنه كان يخاف على الذراري من بني قريظة.
حراسة النبي صلى اللّٰه عليه وسلم
وكان عباد بن بشر على حرس رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة. كذا قال ابن سعد في هذا الموضع.
ذكر من حرس النبي صلى اللّٰه عليه وسلم
وقال في باب حراس النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: حرسه يوم بدر حين نام في العريش سعد بن معاذ، ويوم أُحُد محمد بن مسلمة، ويوم الخندق الزبير بن العوام .
المناوشات بين الجيشين
رجع إلى ابن سعد: وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يومًا، ويغدو خالد بن الوليد يومًا، ويغدو عمرو بن العاص يومًا، ويغدو هُبيرة بن أبي وهب يومًا، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يومًا، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يومًا، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويتفرقون مرة ويجتمعون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، ويقدمون رماتهم فيرمون.
نقض بني قريظة العهد
رجع إلى ابن إسحاق: وخرج عدو اللّٰه حُيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادع رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم على قومه، وعاقده على ذلك، وعاهده، فلما سمع كعب بحيي أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه حيي: ويحك يا كعب، افتح لي؟ قال: ويحك يا حُيي، إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدًا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أرَ منه إلا وفاء وصدقاً، قال: ويحك، افتح لي أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، قال: واللّٰه إن أغلقت دوني إلا تخوفاً على جشيشتك أن آكل معك منها، فأحفظَ الرجلَ ، ففتح له، فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر، وببحر طام ، جئتك بقريش، حتى أنزلتهم ب مجتمع الأسيال من رومة، وغطفان حتى أنزلتهم ب ذنب نقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه، قال له كعب: جئتني واللّٰه بذلِّ الدهر، وبجهَامٍ قد هَراق ماءه، يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حُيي، دعني وما أنا عليه، فإني لم أرَ من محمد إلا صدقاً ووفاء، فلم يزل حُيي بكعب يفتِلهُ فُي الذروة والغارب ٥٧ ، حتى سمح له على أن أعطاه
عهدًا من اللّٰه وميثاقاً، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدًا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام.
بلوغ المسلمين خبر نقض بني قريظة للعهد
فلما انتهى إلى رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام الخبرُ وإلى المسلمين.
التأكد من الخبر
بعث رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ومعهما ابن رواحة و خوَّات بن جبير ، فقال: “انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم“.
الحفاظ على الروح المعنوية
“فإن كان حًقّا فالحنوا إليَّ لحناً حتى أعرفه، ولا تفُتّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا بذلك للناس“، فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم فيما نالوا من رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام، وقالوا: مَنْ رسول اللّٰه؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.
مشاتمة سعد بن معاذ لهم
فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلاً فيه حدة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.
مَنْ شاتمهم
وذكر ابن عائذ أن الذي شاتمهم سعد بن عبادة، والذي قال له: ما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة سعد بن معاذ.
رجوع السعدان بالخبر اليقين
ثم أقبل السَّعْدان ومن معهما على رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فسلموا عليه ثم قالوا: عَضَل والقارة، أي كغدر عَضَل والقارة بأصحاب الرجيع. فقال رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام: “اللّٰه أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين“.
إحكام المشركين قبضتهم من المسلمين
وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن.
فعل المنافقين
ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال مُعَتِّبُ بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
هل كان معتب بن قشير منافقا؟
وقيل: لم يكن معتب من المنافقين، وقد شهد بدرًا. قاله ابن هشام. وقال ابن عائذ: وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا.
مقولة أوس بن قيظي
قال ابن إسحاق: وقال أوس بن قيظي: يا رسول اللّٰه، إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى ديارنا؛ فإنها خارج من المدينة.
مدة المناوشة بين الجيشين
فأقام رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام، وأقام عليه المشركون بضعًا وعشرين ليلة قريبًا من شهر، لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار.
محاولة نوفل لاختراق الخندق
وقال ابن عائذ: وأقبل نوفل بن عبد اللّٰه بن المغيرة المخزومي على فرس له ليوثبه الخندق، فوقع في الخندق فقتله اللّٰه.
طلب المشركين جثته من المسلمين
وكَبُرَ ذلك على المشركين، وأرسلوا إلى رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام: إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام: “إنه خبيث، خبيث الدية، فلعنه اللّٰه ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أَرَبَ لنا في ديته“. وقيل: أعطوا في جثته عشرة آلاف.
محاولة للصلح مع غطفان
قال ابن إسحاق: وبعث رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام – كما حدثني عاصم بن عمر- عن الزهري إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وإلى الحارث بن عوف المرُِّي، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك، فلما أراد رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أن يفعل.
مراجعة السعدين للرسول في الصلح
بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول اللّٰه أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك اللّٰه به لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: “بل شيء أصنعه لكم، واللّٰه ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبَوُكم من كل
جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما“، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول اللّٰه، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّٰه وعبادة الأوثان، لا نعبد اللّٰه ولا نعرفه، وهم لا يطعمون أن يكلوا منها تمرة، إلا قِرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة، واللّٰه لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم اللّٰه بيننا وبينهم.
التراجع عن كتابة الصلح مع غطفان
فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “فأنت وذاك“.
فتناول سعد الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجَهَدُوا علينا.
استنفار فوارس المشركين
فأقام رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام والمسلمون، وعدوُّهم محاصرُهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد وُدٍّ، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب ، تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم،حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقال: تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون مَنِ الفرسان اليوم؟
ثم أقبلوا تعُْنِقُ بهم خيلهُم، حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: واللّٰه إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانًا من الخندق ضيقًا، فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسَلْع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعُْنِقُ نحوهم.
وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أُحُد، فلما كان يوم الخندق خرج مُعْلمًا ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله قال: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب رحمه اللّٰه.
وذكر ابن سعد في هذا الخبر: “أن عمرًا كان ابن تسعين سنة، فقال علي: أنا أبارزه، فأعطاه رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم سيفه وعَمّمَه، وقال: اللهم أَعِنْه عليه“.
رجع إلى الأول: فقال له: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت اللّٰه ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل، قال له علي: فإني أدعوك إلى اللّٰه وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك، قال له علي: فإني أدعوك إلى النزال، قال له: لِم يَا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، قال له علي: لكني واللّٰه أحب
أن أقتلك، قال: فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه، فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على عليٍّ، فتناولا وتجاولا؛ فقتله عليٌّ، وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقال عليٌّ في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه … ونصرتُ دينَ محمد بضراب
فصددت حين تركته مُتجَدِّلًا … كالجذع بني دكَادِكٍ ورَواب
وعففت عن أثوابه ولو أنني … كنتُ المقَُطِّر بَزّني أثوابي
لا تحسبن اللّٰه خاذل دينه … ونبيه يا معشر الأحزاب
وعن ابن إسحاق من غير رواية البكائي: أن عَمْرًا لما نادى بطلب مَنْ يبارزه، قام عليٌّ رضي اللّٰه عنه وهو مقنع في الحديد، فقال: أنا له يا نبي اللّٰه، فقال له: اجلس، إنه عمرو، ثم كرر عمرو النداء، وجعل يؤَُنِّبُهم، ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها، أفلا تبُْرِزون لي رجلاً؟ فقام علي، فقال: أنا يا رسول اللّٰه، فقال: اجلس، إنه عمرو، ثم نادى الثالثة، وقال:
ولقد بُححت من النداء … بجمعكم هل من مُبارز
ووقفتُ إذ جَبنُ المشجع … وِقفة الرجل المنُاجز
وكذاك أني لم أزل … متسرعًا قبل الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى … والجودَ من خير الغرائز
فقام علي رضي اللّٰه عنه، فقال: أنا له يا رسول اللّٰه، فقال: إنه عمرو، فقال: وإن كان عَمْرًا، فأذن له رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام، فمشى إليه علي وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك … مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة … والصدق منجى كل فائز
إني لأرجو أن أقيم … عليكم نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى … ذكرهُا عند الهزاهز
فقال عمرو: مَنْ أنت؟ قال: أنا علي، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسَنُّ منك، فإني أكره أن أهرق دمك، فقال علي: لكني واللّٰه ما أكره أن أهريق دمك، فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو عليٍّ مُغضباً، ويقال: إنه كان على فرسه، فقال له علي: كيف أقاتلك وأنت على فرسك، ولكن انزل معي، فنزل عن فرسه، ثم أقبل نحوه، فاستقبله عليٌّ بدرقته فضربه عمرو فيها فقدَّها، وأثبت فيها السيف، وأصاب رأسه فشجه، فضربه عليٌّ على حبل العاتق ؛ فسقط، وثار العَجَاجُ، وسمع رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام التكبير، فعرف أن علًيّا قد قتله.
قال ابن هشام: وإن شعار أصحاب رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق ويوم بني قريظة (حم، لا ينصرون).
قال ابن إسحاق: وحدثني أبو ليلى عبد اللّٰه بن عبد الرحمن الأنصاري أخو بني حارثة: أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحصن حصون المدينة، قال: وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن، فقالت:
وذلك :قبل أن يضرب علينا الحجاب، فمر سعد وعليه درع له مقلصة، قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربته يرقد بها، ويقول:
لبَِّثْ قليلاً يشهد الهيجا حَملَ … لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت له أمه: الحقَْ بنيَّ، فقد واللّٰه أخَّرت، قالت عائشة رضي اللّٰه عنها: فقلت لها يا أم سعد، واللّٰه لوددت أن درع ، سعد كانت أسبغ مما هي، قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرمى سعد بن معاذ بسهم، فقطع منه الأكحل رماه كما حدثني عاصم: حِبان بن العَرِقة أحد بني عامر بن لؤي، فلما أصابه، قال: خذها مني وأنا ابن العَرِقة. فقال له سعد: عَرَّق اللّٰه وجهك في النار. ويقال: بل الذي رماه خفاجة بن عاصم بن جبارة، وقيل: بل الذي رماه أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم.
رجع إلى ابن إسحاق: ثم قال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إليَّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وأخرجوه وكذبوه، اللهم إن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
وذكر ابن عائذ: أن المشركين جهزوا نحو رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم كتيبة عظيمة غليظة، فقاتلوهم يومًا إلى الليل، فلما حضرت العصر دنت الكتائب، فلم يقدر النبي عليه الصلاة والسلام ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على ما أرادوا، فانكفأت مع الليل، فزعموا أن رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام قال: شغلونا عن صلاة العصر، ملأ اللّٰه بطونهم . وقبورهم نارًا و عن عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه، قال: ما صلى رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق الظهر والعصر حتى غابت الشمس.
رواية سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب، ذهب بعض الناس إلى أنها مرسلة؛ لأنه وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وقيل: وُلد لسنتين خلتا من خلافة عمر، وهو الصحيح إن شاء اللّٰه تعالى. فتكون متصلة، وله عنه أحاديث يسيرة هي عندهم متصلة، ويقول في بعضها: سمعت عمر رضي اللّٰه عنه على المنبر.
وذكر ابن سعد في هذا الخبر: “أنهم شُغلوا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال ابن سعد: وأقام أسيد بن الحضير على الخندق في مائتين من المسلمين، وكر خالد بن الوليد في خيل من المشركين، يطلبون غِرَّة من المسلمين، فناوشوهم ساعة، ومع المشركين وحشي، فزرق الطفيلَ بن النعمان من بني سلمة بزراقة فقتله، وانكشفوا، وسار رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام إلى قبته، فأمر بلالًا فَأذَّن وأقام الظهر فصلى، ثم أقام بعدُ لكل صلاة إقامة إقامة، وصلى هو أصحابه ما فاتهم من الصلوات، وقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ اللّٰه أجوافهم وقبورهم نارًا“.
ولم يكن لهم قتال بعد ذلك جميعًا حتى انصرفوا، إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل؛ يطمعون في الغارة.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام وأصحابه فيما وصف اللّٰه عزَّ وجل من الخوف والشدة بمظاهرة عدوهم وإتيانهم إليهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ثم “إن نعُيم بن مسعود الأشجعي أتى رسولَ اللّٰه عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول اللّٰه، إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول اللّٰه عليه الصلاة والسلام: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنا ما استطعت؛ فإن الحرب خدعة“.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم. قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشًا وغطفان ليسوا كما أنتم، البلد بلدكم، وبه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نُهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رُهُناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدًا حتى تُناجِزوه.
قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشًا، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم، وفراقي محمدًا، وأنه قد بلغني أمرٌ قد رأيت أن أبلغكموه نصحًا لكم، فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ
لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالًا من أشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟
فأرسل إليهم: نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رُهُناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحدًا، ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي وأحبُّ الناس إليَّ، ولا أراكم تتهموني. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عليَّ. قالوا: نعم. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذَّرهم. فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنيع اللّٰه لرسوله صلى اللّٰه عليه وسلم، أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة: عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخفُّ والحافر ، فأعِدُّوا للقتال، حتى نناجز محمدًا، ونفرغ مما بيننا وبينه. فأرسلوا إليه أن اليومَ يومُ السبت، وقد علمتم ما نال منا مَنْ تعدَّى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رُهُناً.
فلما رجع الرسولُ بذلك، قالوا: صدقنا واللّٰه نعُيم بن مسعود، فردوا إليهم الرسل، وقالوا: واللّٰه لا نعُطيكم رُهُناً أبدًا، فاخرجوا معنا إن شئتم، وإلا فلا عهد بيننا وبينكَم.
فقال بنو قريظة: صدق واللّٰه نعُيم بن مسعود. وخَذَّل اللّٰه بينهم، واختلفت كلمتُهم، وبعث اللّٰه عليهم ريحًا عاصفًا في ليال شديدة البرد، فجعلت الريحُ تقلب أبنيتهم، وتكفأ قدورهم. فلما اتصل برسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم اختلافُ أمرهم، بعث حذيفة بن اليمان ليأتيَه بخبرهم، فأتاهم واستتر في غِمارهم، وسمع أبا سفيان، يقول: يا معشر قريش، ليتعرف كلُّ امرئ منكم جليسَه. قال حذيفة: فأخذتُ بيد جليسي، وقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم واللّٰه ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا من هذه الريح ما تروْن، ما يستمسكُ لنا بناء، ولا ٺثبت لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحلٌ، ووثبَ على جمله، فما حلَّ عِقالَ يده إلا وهو قائم.
قال حذيفة: ولولا عهدُ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إليَّ إذ بعثني أن لا أُحدِثَ شيئاً، لقتلتهُ بسهم، ثم أتيت رسولَ اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم عند رحيلهم، فوجدته قائماً يصُلِيّ، فأخبرته، فحمد اللّٰه، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم. عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابرًا، يقول: قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يوم الأحزاب: “من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: مَنْ يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: مَنْ يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: إن. لكل نبي حواريًّا، وإن حواريي الزبير” كذا وقع في هذا الخبر، والمشهور أن الذي توجَّه ليأتي بخبر القوم حذيفة بن اليمان، كما روينا عنه من طريق ابن إسحاق وغيره. قال – يعني النبي صلى اللّٰه عليه وسلم-: “مَنْ رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع؟ يشترط له رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم الرجعة، أسأل اللّٰه أن يكون رفيقي في الجنة“، فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجزع، وشدة البرد، فلما لم يقم أحدٌ، دعاني فلم يكن لي بدٌُّ من القيام حين دعاني. فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم. وذكر الحديث.
وذكر ابن عقبة ومحمد بن عائذ: خروج حذيفة إلى المشركين، ومشقة ذلك عليه، إلى أن قال له رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “قم فحفِظك اللّٰه من أمامك ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك حتى ترجع إلينا“. فقام حذيفة مستبشرًا بدعاء رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، كأنه احتمُلَ احتمالًا، فما شقَّ عليه شيء مما كان فيه.
وعند ابن عائذ: فقبض حذيفة على يد رجل عن يمينه، فقال: من أنت؟ قال: أنا معاوية بن أبي سفيان، وقبض على يد آخر عن يساره، فقال: من أنت؟ فقال: أنا فلان. وفعل ذلك خشية أن يفُطن له، فبدرهم بالمسألة.
وقد روينا في خبر نعُيم بن مسعود غير ما ذكرناه.
وقال صلى اللّٰه عليه وسلم حين أجلى الأحزاب: “الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم ” . ذكره البخاري بسنده.
وقال ابن سعد: وأقام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد في مائتي فارس ساقةً لعسكر المشركين وردءًا لهم مخافة الطلب، وانصرف رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يوم الأربعاء لسبع ليالٍ بقين من ذي القعدة.
وكان مما قيل من الشعر يوم الخندق قول عبد اللّٰه بن الزبعري السهمي:
حي الديار محا معارف رسمها … طولُ البِلى وتراوحُ الأحقاب
قفرًا كأنك لم تكن تلهو بها … في نعمة بأوانس أتراب
فاتركْ تذكُّر ما مضى من عيشة … ومحلة خَلْق المقام يباب
واذكر بلاء معاشر واشكرهم … ساروا بأجمعهم من الأنصاب
أنصاب مكة عامدين ليثرب … في ذي غياطل، جحفل جبجاب
يدع الحزون مناهجاً معلومة … في كل نشزٍ ظاهر وشعاب
فيه الجيادُ شوازبٌ مجنونة … قبُّ البطون ، لواحق الأقراب
من كل سَلْهبةٍ وأجردَ سَلهبٍ … كالسيد بارد غفلة الرُّقَّاب
جيش عيينة قاصد بلوائه … فيه، وصخر قائد الأحزاب
قرمان كالبدرين أصبح فيهما … غيث الفقير ومعقل الهُرَّاب
حتى إذا وردوا المدينة وارتدوا … للموت كلَّ مُجرَّب قضَّاب
شهرًا وعشرًا قاصدين محمدًا … وصِحاَبهَ في الحرب، غيرُ صحاب
لولا الخنادق غادروا من جمعهم … قتلى لطير سُغَّبٍ وذئاب
فأجابه حسان بن ثابت رضي اللّٰه عنه:
هل رسمُ دارسةِ المقام يباب … مُتكلِّمٌ لمحاورٍ بجواب؟
فدعِ الديارَ وذكِْر كَل خريدة … بيضاء آنسة الحديث كعاب
واشكُ الهمومَ إلى الإله وما ترى … من معشر ظلموا الرسول، غِضاب ساروا بجمعهم إليه وأَلّبوا … أهل القرى وبوادي الأعراب
جيش عيينة وابنُ حرب فيهمُ … متخمطون بحلَْبة الأحزاب
حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا … قتل الرسولَ ومغنم الأسلاب
وغَدْوا علينا قادرين بأيديهم … ردوا بغيظهم على الأعقاب
بهبوبِ مُعْصفةٍ تفرِّق جمعهم … وجنودُ ربك سيد الأرباب
وكفى الإله المؤمنين قتالهم … وأثابهم في الأجر خير ثواب
من بعد ما قنطوا ففرق جمعهم … تنزيلُ نصر مليكنا الوهاب
وأقرَّ عين محمد وصحابه … وأذل كل مكذب مرتاب
وقال هُبيرة بن أبي وهب يعتذر من فراره ويبكي عمرو بن عبد وُدٍّ، يذكر علًيّا، وقد سبق بعض هذه الأبيات:
لعمري ما وليت ظهري محمدًا … وأصحابه جبناً ولا خيفة القتل
ولكني قلبت أمرًا فلم أجد … لسيفي غناء إن ضربت ولا نبل
وقفت فلما لم أجد لي مُقَدَّمًا … شددتُ كضرغامٍ هزبرٍ أبي شِبْل
ثنى عطفه عن قرنه حين لم تجد … مَكَرًّا، وقِدْمًا كان ذلك من فعلي
فلا تبعدون يا عمرو حًيّا وهالكًا … وحُقَّ بحسن المدح مِثْلكُ من مِثْلِ
ولا تبعدن يا عمرو حًيّا وهالكًا … فقد مُتَّ محمودَ الثنا، ماجد الأصل
فمن لطِرادِ الخيل تقُدعُ بالقنا … وللفخر يومًا عند قرقرة البُزْل
هنالك لو كان ابنُ عبدٍ لزارها … وفرَّجَها حًقّا فتًى غيرَ ما وغْل
فعنك عليٌّ لا أرى مثلَ موقف … وقفتَ على نجد المقَدَّم كالفَحْل
فما ظَفِرتَْ كَفّاك فخرًا بمثله … أمِنْتَ به ما عشت من زَلَةِّ الَنّعل
الغيطلة: الشجر الملتف، والغيطلة: الجبلة، والغيطلة: التباس الظلام، وجبجاب: كثير الصوت، والمتخمط: الشديد الغضب.
ذكر شهداء الخندق
من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ ، و أنس بن أوس بن عتيك، و عبد اللّٰه بن سهل. ومن بني جشم بن الخزرج ثم من بني سلمة: الطفيل بن النعمان ، و ثعلبة بن غنمة . ومن بني النجار: كعب بن زيد . وذكر شيخنا الحافظ أبو محمد عبد المؤمن له في بني ظفر: قيس بن زيد بن عامر بن سواد بن ظفر ، شهد أُحُدًا، وحضر الخندق، ومات « نسب الأوس » الدمياطي في له: عبد اللّٰه بن أبي خالد بن قيس بن مالك بن كعب بن عبد الأشهل بن حارثة بن « نسب الخزرج » هناك ودفن، وذكر في
دينار بن النجار ، قتُِل يوم الخندق شهيدًا، ذكره ابن الكلبي.