لم يلتزم اليهود بالمعاهدة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم معهم بل سرعان ما نقضوها ولم يكتفوا بعدم الوفاء بالتزاماتهم التي …
حددتها بل وقفوا مواقف عدائية أيضا، فكان ذلك سبب إجلائهم عن المدينة المنورة، وفيما يلي بيان لأحداث جلائهم وأسبابه الممهدة والمباشرة.
إجلاء بني قينقاع
تاريخ الغزوة:
يتفق المؤرخون على أنها وقعت بعد غزوة بدر الكبرى، وقد حدد الزهري تاريخها فذكر أنها كانت في شوال من السنة الثانية من الهجرة، ويضيف الواقدي أنها كانت يوم السبت للنصف من شوال.
سبب الغزوة:
تشير كتب السيرة إلى أن يهود بني قينقاع أظهروا الغضب والحسد عندما انتصر المسلمون ببدر، وقد بلغ بهم الأمر إلى حد المجاهرة بالعداء.
ولتصوير الجو النفسي الذي أحاط بجلائهم لابد من استعراض بعض الأحداث، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يجمعهم وينصحهم بعد انتصاره ببدر فجمعهم في سوق بني قينقاع، فقال:”يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً. قالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً في قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا” ولا يخفى ما في ردهم من تحد وتهديد مع أنهم كانوا قد انضموا تحت لواء رئاسته بموجب المعاهدة، وهذه الرواية وردت من طريق ابن إسحاق. وقد حسنها الحافظ ابن حجر. ولكن في سندها محمد بن محمد مولى زيد بن ثابت، حكم عليه الحافظ نفسه بأنه مجهول.
وإذا قبلنا تحسين ابن حجر لها فإن ذلك لا يعني أن سبب جلاء بني قينقاع يعود إلى رفضهم قبول الإسلام، ففي هذه المرحلة كان الإسلام يقبل التعايش السلمي معهم ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشترط على أحد من يهود أن يدخل في الإسلام مقابل بقائه في المدينة المنورة بل إن نصوص المعاهدة تؤكد إعطاء اليهود حريتهم الدينية في المدينة المنورة. وإنما يعود سبب الجلاء إلى ما أظهروه من روح عدائية. انتهت إلى الإخلال بالأمن داخل المدينة المنورة، فقد وردت رواية تشير إلى أن أحدهم عقد طرف ثوب امرأة مسلمة في سوق بني قينقاع، فلما قامت انكشفت وصاحت فقام أحد المسلمين فقتل اليهودي وتواثب عليه اليهود فقتلوا المسلم، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. وهذه الرواية ضعيفة في إسنادها انقطاع بين ابن هشام وعبد الله بن جعفر المخرمي، ثم إنها موقوفة على تابعي صغير مجهول الحال هو أبو عون ولكن يستأنس بها من الناحية التاريخية، فقد أوردتها معظم مصادر السيرة وهي تصور تتابع الأحداث التي أدت إلى إجلاء بني قينقاع، وإن رفضهم الدخول في الإسلام لم يكن سبب جلائهم، بل السبب الحقيقي في ذلك هو إخلالهم بالأمن ومجاهرتهم بالعدوان مما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يقتنع بعدم إمكان العيش معهم بسلام.
الحصار:
إن خبر إجلاء بني قينقاع صحيح وقد أورد ابن إسحق بروايته عن عاصم ابن عمر بن قتادة – والواقدي – دون إسناد – تفاصيل حصار المسلمين لبني قينقاع، وتابعهم المؤرخون وكتاب السيرة في ذلك، ورغم أن هذه التفاصيل لم تثبت صحتها من الناحية الحديثية ولكنها مما يتساهل في نقله عند المحدثين ومما يعتمد عليه وفق مناهج النقد التاريخي التي لا تشترط الإسناد وصحته, ولا يعقل إهمال هذه الأخبار في الدراسات التاريخية إلا إذا تعلقت بالعقيدة أو الشريعة فإنه لا يعتمد في ذلك إلا على الروايات الصحيحة والحسنة التي تنهض للاحتجاج بها، وقد ورد في تفاصيل خبر حصار بني قينقاع أنهم كانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول وكانوا أشجع اليهود وكانوا صاغة، فلما أظهروا صريح العداء والبغضاء وخاف النبي صلى الله عليه وسلم خيانتهم، استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وعقد لواء أبيض حمله حمزة بن عبد المطلب، وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة فاشتد عليهم الحصار ونزلوا على حكم الرسول، على أن له أموالهم، وأن لهم النساء والذرية، فأمر بهم فكتفوا ثم كلمه فيهم حليفهم عبد الله بن أبي بن سلول وألح في ذلك قائلا: “أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة”. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم لك». وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة وتولى أمر جلائهم عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة الأنصاري حيث تم تقسيمها بين الصحابة بعد إخراج الخمس للرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد نزل في إجلاء بني قينقاع قوله تعالى: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ} [آل عمران:12] إلى قوله تعالى: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ} [آل عمران:13] وقد نقل أهل التفسير أن قوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. نزل في موالاة عبد الله بن أبي ليهود بني قينقاع. وفي نفس الوقت أعلن عبادة بن الصامت براءته من حلفائه من يهود مظاهرة لله ولرسوله بقوله: “يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله”.
والفرق واضح بين عبد الله بن أبي الذي أشرب قلبه بالنفاق وبين عبادة بن الصامت الذي صقلته التربية المحمدية، وخلصته من آثار العصبية الجاهلية والأهواء والمصالح الشخصية، فنظر إل مصلحة العقيدة وقدمها على مصالحه الخاصة، فكان مثالاً للمؤمن الواعي الملتزم.
مقتل كعب بن الأشرف:
ذهب جمهور العلماء إلى أن قتل ابن الأشرف وقع بعد غزوة بدر وقبل غزوة بني النضير، وحدد الواقدي ذلك بدقة فذكر أنه وقع في السنة الثالثة لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً من الهجرة النبوية. وكعب بن الأشرف، وأبوه عربي من طيء وأمه عقيلة بنت أبي الحقيق من بني النضير الذين حالفهم الأب وتزوج منهم، وكان كعب شاعراً يناصب الإسلام العداء وقد غاظه انتصار المسلمين ببدر وساءه الأمر فزار مكة، فكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش ويبكي قتلى المشركين ببدر ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وفصل البخاري خبر مقتله، وخلاصته أن محمد بن مسلمة الأنصاري أبدى استعداده لتنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، واستأذنه في أن يستخدم الخديعة، فأذن له لأن كعباً صار محاربا مهدور الدم فمضى محمد بن مسلمة إلى كعب وطلب منه أن يقرضه تمراً ليدفعه للرسول مظهراً تذمره منه لما يكلفهم به، فأراد كعب رهينة من النساء أو الأبناء فاعتذر محمد بن مسلمة لما يلحقهم من عار ذلك وعرض عليه أن يرهن عنده السلاح فوافق كعب. فجاءه محمد بن مسلمة ليلاً ومعه صحابي آخر وهو أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة ومعهما ثلاثة آخرون من الصحابة، فنادوه فنزل إليهم ومشى معهم فاحتالوا لقتله متظاهرين بشم عطر شعره فأجهزوا عليه بسيوفهم حتى أصيب أحدهم بسيوف أصحابه. وقد اشتكت اليهود مقتله، فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما صدر منه من عداء وهجاء، وفزعت يهود وبقايا المشركين مما حدث وخافوا على أنفسهم، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كتابة معاهدة بينهم فكتبت صحيفة عامة كما تذكر رواية أبي داود في رواية تصلح للاحتجاج بها لما لها من شواهد ومتابعات. ويبدو أن كتابة الصحيفة جاء تأكيداً لما في المعاهدة التي كتبت قبل بدر بين المسلمين واليهود بعد أن أثار مقتل ابن الأشرف مخاوف يهود.
وقد يبدو مقتل ابن الأشرف متسماً بالغدر، ولكن صاحب النظر الفاحص والبصيرة النافذة يدرك أن ابن الأشرف معاهد بموجب الصحيفة التي التزم فيها يهود بني النضير مع الآخرين، وأنه بهجائه للنبي وهو رئيس الدولة بالنسبة لابن الأشرف وبإظهاره التعاطف مع أعداء المسلمين ورثاء قتلاهم وتحريضهم على المسلمين يكون قد نقض العهد وصار محارباً مهدور الدم. وأما استدراجه ممن يثق بهم وقتله بالخديعة فإنه جائز مع المحارب، وقد تم بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ بني النضير بجريرة كعب بن الأشرف واكتفى بقتله جزاء غدره وجدد المعاهدة معهم، ولكن يبدو أن لمقتل كعب أثراً عميقاً في نفوسهم فقد مضوا يكيدون للإسلام رغم تجديدهم المعاهدة، حيث أن الخوف وليس النوايا الطيبة هو الذي جرهم إلى تجديدها كما سيتبين من الأحداث التالية:
إجلاء بني النضير
تاريخ غزوة بني النضير:
وردت روايتان صحيحتا الإسناد تدلان على أن غزوة بني النضير كانت بعد غزوة بدر الكبرى.
الأولى: ما رواه الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب ابن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: ما رواه عروة عن عائشة فرغم أن البيهقي قال إن ذكر عائشة غير محفوظ، ولكن الذهبي صححها ويبدو لي أنها من قبيل زيادة الثقة المقبولة، ولم يذكر غير البيهقي علة الإرسال فيها، كما وردت رواية مرسلة عن عروة بأنها كانت على رأس ستة أشهر من بدر.
ونقل البيهقي رواية أخرى عن عروة أنها كانت في محرم سنة ثلاث وهي توافق الأولى لأن بدراً كانت في 17 رمضان سنة 2 هـ ونقل ذلك عن موسى بن عقبة أيضاً، وعروة تابعي كبير، وموسى تابعي صغير والإسناد إليهما فيه من لم أعثر على ترجمته ولولا ذلك لقويت الرواية إلى مرتبة الحسن.
أما ابن إسحق فذكر أنها كانت في سنة أربع من الهجرة وذكر الواقدي وابن سعد دون إسناد أنها كانت في شهر ربيع الأول على رأس سبعة وثلاثين شهراً من الهجرة ووافقهم ابن هشام في أنها كانت في ربيع الأول. وقد تابع جل كتاب السيرة ابن إسحاق في تحديد تاريخ الغزوة. وقطع ابن القيم بوهم الزهري أو وقوع الغلط عليه في أنها كانت بعد بدر بستة أشهر، فلا شك عنده أنها بعد أحد وهو بذلك يرجح رواية جماهير أهل السيرة والمغازي. ويرى ابن حجر أن ما ذكره عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أقوى مما ذكره ابن إسحق من حيث الصحة الحديثية. ولكنه يرى أيضاً أنه إذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير يتعلق بقصة دية القتيلين العامريين يتعين الأخذ بقول ابن إسحق لأن بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق.
وقد رويت آثار في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11] وأنها نزلت في شأن يهود بني النضير عندما هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فأنقذه الله بنعمة منه. لكن هذه الآثار فيها ضعف ويمكن أن تعتضد لتصبح بمجموعها صالحة للاحتجاج بها. وهي تقوى ما ذهب إليه ابن إسحق ولكن يبقى السؤال قائماً دون جواب حاسم: متى تمت غزوة بني النضير؟ لم يجزم ابن حجر برأي قاطع في الأمر رغم رجحان الدليل الصحيح عنده وعلق التسليم برأي ابن إسحق بثبوت تعلق الغزوة بقصة العامريين القتيلين.
ويبدو أن استفاضة الروايات على ضعفها في تأييد قول ابن إسحق، هو السبب في عدم جزم الحافظ، وهو مسلك مع الروايات التاريخية يتسم بالمرونة في تطبيق قواعد مصطلح الحديث وبمراعاة التخصص واحترام أقوال أصحاب المغازي.
سبب غزوة بني النضير:
تذكر المصادر سببين لهذه الغزوة يتمثلان بمحاولتين لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم:
الأولى: محاولة بني النضير قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر الكبرى وقد سجلت لهم المصادر محاولتين، الأولى بعد كتابة قريش إليهم وتهديدها لهم بالحرب إن لم يقاتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم فاستجاب بنو النضير لهم وعزموا على الغدر، وأرسلوا إلى النبي أن يخرج إليهم في ثلاثين رجلاً من أصحابه، ووعدوا أن يخرجوا بمثلهم من أحبارهم، إلى موضع وسط ليستمعوا منه، فإن صدقوه آمنت يهود، فلما اقتربوا اقترح اليهود أن يجتمع النبي ومعه ثلاثة من أصحابه بثلاثة من أحبارهم فإن أقنعهم آمنت بنو النضير، وقد حمل الثلاثة خناجرهم، لكن امرأة منهم أفشت خبرهم لأخ لها مسلم، فأخبر النبي فرجع ولم يقابلهم، ثم حاصرهم بالكتائب وقاتلهم فنزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم. وهذه الرواية إسنادها رجاله ثقات وفيه جهالة اسم الصحابي ولا تضر.
أما المحاولة الثانية فقد رواها ابن إسحق وتابعه معظم كتاب السيرة الآخرين، وتتلخص بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني النضير ليستعين بهم على دفع دية رجلين معاهدين قتلهما خطأ عمرو بن أمية الضمري في أعقاب حادثة بئر معونة، فجلس النبي إلى جدار لبني النضير فهموا بإلقاء حجر عليه وقتله فأخبره الوحي بذلك فانصرف عنهم مسرعاً إلى المدينة ثم أمر بحصارهم فنزلوا على الصلح بعد حصار ست ليال، على أن لهم ما حملت الإبل وهذه الرواية موقوفة على يزيد بن رومان وهو من صغار التابعين، لكنها تتقوى مع المتابعة وقد توبعت برواية عروة بن الزبير في مغازي موسى بن عقبة، أما موسى بن عقبة صاحب المغازي فقد ذكر فيها إضافة لما ذكره ابن إسحق أنه “كانت النضير قد دسوا إلى قريش وحضوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلوهم على العورة”.
ورغم أن رواية عبد الرزاق أقوى سنداً من رواية ابن إسحق، ولكن الأخيرة حظيت بقبول كتاب السيرة، وكلتا الروايتين تعزو حصار المسلمين لبني النضير إلى محاولتهم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم غدراً، وأما رواية موسى بن عقبة فلم تحدد وقتاً للأعمال التي ارتكبها اليهود ضد المسلمين من الدس والتحريض وتقديم المعلومات لقريش، والمعروف أنهم حرضوا المشركين على قتال المسلمين فكانت غزوة أحد، وأنهم أعانوا أبا سفيان في غزو أطراف المدينة التي أدت إلى مطاردة المسلمين له في غزوة السويق بعد أحد، ومعلوم تلك الأشعار التي أنشدها كعب ابن الأشرف النضري في تحريض قريش على حرب المسلمين. فلعل الإشارة إليها في رواية موسى بن عقبة فيكون ما ذكره إشارة إلى سوء العلاقة بين المسلمين وبني النضير وأنها ختمت بمحاولة الغدر التي كانت سبباً مباشراً في حصارهم تقف وراءه سلسلة من الأعمال العدائية.
إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم لبني النضير بالجلاء.
لم ترد رواية صحيحة من الناحية الحديثية على إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بالجلاء لكن إجلاءهم ثابت في حديث صحيح يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنه. أما الإنذار فقد ذكره الواقدي وابن سعد – دون إسناد – وفيه أنه طلب منهم الخروج من المدينة خلال عشرة أيام فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فاستعدوا للخروج لكن عبد الله بن أبي بن سلول حرضهم على التمرد وعدم الخروج ووعدهم النصر، فأعلنوا تمردهم وحاصرهم المسلمون وقد أوردت روايتان – بإسنادين موقوفين على عروة بن الزبير وموسى بن عقبة وفيهما رواة لم أعثر لهم على ترجمة – خبر إنذار النبي لبني النضير بالجلاء، وقد سجلت معظم كتب السيرة خبر الإنذار دون أسانيد. ورغم أن موقف المنافقين لم تسجله إلا روايات ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها لكن يكفي لثبوته ما ورد في سورة الحشر التي ثبت بطرق صحيحة أنها نزلت في بني النضير.
حصار بني النضير ومعاهدة إجلائهم:
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصرهم بالكتائب وقال لهم: «إنكم لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه»، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك هو والمسلمون، ثم غدا الغد على بني قريظة بالخيل والكتائب – وترك بني النضير – ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه فانصرف عنهم. وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا الحلقة، فجاءت بنو النضير واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم، وأبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم، فيهدمونها فيحملون ما وافقهم من خشبها”.
وقد ثبت بنص القرآن والحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حرق وقطع بعض نخل بني النضير خلال الحصار.
وتقرر معاهدة الجلاء حقن دماء اليهود، وإجلاءهم عن ديارهم، والسماح لهم بأخذ ما تحمله إبلهم من المتاع والأموال سوى السلاح فيتركونه للمسلمين. ويمكن الجمع بين الروايات الصحيحة التي تذكر أنهم أجلوا إلى الشام وبين ما ذكره ابن سعد من توجههم إلى خيبر بأن زعماءهم مثل حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع وغيرهم ذهبوا إلى خيبر ومعظمهم ذهب إلى الشام، ورواية ابن سعد ضعيفة دون إسناد ولكن تؤيد ذلك الأحداث اللاحقة الثابتة بالمرويات القوية مثل أخبار قتالهم في غزوة خيبر وقتل كنانة وأسر صفية وخبر سلام بن أبي الحقيق، والجمع يكون بالقول بأنهم أجلوا إلى الشام وبعضهم استقر بخيبر. وبذلك قال ابن إسحق. وقد أسلم من بني النضير إثنان فأحرزا أموالهما وهما يامين بن عمر بن كعب وأبو سعد بن وهب أما أموال بني النضير ونخلهم فكانت للرسول خاصة بنص القرآن “فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله”. وقد قسم النبي أرضهم بني المهاجرين، وأعطى اثنين من الأنصار فقط هما سهل بن حنيف وأبو دجانة بن سماك بن خرشة لحاجتهما.
وقد أدى إجلاء بني النضير إلى كسر شوكة اليهود والمنافقين في المدينة حيث جددت قريظة المعاهدة مع المسلمين خلال حصار بني النضير وأظهرت رغبتها في المحافظة على العهد حتى كانت غزوة الأحزاب. والمنافقون لم ينجزوا عدهم لنبي النضير بالنصر وتبين ليهود عدم جدوى الاعتماد عليهم.
وقوي كيان الإسلام بالتخلص من بني النضير والإفادة من أراضيهم بإقطاعها للمهاجرين الذين كانوا يعتمدون في سكناهم على أراض وبيوت للأنصار.
تحريض بني النضير للمشركين:
وقد استمر الحقد يعمل في نفوس يهود بني النضير مما دفعهم إلى تحريض المشركين من قريش والأحزاب على مهاجمة المدينة في غزوة الخندق، وقد وردت روايات ضعيفة إما لإرسال أو لانقطاع أو لجهالة أحد الرواة في الإسناد، ولكنها تصلح بمجموعها للاحتجاج وتقوى ببعضها وهي ترقى إلى عروة بن الزبير وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وسعيد بن المسيب وموسى ابن عقبة, حيث ذكر بعضها أسماء بعض هؤلاء المحرضين من بني النضير، ذكرها ابن إسحق وهم سلام بن أبي الحقيق النضري وكنانة بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري.
غزوة بني قريظة
تاريخ الغزوة:
وقعت غزوة بني قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة، عقب غزوة الخندق التي كانت في شوال سنة خمس للهجرة على قول قتادة وعروة بن الزبر وابن إسحق وعبد الرزاق. وقد ذهب الإمام مالك وموسى بن عقبة إلى أن الخندق كانت في شوال سنة أربع، وبه قال ابن حزم وقد استدل الثلاثة بحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه.
وقد بين البيهقي إمكان الجمع بين القولين فقال: “ولا اختلاف بينهم في الحقيقة، لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين وقبل استكمال خمس”. وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أحدا في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة التالية لسنة الهجرة، ولم يقدروا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي، وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي وقد صرح بأن بدراً في الأولى وأحدا في سنة اثنتين وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن عمر رضي الله عنه جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك أنه من ربيع الأول سنة الهجرة.
فصارت الأقوال ثلاثة والصحيح قول الجمهور أن أحداً في شوال سنة ثلاث وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة.
أما حديث ابن عمر فقد أجاب عنه جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض يوم أحد وهو في أول الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب وهو في أواخر الخامسة عشرة، وهو المعقول لأن المشركين لما انصرفوا عن أحد وأعدوا المسلمين إلى بدر العام القابل ولم يقع. فقال: فلا يعقل أن يأتوا لحصار المدينة بعد شهرين.
سبب الغزوة:
ويرجع سبب الغزوة إلى نقض بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت ذلك بطرق قابلة بمجموعها للاحتجاج بها، وكان نقضهم للعهد بتحريض من حيي بن أخطب النضري وفي وقت حرج وخطير بالنسبة للمسلمين الذين كان يحاصرهم عشرة آلاف مقاتل من الأحزاب، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير بن العوام لاستطلاع خبرهم ثم أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جيبر. لمعرفة صحة ما يشاع من غدر بني قريظة، وقد أكد له هؤلاء صحة الخبر فاشتد الأمر على المسلمين.
وقد فصل ابن إسحق خبر غدر بني قريظة ونقضهم العهد دون إسناد وجل كتاب السيرة أوردوا ذلك دون إسناد.
وذكر موسى بن عقبة دون إسناد أيضاً أن قريظة طلبت من حيي بن أخطب أن يأخذ لهم تسعين رجلاً من أشراف قريش وغطفان رهائن لئلا يرجعوا عن المدينة قبل القضاء على المسلمين فيها، فوافق حيي على ذلك فأعلنوا نقضهم للصحيفة.
وقد أمر الله تعالى نبيه بقتال بني قريظة بعد عودته من الخندق ووضعه السلاح فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتوجه إليهم وقد أعلم أصحابه بأن الله تعالى قد أرسل جبريل ليزلزل حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب وأوصاهم أن (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) كما في رواية البخاري – أو الظهر – كما في رواية مسلم. وقد حان وقت العصر وبعضهم في الطريق فمنهم من صلى ومنهم من أخر وأقر النبي الطرفين فقد اجتهدوا في مراده من أمره. ومن أخر صلاها بعد العشاء الآخرة كما وضح ابن إسحق.
وقد جمع العلماء بين روايتي البخاري ومسلم بالقول باحتمال أن يكون بعضهم قد صلى الظهر قبل الأمر وبعضهم لم يصلها فأمر من لم يصلها أن لا يصلي الظهر ومن صلاها أن لا يصلي العصر، وقيل باحتمال أن تكون طائفة قد ذهبت بعد طائفة فقيل للأولى الظهر وللثانية العصر.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى بني قريظة واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم وإن لم يثبت بحديث صحيح لكنه مما يتساهل في قبوله.
وقد وردت آثار مرسلة تتقوى ببعضها إلى رتبة الحسن لغيره تفيد أنه بعث عليا على المقدمة برايته.
وانفرد ابن سعد بذكر عدد جيش المسلمين وعدد خيلهم فذكر أنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل معهم ستة وثلاثون فرساً.
وتختلف الروايات في مدة حصاره لبني قريظة أكان شهراً أم خمساً وعشرين ليلة أم خمسة عشر يوماً أم بضع عشرة ليلة، وأقوى الأدلة تبين أنه كان خمساً وعشرين ليلة وتميل معظم كتب المغازي إلى ذكر هذه المدة تبعاً لرواية ابن إسحق.
نجاح الحصار ومصير بني قريظة:
ولما اشتد الحصار وعظم البلاء على بني قريظة، أرادوا الاستسلام والنزول على أن يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، وقد استشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر من الصحابة – وكان حليفاً لهم – فأشار إلى أن ذلك يعني ذبحهم.
وقد ندم على مشورته هذه وربط نفسه إلى إحدى سواري المسجد النبوي حتى قبلت توبته.
أما بنو قريظة فقبلوا النزول على حكم سعد بن معاذ، ورأوا أنه سيرأف بهم بسبب الحلف بينهم وبين قومه الأوس.
فجيء بسعد محمولا لأنه كان قد أصابه سهم في ذراعه يوم الخندق فقضى فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قضيت بحكم الله» وبذلك تبرأ سعد بن معاذ من حلف بني قريظة ولم يقع في نفوس الأوس شيء رغم تحالفهم مع بني قريظة وقرب عهدهم بالإسلام، فسيدهم سعد هو الذي حكم فيهم، وكان عدد مقاتلتهم الذين نفذوا فيهم الحكم أربعمائة، ونجا ثلاثة من بني قريظة بدخولهم في الإسلام فأحرزوا أنفسهم وأموالهم وربما نجا ثلاثة آخرون منهم بحصولهم على الأمان من بعض الصحابة أو لما أظهروه من وفاء بالعهد خلال الحصار، فقد وردت أخبار كثيرة في ذلك لكنها لا تبلغ درجة الاحتجاج بها، وقد حبس أسراهم في دار بنت الحارث، ثم نفذ القتل في سوق المدينة حيث حفرت أخاديد وقتلوا فيها بشكل مجموعات، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة كانت قتلت صحابياً هو خلاد بن سويد برحى ألقتها عليه.
أما الغلمان غير البالغين فقط أطلق سراحهم – وبعد إنفاذ حكم القتل في مقاتلة بني قريظة شرع في تقسيم أموالهم وذراريهم بين المسلمين وقد فصلت كتب المغازي كيفية تقسيم الأموال والذراري لكن ما ذكرته لا يرقى إلى درجة الاحتجاج به.
وقد اصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم ريحانة بنت عمرو بن خناقة من بين السبي لنفسه وهو قول ابن إسحق وابن سعد وغيرهم كثير وقال الواقدي ومن تابعه إنه تزوجها والأول أرجح.
وقد جنح بعض المؤرخين المعاصرين إلى نفي الروايات المتعلقة بالعقوبات التي واجهتها بنو قريظة وتضعيفها. بزعم أن إثباتها يجرح المشاعر الإنسانية ويخدم الدعاية الصهيونية، وليس الأمر كذلك فإن أوثق المصادر الإسلامية قد أثبتت وقوع ذلك، ولم تكن العقوبة الشديدة إلا جزاء للخيانة العظمى التي ارتكبها بنو قريظة عندما غدرت بالمسلمين وتبرأت من حلفهم بدل من أن تشترك معهم في الدفاع عن المدينة المنورة بموجب نصوص المعاهدة بين الطرفين.
وما زالت الدول تحكم بقتل الخونة المتواطئين مع الأعداء حتى في الوقت الحاضر.
وكان جزاء بني قريظة من جنس عملهم حين عرضوا بخيانتهم أرواح المسلمين للقتل وأموالهم للنهب ونساءهم وذراريهم للسبي، فكان أن عوقبوا بذلك جزاءا وفاقاً، وليس من داع للتنصل من حقائق التاريخ وتكذيب الروايات الصحيحة.