في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام.
ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، نقشه: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، هــكذا.
واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم العلامة المنصورفوري أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام. وفيما يلي نصوص هذه الكتب، وبعض ما تمخضت عنه.
1 ـ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة:
وهذا النجاشي اسمه أصْحَمَة بن الأبْجَر، كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضَّمْرِي في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع من الهجرة. وقد ذكر الطبري نص الكتاب، ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي، فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ: «وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر».
وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وهو هذا:
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله إلى النجاشي، الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبه ولا ولداً، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم تسلم، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك».
وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد الله ـ باريس ـ نص كتاب قد عثر عليه في الماضي القريب ـ بمثل ما أورده ابن القيم مع الاختلاف في كلمة فقط ـ وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهداً بليغاً، واستعان في ذلك كثيراً باكتشافات العصر الحديث، وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسي بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسي من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى».
وأكد الدكتور المحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي بعد الحديبية، أما صحة هذا النص فلا شك فيها بعد النظر في الدلائل، وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فلا دليل عليه، والذي أورد البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وأمراء النصاري بعد الحديبية، فإن فيه الآية الكريمة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ ...} إلخ، كما كان دأبه في تلك الكتب، وقد ورد فيه اسم الأصحمة صريحاً، وأما النص الذي أورده الدكتور حميد الله، فالأغلب عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته، ولعل هذا هو السبب في ترك الاسم.
وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية التي تؤديها نصوص هذه الكتب. والعجب من الدكتور حميد الله أنه جزم بأن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا النص صريحاً، والعلم عند الله.
ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أخذه النجاشي، ووضعه على عينه، ونزل عن سريره على الأرض، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاك نصه:
[بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسي، فورب السماء والأرض إن عيسي لا يزيد على ما ذكرت تُفْرُوقا، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابك، فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفراً ومن معه من مهاجري الحبشة، فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فقدم بهم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر.
وتوفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجرة بعد تبوك، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، وصلي عليه صلاة الغائب، ولما مات وتخلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً آخر، ولا يدري هل أسلم أم لا؟.
2 ـ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر:
وكتــب النبــي صلى الله عليه وسلم إلى جُرَيْج بـن مَتَّي الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية:
«بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبــط، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}»
واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بَلْتَعَة. فلما دخل حاطب على المقوقس قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك.
فقال المقوقس: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه.
فقال حاطب: ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سِواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصاري، ولعمري ما بشارة موسي بعيسي إلا كبشارة عيسي بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدرك قوماً فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به.
فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه. ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوي، وسأنظر.
وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعله في حُقِّ من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد:
فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلام عليك).
ولم يزد على هذا ولم يسلم، والجاريتان مارية، وسيرين، والبغلة دُلْدُل، بقيت إلى زمن معاوية ، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مارية سرية له، وهي التي ولدت له إبراهيم. وأما سيرين فأعطاها لحسان بن ثابت الأنصاري.
3 ـ الكتاب إلى كسرى ملك فارس:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فـارس، سـلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك».
واختار لحمل هذا الكتاب عبد الله بن حذافة السهمي، فدفعه السهمي إلى عظيم البحرين، ولا ندري هل بعث به عظيم البحرين رجلاً من رجالاته، أم بعث عبد الله السهمي، وأيّا ما كان فلما قرئ الكتاب على كسرى مزقه، وقال في غطرسة: عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مزق الله ملكه»، وقد كان كما قال، فقد كتب كسرى إلى بَاذَان عامله على اليمن: ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به. فاختار باذان رجلين ممن عنده، أحدهما: قهرمانه بانويه، وكان حاسباً كاتباً بكتاب فارس. وثانيهما: خرخسرو من الفرس ، وبعثهما بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن ينصرف معهما إلى كسري، فلما قدما المدينة، وقابلا النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحدهما: إن شاهنشاه [ملك الملوك] كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه بك، وبعثني إليك لتنطلق معي، وقال قولاً توعده فيه، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاقياه غداً.
وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقد قام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله، وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادي الأولي سنة سبع ، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الوحي، فلما غدوا عليه أخبرهما بذلك. فقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر، أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك. قال: «نعم أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى ! وينتهي إلى منتهي الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء»، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر، وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيرويه لأبيه، وقال له شيرويه في كتابه: انظر الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك، فلا تهجه حتى يأتيك أمري.
وكان ذلك سبباً في إسلام باذان ومن معه من أهل فارس باليمن.
4 ـ الكتاب إلى قيصر ملك الروم:
روى البخاري ـ ضمن حديث طويل ـ نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم هرقل، وهو هذا:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}» [آل عمران: 64].
واختار لحمل هذا الكتاب دَحْيَة بن خليفة الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري، ليدفعه إلى قيصر، وقد روي البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، كانوا تجاراً بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء ، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذباً لكذبت عليه.
ثم قال: أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه: قلت: لا. قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها ـ قال: ولم تمكنني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة ـ قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: «اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم»، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا. قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا. فقلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا، قال: فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كَبْشَة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر ، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام.
هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر، وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة الكلبي، حامل كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بمال وكسوة، ولما كان دحية بحِسْمَي في الطريق لقيه ناس من جُذَام، فقطعوها عليه، فلم يتركوا معه شيئاً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بيته، فأخبره، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمي، وهي وراء وادي القري، في خمسمائة رجل، فشن زيد الغارة على جذام، فقتل فيهم قتلاً ذريعاً، واستاق نَعَمهم ونساءهم، فأخذ من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف، والسبي مائة من النساء والصبيان.
وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبيلة جذام موادعة، فأسرع زيد بن رِفَاعة الجذامي أحد زعماء هذه القبيلة بتقديم الاحتجاج إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسلم هو ورجال من قومه، ونصروا دحية حين قطع عليه الطريق فقبل النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وأمر برد الغنائم والسبي.
وعامة أهل المغازي يذكرون هذه السرية قبل الحديبية، وهو خطأ واضح، فإن بعث الكتـاب إلى قيـصر كـان بعد الحديبية ؛ ولذا قال ابن القيم: هذا بعد الحديبية بلا شك.
5 ـ الكتاب إلى المنذر بن سَاوِي:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي حاكم البحرين كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث إليه العلاء بن الحضرمي بذلك الكتاب، فكتب المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[أما بعد، يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث إلى في ذلك أمرك].
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطيع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيراً، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب، فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك. ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية».
6 ـ الكتاب إلى هَوْذَة بن على صاحب اليمامة:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن على صاحب اليمامة:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهي الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك».
واختار لحمل هذا الكتاب سَلِيط بن عمرو العامري، فلما قدم سليط على هوذة بهذا الكتاب مختوماً أنزله وحياه، وقرأ عليه الكتاب، فرد عليه رداً دون رد، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: [ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك]، وأجاز سليطاً بجائزة، وكساه أثواباً من نسج هجر.
فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه فقال: «لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت، باد، وباد ما في يديه». فلما انصرف رسول الله من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبي، يقتل بعدي»، فقال قائل: يا رسول الله، من يقتله؟ فقال: «أنت وأصحابك»، فكان كذلك؟.
7 ـ الكتاب إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني صاحب دمشق:
كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقي لك ملكك».
واختار لحمل هذا الكتاب شجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة، ولما أبلغه الكتاب رمي به وقال: [من ينزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه]، ولم يسلم. واستأذن قيصر في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فثناه عن عزمه، فأجاز الحارث شجاع بن وهب بالكسوة والنفقة، ورده بالحسني.
8 ـ الكتاب إلى ملك عُمَان:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم كـتاباً إلى ملـك عمان جَيْفَر وأخيه عبد ابني الجُلَنْدَي، ونصه:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدي، أما بعد:
فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما [أن تقرا بالإسلام] فإن ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما».
واختار لحمل هذا الكتاب عمرو بن العاص رضي الله عنه قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد ـ وكان أحلم الرجلين، وأسهلهما خلقاً ـ فقلت: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: يا عمرو، إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة. قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام. قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريباً. فسألني أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم. قال: وكيف صنع قومه بملكه؟ فقلت: أقروه واتبعوه. قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب. قلت: ما كذبت، وما نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي.قلت: بلي، قال: فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجاً، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال: لا والله لو سألني درهما واحداً ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له اليَنَّاق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجاً، ويدين بدين غيرك ديناً محدثاً؟ قال هرقل: رجل رغب في دين، فاختاره لنفسه، ما أصنع به؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع. قال: انظر ما تقول يا عمرو؟ قلت: والله صدقتك.
قال عبد: فأخبرني ما الذي يأمر به وينهي عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل وينهي عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهي عن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصدق به، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنباً. قلت: إنه إن أسلم مَلَّكَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فيردها على فقيرهم. قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات في الأموال، حتى انتهيت إلى الإبل. قال: يا عمرو، وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعي الشجر وترد المياه؟ فقلت: نعم، فقال: والله ما أري قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون لهذا.
قال: فمكثت ببابه أياماً، وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يوماً فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي فقال: دعوه، فأرسلت فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوماً، ففض خاتمه، وقرأ حتى انتهي إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرق منه، قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه، إما راغب في الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدي الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحداً بقي غيرك في هذه الحَرجَة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتبعته توطئك الخيل وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، قال: دعني يومي هذا، وارجع إلى غداً.
فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو، إني لأرجو أن يسلم إن لم يَضِنَّ بملكه، حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبي أن يأذن لي. فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلاً ما في يدي، وهو لاتبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله لقيت قتالاً ليس كقتال من لاقي. قلت: أنا خارج غداً، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إلى، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعاً، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم، وخليا بيني وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عوناً على من خالفني.
وسياق هذه القصة تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيراً عن كتب بقية الملوك، والأغلب أنه كان بعد الفتح.
وبهذه الكتب كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك الأرض، فمنهم من آمن به ومنهم من كـفر، ولكن شغل فكره هؤلاء الكافرين، وعرف لديهم باسمه ودينه.