قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَلَغَ كَعْبًا الْكِتَابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ، وَأَشْفَقَ …
عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ فِي حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، فَقَالُوا: هُوَ مَقْتُولٌ. فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بُدًّا، قَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ، مِنْ جُهَيْنَةَ، كَمَا ذُكِرَ لِي، فَغَدَا بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَشَارَ لَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ، فَقُمْ إلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ. فَذُكِرَ لِي أَنَّهُ قَامَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَلَسَ إلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْكَ تَائِبًا مُسْلِمًا، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إنْ أَنَا جِئْتُكَ بِهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “نَعَمْ“، قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنَّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي وَعَدُوَّ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “دَعْهُ عَنْكَ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا، نَازِعًا (عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ )” . قَالَ فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ، لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَّا بِخَيْرِ، فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي قَالَ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مُتَبْولُ … مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا … إلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
هَيْفَاءُ مُقْبِلَةً عَجْزَاءُ مُدْبِرَةً … لَا يُشْتَكَى قِصَرٌ مِنْهَا وَلَا طُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ … كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
شُجَّتْ بِذِي شَيَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ … صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ … مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ بيض يعاليل
قيالها خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ … بِوَعْدِهَا أَوْ لَوَ انَّ النَّصْحَ مَقْبُولُ
لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمهَا … فجع وولع وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ
فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا … كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ
وَمَا تَمَسَّكُ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ … إلَّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ
فَلَا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ … إنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا … وَمَا مَوَاعِيدُهَا إلَّا الْأَبَاطِيلُ
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدَّتُهَا … وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ
أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلِّغُهَا … إلَّا الْعِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ
وَلَنْ يُبَلِّغَهَا إلَّا عُذَافِرَةٌ … لَهَا عَلَى الْأَيْنِ إرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ
مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إذَا عَرِقَتْ … عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ
تَرْمِي الْغُيُوبَ بِعَيْنَيْ مُفْرِدٍ لَهَقٍ … إذَا تَوَقَّدَتْ الْحِزَّانُ وَالْمِيلُ
ضَخْمٌ مُقَلَّدُهَا فَعْمٌ مُقَيَّدُهَا … فِي خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الْفَحْلِ تَفْضِيلُ
غَلْبَاءُ وَجْنَاءُ عُلْكُومٌ مُذَكَّرَةٌ … فِي دَفِّهَا سَعَةٌ قُدَّامُهَا مِيلُ
وَجِلْدُهَا مِنْ أُطُومٍ مَا يُؤَيِّسُهُ … طِلْحٌ بِضَاحِيَةِ الْمَتْنَيْنِ مَهْزُولُ
حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجَّنَةٍ … وَعَمُّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ
يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُزْلِقُهُ … مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ
عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنَّحْضِ عَنْ عُرُضٍ … مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزَّوْرِ مَفْتُولُ
كَأَنَّمَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا … مِنْ خَطْمِهَا وَمِنْ اللَّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ
تَمُرُّ مِثْلَ عَسِيبِ النَّخْلِ ذَا خُصَلٍ … فِي غَارِزٍ لَمْ تَخَوَّنْهُ الْأَحَالِيلُ
قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا … عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ
تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاحِقَةٌ … ذَوَابِلٍ مَسُّهُنَّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ
سُمْرِ الْعُجَايَاتِ يَتْرُكْنَ الْحَصَى زِيَمًا … لَمْ يَقِهِنَّ رُءُوسَ الْأُكْمِ تَنْعِيلُ
كَأَنَّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا وَقَدْ عَرِقَتْ … وَقَدْ تَلَفَّعَ بِالْقُورِ الْعَسَاقِيلُ
يَوْمًا يَظَلُّ بِهِ الْحِرْبَاءُ مُصْطَخِدًا … كَأَنَّ ضَاحِيَهُ بِالشَّمْسِ مَمْلُولُ
وَقَالَ لِلْقَوْمِ حاديهم وَقد جنلت … وُرْقُ الْجَنَادِبِ يَرْكُضْنَ الْحَصَا قِيلُوا
شَدَّ النَّهَارِ ذِرَاعَا عَيْطَلٍ نَصَفٍ … قَامَتُ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ
نَوَّاحَةٍ رِخْوَةِ الضَّبْعَيْنِ لَيْسَ لَهَا … لَمَّا نَعَى بِكْرَهَا النَّاعُونَ مَعْقُولُ
تَفْرِى اللَّبَانَ بِكَفَّيْهَا وَمِدْرَعُهَا … مُشَقَّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
تَسْعَى الْغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمْ … إنَّكَ يَا بْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَقَالَ كُلُّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ … لَا أُلْهِيَنَّكَ إنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُمْ … فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ … يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُول الله أَو عدني … وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاك نَافِلَة … الْقُرْآن فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ … أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ … أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ
لَظَلَّ يَرْعَدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ … مِنْ الرَّسُولِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَنْوِيلُ
حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِي مَا أُنَازِعُهُ … فِي كَفِّ ذِي نَقِمَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ
فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إذْ أُكَلِّمُهُ … وَقِيلَ إنَّكَ مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرَاءِ الْأَرْضِ مُخْدَرُهُ … فِي بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا … لَحْمُ مِنْ النَّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلُّ لَهُ … أَنْ يَتْرُكَ الْقِرْنَ إلَّا وَهُوَ مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الْجَوِّ نَافِرَةً … وَلَا تَمَشَّى بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ
وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ … مُضَرَّجُ الْبَزِّ وَالدُّرْسَانِ مَأْكُولُ
إنَّ الرَّسَولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ … مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ
فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ … بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفُ … عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ
شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالُ لَبُوسُهُمْ … مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ … كَأَنَّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمْ … قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إذَا نِيلُوا
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ … ضَرْبٌ إذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
لَا يَقَعَ الطَّعْنُ إلَّا فِي نُحُورِهِمْ … وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ بَعْدَ قُدُومِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ. وَبَيْتُهُ: «حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا» وَبَيْتُهُ: «يَمْشِي الْقُرَادُ» ، وَبَيْتُهُ: «عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ» ، وَبَيْتُهُ: «تُمِرُّ مِثْلَ عَسِيبِ النَّخْلِ» ، وَبَيْتُهُ:
«تَفْرِي اللَّبَانَ» ، وَبَيْتُهُ: «إذَا يُسَاوِرُ قِرْنَا» ، وَبَيْتُهُ: «وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ» :
عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.