هذه آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه …
وكان رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من عمرته بعد حصار الطائف كما ذكرنا في آخر ذي القعدة من سنة ثمان.
فأقام بالمدينة ذا الحجة، والمحرم، وصفرا، وربيعا الأول، وربيعاً الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة. فلما كان في رجب من سنة تسع من الهجرة، أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو الروم؛ وذلك في حر شديد حين طاب أول الثمر، وفي عام جدب.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يكاد يغزو إلى وجه إلا ورى بغيره، إلا غزوة تبوك، فإنه صلى الله عليه وسلم بينها للناس، لمشقة الحال فيها، وبعد الشقة، وقوة العدو المقصود. فتأخر الجد بن قيس أخو بني سلمة وكان متهماً، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقاء، وهو غنى قوى، فأذن له وأعرض عنه، ففيه نزلت: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} الآية [سورة التوبة، الآية: 49] .
وكان نفر من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، عند جاسوم يثبطون الناس عن الغزو. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر، وأمرهم ن يحرقوا عليهم البيت، ففعل ذلك طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة، وكان في البيت، فوقع فانكسرت رجله. وفر أيضاً ابن أبيرق، وكان معهم.
وأنفق ناس كثير من المسلمين واحتسبوا. فأنفق عثمان رضي الله عنه نفقة عظيمة، روى أنه حمل في هذه الغزوة على تسعمائة بعير، ومائة فرس، وجهز ركابها، حتى لم يفقدوا عقالاً ولا شكالاً . وروى أيضاً أنه أنفق فيها ألف دينار.
وهذه الغزوة أتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم البكاؤون، وهم سبعة: سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف، وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وقيل: هو عبد الله بن عمرو المزني، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض ابن سارية الفزاري. فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوا عنده ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون. فذكر أن ابن يامين بن عمرو بن كعب النضري حمل أبا ليلى وعبد الله بن مغفل على ناضح له يعتقبانه وزودهما تمراً .
واعتذر المخلفون من الأعراب، فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونهض عليه صلوات الله وسلامه، واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة، وقيل: بل سباع بن عرفطة، وقيل: بل علي بن أبي طالب.
وضرب عبد الله بن أبي ابن سلول عسكره بناحية غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عسكره فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين؛ وهذا باطل، لأنه لم يتخلف معه إلا ما بين السبعين إلى الثمانين فقط، وإنما وقع هذا في يوم أحد، وفيه أيضاً نظر؛ وقد قيل: إنه لم يكن يومئذ من معه أقل العسكرين. والصحيح: أنه كان في دون ما معه صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وأما من كان مع عبد الله بن أبي في غزوة تبوك، ممن تخلف معه بعد مسيره عليه السلام، فأهل النفاق وأصحاب الريب في العدة المذكورة.
وخطر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر بلاد ثمود، فأمرهم أن لا يتوضأ أحد من مائهم، ولا يعجنوا منه، وما عجنوا منه فليعلفوه الإبل، وأمرهم أن يستعملوا في كل ذلك من ماء بئر الناقة، وأمر أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إلا أن يدخلوها باكين.
ونهاهم صلى الله عليه وسلم أن يخرج أحد منهم منفردا دون صاحبه، فخرج رجلان من بني ساعدة متفرقين، أحدهما للغائط، فخنث على مذهبه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له فشفى. والآخر خرج في طلب بعير له فرمته الريح في أحد جبلي طيء، فردته طيء بعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعطش الناس في هذه الغزوة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، فأرسل سبحانه سحابة فأمطرت.
وأضل عليه السلام ناقته، فقال بعض المنافقين: محمد يدعي أنه يعلم خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته فأتى الوحي بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع ناقته، فأخبر أصحابه بذلك، وابتدروا المكان الذي وصف، فوجدوها هنالك. قيل: إن قائل هذا القول زيد بن اللصيت القينقاعي، وكان منافقا، وقيل: إنه تاب بعد ذلك، وقيل: لم يتب.
وفي هذه الغزوة ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقد رأى أبا ذر يتبع أثر الجيش قاصدا اللحاق به صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويعث وحده». وكان كذلك كما قال صلى الله عليه وسلم.
وفضح الله تعالى بالوحي قوما من المنافقين، فتوا في أعضاد المسلمين بالتخذيل لهم، فتاب منهم مخشن بن حمير، ودعا إلى الله تعالى أن يكفر عنه بشهادة يخفي بها مكانه، فقتل يوم اليمامة، ولم يوجد له أثر.
وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم يحنة بن رؤبة صاحب أيلة على الجزية.
وبعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك الكندي، صاحب دومة، وأخبره أنه يجده يصيد البقر، فاتفق أن قرب خالد، من حصن أكيدر في الليل، وقد أرسل الله تعالى بقر الوحش، فباتت تحك القصر بقرونها، فنشط أكيدر ليصيدها، فخرج في الليل، فأخذه خالد، فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنه ورده وصالحه على الجزية.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة ، ولم يتجاوزها.
وكان في طريقه ماء قليل، فنهى أن يسبق أحد إلى الماء، فسبق رجلان فاستنفدا ماءه، فسبهما صلى الله عليه وسلم، ثم وضع يده فيه وتوضأ بماء يبض منه، ثم صبه ودعا بالبركة، فجاشت بماء عظيم غزير، كفى الجيش كله. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك الموضع يصير جنانا، فكان كذلك.
وفي منصرفه صلى الله عليه وسلم أمر بهدم مسجد الضرار. وأمر مالك ابن الدخشم أخا بني سالم، ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان بهدم المسجد وحرقه. فدخل مالك بن الدخشم منزله فأخرج منه شعلة نار، فأحرقا المسجد وهدماه.
كان الذين بنوه:
خذام بن خالد، من بني عبيد بن زيد، أحد بني عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الضرار.
ومعتب بن قشير، من بني ضبيعة بن زيد.
وأبو حبيبة بن الأزعر، من بني ضبيعة بن زيد.
وعباد بن حنيف، من بني عمرو بن عوف.
وجارية بن عامر، وابناه: مجمع بن جارية، وزيد بن جارية.
ونبتل بن الحارث، من بني ضبيعة.
وبخرج، من بني ضبيعة.
وبجاد بن عثمانن من بني ضبيعة.
ووديعة بن ثابت، من بني زيد.
وقد ذكر بعضهم فيه: ثعلبة بن حاطب، وهذا خطأ، لأن ثعلبة بدري.
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم مساجد بين تبوك والمدينة مسماة :
مسجد تبوك، ومسجد بثينة مدران ، ومسجد بذات الزراب، ومسحج بالأخضر، ومسجد بذات الخطمي، ومسجد بألاء ، ومسجد بطرف البتراء من ذنب كواكب ، ومسجد بشق تارا، ومسجد بذي الجيفة ، ومسجد بصدر حوضي، ومسجد بالحجر، ومسجد بالصعيد، ومسجد بوادي القرى، ومسجد بالرقعة في شقة بني عذرة، ومسجد بذي المروة ، ومسجد بالفيفاء، ومسجد بذي خشب .
وفي هذه الغزاة تخلف كعب بن مالك من بني سلمة، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية الواقفي، وكانوا صالحين، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم مدة خمسين يوماً، ثم نزلت توبتهم.
وكان المتخلفون لسوء نياتهم من أهل المدينة نيفاً وثمانين رجلاً.
وكان رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك في رمضان سنة تسع.