وهم قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ رضي الله عنه كما تقدم لما رجع رسول الله صلى الله عليه …
وسلم من الخندق وكان وقت الظهيرة، أي وقد صلى الظهر، ودخل بيت عائشة رضي الله عنها، وقيل زينب بنت جحش رضي الله عنها ودعا بماء، فبينما هو صلى الله عليه وسلم يغتسل: أي غسل شق رأسه الشريف، وفي رواية بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغسل يرجل رأسه قد رجل أحد شقيه. أي وفي رواية: غسل رأسه واغتسل ودعا بالمجمرة ليتبخر أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم معتجرا بعمامة: أي سوداء من استبرق، وهو نوع من الديباج، مرخيا منها بين كتفيه، وفي رواية عليه لأمته ولا معارضة، لأنه يجوز أن يكون الاعتجار بالعمامة على تلك اللامة وهو على بغلة أي شهباء، عليها قطيفة: وهي كساء له وبر من ديباج أي أحمر.
وفي رواية: جاءه على فرس أبلق، فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: «نعم»، قال جبريل عليه السلام: ما وضعت السلاح. وفي رواية: ما وضعت ملائكة الله السلاح بعد. قال: وفي رواية أنه قال: يا رسول الله ما أسرع ما حللتم، عذيرك من محارب عفا الله عنك: أي من يعذرك. وفي لفظ: غفر الله لك، أو قد وضعتم السلاح قبل أن تضعه الملائكة؟ فقال رسول الله: «نعم»، قال: فو الله ما وضعناه. وفي لفظ: ما وضعت الملائكة السلاح منذ نزل بك العدوّ؛ وما رجعنا الآن إلا من طلب القوم يعني الأحزاب حتى بلغنا الأسد انتهى: أي حمراء الأسد، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم، زاد في رواية: بمن معي من الملائكة، فمزلزل بهم الحصون، زاد في رواية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في أصحابي جهدا فلو نظرتهم أياما»، فقال جبريل عليه السلام: اهض إليهم، فو الله لأدقنهم كدق البيض على الصفا، ولأدخلن فرسي هذا عليهم في حصونهم ثم لأضعضعنها، فأدبر جبريل عليه السلام ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم، وهم طائفة من الأنصار.
وفي البخاري عن أنس، قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم، موكب جبريل عليه السلام حين سار لبني قريظة، والموكب بكسر الكاف؛ اسم لنوع من السير.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بينما هو عندي إذ دق الباب، أي وفي رواية: نادى مناد: أي في موضع الجنائز: عذيرك من محارب أي من يعذرك، فارتاع لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي فزع، ووثب وثبة منكرة، وخرج فخرجت في أثره، فإذا رجل على دابة والنبي صلى الله عليه وسلم متكىء على معرفة الدابة يكلمه فرجعت، فلما دخل قلت: من ذلك الرجل الذي كنت تكلمه؟ قال: «ورأيته؟» قلت نعم، قال: «بمن تشبهينه؟» قلت بدحية الكلبي، قال: «ذاك بكسر الكاف جبريل عليه السلام، أمرني أن أمضي إلى بني قريظة» أي وهذا يؤيد أنه صلى الله عليه وسلم كان عند منصرفه من الخندق في بيت عائشة، وأبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا: أي وهو بلال كما في سيرة الحافظ الدمياطي، فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر، أي وفي رواية: الظهر إلا ببني قريظة.
قال في النور: والجمع بينهما أن الأمر بعد دخول وقت الظهر بالمدينة وقد صلى بعضهم دون بعض، فقيل للذين لم يصلوا الظهر لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة، وقيل للذين صلوها لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة.
وفي رواية: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ «يا خيل الله؟ أي يا فرسان خيل الله اركبي». ثم سار إليهم قال، وقد لبس صلى الله عليه وسلم السلاح الدرع والمغفر والبيضة، وأخذ قناة بيده الشريفة، وتقلد السيف، وركب فرسه اللجيف بالضم، وقيل ركب حمارا وهو اليعفور عريانا، والناس حوله قد لبسوا السلاح وركبوا الخيل، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرسا، له صلى الله عليه وسلم منها ثلاثة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إلى بني قريظة.
أي وفي رواية دفع إليه لواءه، وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه من الخندق، ومر صلى الله عليه وسلم بنفر من بني النجار قد لبسوا السلاح. فقال: هل مرّ بكم أحد قالوا: نعم، دحية الكلبي مرّ على بغلة بيضاء.
أي وفي رواية: على فرس أبيض عليه اللامة، وأمرنا بحمل السلاح، وقال لنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عليكم الآن فلبسنا سلاحنا وصففنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك جبريل عليه السلام، بعث إلى بني قريظة ليزلزل حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم»
فلما دنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من الحصن، أي ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، وغرز اللواء عند أصل الحصن، سمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه صلى الله عليه وسلم أي وحق أزواجه، أي فسكت المسلمون وقالوا: السيف بيننا وبينكم، فلما رأى علي كرم الله وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا أمر أبا قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن يلزم اللواء، ورجع إليه صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: «لعلك سمعت منهم لي أذى»، قال نعم يا رسول الله قال «لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا».
فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم: قال «يا إخوان القردة هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته؟» قال: وفي رواية نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم وقال: «أجيبوا يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت»: أي وهو ما عبد من دون الله كما تقدم، هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته؟ أتشتموني، فجعلوا يحلفون ويقولون ما قلنا اهـ ويقولون: يا أبا القاسم ما كنت جهولا، أي وفي لفظ: ما كنت فاحشا.
وفي رواية: تقدمه صلى الله عليه وسلم إلى يهود أسيد بن حضير رضي الله عنه، فقال لهم: «يا أعداء الله لا تبرحوا من حصنكم حتى تموتوا جوعا، إنما أنتم بمنزلة ثعلب في جحر»، فقالوا: يابن الحضير نحن مواليك وخاروا: أي خافوا، قال: «لا عهد بيني وبينكم».
وتقدم أسيد إلى بني قريظة يجوز أن يكون قبل مقدم عليّ لهم، ويجوز أن يكون بعده.
وإنما قال لهم: «يا إخوان القردة والخنازير»، لأن اليهود مسخ شبانهم قردة وشيوخهم خنازير عند اعتدائهم يوم السبت بصيد السمك، وقد حرم عليهم ذلك كسائر الأعمال. وقد أمرهم أن يتفرغوا لعبادة ربهم في ذلك اليوم، وكان ذلك في زمن داود عليه السلام فلما مسخوا خرجوا من تلك القرية هائمين على وجوههم متحيرين، فمشوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون، ثم ماتوا، وهذا دليل لمن يقول إن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولم يحصل منه توالد ولا تناسل.
وفي الكشاف؛ قيل إن أهل أيلة: أي وهي قرية بين مصر ومدين لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام: اللهم العنهم واجعلهم للناس آية، فمسخوا قردة.
ولما كفر أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام بعد المائدة، قال عيسى: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي، هذا كلامه فليتأمل، فمكثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون فماتوا.
ثم إن جماعة من الصحابة شغلهم ما لم يكن لهم منه بدّ عن المسير لبني قريظة ليصلوا بها العصر، فأخروا صلاة العصر إلى أن جاؤوا بعد عشاء الآخرة، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يصلين العصر إلا في بني قريظة» فصلوا العصر بها بعد عشاء الآخرة. أي وبعضهم قال: نصلي، ما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أي ندع الصلاة ونخرجها عن وقتها، وإنما أراد الحث على الإسراع فصلوها في أماكنهم، ثم ساروا فما عابهم الله في كتابه ولا عنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لأن كلا من الفريقين تأول.
قال في الهدى: كل من الفريقين مأجور بقصده، إلا أن من صلى حاز الفضيلتين ولم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر، وهو دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب.
وادعى ابن التين رحمه الله أن الذين صلوا العصر صلوها على ظهور دوابهم.
قال لأنهم لو صلوا نزولا لكان مضادة لما أمروا به من الإسراع، ولا يظن ذلك مع تقرب أفهامهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه نظر، لأنه لم يأمرهم بترك النزول، ولم أر أنهم صلوا ركبانا في شيء من طرق القصة. والتعليل بالإسراع يقتضي أنهم صلوا على ظهور دوابهم سائرة لا واقفة.
وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة خمسا وعشرين ليلة، وقيل خمسة عشر يوما، أي وقيل شهرا، وكان طعام الصحابة التمر يرسل به إليهم سعد بن عبادة رضي الله عنه: أي يجاء به من عنده. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ «نعم الطعام التمر» حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة حصنهم حين رجعت الأحزاب وفاء لكعب بما كان عاهده عليه، أي كما تقدم، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم أي يقاتلهم.
قال كبيرهم كعب بن أسيد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا أيها شئتم، قالوا وما هي؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم ونسائكم وأبنائكم. قال: وزاد في لفظ آخر: وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب حيث لم يكن من بني إسرائيل، ولقد كنت كارها لنقض العهد، ولم يكن البلاء والشؤم إلا من هذا الجالس، يعني حيي بن أخطب، أتذكرون ما قال لكم ابن خراش حين قدم عليكم؟ إنه يخرج بهذه القرية نبي فاتبعوه وكونوا له أنصارا، وتكونوا آمنتم بالكتابين الأول والآخر اهـ أي التوراة والقرآن.
أي وكانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم ويعلمون الولدان صفته، وأن مهاجرة المدينة.
وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال: كانت يهود بني قريظة وبني النضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وأن دار هجرته المدينة، ولما قال لهم كعب ذلك، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره. قال كعب: فإذا أبيتم على هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، ولم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا: أي ولدا يخشى عليه، وإن نظفر فلعمري لنجدن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟ قال فإن أبيتم على هذه، فإن الليلة ليلة السبت وأن عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة: أي غفلة، فقالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت وأصابه ما لم يخف عليك من المسخ. قال: وقال لهم عمرو بن سعدي: قد خالفتم محمدا فيما حالفتموه: أي عاهدتموه عليه. ولم أشرككم في غدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية، وأعطوا الجزية، فو الله ما أدري يقبلها أم لا؟ قالوا: نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه، القتل خير من ذلك. قال فإني بريء منكم، وخرج في تلك الليلة، فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: من هذا؟ قال عمرو بن سعدي، قال مرّ، اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام وخلى سبيله، وبعد ذلك لم يدر أين هو؟ وقيل وجدت رمته؟ وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، فقال: ذلك رجل نجاه الله بوفاته.
وفي لفظ أنه قال لهم قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم لحصارهم: يا بني قريظة لقد رأيت عبرا، رأيت دار إخواننا يعني بني النضير خالية بعد ذلك العز والخلد والشرف والرأي الفاضل والعقل، تركوا أموالهم قد تملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل، لا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط ولله بهم حاجة. وقد أوقع ببني قينقاع، وكانوا أهل عدّة وسلاح ونخوة، فلم يخرج أحد منهم رأسه حتى سباهم، فكلم فيهم فتركهم على إجلائهم من يثرب، يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا فو الله إنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به علماؤنا. ثم لا زال يخوفهم بالحرب والسبي والجلاء، ثم أقبل على كعب بن أسيد، وقال: والتوراة التي أنزلت على موسى صلى الله عليه وسلم يوم طور سيناء إنه للعز والشرف في الدنيا.
فبينما هم على ذلك لم يرعهم إلا مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم قد حلت بساحتهم، فقال: هذا الذي قلت لكم، أي وبعد الحصار قيل أرسلوا بنباش بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير من أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويسلم لهم نساءهم والذرية. فأرسلوه ثانيا بأنه لا حاجة لهم بشيء من الأموال لا من الحلقة ولا من غيرها، فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاد نباش إليهم بذلك اهـ. ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث إلينا أبا لبابة أي وهو رفاعة بن المنذر لنستشيره في أمرنا، أي لأنه كان من حلفاء الأوس وبنو قريظة منهم.
وفي لفظ: وكان أبو لبابة مناصحا لهم، لأن ماله وولده وعياله كانت في بني قريظة فأرسله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش: أي أسرع إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه من شدة المحاصرة وتشتيت ما لهم، فرّق لهم وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم، وأشار بيده إلى حلقه: أي إنه الذبح.
أي وفي لفظ: ما ترى، إن محمدا قد أبى أن لا ننزل إلا حكمه، قال. فانزلوا وأومأ إلى حلقه.
ويروى أنهم قالوا له: ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ، فأومأ أبو لبابة بيده إلى حلقه أنه الذبح فلا تفعلوا. قال أبو لبابة رضي الله عنه فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله، أي لأن في ذلك تنفيرا لهم عن الانقياد له صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أنزل الله فيه {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ} [الأنفال: 27] الآية: أي وقيل نزل {وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] الآية، وهذا أثبت من الأوّل، وقد يقال: كلاهما نزل فيه تلك الآية في توجه اللوم عليه، وهذه في توبته.
لا يقال: هي ليست نصا في توبة الله عليه. لأنا نقول: الترجي في حقه تعالى أمر محقق.
وعن أبي لبابة رضي الله عنه: لما أرسلت بنو قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يرسلني إليهم، دعاني قال: اذهب إلى حلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس، فذهبت إليهم، فقام كعب بن أسيد فقال: يا أبا بشير قد عرفت ما بيننا. وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد لا يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنه لحقنا بأرض الشام أو خيبر، ولم نطأ له أرضا، ولم نكثر عليه جمعا أبدا، أما ترى قد اخترناك على غيرك، أننزل على حكم محمد؟ قال أبو لبابة نعم فانزلوا، وأومأ إلى حلقه بالذبح. قال: فندمت واسترجعت، فقال لي كعب: ما لك يا أبا لبابة؟ فقلت: خنت الله ورسوله، فنزلت وإن عيني لتسيل من الدموع. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتبط بالمسجد إلى عمود من عمده: أي وهي السارية، ويقال لها الأسطوانة: وهي التي كانت عند باب أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حر شديد، وقيل الأسطوانة المخلقة التي يقال لها أسطوانة التوبة، والأوّل أثبت، وكانت تلك الأسطوانة أكثر تنفله صلى الله عليه وسلم عندها، وكان ينصرف إليها من صلاة الصبح، فكان يستبق إليها الفقراء والمساكين ومن لا بيت له إلا المسجد، فيجيء إليهم صلى الله عليه وسلم ويتلو عليهم ما أنزل من ليلته ويحدثهم ويحدثونه، وكان ارتباطه بسلسلة ريوض أي ثقيلة. وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي مما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا، ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه. قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه.
هذا، وفي كلام البيهقي وأورده في الدر أن ارتباطه إنما كان لتخلفه عن تبوك.
فقد ذكر أنه لما أشار بيده إلى حلقه وأخبر عنه صلى الله عليه وسلم بذلك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحسبت أن الله غفل عن يدك حيث تشير إليهم بها إلى حلقك»، فلبث حينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عاتب عليه. ثم لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك كان أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رجع جاءه أبو لبابة يسلم عليه، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزع أبو لبابة وارتبط بالسارية.
واستغرب ذلك بعضهم، فقال: وأغرب من ادعى أن أبا لبابة إنما فعل ذلك لتخلفه عن غزوة تبوك.
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم فكتفوا وجعلوا ناحية، وكانوا ستمائة، وقيل سبعمائة وخمسين مقاتلا، وهو الذي تقدم عن حيي بن أخطب.
ولا يخالف هذا ما قيل إنهم كانوا بين الثمانمائة والسبعمائة. وقيل كانوا أربعمائة مقاتل.
ولا يخالف ما قبله، لأنه يجوز أن يكون ما زاد على ذلك كانوا أتباعا لا يعدون، وأخرج النساء والذراري من الحصون وجعلوا ناحية: أي وكانوا ألفا.
واستعمل عليهم عبد الله بن سلام فتواثبت الأوس. وقالوا: يا رسول الله موالينا وحلفاؤنا، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد فعلت، يعنون بني قينقاع، لأنهم كانوا حلفاء الخزرج، ومن الخزرج عبد الله بن أبي ابن سلول. وقد نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كلمه فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فوهبهم له على أن يجلوا كما تقدم، أي فظنت الأوس من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب لهم بني قريظة كما وهب بني قينقاع للخزرج، فلما كلمته الأوس أبي أن يفعل ببني قريظة ما فعل ببني قينقاع. ثم قال لهم: «أما ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم»؛ قالوا بلى، فقال: فذلك إلى سعد بن معاذ، أي وقيل إنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «اختاروا من شئتم من أصحابي»، فاختاروا سعد بن معاذ، أي وهو رضي الله عنه سيد الأوس حينئذ كما تقدم. وقيل إنهم قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه يومئذ في المسجد في خيمة رفيدة رضي الله عنها، وقد كان صلى الله عليه وسلم قال لقوم سعد بن معاذ حين أصابه السهم بالخندق، اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قرب، أي لأن رفيدة رضي الله عنها كان لها خيمة في المسجد تداوي فيها الجرحى من الصحابة ممن لم يكن له من يقوم عليه، فأتاه قومه فحملوه على حمار؛ ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون له: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فأحسن فيهم، فقد رأيت ابن أبيّ وما صنع في حلفائه، وهو ساكت، فلما أكثروا عليه، قال رضي الله عنه لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال بعضهم واقوماه.
فلما انتهى سعد رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين وهم حوله جلوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى سيدكم» أي زاد في رواية «فأنزلوه» فقال عمر رضي الله عنه: السيد هو الله. وفي رواية «إلى خيركم» أي معاشر المسلمين من المهاجرين والأنصار، أو معاشر الأنصار، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم. وفي رواية: فقمنا صفين يحييه كل رجل منا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحكم فيهم يا سعد»، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم. قال «قد أمرك الله أن تحكم فيهم»، فقال سعد: أي لمن في الناحية التي ليس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم كما حكمت. قالوا نعم، قال: وعلى من هاهنا مثل ذلك، وأشار إلى الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»، أي وفي لفظ: فقال سعد لبني قريظة: أترضون بحكمي، قالوا نعم. فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن الحكم ما حكم به. قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وفي لفظ: أن يقتل كل من جرت عليه الموسى، وتغنم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، زاد بعضهم: وتكون الديار للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار، إخواننا يعنون المهاجرين لنا معهم، فقال: إني أحببت أن يستغنوا عنكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» أي السموات السبع، قيل سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم.
وجاء في الصحيح «من فوق سبع سموات» والمراد أن شأن هذا الحكم العلوّ والرفعة «قد طرقني بذلك الملك سحرا» .
ثم أمر صلى الله عليه وسلم أن يجمع ما وجد في حصونهم من الحلقة والسلاح وغير ذلك فجمع، فوجد فيها ألف وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفي رمح، وخمسمائة ترس وحجفة ووجد أثاثا كثيرا، وآنية كثيرة، وأجمالا نواضح: أي يسقى عليها الماء، وماشية وشياها كثيرة، وخمس ذلك: أي مع النخل والسبي حتى الرثة: وهو السقط من أمتعة البيت خمسة أجزاء، ففضّ أربعة أسهم على الناس. فجعل للفارس ثلاثة أسهم، أي سهم له وسهمان لفرسه، والراجل سهما. قال بعضهم: وهو أوّل فيء وقعت فيه السهام. ورضخ للنساء اللاتي حضرن القتال، وهنّ صفية عمته صلى الله عليه وسلم، وأم عمارة، وأم سليط، وأم العلاء، والسيراء بنت قيس، وأم سعد بن معاذ، وكبشة بنت رافع ولم يسهم لهن، وأخذ هو صلى الله عليه وسلم جزآ وهو الخمس. وعبارة بعضهم: وهو أوّل فيء وقعت فيه السهمان، وخمس: أي جزىء خمسة أجزاء، وكتب في سهم لله، ثم أخذ ذلك السهم الذي خرج عليه وعلى سنته مضت قسمة الغنائم.
وفي كون هذا أوّل فيء جرت فيه السهمان نظر، إنما كان ذلك في بني قينقاع، فإن الفيء الحاصل منهم خمس خمسة أخماس، أخذ صلى الله عليه وسلم واحدا، والأربعة لأصحابه: أي ووجد جرار خمر فأهريق ولم يخمس، وهذا يدل على أن الخمر كانت محرمة قبل ذلك.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأسارى أن يكونوا في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والنساء والذرية في دار ابنة الحارث النجارية، أي لأن تلك الدار كانت معدودة لنزول الوفود من العرب.
وقيل في دار كبشة بنت الحارث بن كريز، كانت تحت مسيلمة الكذاب ثم خلف عليها عبد الله بن عامر بن كريز، وهذه إنما نزل في دارها وفد بني حنيفة كما سيأتي وبالمتاع أن يحمل، وترك المواشي هناك ترعى الشجر.
ثم غدا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق: أي حفر فيها حفائر. ثم أمر بقتل كل من أنبت، فبعث إليهم فجاؤوا إليه أرسالا، تضرب أعناقهم ويلقون في تلك الخنادق. وقد قال بعضهم لسيدهم كعب بن أسيد: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: في كل موطن لا تعقلون، أما ترون أن من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل، قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم عليّ قالوا ليس حين عتاب، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي وذلك ليلا على شعل السعف.
ثم ردّ عليهم التراب في تلك الخنادق، وعند قتلهم صاحت نساؤهم، وشقت جيوبها، ونشرت شعورها، وضربت خدودها، وملأت المدينة نواحا.
وكان من جملة من أتى معهم عدوّ الله حيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ألم يمكن الله منك يا عدوّ الله؟ قال بلى، أبي الله إلا تمكينك مني، أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل.
وفي كلام السهيلي رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم لما قال له: «ألم يمكن الله منك» فقال بلى، ولقد قلقنا كل مقلقل، ولكنه من يخذلك يخذل. فقوله يخذلك كقول الآخر في البيت:
ولكنه من يخذل الله يخذل
لأنه إنما نظم في البيت كلام حيي.
ثم أقبل على الناس، فقال: «أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة». أي قتال كتب الله على بني اسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. قال: ولما أتي بكعب بن أسد سيد بني قريظة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا كعب»، قال نعم يا أبا القاسم، قال: «ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدّقا بي، أما أمركم باتباعي وإن رأيتموني تقرؤوني منه السلام». قال: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكنه على دين يهود. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدم فيضرب عنقه ففعل به ذلك. أي وكان المتولي لقتلهم عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، والزبير بن العوام رضي الله عنه.
أقول في الإمتاع: وجاء سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر. فقالا: يا رسول الله إن الأوس قد كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: ما كرهه أحد من الأوس فيه خير، فمن كرهه فلا أرضاه الله، فقام أسيد بن حضير، فقال: يا رسول الله لا تبق دارا من دور الأوس إلا فرقتهم فيها، ففرقهم في دور الأنصار فقتلوهم هذا كلامه. والضمير في قتلوهم ظاهر في رجوعه للأوس، وأنهم المراد بالأنصار.
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون المراد بالأوس الذين كرهوا ذلك طائفة منهم، وأن تلك الطائفة قتلوا من بعث به إلى دورهم، وما عدا ذلك تعاطى قتله عليّ والزبير والله أعلم.
ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة أخرجت من بين النساء يقال لها نباتة، وقيل مزنة، كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد رضي الله عنه فقتلته بإرشاد زوجها، لأنه أحب أن لا تبقى بعده فيتزوّجها غيره.
وقد أسهم صلى الله عليه وسلم لخلاد بن سويد هذا، وقال: إن له أجر شهيدين، وأسهم لسنان بن محصن، وقد مات في زمن الحصار.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لم يقتل من نسائهم يعني بني قريظة إلا امرأة واحدة، قالت: والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا، أي وكانت جارية حلوة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجلها في السوق، أي لأنها دخلت على عائشة، وبنو قريظة يقتلون. إذ هتف هاتف باسمها أين نباتة، قالت: أنا والله؛ قالت عائشة: فقلت لها، ويلك ما لك؟ قالت: أقتل قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته، أي وفي لفظ قتلني زوجي. فقالت لها عائشة: كيف قتلك زوجك، قالت: أمرني أن ألقي رحى على أصحاب محمد كانوا تحت الحصن مستظلين في فيئة، فأدركت خلاد بن سويد فشدخت رأسه فمات وأنا أقتل به.
وفي لفظ آخر: إني كنت زوجة رجل من بني قريظة، وكان بيني وبينه كأشد ما يتحاب الزوجان، فلما اشتد أمر المحاصرة، قلت لزوجي: يا حسرتي على أيام الوصال، كادت أن تنقضي وتتبدل بليالي الفراق وما أصنع بالحياة بعدك؟ فقال زوجي: إنك صادقة في دعوى المحبة، تعالى فإن جماعة من المسلمين جالسون في ظل حصن. قال الزبير بن بطا وهو بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة فألقي عليهم حجر الرحا لعله يصيب واحدا منهم فيقتله، فإن ظفروا بنا فإنهم يقتلونك بذلك ففعلت، قالت: فانطلق بها فضرب عنقها فكانت عائشة رضي الله عنها تقول: والله ما ألقى عجبا منها، طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل.
وكان في بني قريظة الزبير بن بطا، وهو جد الزبير ابن ابنه عبد الرحمن وهو بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة كاسم جده. وقيل بضم الزاي وفتح المثناة، وهو قول البخاري في التاريخ، وكان شيخا كبيرا، وكان قد منّ على ثابت بن قيس في الجاهلية يوم بغاث، وهي الحرب التي كانت بين الأوس والخزرج قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان الظفر فيها للأوس على الخزرج آخرا كما تقدم أخذه فجزّ ناصيته، ثم خلى سبيله، فجاء ثابت رضي الله عنه للزبير، فقال له: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟ قال: فهل يجهل مثلي مثلك، قال: إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم، وأحوج ما كنت إليك اليوم. وعبد الرحمن هذا هو الذي تزوج امرأة رفاعة وشكته للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي معه كهدبة الثوب وأحبت طلاقه لها.
ثم أتى ثابت رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه كان للزبير عليّ منة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك فأتاه»، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ قال ثابت: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي امرأته وولده، فقال: «هم لك»، قال: فأتيته، فقلت: قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك، فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ما له، قال: «هو لك»، فأتيته فقلت له: قد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك فهو لك، فقال: أي ثابت، أما أنت فقد كافأتني، وقد قضيت الذي عليك، ما فعل بالذي كان وجهه مرآة مضيئة تتراءى منها عذارى الحي كعب بن أسد؟ أي سيد بني قريظة، قلت قتل، قال: فما فعل بسيد الحاضر والبادي: أي من يحملهم في الجدب، ويطعمهم في المحل حيي بن أخطب؟ قلت قتل. قال: فما فعل بمقدمتنا، بكسر الدال مشددة، إذا شددنا، وحامينا إذا فررنا عزال بالعين المهملة وتشديد الزاي ابن سموأل بالسين المهملة مفتوحة ومكسورة؟ قلت قتل، قال: فما فعل المجلسان بكسر اللام: محل الجلوس وبفتحها المصدر، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قلت قتلا، وفي لفظ قتلوا. قال: فإني أسألك يا ثابت بيدك عندي إلا ألحقتني بالقوم، فو الله ما بالعيش بعد هؤلاء من خير، أأرجع إلى دار قد كانوا حلولا فيها فأخلد فيها بعدهم، لا حاجة لي، فما أنا بصابر لله إفراغة دلو ناضح: أي مقدار الزمن الذي يفرغ فيه ماء الدلو. وفي رواية: فتلة دلو ناضج بالفاء والتاء المثناة فوق، وقيل بالقاف والباء الموحدة: أي مقدار ما يتناول المستسقي للدلو حتى ألقى الأحبة. قال ثابت: فقدمته فضربت عنقه.
أي وقيل إن ثابتا رضي الله عنه قال له ما كنت لأقتلك، فقال: لا أبالي من قتلني، فقتله الزبير بن العوام رضي الله عنه.
ولما بلغ أبا بكر رضي الله عنه مقالته: ألقى الأحبة، قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا.
قال في الأصل: وذكر أبو عبيدة هذا الخبر، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك أهله وماله إن أسلم» أي ولم يسلم، فكان أهله وماله من جملة الفيء، وكان القتل لكل من أنبت ومن لم ينبت يكون في السبي.
قال عطية القرظي رضي الله عنه كنت غلاما فوجدني لم أنبت فخلوا سبيلي، أي عن القتل، وكان رفاعة قد أنبت فأرادوا قتله، فلاذ بسلمى بنت قيس أم المنذر، وكانت إحدى خالاته صلى الله عليه وسلم: أي خالات جده عبد المطلب، لأنها من بني النجار، فقالت بأبي وأمي يا رسول الله هب لي رفاعة، فوهبه لها، أي فأسلم.
وقرت عين سعد بن معاذ رضي الله عنه بقتل بني قريظة حيث استجاب الله دعوته، فإنه سأل الله تعالى لما أصيب بالسهم في الخندق، وقال: لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة كما تقدم.
أي وفي بعض الروايات أن دعاءه رضي الله عنه بذلك، كان في الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقدم عن بعض الروايات.
أي ويجوز أن يكون رضي الله عنه دعا بذلك مرتين، وفي لفظ فدعا الله أن لا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة.
ويمكن أن يكون صاحب الهمزية رحمه الله أشار إلى سب بني قريظة له صلى الله عليه وسلم، ونهى بعض أشرافهم لهم عن نقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم، الذي سببه حيي بن خطب لعنه الله، واغترارهم بالأحزاب بقوله:
وتعدوا إلى النبي حدودا *** كان فيها عليهم العدواء
واطمأنوا بقول الأحزاب إخوا *** نهم إننا لكم أولياء
وبيوم الأحزاب إذا زاغت الأ *** بصار فيه وضلت الآراء
وتعاطوا في أحمد منكر القو *** ل ونطق الأراذل العوراء
كل رجس يزيده الخلق السو *** ء سفاها والملة العوجاء
فانظروا كيف كان عاقبة القو *** م وما ساق للبذيّ البذاء
وجد السب فيه سما ولم يد *** ر إذ الميم في مواضع باء
كان من فيه قتله بيديه *** فهو من سوء فعله الزباء أو هو النحل قرصها يجلب *** الحتف إليها وماله إنكاء
أي ولما انقضى شأن بني قريظة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم» فكان كذلك وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد انقضاء الأحزاب. وانفجر جرح سعد بن معاذ، أي الذي في يده وسال الدم واحتضنه صلى الله عليه وسلم فجعلت الدماء تسيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات منه وحمل إلى منزله ولم يعلم صلى الله عليه وسلم بموته، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم من الليل معتجرا بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا العبد الصالح، وفي لفظ: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟ وفي رواية عرش الرحمن: أي فتحت أبواب السماء لصعود روحه، واهتز العرش: أي تحرك فرحا بذلك. وقال النووي: اهتزاز العرش هو فرح الملائكة بقدوم روحه.
وفيه أن هذا لا يحتاج إليه إلا لو كان تحرك العرش مستحيلا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات.
وعن سلمة بن أسلم بن حريش رضي الله عنه. قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في البيت أحد إلا سعدا مسجى، فرأيته يتخطى وأومأ صلى الله عليه وسلم إليّ قف، فوقفت ورددت من ورائي وجلس صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم خرج فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت أحدا ورأيتك تتخطى، فقال: «ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه» .
أقول: قد وقع له صلى الله عليه وسلم نظير ذلك عند تشييعه لجنازة ثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري رضي الله عنه، فإنه صار يمشي على أطراف أنامله، فلما دفن قيل: يا رسول الله رأيناك تمشي على أطراف أناملك، قال: «والذي بعثني بالحق ما قدرت أن أضع قدمي من كثرة ما نزل من الملائكة لتشييعه»، وقصته مذكورة في السيرة الشامية.
ولما حملوا نعش سعد رضي الله عنه، وكان جسيما وجدوا له خفة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن له حملة غيركم؛ أي من الملائكة؛ لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدا: أي جنازته؛ ومنهم جملة ما وطؤوا الأرض إلا يومهم هذا».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال: كنت ممن حفر لسعد رضي الله عنه قبره؛ فكان يفوح علينا المسك؛ كلما حفرنا قبره من تراب.
وجاء «لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد ضم ضمة؛ ثم فرج الله عنه» وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال لما دفن سعد رضي الله عنه ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس معه؛ ثم كبر فكبر الناس معه؛ فقالوا: يا رسول الله لم سبحت؛ أي وكبرت؟ قال: «لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عنه» .
وجاء «إن بعض أهل سعد رضي الله عنه سئل: ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي في سبب تضايق القبر على سعد كما يرشد إليه جوابهم بقولهم، فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك، فقال: «كان يقصر في بعض الطهور من البول بعض التقصير» وهذا قد يخالف ما في الخصائص الصغرى: وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يضغط في قبره وكذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم يسلم من الضغطة صالح ولا غيره سواهم، وكذا ما في التذكرة للقرطبي إلا فاطمة بنت أسد ببركته صلى الله عليه وسلم، أي حيث اضطجع صلى الله عليه وسلم في قبرها. ويحتاج للجمع بينه وبين ما في الخصائص.
وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله ما انتفعت بشيء منذ سمعتك تذكر ضغطة القبر وضمته، فقال: «يا عائشة إن ضغطة القبر على المؤمن كضمة الأم الشفيقة يديها على رأس ابنها يشكو إليها الصداع، وضرب منكر ونكير عليه كالكحل في العين، ولكن يا عائشة ويل للشاكين الكفارين، أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطا يقبض على الصخر» أي وحينئذ يكون المراد بالمؤمن الذي هذا شأنه الذي لم يحصل منه تقصير، فلا ينافي ما تقدم عن سعد فليتأمل. وقد روى البيهقي رحمه الله «أنه صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ رضي الله عنه بين العمودين» وبه استدلّ أئمتنا على أن ذلك أفضل من حمل الجنازة بالتربيع الذي اعتاده الناس الآن ومشى صلى الله عليه وسلم أمام جنازته، ثم صلى عليه. وجاءت أمه رضي الله عنها ونظرت إليه في اللحد، وقالت: أحتسبك عند الله؛ وعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على قدميه على القبر، فلما سوى التراب على قبره رش عليه الماء، ثم وقف صلى الله عليه وسلم ودعا ثم انصرف وناحت عليه أمه، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل نائحة تكذب إلا نائمة سعد بن معاذ رضي الله عنه» . أي فإنه رضي الله عنه موصوف بكل ما يقال فيه من الأوصاف الحسنة، بخلاف غيره.
وبعث صاحب دومة الجندل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة من سندس كما سيأتي، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم يعجبون من تلك الجبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن» يعني من هذا، ومن المعلوم أن المنديل أدنى الثياب، لأنه معد للامتهان، فثيابه رضي الله عنه في الجنة أعلى وأغلى. وقد وهب صلى الله عليه وسلم تلك الجبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونزلت توبة أبي لبابة رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة رضي الله عنها. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر يضحك. قالت: فقلت ممّ تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال: «تيب على أبي لبابة». قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال «بلى إن شئت»، فقامت على باب حجرتها. قيل وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب وهو لا يناسب ما تقدم في قصة الإفك، فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده الشريفة.
وقيل المبشر له عائشة رضي الله تعالى عنها، فلما مر صلى الله عليه وسلم على أبي لبابة خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وجاء أن فاطمة رضي الله عنها أرادت إطلاقه فأبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني» أي وظاهر هذا أنه رضي الله عنه كان يبرّ بإطلاق سيدتنا فاطمة رضي الله عنها له فليتأمل.
وقد أقام مربوطا ست ليالي أي أو سبع ليال. وقيل سبع عشرة ليلة. وقيل خمس عشرة ليلة، وعليه اقتصر في الإمتاع، وكانت تأتيه امرأته أو بنته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة وكذا إذا أراد حاجة الإنسان، ثم يعود فيربط بالعمود حتى كاد يذهب سمعه وبصره، ولا مانع أن امرأته وبنته كانتا تتناوبان في ذلك.
أي وجاء أنه رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم «من تمام توبتي أن أهجر دار قوم أصبت فيها الذنب» وفيه أنه تقدم أنه عاهد الله على ذلك قال: وأن انخلع من مالي، فقال له عليه الصلاة والسلام: «يجزيك الثلث أن تتصدق به» أي ولم يأمره صلى الله عليه وسلم أن يهجر تلك الدار. والجمع بينه وبين ما تقدم من أنه عاهد الله أن لا يطأ تلك الدار ممكن.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري بسبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا. قال: وفي لفظ بعث سعد بن عبادة إلى الشام بسبايا يبيعهم ويشتري بهم سلاحا وخيلا. أي فاشترى بذلك خيلا كثيرا قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، واشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما جملة من السبايا، فجعلت تلك الجملة من السبايا قسمين، جعلت الشوابّ على حدة، وجعلت العجائز على حدة ثم خير عبد الرحمن بن عوف عثمان بن عفان، فأخذ العجائز، وأخذ عبد الرحمن الشواب، وجعل عثمان رضي الله عنه على كل واحدة منهن شيئا إن أتت به عتقت، فكان المال يوجد عند العجائز ولا يوجد عند الشواب فربح عثمان مالا كثيرا. أقول: ويحتاج إلى الجمع.
وقد يقال: إن كان المراد بالسبايا في قصة سعد بن عبادة وعثمان وعبد الرحمن سبايا بني قريظة، فيكون قسموا ثلاثة أقسام: قسم أعطي لسعد بن زيد، وقسم أعطي لسعد بن عبادة، وقسم اشتراه عثمان وعبد الرحمن، ووقع الفداء في سبايا بني قريظة. وحينئذ يكون المراد بقول القائل: وبعث سعد بن زيد بسبايا بني قريظة: أي بجملة منهم. وبعث سعد بن عبادة بسبايا أي بسبايا بني قريظة: أي بجملة منهم وإن كان المراد بالسبايا في قصة سعد بن عبادة غير سبايا بني قريظة فالأمر ظاهر، ويدل لهذا الثاني إسقاط بني قريظة منه.
ثم رأيته في الإمتاع أسقط قصة سعد بن زيد الأنصاري واقتصر على سعد بن عبادة حيث قال: ولما سبيت السبايا والذرية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة إلى الشام مع سعد بن عبادة رضي الله عنه يبيعهم ويشتري سلاحا هذا كلامه، والله أعلم.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأم وولدها، أي في السبايا الأعم من قريظة، وقال «لا يفرق بين أم وولدها حتى يبلغ»، قيل: يا رسول الله وما بلوغه؟ قال: «تحيض الجارية ويحتلم الغلام» وكان إذا وجد الولد الصغير ليس له أم لم يبع من المشركين أي مشركي العرب ولا من يهود، وإنما يباع من المسلمين، أي وكانت أم الولد الصغير تباع من المشركين هي وولدها من العرب ومن يهود المدينة.
قال في الإمتاع: وكان يفرق بين الأختين إذا بلغتا، ومقتضاه أنهما إذا لم يبلغا لا يفرق بينهما. وأئمتنا معاشر الشافعية لم يحرموا إلا التفرقة بين الأصول والفروع إذا لم يميزوا، وهو محمل قوله صلى الله عليه وسلم «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» ولعله لم تصح تلك الرواية عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه.
واصطفي صلى الله عليه وسلم لنفسه منهم ريحانة بنت عمرو وهو شمعون مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني النضير، وكانت متزوّجة في بني قريظة، ولعله مراد من قال إنها كانت من بني قريظة، أي وكانت جميلة، وأسلمت بعد أن أبت الإسلام ووجد صلى الله عليه وسلم في نفسه: أي غضب بسبب ذلك، أي بسبب عدم إسلامها، ولم يظهر ذلك، ثم لما أسلمت سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
فقد جاء «لما أبت ريحانة الإسلام عزلها صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه لذلك، وأرسل إلى ثعلبة بن شعبة وكان ممن نزل من حصون بني قريظة في الليلة التي صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ، أي على ما في بعض الروايات «وأسلم هو وإخوته أسيد وأسيد وأسد وابن عمه، وأحرزوا دماءهم وأموالهم، وليسوا من بني قريظة، وإنما هم من بني هذيل «فذكر له صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال سعد: فداك أبي وأمي هي مسلمة» أي ظنا منه أنها تسلم فخرج حتى جاءها ولا زال يقول لها أسلمي يصطفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، فأجابت إلى ذلك وأسلمت، فبينما هو صلى الله عليه وسلم في مجلس من أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: «إن هاتين لنعلا مبشري بإسلام ريحانة فكان كذلك»، وأخبره أنها أسلمت، فسر صلى الله عليه وسلم بذلك، واستمرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في ملكه، اختارت بقاءها في ملكه على العتق والنكاح، أي فقد خيرها صلى الله عليه وسلم بين أن يعتقها ويتزوجها أو تكون في ملكه يطؤها بالملك؟ فاختارت أن تكون في ملكه .
قال بعضهم: والأثبت عند أهل العلم أنه أعتقها وتزوجها وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وأعرس بها في المحرم سنة ست بعد أن حاضت حيضة، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه، فطلقها تطليقة، فأكثرت من البكاء، فراجعها، ولم تزل عنده صلى الله عليه وسلم حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع سنة عشر، فدفنها بالبقيع. ووجوب استبرائها بحيضة يدل لما قاله فقهاؤنا أن من ملك أمة وطئها غيره وطئا غير محرم لا يحل له تزوجها قبل استبرائها وإن أعتقها.
وتقدّم أن قريظة والنضير أخوان من أولاد هارون على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام.