وهم قوم من اليهود بالمدينة. وفي كلام بعضهم: بنو النضير هؤلاء حي من يهود خيبر، أي وقريتهم كان يقال لها زهرة كانت تلك الغزاة في ربيع الأول: …
أي من السنة الرابعة. وقيل كانت قبل وقعة أحد، قال: وبه قال البخاري. قال ابن كثير: والصواب إيرادها بعد أحدكما كما ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره من أئمة المغازي.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لحرب بني النضير والسير إليهم.
واختلف في سبب ذلك؟ فمن جملة ما قيل: إنه ذهب إليهم ليسألهم كيف الدية فيهم؟ أي لأنه كان بينهم وبين بني عامر قبيلة الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند رجوعه من بئر معونة غيلة حلف وعقد.
وقيل ذهب إليهم ليستعين بهم في دية الرجلين المذكورين، أي وكان صلى الله عليه وسلم أخذ العهد على اليهود أن يعاونوه في الديات.
وقيل لأخذ دية الرجلين منهم، لأن بني النضير كانوا حلفاء لقوم الرجلين المذكورين وهم بنو عامر، كذا في الأصل فليتأمل. فإن فيه أخذ الدية من حلفاء المقتول وسار إليهم صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه: أي دون العشرة، فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم، فقالوا له: نعم يا أبا القاسم حتى تطعم وترجع بحاجتك، وكان صلى الله عليه وسلم جالسا إلى جنب جدار من بيوتهم، فخلا بعضهم ببعض وقالوا:
إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة، فمن رجل يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال أحد ساداتهم: أنا لذلك أي وهو عمرو بن جحاش، وقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتم به، إنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه، فلما صعد ذلك الرجل ليلقي الصخرة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مظهرا أنه يقضي حاجته، وترك أصحابه في مجالسهم ورجع مسرعا إلى المدينة ولم يعلم من كان معه من أصحابه، فقاموا في طلبه صلى الله عليه وسلم لما استبطؤوه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه، فقال: رأيته داخل المدينة، فأقبل أصحابه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أرادت بنو النضير. وقد أشار إلى ذلك الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وجاء وحي بالذي أضمرت بنو الن *** ضير وقد هموا بإلقاء صخرة
أي وفي رواية لما رأوا قلة أصحابه صلى الله عليه وسلم قالوا نقتله ونأخذ أصحابه أسارى إلى مكة، فنبيعهم من قريش. أي ولا مانع من وجود الأمرين.
وقيل في السبب في خروجه صلى الله عليه وسلم إليهم أنهم أرسلوا إليه أن أخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرا فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما غدا عليهم في ثلاثين من أصحابه قال بعضهم لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون كل يحب أنه يموت قبله، فأرسلوه إليه أن أخرج في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك ففعل، واشتملت اليهود الثلاثة على الخناجر فأرسلت امرأة من بني النضير لأخ لها مسلم تعلمه بذلك، فأعلم أخوها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فرجع، ولا مانع من وجود ذلك مع ما تقدم، لكن في السيرة الهشامية أن خبر ذلك بلغه قبل وصوله إليهم فرجع، فبينما بنو النضير على ذلك: أي على إرادة إلقاء الحجر والتهيؤ لإلقائه، إذ جاء جاء من اليهود من المدينة فقال لهم: ما تريدون؟ فذكروا له الأمر، فقال لهم: أي محمد؟ قالوا: هذا محمد، فقال لهم: والله لقد تركت محمدا داخل المدينة، فأسقط في أيديهم وقالوا: قد أخبر بأمرنا، فأرسل إليهم محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه أن أخرجوا من بلدي يعني المدينة لأن قريتهم من أعمالها، فلا تساكنوني بها، فقد هممتم بما هممتم به من الغدر. أي وأخبرهم بما هموا به من ظهور عمرو بن جحاش على ظهر البيت ليطرح الصخرة، فسكتوا ولم يقولوا حرفا، قال: ويقول لكم: قد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، واقتصاره صلى الله عليه وسلم على ذلك لا ينافي ما تقدم من إرادة قتله أيضا، قيل وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} [المائدة:11] ولا ينافي ذلك ما تقدم من نزولها في حق دعثور في غزوة ذي أمرّ، لجواز تكرار النزول، فأرسلوا في إحضار الإبل، فأرسل إليهم المنافقون أن لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم: إن قوتلتم فلكم علينا النصر، وإن أخرجتم لن نتخلف عنكم، خصوصا عبد الله بن أبي ابن سلول لعنه الله، فإنه أرسل لهم: لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصونكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع بنو النضير فيما قال ابن أبي، فأرسلوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك، فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير وكبر المسلمون لتكبيره وقال: «حاربت يهود». قال: والمتولي أمر ذلك سيد بني النضير حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وقد نهاه أحد سادات بني النضير وهو سلام بن مشكم وقال له: منتك نفسك والله يا حيي الباطل، فإن قول ابن أبي ليس بشيء، وإنما يريد أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمدا فيجلس في بيته ويتركك؛ ألا ترى أنه أرسل إلى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة أن تمدكم بنو قريظة، فقال له: لا ينقض رجل واحد منا العهد فأيس من بني قريظة. وأيضا قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد وحصروا أنفسهم في صياصيهم أي حصونهم، وانتظروا ابن أبي فجلس في بيته وسار إليهم محمد حتى نزلوا على حكمه. فإذا كان ابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حروبهم. أي فإنه إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الأوس، فكيف يقبل قوله، فقال حيي: نأبى إلا عداوة محمد وإلا قتاله. قال سلام: فهو والله جلاؤنا من أرضنا، وذهاب أموالنا وشرفنا، وسبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا، فأبى حيي إلا محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت له بنو النضير: أمرنا لأمرك تبع لن نخالفك، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكر اهـ، فتهيأ الناس لحربهم. فلما اجتمع الناس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وحمل رايته علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وسار بالناس حتى نزل بهم وصلى بهم العصر بفنائهم، وقد تحصنوا وقاموا على حصنهم يرمون بالنبل والحجارة.
أي وفي كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه رضي الله عنهم بالميسر إلى بني النضير فسار بهم إليهم، فوجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف أي الآتي قتله في السرايا، قالوا: يا محمد داعية إثر داعية وباكية إثر باكية، ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: «اخرجوا من المدينة»، قالوا: الموت أهون من ذلك ثم تبادروا بالحرب، هذا كلامه.
قال: ولما جاء وقت العشاء رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته في عشرة من أصحابه عليه الدرع وهو على فرس، واستعمل على العسكر علي بن أبي طالب ويقال أبا بكر وبات المسلمون يحاصرونهم ويكبرون حتى أصبحوا ثم أذن بلال بالفجر، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه الذين كانوا معه فصلى بالناس، وأمر بلالا فضرب القبة، وهي قبة من خشب عليها مسوح، فدخل صلى الله عليه وسلم فيها، وكان رجل من يهود يقال له غزول، وكان أعسر راميا يبلغ نبله ما لا يبلغه نبل غيره، فوصل نبله تلك القبة، فأمر بها فحولت. وفي ليلة من الليالي فقد علي رضي الله تعالى عنه قرب العشاء، فقال الناس: يا رسول الله ما نرى عليا، فقال: «دعوه أي اتركوه، فإنه في بعض شأنكم»، فعن قليل جاء برأس الرجل الذي يقال له غزول الذي وصل نبله قبته صلى الله عليه وسلم، كمن له عليّ حين خرج يطلب غرة من المسلمين ومعه جماعة، فشد عليه فقتله وفرّ من كان معه، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عليّ أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة، فأدركوا أولئك الجماعة الذين كانوا مع غزول وفروا من عليّ فقتلوهم.
وذكر بعضهم أن أولئك الجماعة كانوا عشرة، وأنهم أتوا برؤوسهم فطرحت في بعض الآبار. وفي هذا ردّ على بعض الرافضة حيث ادعى أن عليا هو القاتل لأولئك العشرة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، أي وبحرقها بعد أن حاصرهم ست ليال وقيل خمسة عشر يوما: أي وقيل عشرين ليلة، وقيل ثلاثا وعشرين ليلة، وقيل خمسا وعشرين ليلة. وكان سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه في تلك المدة يحمل التمر للمسلمين: أي يجاء به من عنده. قال: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على قطع النخل أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام. وكان أبو ليلى يقطع العجوة وعبد الله يقطع اللين ويقال له اللون، وهو ما عدا العجوة، والبرني من أنواع التمر بالمدينة، ومن أنواع تمر المدينة الصيحاني.
وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه. قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاحت نخلة بأخرى: هذا النبي المصطفى وعلي المرتضى، فقال صلى الله عليه وسلم «يا علي إنما سمي نخل المدينة أي هذا النوع صيحانيا، لأنه صاح بفضلي»، وهو حديث مطعون فيه، قيل إنه كذب. والبرن بالفارسية: حمل مبارك أو جيد.
وفي شرح مسلم للنووي أنها مائة وعشرون نوعا. أي وفي تاريخ المدينة الكبير للسيد السمهودي أن أنواع التمر بالمدينة التي أمكن جمعها بلغت مائة وبضعا وثلاثين نوعا، ويوافقه قول بعضهم اختبرناها فوجدناها أكثر مما ذكره النووي. قال: ولعل ما زاد على ما ذكره حدث بعد ذلك.
أي وأما أنواع التمر بغير المدينة كالمغرب فلا تكاد تنحصر. فقد نقل أن عالم فاس محمد بن غازي أرسل إلى عالم سلجماسة إبراهيم بن هلال يسأله عن حصر أنواع التمر بتلك البلدة، فأرسل إليه حملا أو حملين من كل نوع تمرة واحدة، وكتب إليه هذا ما تعلق به علم الفقير {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] .
ثم رأيت في نشق الأزهار أن بهذه البلدة رطبا يسمى البتوني، وهو أخضر اللون، وأحلى من عسل النحل، ونواه في غاية الصغر، وكانت العجوة خير أموال بني النضير، أي لأنهم كانوا يقتاتونها.
وفي الحديث «العجوة من الجنة، وثمرها يغذي أحسن غذاء» أي وتقدم أن آدم نزل بالعجوة من الجنة.
وفي البخاري «من تصبح كل يوم على سبع تمرات عجوة لم يصبه في ذلك اليوم سم ولا سحر» أي وقد جاء في عجوة العالية شفاء وأنها ترياق أول البكرة «من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سمّ ولا سحر» .
أي وفي كلام بعضهم: العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني تضرب إلى السواد وهو مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة بالمدينة. أي وقد علمت أنها في نخل بني النضير.
وفي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «هبط آدم من الجنة بثلاثة أشياء: بالآسة، وهي سيدة ريحان الدنيا. والسنبلة، وهي سيدة طعام الدنيا. والعجوة، وهي سيدة ثمار الدنيا» .
وروي عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العجوة من غرس الجنة وفيها شفاء، وإنها ترياق أول البكرة، وعليكم بالتمر البرني فكلوه فإنه يسبح في شجره، ويستغفر لآكله» هذا كلام العرائس.
وفي حديث وفد عبد القيس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم ذلك، وذكر البرني أنه من خير تمركم، وأنه دواء وليس بداء» وجاء «بيت لا تمر فيه جياع أهله» قال ذلك مرتين.
ولما قطعت العجوة شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل، أي وذلك البعض الذي حرق كان بمحل يعرف بالبويرة اهـ أي والبويرة تصغير بورة.
وهي هنا الحفرة، ويقال لها البولة باللام بدل الراء وعند ذلك نادوه أي يا محمد.
وفي رواية: يا أبا القاسم. قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ أي وفي رواية: ما هذا الفساد؟ وفي لفظ قالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ وقالوا للمؤمنين: إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون. وحينئذ وقع في نفوس بعض المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ} [الحشر:5] أي في قولهم إن ذلك من الفساد.
قال بعضهم: جميع ما قطعوا وحرقوا ست نخلات، ولا زال عبد الله بن أبي ابن سلول يبعث لبني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فإنكم إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم، أي ومعه على ذلك جمع من قومه، فانتظروا ذلك، فخذلهم ولم يحصل لهم منه شيء، أي وجعل سلام بن مشكم وكنانة بن صوريا يقولان لحيي أين نصر بن أبيّ الذي زعمت؟ فيقول حيي: ما أصنع، هي ملحمة كتبت علينا، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم حصارهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة: أي آلة الحرب ففعل، فاحتملوا النساء والصبيان، وحملوا من أموالهم غير الحلقة ما استقلت به الإبل وكانت ستمائة بعير، فكان الرجل يهدم بيته عما استحسن من خشبه كبابه وكنجاف به أي أسكفته فيضعه على ظهره بعيره فينطلق به.
أي وفي لفظ: صاروا ينقضون العمد والسقوف، وينزعون الخشب حتى الأوتاد، وينقضون الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسدا وبغضا.
وفي رواية: جعل المسلمون يهدمون ما يليهم من حصنهم، ويهدم الآخرون ما يليهم. قال: وفي رواية أنهم خرجوا مظهرين التجلد: خرجت النساء على الهوادج وعليهن الديباج والحرير وقطف الخز الأخضر والأحمر وحلي الذهب والفضة، وخلفهم القيان بالدفوف والمزامير، ومنهم سلمى أم وهب.
وقال ابن إسحاق أم عمرو صاحبة عروة بن الورد الذي قيل فيه: من قال إن حاتما أسمح العرب فقد ظلم عروة بن الورد. أغار عروة على قومها فسباها ثم اتخذها حليلة له فجاءت منه بأولاد.
ثم إن بعض بني النضير اشتراها من عروة بعد أن سقاه الخمر، ثم لما أفاق ندم. ثم اتفق هو ومن اشتراها على أن تكون عند من تختاره، فخيرها فاختارت من اشتراها.
وقيل إن قومها جاؤوا إليه بفدائها، فخيرها وكان لا يظن أن تختار عليه أحدا، فاختارت قومها فندم.
وعند مفارقتها له قالت له: والله ما أعلم امرأة من العرب أرخت سترا على بعل مثلك، أغض طرفا ولا أندى كفا، وأغنى غناء، وإنك لرفيع العماد، كثير الرماد، خفيف على ظهور الخيل، ثقيل على متون الأعداء، وأحنى على الأهل والجار، وما كنت لأوثر عليك أهلي لولا أني كنت أسمع بنات عمك يقلن: قالت أم عروة وفعلت أم عروة فأجد من ذلك الموت، والله لا يجامع وجهي وجه أحد من أهلك فاستوص ببينك خيرا، ثم تزوجت في بني النضير، وشقوا سوق المدينة وصف لهم الناس، فجعلوا يمرون قطارا في أثر قطار، وإن سلام بن أبي الحقيق رافع جلد جمل أي أو ثور أو حمار مملوء حليا، وينادي بأعلى صوته: هذا أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلا ففي خيبر النخل، وحزن المنافقون لخروجهم أشد الحزن.
وهذا الحلي كانوا يعيرونه للعرب من أهل مكة وغيرهم، وكان يكون عند آل أبي الحقيق، وسيأتي في غزوة خيبر أنه صلى الله عليه وسلم عبر عن هذا الحلي بالآنية والكنز وأنه كان سببا لقتل ولدي أبي الحقيق لما كتماه عنه صلى الله عليه وسلم.
فمنهم من سار إلى خيبر، أي ومن جملة هؤلاء أكابرهم حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن أبي الربيع بن أبي الحقيق. فلما نزلوا خيبر دان لهم أهلها.
ومنهم من سار إلى الشام: أي إلى أذرعات. وكان فيهم جماعة من أبناء الأنصار، لأن المرأة من الأنصار كان إذا لم يعش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش لها ولد تهوده، فلما أجليت بنو النضير قال آباء أولئك: لا ندع أبناءنا، وأنزل الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ} [البقرة:256] وهي مخصوصة بهؤلاء الذين تهودوا قبل الإسلام، وإلا فإكراه الكفار الحربيين على الإسلام سائغ، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: وهما يامين بن عمير، وأبو سعد بن وهب. قال أحدهما لصاحبه: والله إنك لتعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ننتظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا، فنزلا من الليل وأسلما فأحرزا أموالهما. أي وجعل يامين لرجل من قيس جعلا أي وهو عشرة دنانير، وقيل خمسة أوثق من تمر على قتل عمرو بن جحاش الذي أراد أن يلقي الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله غيلة أي بعد أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليامين: «ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما همّ به من شأني؟» فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل في أمر بني النضير سورة الحشر، ولذلك كان يسميها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سورة بني النضير كما في البخاري.
وفي كلام السبكي رحمه الله: لم يختلفوا أن سورة الحشر نزلت في بني النضير. وقد أشار لقصتهم صاحب الهمزية بقوله:
خدعوا بالمنافقين وهل ين *** فق إلا على السفيه الشقاء
ونهيتم وما انتهت عنه قوم *** فأبيد الأمار والنهاء
أسلموهم لأوّل الحشر لا مي *** عادهم صادق ولا الإيلاء
سكن الرعب والخراب قلوبا *** وبيوتا منهم نعاها الجلاء
أي وخدعهم قول المنافقين إنهم يكونون معهم وينصرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وما يروج الشقاء إلا على السفيه.
والمراد بالمنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ومن كان معه على النفاق، لأنه كما تقدم لا زال يرسل لهم أن اثبتوا وتمنعوا، فإنكم إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم. ونهاهم عن موافقته سلام بن مشكم، فلم ينتهوا أسلمهم أولئك المنافقون لأول الحشر. وهو أي الحشر جلاؤهم وخروجهم من ديارهم، فميعادهم لهم بأن ينصروهم على النبي صلى الله عليه وسلم، غير صادق وكذا حلفهم لهم على ذلك غير صادق أيضا.
ذكر موسى بن عقبة أنهم كانوا من سبط لم يصبهم جلاء قبلها، فلذلك قال لأول الحشر. والحشر: الجلاء.
وقيل المراد بالحشر أرض المحشر، فإنهم قالوا إلى أين نخرج يا محمد؟ قال: «إلى الحشر»، يعني أرض المحشر. والحشر الثاني: هو حشر النار التي تخرج من قعر عدن، فتحشر الناس إلى الموقف.
وقيل الحشر الثاني لهم كان على يد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، أجلاهم من خيبر إلى تيمياء وأريحاء، وسيأتي ذكره. وسكن الرعب: وهو خشية انتقامه صلى الله عليه وسلم منهم قلوبهم، وسكن الخراب بيوتهم. وقد أخبر تلك البيوت بموت أهلها خروجهم وجلاؤهم من أرضهم، وأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ} [الحشر:11] وهم بنو النضير {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ} [الحشر: 11] أي في خذلانكم {أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ} [الحشر:11، 12] {كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ} [الحشر:16] ووجد صلى الله عليه وسلم من الحلقة: أي آلة السلاح خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا، ولم يخمس ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كما خمس أموال بني قينقاع. قال: وقد قال له عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله ألا تخمس ما أصبت: أي كما فعلت في بني قينقاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المؤمنين» بقوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ} [الحشر: 7] الآية كهيئة ما وقع فيه السهمان أي فكان أموال بني النضير وعقارهم فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وتقدم التنبيه على ذلك في غزوة بني قينقاع، وفسرت القرى بالصفراء ووادي القرى أي ثلث ذلك كما في الإمتاع وينبع، وفسرت القرى ببني النضير وخيبر: أي بثلاث حصون منها. وهي الكتيبة والوطيح وسلالم كما في الإمتاع، وفدك: أي نصفها كما في الإمتاع، ذكره الرافعي في شرح مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه.
أقول: قال بعضهم: وهذا أول فيء حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويرده ما تقدم في غزوة بني قينقاع، إلا أن يقال: المراد أوّل فيء اختص به صلى الله عليه وسلم ولم يقسمه قسمة الغنيمة على ما تقدم.
ثم دعا الأنصار الأوس والخزرج فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، من إنزالهم في منازلهم، وإيثارهم على أنفسهم بأموالهم. ثم قال لهم: إن إخوانكم المهاجرين ليس لهم أموال، فإن شئتم قسمت هذه الأموال: أي التي أفاء الله عليّ وخصني بها مع أموالكم بينكم جميعا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وقسمت هذه فيهم خاصة، فقالوا: بل اقسم هذه فيهم، واقسم لهم من أموالنا ما شئت.
وفي رواية: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم: أي الأرض والنخل، لأنه لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديكم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار: أي النخل، فآثروهم بمتاع من أشجارهم، فمنهم من قبلها منيحة محضة ويكفونه العمل، ومنهم من قبلها بشرط أن يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار، ولم تطب نفسه أن يقبلها منيحة محضة، لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلا وإن أحببتم أعطيتهم أي وخرجوا من دوركم، أي وأموالكم، فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ. فقالا: يا رسول الله بل تقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، بل نحب أن تقسم ديارنا وأموالنا على المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وعشائرهم وخرجوا حبا لله ولرسوله، ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار». زاد في رواية: «وأبناء أبناء الأنصار» وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا، أي وأنزل الله تعالى فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أي ولو كان بهم فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بين المهاجرين. أي وفي كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يعم المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين: أي وهما سهل بن حنيف وأبو دجانة رضي الله تعالى عنهما، وبعضهم ضم إليهما ثالثا وهو الحارث بن الصمة ونظر فيه بعضهم بأنه قتل في بئر معونة.
وأعطى صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق أحد سادات بني النضير وكان سيفا له ذكر عندهم، وكان صلى الله عليه وسلم يزرع أرضهم التي تحت النخل، فيدّخر من ذلك قوت أهله سنة، وما فضل يجعله في الكراع: أي الخيل والسلاح عدة في سبيل الله تعالى.
أقول: فيه تصريح بأنه لم يقسم الأرض، ويحتمل أن المراد بقوله كان يزرع أرضهم التي تحت النخل: أي بعض أرضهم، ويدل له ما يأتي، ولم أقف على كيفية زرعه صلى الله عليه وسلم للأرض من مزارعة أو غيرها.
وفي الخصائص الكبرى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله تعالى إياه وخصه بها، فأعطى أكثرها المهاجرين وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار.
وهذا السياق يدل على أن مراده بنخل بني النضير أموالهم كما تقدم في الروايات، لا خصوص النخل.
ثم رأيت في عبارة بعضهم: وأكثر الروايات على أن أموال بني النضير: أي من مواشيهم كالخيل ومزارعهم وعقارهم حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة له، خصه الله تعالى بها، لم يخمسها ولم يسهم منها لأحد، وأعطى منها ما أراد ووهب العقار للناس.
وأعطى أبا بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وصهيبا وأبا سلمة بن عبد الأسد ضياعا معروفة من ضياع بني النضير.
ولعل المراد بالضياع الأراضي، ويدل لذلك ما في البخاري «أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير أرضا من أراضي بني النضير» كما أن ذلك هو المراد بقول الإمتاع وكانت بنو النضير من صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها حبسا لنوائبه. وكان صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله منها وكانت صدقاته منها.
وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون أعطى بعض أراض وأبقى بعضها يزرع له صلى الله عليه وسلم. ولما أعطى المهاجرين أمرهم بردّ ما كان للأنصار لاستغنائهم عنهم ولأنهم لم يكونوا ملكوهم ذلك، وإنما كانوا دفعوا لهم تلك النخيل لينتفعوا بثمرها، وظنت أم أيمن أن ذلك ملك لها فامتنعت من رده، أي لأن أم أنس كانت أعطته صلى الله عليه وسلم نخلات، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن ولم ينكر عليها ذلك تطيبيا لقلبها لكونها حاضنته، وصار يعطيها وهي تمتنع من رده إلى أن أعطاها عشرة أمثاله أو قريبا من ذلك.
وذكر هذا في بني النضير يخالف ما في مسلم أن ذلك كان عند فتح خيبر، حيث ذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارها، وذكر قصة أم أيمن، فليتأمل والله أعلم