فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، بعد منصرفه من غزوة بني المصطلق …
رمضان، وشوالاً، وخرج في السنة السادسة في ذي القعدة معتمراً، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة، فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب، وساق الهدى، وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة، ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، وخرج في ألف رجل ونيف، المكثر يقول: ألف وخمسمائة لا تزيد أصلاً؛ والمقلل يقول: ألف وثلاثمائة؛ والمتوسط يقول: ألف وأربعمائة.
وقد قال بعضهم: كانوا سبعمائة، وهذا وهم شديد ألبتة، والصحيح بلا شك بين الألف والثلاثمائة إلى ألف وخمسمائة .
فلما بلغ قريشاً ذلك خرج حمها عازمين على صدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، أو قتاله دون ذلك. وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغمم. فورد الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعسفان، فسلك طريقاً خرج منه في ظهورهم، كان دليلهم فيه رجل من أسلم، وذلك ذات اليمين بين ظهري الحمض، في طريقٍ أخرجه على ثنيه المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة، فلما بلغ ذلك قريشاً التي مع خالد، كرت إلى قريش، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي ذكرنا بالحديبية، بركت ناقته، فقال الناس: خلأت . وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك، فقيل له: يا رسول الله، ليس بالوادي ماء. فأخرج سهماً من كنانته، فغرزه في جوفه، فجاش بالرواء ، حتى كفى جميع أهل الجيش. وقيل: إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب ابن عمير بن يعمر بن دارم بن عمرو بن واثلة بن سهم بن مازن بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن أبي حارثة، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: بل نزل به البراء بن عازب.
ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وطال الخطب، إلى أن أتاه صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو، فقاضاه على أن ينصرف عامه ذلك، فإذا كان من قابلٍ أتى معتمراً، ودخل مكة وأصحابه بلا سلاح، حاشا السيوف في القرب فقط، فيقيم بها ثلاثاً ولا مزيد، على أن يكون بينهم صلح متصل عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضاً، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلماً من رجل أو امرأة رد إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يرد إلى المسلمين. فعظم ذلك على المسلمين، حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما علمه ربه تعالى، وقد علم عليه السلام أن الله تعالى سيجعل للمسلمين فرجاً مضموناً من عند الله تعالى، وأنذر المسلمين بذلك، وعلم عليه السلام أن هذا الصلح قد جعله الله تعالى سبباً لظهور الإسلام. وأنس الناس بعد نفارهم، وكره سهيل بن عمرو أن يكتب صدر الصحيفة ” محمد رسول الله ” وأبى عليّ بن أبي طالب، وهو كاتب الصحيفة، أن يمحو بيده ” رسول الله ” صلى الله عليه وسلم ، فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة بيده، وأمر الكاتب أن يكتب ” محمد بن عبد الله “.
وأتى أبو جندل بن سهيل، يرسف في قيوده، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه بعد أن أجاره مكرز بن حفص ، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم عليه السلام أن الله سيجعل له فرجاً.
وكان قد أتى قوم من عند قريش، قيل: ما بين الأربعين إلى الثلاثين، فأرادوا الإيقاع بالمسلمين، فأخذوا أخذاً، فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم العتقاء الذين ينتمون إليهم العتقيون.
وكان عليه السلام قبل تمام هذا الصلح قد بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولا، وشاع أن المشركين قتلوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبايعة على الموت، وأن لا يفروا عن القتال، وهي بيعة الرضوان، التي كانت تحت الشجرة، التي أنثنى الله تعالى على أهلها، وأخبر عليه السلام أنهم لا يدخلون النار.
وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيساره على يمينه، وقال: «هذه عن عثمان». فلما تم الصلح المذكور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد إباء كان منهم وتوقف أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وفقهم الله تعالى ففعلوا، وقيل: إن الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأتاه أبو بصير عتبة ابن أسيد بن جارية هارباً، وكان ممن حبس بمكة، وهو ثقفي حليف لبني زهرة، فبعث إليه الأزهر بن عبد عوف عم عبد الرحمن بن عوف، والأخنس بن شريق الثقفي، رجلاً من بني عامر بن لؤي ومولى لهم، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلمه إليهما، فاحتملاه، فلما صار بذي الحذيفة نزلوا، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: أرني هذا السيف. فلما صار بيده، ضرب به العامري فقتله، وفر المولى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما وقع. وأظل أبو بصير، فقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتتن فيه أو يعبث بي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه، مسعر حرب ، لو كان له رجال». فعلم أبو بصير أنه سيرده، فخرج حتى أتى سيف البحر، موضعاً يقال له: العيص، من ناحية ذي المروة، على طريق قريش إلى الشام، فقطع على رفاقهم ، فاستضاف إليه كل من فر عن قريش ممن أراد الإسلام، فآذوا قريشاً، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يضمهم إلى المدينة.
وأنزل الله تعالى بفسخ الشرط المذكور في رد النساء، ومنع تعالى من ردعن. ثم نسخت براءة كل ذلك، والحمد لله رب العالمين.
وهاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فأتى أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة فيها، فمنع الله تعالى من رد النساء، وحرم الله تعالى حينئذ على المؤمنين الإمساك يعضم الكوافر، فنفسخ نكاحهن من المسلمين؛ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.