ففي المحرم منها كانت وقعة بين أبي أحمد وصاحب الزنج اضعفت اركان صاحب الزنج …
ذكر الخبر عن قتل صاحب الزنج واسر من معه
وفي صفر منها قتل الفاجر، وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني واستريح من أسباب الفاسق.
ذكر الخبر عن هاتين الوقعتين:
قد ذكرنا قبل أمر السكر الذي كان الخبيث أحدثه، وما كان من أمر أبي أحمد وأصحابه في ذلك ذكر أن أبا أحمد لم يزل ملحا على الحرب على ذلك السكر حتى تهيأ له فيه ما أحب، وسهل المدخل للشذا في نهر أبي الخصيب في المد والجزر، وسهل لأبي أحمد في موضعه الذي كان مقيما فيه كل ما أراده من رخص الأسعار وتتابع المير وحمل الأموال إليه من البلدان ورغبة الناس في جهاد الخبيث ومن معه من أشياعه، فكان ممن صار إليه من المطوعة أحمد بن دينار عامل إيذج ونواحيها من كور الأهواز في جمع كثير من الفرسان والرجالة، فكان يباشر الحرب بنفسه وأصحابه إلى أن قتل الخبيث ثم قدم بعده من أهل البحرين- فيما ذكر- خلق كثير، زهاء ألفي رجل، يقودهم رجل من عبد القيس، فجلس لهم أبو أحمد، ودخل إليه رئيسهم ووجوههم، فأمر أن يخلع عليهم، واعترض رجالهم أجمعين وأمر بإقامة الأنزال لهم، وورد بعدهم زهاء ألف رجل من كور فارس، يرأسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة، فجلس لهم الموفق، فوصل إليه هذا الشيخ ووجوه أصحابه، فأمر لهم بالخلع، وأقر لهم الأنزال، ثم تتابعت المطوعة من البلدان، فلما تيسر له ما أراد من السكر الذي ذكرنا، عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإعداد السفن والمعابر وإصلاح آلة الحرب في الماء وعلى الظهر، واختار من يثق ببأسه ونجدته في الحرب فارسا وراجلا، لضيق المواضع التي كان يحارب فيها وصعوبتها وكثرة الخنادق والأنهار بها، فكانت عدة من تخير من الفرسان زهاء ألفي فارس، ومن الرجالة خمسين ألفا أو يزيدون، سوى من عبر من المطوعة وأهل العسكر، ممن لا ديوان له، وخلف بالموفقية من لم يتسع السفن بحمله جما كثيرا أكثرهم من الفرسان.
وتقدم الموفق إلى أبي العباس في القصد للموضع الذي كان صار إليه في يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين من الجانب الشرقي بإزاء دار المهلبي في أصحابه وغلمانه ومن ضمهم إليه من الخيل والرجالة والشذا وأمر صاعد بن مخلد بالخروج على النهر المعروف بأبي شاكر في الجانب الشرقي أيضا، ونظم القواد من مواليه وغلمانه من فوهة نهر أبي الخصيب إلى نهر الغربي وكان فيمن خرج من حد دار الكرنبائي إلى نهر أبي شاكر راشد ولؤلؤ، موليا الموفق، في جمع من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفا، يتلو بعضهم بعضا، ومن نهر أبي شاكر إلى النهر المعروف بجوى كور جماعة من قواد الموالي والغلمان، ثم من نهر جوى كور إلى نهر الغربي مثل ذلك وأمر شبلا أن يقصد في أصحابه ومن ضم إليه إلى نهر الغربي، فيأتي منه مؤازيا لظهر دار المهلبي، فيخرج من ورائها عند اشتباك الحرب، وأمر الناس أن يزحفوا بجميعهم إلى الفاسق، لا يتقدم بعضهم بعضا، وجعل لهم أمارة الزحف، تحريك علم أسود أمر بنصبه على دار الكرنبائي بفوهة نهر أبي الخصيب في موضع منها مشيد عال، وأن ينفخ لهم ببوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث ليال بقين من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجعل بعض من كان على النهر المعروف بجوى كور يزحف قبل ظهور العلامة، حتى قرب من دار المهلبي، فلقيه وأصحابه الزنج فردوهم إلى مواضعهم، وقتلوا منهم جمعا، ولم يشعر سائر الناس بما حدث على هؤلاء المتسرعين للقتال لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض.
فلما خرج القواد ورجالهم من المواضع التي أمروا بالخروج منها، واستوى الفرسان والرجالة في أماكنهم، أمر الموفق بتحريك العلم والنفخ في البوق، ودخل النهر في الشذا، وزحف الناس يتلو بعضهم بعضا، فلقيهم الزنج قد حشدوا وجموا واجترءوا بما تهيأ لهم على من كان تسرع إليهم، فلقيهم الجيش بنيات صادقة وبصائر نافذة، فأزالوهم عن مواضعهم بعد كرات كانت بين الفريقين، صرع فيها منهم جمع كثير وصبر أصحاب أبي أحمد، فمن الله عليهم بالنصر، ومنحهم أكتاف الفسقة، فولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب الموفق، يقتلون ويأسرون وأحاط أصحاب أبي أحمد بالفجرة من كل موضع، فقتل الله منهم في ذلك اليوم ما لا يحيط به الإحصاء، وغرق منهم في النهر المعروف بجوى كور مثل ذلك، وحوى أصحاب الموفق مدينة الفاسق بأسرها، واستنقذوا من كان فيها من الأسرى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي وأخويه الخليل ومحمد ابني أبان وسليمان بن جامع وأولادهم، وعبر بهم إلى المدينة الموفقية.
ومضى الفاسق في أصحابه ومعه المهلبي وابنه أنكلاي وسليمان بن جامع وقواد من الزنج وغيرهم هرابا، عامدين لموضع قد كان الخبيث رآه لنفسه ومن معه ملجأ إذا غلبوا على مدينته، وذلك على النهر المعروف بالسفياني.
وكان أصحاب أبي أحمد حين انهزم الخبيث، وظفروا بما ظفروا به، أقاموا عند دار المهلبي الواغلة في نهر أبي الخصيب، وتشاغلوا بانتهاب ما كان في الدار وإحراقها وما يليها، وتفرقوا في طلب النهب، وكل ما بقي للفاسق وأصحابه مجموعا في تلك الدار.
وتقدم أبو أحمد في الشذا قاصدا للنهر المعروف بالسفياني، ومعه لؤلؤ في أصحابه الفرسان والرجالة، فانقطع عن باقي الجيش، فظنوا أنه قد انصرف، فانصرفوا إلى سفنهم بما حووا، وانتهى الموفق فيمن معه إلى معسكر الفاسق وأصحابه وهم منهزمون، فاتبعهم لؤلؤ وأصحابه حتى عبروا النهر المعروف بالسفياني، فاقتحم لؤلؤ النهر بفرسه، وعبر أصحابه خلفه، ومضى الفاسق حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقريري، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه، فكشفوهم، فولوا هاربين وهم يتبعونهم، حتى عبروا النهر المعروف بالقريري، وعبر لؤلؤ وأصحابه خلفهم والجئوهم إلى النهر المعروف بالمساوان، فعبروه واعتصموا بجبل وراءه.
وكان لؤلؤ وأصحابه الذين انفردوا بهذا الفعل دون سائر الجيش، فانتهى بهم الجد في طلب الفاسق وأشياعه إلى هذا الموضع الذي وصفنا في آخر النهار، فأمره الموفق بالانصراف محمود الفعل، فحمله الموفق معه في الشذا، وجدد له من البر والكرامة ورفع المرتبة، لما كان منه في أمر الفسقة حسب ما كان مستحقا ورجع الموفق في الشذا في نهر أبي الخصيب وأصحاب لؤلؤ يسايرونه فلما حاذى دار المهلبي، لم ير بها أحدا من أصحابه، فعلم أنهم قد انصرفوا، فاشتد غيظه عليهم، وسار قاصدا لقصره، وأمر لؤلؤ بالمضي بأصحابه إلى عسكره، وأيقن بالفتح لما رأى من أمارته، واستبشر الناس جميعا بما هيأ الله من هزيمة الفاسق وأصحابه وإخراجهم عن مدينتهم، واستباحة كل ما كان لهم من مال وذخيرة وسلاح، واستنفاذ جميع من كان في أيديهم من الأسرى وكان في نفس أبي أحمد على أصحابه من الغيظ لمخالفتهم أمره، وتركهم الوقوف حيث وقفهم، فأمر بجمع قواد مواليه وغلمانه ووجوههم، فجمعوا له، فوبخهم على ما كان منهم وعجزهم، وأغلظ لهم، فاعتذروا بما توهموا من انصرافه، وأنهم لم يعلموا بمسيره إلى الفاسق وانتهائه إلى حيث انتهى من عسكره، وأنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه، ولم يبرحوا موضعهم حتى تحالفوا وتعاقدوا على ألا ينصرف منهم أحد إذا توجهوا نحو الخبيث حتى يظفرهم الله به، فإن أعياهم ذلك أقاموا بمواضعهم حتى يحكم الله بينهم وبينه وسألوا الموفق أن يأمر برد السفن التي يعبرون فيها الى الموفقيه عند خروجهم منها للحرب، لتنقطع أطماع الذين يريدون الرجوع عن حرب الفاسق من ذلك، فجزاهم أبو أحمد الخير على تنصلهم من خطئهم، ووعدهم الإحسان، وأمرهم بالتأهب للعبور، وأن يعظوا أصحابهم بمثل الذي وعظوا به وأقام الموفق بعد ذلك يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لإصلاح ما يحتاج إليه، فلما كمل ذلك تقدم إلى من يثق إليه من خاصته وقواد غلمانه ومواليه، بما يكون عليه عملهم في وقت عبورهم.
وفي عشي يوم الجمعة، تقدم إلى أبي العباس وقواد غلمانه ومواليه بالنهوض إلى مواضع سماها لهم، فأمر أبا العباس بالقصد في أصحابه إلى الموضع المعروف بعسكر ريحان، وهو بين النهر المعروف بالسفياني والموضع الذي لجأ إليه، وأن يكون سلوكه بجيشه في النهر المعروف بنهر المغيرة، حتى يخرج بهم في معترض نهر أبي الخصيب، فيوافي بهم عسكر ريحان من ذلك الوجه، وأنفذ قائدا من قواد غلمانه السودان، وأمره أن يصير إلى نهر الأمير فيعترض في المنصف منه، وأمر سائر قواده وغلمانه بالمبيت في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء عسكر الفاسق متأهبين للغدو على محاربته وجعل الموفق يطوف في الشذا على القواد ورجالهم في عشي يوم الجمعة وليلة السبت، ويفرقهم في مراكزهم والمواضع التي رتبهم فيها من عسكر الفاسق، ليباكروا المصير إليها على ما رسم لهم.
وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فوافى نهر أبي الخصيب في الشذا، فأقام بها حتى تكامل عبور الناس وخروجهم عن سفنهم، وأخذ الفرسان والرجالة مراكزهم، وأمر بالسفن والمعابر فردت إلى الجانب الشرقي، وأذن للناس في الزحف إلى الفاسق، وسار يقدمهم حتى وافى الموضع الذي قدر أن يثبت الفسقة فيه لمدافعة الجيش عنهم.
وقد كان الخائن وأصحابه لخبثهم رجعوا إلى المدينة يوم الاثنين بعد انصراف الجيش عنها، وأقاموا بها، وأملوا أن تتطاول بهم الأيام، وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه ورجالتهم قد سبقوا أعظم الجيش، فأوقعوا بالفاجر وأصحابه وقعة أزالوهم بها عن مواقفهم، فانهزموا وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض، واتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الفاسق في جماعة من حماته من قواد الجيش ورجالهم، وفيهم المهلبي.
وفارقه ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع، فقصد لكل فريق ممن سمينا جمع كثيف من موالي الموفق وغلمانه الفرسان والرجالة، ولقي من كان رتبه الموفق من أصحاب أبي العباس في الموضع المعروف بعسكر ريحان المنهزمين من أصحاب الفاجر، فوضعوا فيهم السلاح ووافى القائد المرتب في نهر الأمير، فاعترض الفجرة، فأوقع بهم وصادف سليمان بن جامع فحاربه، فقتل جماعة من حماته، فظفر بسليمان فأسره، فأتى به الموفق بغير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسر سليمان، وكثر التكبير والضجيج، وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء عنه وأسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني- وكان أحد أمراء جيوشه- وأسر نادر الأسود المعروف بالحفار، وهو أحد قدماء أصحاب الفاجر- فأمر الموفق بالاستيثاق منهم وتصييرهم في شذاة لأبي العباس ففعل ذلك.
ثم أن الزنج الذين انفردوا مع الفاسق عطفوا على الناس عطفة أزالوهم بها عن مواقفهم، ففتروا لذلك، وأحس الموفق بفتورهم، فجد في طلب الخبيث، وأمعن في نهر أبي الخصيب، فشد ذلك من قلوب مواليه وغلمانه، ووجدوا في الطلب معه.
وانتهى الموفق إلى نهر أبي الخصيب، فوافاه البشير بقتل الفاجر، ولم يلبث أن وافاه بشير آخر ومعه كف زعم أنها كفه، فقوي الخبر عنده بعض القوة ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض على فرس، ومعه رأس الخبيث، فأدناه منه، فعرضه على جماعة ممن كان بحضرته من قواد المستأمنة، فعرفوه.
فخر لله ساجدا على ما أولاه وأبلاه، وسجد أبو العباس وقواد موالي الموفق وغلمانه شكرا لله، وأكثروا حمد الله والثناء عليه، وأمر الموفق برفع رأس الفاجر على قناة ونصبه بين يديه، فتأمله الناس وعرفوا صحة الخبر بقتله، فارتفعت أصواتهم بالحمد لله وذكر أن أصحاب الموفق لما أحاطوا بالخبيث، ولم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي، ولى عنه هاربا واسلمه وقصد النهر المعروف بنهر الأمير، فقذف نفسه فيه يريد النجاة، وقبل ذلك ما كان ابن الخبيث أنكلاي فارق أباه، ومضى يؤم النهر المعروف بالديناري، فأقام فيه متحصنا بالأدغال والآجام، وانصرف الموفق ورأس الخبيث منصوب بين يديه على قناة في شذاة، يخترق بها نهر أبي الخصيب، والناس في جنبتي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة، فخرج إليها فأمر برد السفن التي كان عبر بها في أول النهار إلى الجانب الشرقي من دجلة، فردت ليعبر الناس فيها.
ثم سار ورأس الخبيث بين يديه على القناة، وسليمان بن جامع والهمداني مصلوبان في الشذا، حتى وافى قصره بالموفقية وأمر أبا العباس بركوب الشذا وإقرار الرأس وسليمان والهمداني على حالهم والسير بهم إلى نهر جطى، وهو أول عسكر الموفق، ليقع عليهم عيون الناس جميعا في العسكر، ففعل ذلك وانصرف إلى أبيه أبي أحمد فأمر بحبس سليمان والهمداني وإصلاح الرأس وتنقيته.
وذكر أنه تتابع مجيء الزنج الذين كانوا أقاموا مع الخبيث وآثروا صحبته، فوافى ذلك اليوم زهاء ألف منهم، ورأى الموفق بذل الأمان، لما رأى من كثرتهم وشجاعتهم، لئلا تبقى منهم بقية تخاف معرتها على الإسلام وأهله، فكان من وافى من قواد الزنج ورجالهم في بقية يوم السبت وفي يوم الأحد والاثنين زهاء خمسة آلاف زنجي، وكان قد قتل في الوقعة وغرق وأسر منهم خلق كثير لا يوقف على عددهم، وانقطعت منهم قطعه زهاء الف رنجى مالوا نحو البر، فمات أكثرهم عطشا، فظفر الأعراب بمن سلم منهم واسترقوهم.
وانتهى إلى الموفق خبر المهلبي وأنكلاي ومقامهما بحيث أقاما مع من تبعهما من جلة قواد الزنج ورجالهم، فبث أنجاد غلمانه في طلبهم، وأمرهم بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا بأن لا ملجأ لهم أعطوا بأيديهم، فظفر بهم الموفق وبمن معهم، حتى لم يشذ أحد وقد كانوا على نحو العدة التي خرجت إلى الموفق بعد قتل الفاجر في الأمان، فأمر الموفق بالاستيثاق من المهلبي وأنكلاي وحبسهما، ففعل.
وكان فيمن هرب من عسكر الخبيث يوم السبت ولم يركن إلى الأمان قرطاس الذي كان رمى الموفق بالسهم، فانتهى به الهرب إلى رامهرمز، فعرفه رجل قد كان رآه في عسكر الخبيث فدل عليه عامل البلد، فأخذه وحمله في وثاق، فسأل أبو العباس أباه أن يوليه قتله فدفعه اليه فقتله.
ذكر خبر استئمان درمويه الزنجي الى ابى احمد
وفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد، وكان درمويه هذا- فيما ذكر- من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان الفاجر وجهه قبل هلاكه بمدة طويلة إلى أواخر نهر الفهرج، وهي من البصرة في غربي دجلة، فأقام هنالك بموضع وعر كثير النخل والدغل والآجام متصل بالبطيحة، وكان درمويه ومن معه هنالك يقطعون على السابلة في زواريق خفاف وسميريات اتخذوها لأنفسهم، فإذا طلبهم أصحاب الشذا ولجوا الأنهار الضيقة، واعتصموا بمواضع الأدغال منها، وإذا تعذر عليهم مسلك نهر منها لضيقها خرجوا من سفنهم وحملوها على ظهورهم، ولجئوا إلى هذه المواضع الممتنعة.
وفي خلال ذلك يغيرون على قرى البطيحة وما يليها، فيقتلون ويسلبون من ظفروا به، فمكث درمويه ومن معه يفعلون هذه الأفعال إلى أن قتل الفاجر وهم بموضعهم الذي وصفنا أمره، لا يعلمون بشيء مما حدث على صاحبهم فلما فتح بقتل الخبيث موضعه، وأمن الناس وانتشروا في طلب المكاسب وحمل التجارات، وسلكت السابلة دجلة، أوقع درمويه بهم، فقتل وسلب، فأوحش الناس ذلك، واشرأب لمثل ما فيه درمويه جماعة من شرار الناس وفساقهم، وحدثوا أنفسهم بالمصير إليه وبالمقام معه على مثل ما هو عليه، فعزم الموفق على تسريح جيش من غلمانه السودان ومن جرى مجراهم من أهل البصر بالحرب في الأدغال ومضايق الأنهار، وأعد لذلك صغار السفن وصنوف السلاح، فبينا هو في ذلك وافى رسول لدرمويه يسأل الأمان له على نفسه وأصحابه، فرأى الموفق أن يؤمنه ليقطع مادة الشر الذي كان فيه الناس من الفاجر وأشياعه.
وذكر أن سبب طلب درمويه الأمان كان أنه كان فيمن أوقع به قوم ممن خرج من عسكر الموفق للقصد إلى منازلهم بمدينة السلام، فيهم نسوة، فقتلهم وسلبهم، وغلب على النسوة اللاتي كن معهم، فلما صرن في يده بحثهن عن الخبر، فأخبرنه بقتل الفاسق والظفر بالمهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع وغيرهم من رؤساء أصحاب الفاسق وقواده ومصير أكثرهم إلى الموفق في الأمان وقبوله إياهم وإحسانه إليهم، فأسقط في يده، ولم ير لنفسه ملجأ إلا التعوذ بالأمان ومسألة الموفق الصفح عن جرمه، فوجه في ذلك، فأجيب إليه.
فلما ورد عليه الأمان خرج وجميع من معه حتى وافى عسكر الموفق، فوافت منهم قطعة حسنة كثيرة العدد لم يصبها بؤس الحصار وضره مثل ما أصاب سائر أصحاب الخبيث، لما كان يصل إليهم من أموال الناس وميرهم.
فذكر أن درمويه لما أومن وأحسن إليه وإلى أصحابه، أظهر كل ما كان في يده وأيديهم من أموال الناس وأمتعتهم، ورد كل شيء منه إلى أهله ردا ظاهرا مكشوفا، فووفق بذلك على إنابته، فخلع عليه وعلى وجوه أصحابه وقواده، ووصلوا فضمهم الموفق إلى قائد من قواد غلمانه، وأمر الموفق أن يكتب إلى أمصار الإسلام بالنداء في أهل البصرة والأبلة وكور دجلة وأهل الأهواز وكورها وأهل واسط وما حولها مما دخله الزنج بقتل الفاسق، وأن يؤمروا بالرجوع إلى أوطانهم ففعل ذلك، فسارع الناس إلى ما أمروا به، وقدموا المدينة الموفقية من جميع النواحي.
وأقام الموفق بعد ذلك بالموفقية ليزداد الناس بمقامه أمنا وإيناسا، وولى البصرة والأبلة وكور دجلة رجلا من قواد مواليه قد كان حمد مذهبه، ووقف على حسن سيرته، يقال له العباس بن تركس، فأمره بالانتقال إلى البصرة والمقام بها.
وولى قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة وواسط محمد بن حماد وقدم ابنه أبا العباس إلى مدينة السلام، ومعه رأس الخبيث صاحب الزنج ليراه الناس، فاستبشروا، فنفذ ابو العباس في جيشه حتى وافى مدينة السلام يوم السبت لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، فدخلها في أحسن زي، وأمر برأس الخبيث فسير به بين يديه على قناة، واجتمع الناس لذلك.
وكان خروج صاحب الزنج في يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فكانت أيامه من لدن خرج إلى اليوم الذي قتل فيه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وكان دخوله الأهواز لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين، وكان دخوله البصرة وقتله أهلها وإحراقه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين، فقال- فيما كان من أمر الموفق، وأمر المخذول- الشعراء أشعارا كثيرة، فمما قيل في ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي:
أقول وقد جاء البشير بوقعة *** أعزت من الإسلام ما كان واهيا
جزى الله خير الناس للناس بعد ما *** أبيح حماهم خير ما كان جازيا
تفرد إذ لم ينصر الله ناصر *** بتجديد دين كان أصبح باليا
وتشديد ملك قد وهى بعد عزه *** وإدراك ثارات تبير الأعاديا
ورد عمارات أزيلت وأخربت *** ليرجع فيء قد تخرم وافيا
ويرجع أمصار أبيحت وأحرقت *** مرارا فقد أمست قواء عوافيا
ويشفى صدور المؤمنين بوقعه *** يقر بها منا العيون البواكيا
ويتلى كتاب الله في كل مسجد *** ويلقى دعاء الطالبيين خاسيا
فأعرض عن أحبابه ونعيمه *** وعن لذة الدنيا وأقبل غازيا
في قصيدة طويلة ومن ذلك أيضا قوله:
أين نجوم الكاذب المارق *** ما كان بالطب ولا الحاذق
صبحه بالنحس سعد بدا *** لسيد في قوله صادق
فخر في مأزقه مسلما *** إلى أسود الغاب في المأزق
وذاق من كأس الردى شربة *** كريهة الطعم على الذائق
وقال فيه يحيى بن خالد:
يا بن الخلائف من أرومة هاشم *** والغامرين الناس بالأفضال
والذائدين عن الحريم عدوهم *** والمعلمين لكل يوم نزال
ملك أعاد الدين بعد دروسه *** واستنقذ الأسرى من الأغلال
أنت المجير من الزمان إذا سطا *** وإليك يقصد راغب بسؤال
أطفأت نيران النفاق وقد علت *** يا واهب الآمال والآجال
لله درك من سليل خلائف *** ماضي العزيمة طاهر السربال
أفنيت جمع المارقين فأصبحوا *** متلددين قد أيقنوا بزوال
أمطرتهم عزمات رأي حازم *** ملأت قلوبهم من الأهوال
لما طغى الرجس اللعين قصدته *** بالمشرفي وبالقنا الجوال
وتركته والطير يحجل حوله *** متقطع الأوداج والأوصال
يهوي إلى حر الجحيم وقعرها *** بسلاسل قد أوهنته ثقال
هذا بما كسبت يداه وما جنى *** وبما أتى من سيئ الأعمال
أقررت عين الدين ممن قاده *** وادلته من قاتل الأطفال
صال الموفق بالعراق فافزعت *** من بالمغارب صولة الأبطال
وفيه يقول أيضا يحيى بن خالد بن مروان:
أبن لي جوابا أيها المنزل القفر *** فلا زال منهلا بساحاتك القطر
أبن لي عن الجيران أين تحملوا *** وهل عادت الدنيا، وهل رجع السفر!
وكيف تجيب الدار بعد دروسها *** ولم يبق من أعلام ساكنها سطر
منازل أبكاني مغاني أهلها *** وضاقت بي الدنيا وأسلمني الصبر
كأنهم قوم رغا البكر فيهم *** وكان على الأيام في هلكهم نذر
وعاثت صروف الدهر فيهم فأسرعت *** وشر ذوي الأصعاد ما فعل الدهر
فقد طابت الدنيا وأينع نبتها *** بيمن ولي العهد وانقلب الأمر
وعاد إلى الأوطان من كان هاربا *** ولم يبق للملعون في موضع إثر
بسيف ولي العهد طالت يد الهدى *** وأشرق وجه الدين واصطلم الكفر
وجاهدهم في الله حق جهاده *** بنفس لها طول السلامة والنصر
وهي طويلة وقال يحيى بن محمد:
عني اشتغالك إني عنك في شغل *** لا تعذلي من به وقر عن العذل
لا تعذلي في ارتحالي إنني رجل *** وقف على الشد والإسفار والرحل
فيم المقام إذا ما ضاق بي بلد *** كأنني لحجال العين والكلل
ما استيقظت همة لم تلف صاحبها *** يقظان قد جانبته لذة المقل
ولم يبت أمنا من لم يبت وجلا *** من أن يبيت له جار على وجل
وهي أيضا طويلة.
وفي هذه السنة في شهر ربيع الأول منها، ورد مدينة السلام الخبر أن الروم نزلت بناحية باب قلمية على ستة أميال من طرسوس، وهم زهاء مائة ألف، يرأسهم بطريق البطارقة أندرياس، ومعه أربعة أخر من البطارقة، فخرج إليهم يازمان الخادم ليلا، فبيتهم، فقتل بطريق البطارقة وبطريق القباذيق وبطريق الناطلق، وأفلت بطريق قرة وبه جراحات، وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وفضة، فيها صليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر، وأخذ خمسة عشر ألف دابة وبغل، ومن السروج نحو من ذلك، وسيوف محلاة بذهب وفضة وآنية كثيرة، ونحو من عشرة آلاف علم ديباج، وديباج كثير وبزيون ولحف سمور، وكان النفير إلى أندرياس يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول، فكبس ليلا وقتل من الروم خلق كثير، فزعم بعضهم أنه قتل منهم سبعون ألفا وفيها توفي هارون بن أبي أحمد الموفق بمدينة السلام يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأولى.
ولست خلون من شعبان منها، ورد الخبر بموت أحمد بن طولون مدينة السلام- فيما ذكر وقال بعضهم: كانت وفاته يوم الاثنين لثمان عشرة مضت من ذي القعدة منها.
وفيها مات الحسن بن يزيد العلوي بطبرستان، إما في رجب، وإما في شعبان.
وللنصف من شعبان دخل المعتمد بغداد، وخرج من المدينة حتى نزل بحذاء قطربل في تعبئة، ومحمد بن طاهر يسير بين يديه بالحربة، ثم مضى إلى سامرا.
وفيها كان فداء أهل ساتيدما على يدي يازمان في سلخ رجب منها.
وفي يوم الأحد لتسع بقين من شعبان من هذه السنة شغب أصحاب أبي العباس بن الموفق ببغداد على صاعد بن مخلد وهو وزير الموفق، فطلبوا الأرزاق، فخرج إليهم أصحاب صاعد ليدفعوهم، فصارت رجالة أبي العباس إلى رحبة الجسر، وأصحاب صاعد داخل الأبواب بسوق يحيى، واقتتلوا، فقتل بينهم قتلى، وجرحت جماعة، ثم حجز بينهم الليل، وبكروا من الغد، فوضع لهم العطاء واصطلحوا.
وفي شوال منها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداج وابن دعباش، وكان ابن دعباش على الرقة وأعمالها، وعلى الثغور والعواصم من قبل ابن طولون، وابن كنداج على الموصل من قبل السلطان.
وفيها انبثق ببغداد في الجانب الغربي منها من نهر عيسى من الياسرية بثق، فغرق الدباغين وأصحاب الساج بالكرخ، ذكر أنه دق سبعة آلاف دار ونحوها وقتل في هذه السنة ملك الروم المعروف بابن الصقلبي وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي بن عيسى ابن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بن العباس.