فمن ذَلِكَ مَا كَانَ من إخراج أهل الْمَدِينَة عامل يَزِيد بن مُعَاوِيَة عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وإظهارهم خلع يَزِيد بن مُعَاوِيَة، …
وحصارهم من كَانَ بِهَا من بني أُمَيَّة، ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، أن أهل الْمَدِينَة لما بايعوا عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل عَلَى خلع يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وثبوا على عثمان ابن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ومن بِالْمَدِينَةِ من بنى اميه ومواليهم ومن رَأَى رأيهم من قريش، فكانوا نحوا من الف رجل، فخرجوا بجماعتهم حَتَّى نزلوا دار مَرْوَان بن الحكم، فحاصرهم الناس فِيهَا حصارا ضعيفا قَالَ: فدعت بنو أُمَيَّة حبيب بن كرة، وَكَانَ الَّذِي بعث إِلَيْهِ مِنْهُمْ مَرْوَان بن الحكم وعمرو ابن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، وَكَانَ مَرْوَان هُوَ يدبر أمرهم فأما عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فإنما كَانَ غلاما حدثا لَمْ يَكُنْ لَهُ رأي قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: فَحَدَّثَنِي حبيب بن كرة، قَالَ: كنت مع مَرْوَان، فكتب معي هُوَ وجماعة من بني أُمَيَّة كتابا إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فأخذ الكتاب عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان حَتَّى خرج معي إِلَى ثنية الوداع، فدفع إلي الكتاب وَقَالَ: قَدْ أجلتك اثنتي عشرة ليلة ذاهبا واثنتي عشرة ليلة مقبلا، فوافني لأربع وعشرين ليلة فِي هَذَا المكان تجدني إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الساعة جالسا أنتظرك وَكَانَ الكتاب:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه قَدْ حصرنا فِي دار مَرْوَان بن الحكم، ومنعنا العذب، ورمينا بالجبوب، فيا غوثاه يَا غوثاه! قَالَ: فأخذت الكتاب ومضيت بِهِ حَتَّى قدمت عَلَى يَزِيد وَهُوَ جالس عَلَى كرسي، واضع قدميه فِي ماء طست من وجع كَانَ يجده فيهما- ويقال: كَانَ بِهِ النقرس- فقرأه ثُمَّ قَالَ فِيمَا بلغنا متمثلا:
لقد بدلوا الحلم الَّذِي من سجيتي *** فبدلت قومي غلظة بليان
ثُمَّ قَالَ: أما يكون بنو أُمَيَّة ومواليهم ألف رجل بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ:
قلت: بلى، وَاللَّهِ وأكثر، قَالَ: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار! قَالَ: فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أجمع الناس كلهم عَلَيْهِم، فلم يكن لَهُمْ بجمع الناس طاقة، قَالَ: فبعث إِلَى عَمْرو بن سَعِيد فأقرأه الكتاب، وأخبره الخبر، وأمره أن يسير إِلَيْهِم فِي الناس، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كنت ضبطت لك البلاد، وأحكمت لك الأمور، فأما الآن إذ صارت إنما هي دماء قريش تهراق بالصعيد، فلا أحب أن أكون أنا أتولى ذَلِكَ، يتولاها مِنْهُمْ من هُوَ أبعد مِنْهُمْ مني قَالَ: فبعثني بِذَلِكَ الكتاب إِلَى مسلم بن عُقْبَةَ المري- وَهُوَ شيخ كبير ضعيف مريض- فدفعت إِلَيْهِ الكتاب، فقرأه، وسألني عن الخبر فأخبرته، فَقَالَ لي مثل مقالة يَزِيد: أما يكون بنو أُمَيَّة ومواليهم وأنصارهم بِالْمَدِينَةِ ألف رجل! قَالَ: قلت: بلى يكونون، قَالَ: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار! ليس هَؤُلاءِ بأهل أن ينصروا حَتَّى يجهدوا أنفسهم فِي جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى دخل عَلَى يَزِيد فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تنصر هَؤُلاءِ فإنهم الأذلاء، أما استطاعوا أن يقاتلوا يَوْمًا واحدا أو شطره أو ساعة مِنْهُ! دعهم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يجهدوا أنفسهم فِي جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ويستبين لك من يقاتل مِنْهُمْ عَلَى طاعتك، ويصبر عَلَيْهَا أو يستسلم، قَالَ: ويحك! إنه لا خير فِي العيش بعدهم، فاخرج فأنبئني نبأك، وسر بِالنَّاسِ، فخرج مناديه فنادى: أن سيروا إِلَى الحجاز عَلَى أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة دينار توضع فِي يد الرجل من ساعته، فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن مغيرة، قَالَ: كتب يَزِيد إِلَى ابن مرجانة: أن اغز ابن الزُّبَيْر، فَقَالَ: لا أجمعهما للفاسق أبدا، اقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغزو البيت! قَالَ: وكانت مرجانة امرأة صدق، فقالت لعبيد الله حين قتل الحسين ع: ويلك! ماذا صنعت! وماذا ركبت! رجع الحديث إِلَى حديث حبيب بن كرة قَالَ: فأقبلت حَتَّى أوافي عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان فِي ذَلِكَ المكان فِي تِلَكَ الساعة أو بعيدها شَيْئًا.
قَالَ: فوجدته جالسا متقنعا تحت شجرة، فأخبرته بِالَّذِي كَانَ، فسر بِهِ، فانطلقنا حَتَّى دخلنا دار مَرْوَان عَلَى جماعة بني أُمَيَّة، فنبأتهم بِالَّذِي قدمت بِهِ، فحمدوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: حَدَّثَنِي حبيب، أنه بلغه فِي عشرة قَالَ: فلم أبرح حَتَّى رأيت يَزِيد بن مُعَاوِيَة خرج إِلَى الخيل يتصفحها وينظر إِلَيْهَا، قَالَ: فسمعته وَهُوَ يقول وَهُوَ متقلد سيفا، متنكب قوسا عربية:
أبلغ أبا بكر إذا الليل سرى *** وهبط القوم عَلَى وادي القرى
عشرون ألفا بين كهل وفتى *** أجمع سكران من القوم ترى!
أم جمع يقظان نفي عنه الكرى! *** يَا عجبا من ملحد يَا عجبا!
مخادع فِي الدين يقفو بالعرى
قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: وفصل ذَلِكَ الجيش من عِنْدَ يَزِيد وعليهم مسلم بن عُقْبَةَ، وَقَالَ لَهُ: إن حدث بك حدث فاستخلف عَلَى الجيش حصين بن نمير السكوني، وَقَالَ لَهُ: ادع القوم ثلاثا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا اظهرت عليهم فأبحها ثلاثا، فما فِيهَا من مال أو رقة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس، وأنظر عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فاكفف عنه،، واستوص بِهِ خيرا، وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل فِي شَيْءٍ مما دخلوا فِيهِ، وَقَدْ أتاني كتابه وعلي لا يعلم بشيء مما أوصى بِهِ يَزِيد بن مُعَاوِيَة مسلم بن عُقْبَةَ، وَقَدْ كَانَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن لما خرج بنو أُمَيَّة نحو الشام أوى إِلَيْهِ ثقل مَرْوَان بن الحكم، وامرأته عَائِشَة بنت عُثْمَان بن عَفَّانَ، وَهِيَ أم أبان بن مَرْوَان.
وَقَدْ حدثت عن محمد بن سعد، عن محمد بن عُمَرَ، قَالَ: لما أخرج أهل الْمَدِينَة عُثْمَان بن مُحَمَّد مِنَ الْمَدِينَةِ، كلم مَرْوَان بن الحكم ابن عُمَرَ أن يغيب أهله عنده، فأبى ابن عمر أن يفعل، وكلم عَلِيّ بن الْحُسَيْن، وَقَالَ:
يَا أَبَا الْحَسَن، إن لي رحما، وحرمي تكون مع حرمك، فَقَالَ: افعل، فبعث بحرمه إِلَى عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فخرج بحرمه وحرم مَرْوَان حَتَّى وضعهم بينبع، وَكَانَ مَرْوَان شاكرا لعلي بن الْحُسَيْن، مع صداقة كَانَتْ بينهما قديمة.
رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل، قال:
وأقبل مسلم بن عُقْبَةَ بالجيش حَتَّى إذا بلغ أهل الْمَدِينَة إقباله وثبوا عَلَى من معهم من بني أُمَيَّة، فحصروهم فِي دار مَرْوَان، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نكف عنكم حَتَّى نستنزلكم ونضرب أعناقكم، أو تعطونا عهد اللَّه وميثاقه لا تبغونا غائلة، وَلا تدلوا لنا عَلَى عورة، وَلا تظاهروا علينا عدوا، فنكف عنكم ونخرجكم عنا، فأعطوهم عهد اللَّه وميثاقه لا نبغيكم غائلة، وَلا ندل لكم عَلَى عورة، فأخرجوهم مِنَ الْمَدِينَةِ، فخرجت بنو أُمَيَّة بأثقالهم حَتَّى لقوا مسلم بن عُقْبَةَ بوادي القرى، وخرجت عَائِشَة بنت عُثْمَان بن عَفَّانَ إِلَى الطائف، فتمر بعلي بن حُسَيْن وَهُوَ بمال لَهُ إِلَى جنب الْمَدِينَة قَدِ اعتزلها كراهية أن يشهد شَيْئًا من أمرهم، فَقَالَ لها: احملي ابني عَبْد اللَّهِ معك إِلَى الطائف، فحملته إِلَى الطائف حَتَّى نقضت أمور أهل الْمَدِينَة.
ولما قدمت بنو أُمَيَّة عَلَى مسلم بن عُقْبَةَ بوادي القرى دعا بعمرو بن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ أول الناس فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي خبر مَا وراءك، وأشر علي، قَالَ: لا أستطيع أن أخبرك، أخذ علينا العهود والمواثيق أَلا ندل عَلَى عورة، وَلا نظاهر عدوا، فانتهره ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لولا أنك ابن عُثْمَان لضربت عنقك، وايم اللَّه لا أقيلها قرشيا بعدك فخرج بِمَا لقي من عنده إِلَى أَصْحَابه، فَقَالَ مَرْوَان بن الحكم لابنه عَبْد الْمَلِكِ: ادخل قبلي لعله يجتزئ بك عني، فدخل عَلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ، فَقَالَ: هات مَا عندك، أَخْبِرْنِي خبر الناس، وكيف ترى؟ فَقَالَ لَهُ: نعم أَرَى أن تسير بمن معك، فتنكب هَذَا الطريق إِلَى الْمَدِينَة، حَتَّى إذا انتهيت إِلَى أدنى نخل بِهَا نزلت، فاستظل الناس فِي ظله، وأكلوا من صقره، حَتَّى إذا كَانَ الليل أذكيت الحرس الليل كله عقبا بين أهل العسكر، حَتَّى إذا أصبحت صليت بِالنَّاسِ الغداة، ثُمَّ مضيت بهم وتركت الْمَدِينَة ذات اليسار، ثُمَّ أدرت بِالْمَدِينَةِ حَتَّى تأتيهم من قبل الحرة مشرقا، ثُمَّ تستقبل القوم، فإذا استقبلتهم وَقَدْ أشرقت عَلَيْهِم وطلعت الشمس طلعت بين أكتاف أَصْحَابك، فلا تؤذيهم، وتقع فِي وجوههم فيؤذيهم حرها، ويصيبهم أذاها، ويرون مَا دمتم مشرقين من ائتلاق بيضكم وحرابكم، وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم مَا لا ترونه أنتم لشيء من سلاحهم مَا داموا مغربين، ثُمَّ قاتلهم واستعن بِاللَّهِ عَلَيْهِم، فإن اللَّه ناصرك، إذ خالفوا الإمام، وخرجوا من الجماعة فَقَالَ لَهُ مسلم: لِلَّهِ أبوك! أي امرئ ولد إذ ولدك! لقد رَأَى بك خلفا ثُمَّ إن مَرْوَان دخل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إيه! قَالَ: أليس قَدْ دخل عَلَيْك عَبْد الْمَلِكِ! قَالَ: بلى، وأي رجل عَبْد الْمَلِكِ! قلما كلمت من رجال قريش رجلا بِهِ شبيها، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتني، قَالَ: أجل، ثُمَّ ارتحل من مكانه ذَلِكَ، وارتحل الناس مَعَهُ حَتَّى نزل المنزل الَّذِي أمره بِهِ عَبْد الْمَلِكِ، فصنع فِيهِ مَا أمره بِهِ، ثُمَّ مضى فِي الحرة حَتَّى نزلها، فأتاهم من قبل المشرق ثُمَّ دعاهم مسلم بن عُقْبَةَ، فَقَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة، إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة يزعم أنكم الأصل، وأني أكره هراقة دمائكم، وأني أؤجلكم ثلاثا، فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا مِنْهُ، وانصرفت عنكم، وسرت إِلَى هَذَا الملحد الَّذِي بمكة، وإن أبيتم كنا قَدْ أعذرنا إليكم- وَذَلِكَ فِي ذي الحجة من سنة أربع وستين، هكذا وجدته فِي كتابي، وَهُوَ خطأ، لأن يَزِيد هلك فِي شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت وقعة الحرة فِي ذي الحجة من سنة ثلاث وستين يوم الأربعاء لليلتين بقيتا مِنْهُ ولما مضت الأيام الثلاثة قَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة، قَدْ مضت الأيام الثلاثة، فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فَقَالُوا: بل نحارب، فَقَالَ لَهُمْ:
لا تفعلوا، بل ادخلوا فِي الطاعة، ونجعل حدنا وشوكتنا عَلَى هَذَا الملحد الَّذِي قَدْ جمع إِلَيْهِ المراق والفساق من كل أوب فَقَالُوا لَهُمْ: يَا أعداء اللَّه، وَاللَّهِ لو أردتم أن تجوزوا إِلَيْهِم مَا تركناكم حَتَّى نقاتلكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت اللَّه الحرام، وتخيفوا أهله، وتلحدوا فِيهِ، وتستحلوا حرمته! لا وَاللَّهِ لا نفعل.
وَقَدْ كَانَ أهل الْمَدِينَة اتخذوا خندقا فِي جانب الْمَدِينَة، ونزله جمع مِنْهُمْ عظيم، وَكَانَ عَلَيْهِم عبد الرَّحْمَن بن زهير بن عبد عوف ابن عم عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن مطيع عَلَى ربع آخر فِي جانب الْمَدِينَة، وَكَانَ معقل بن سنان الأشجعي عَلَى ربع آخر فِي جانب الْمَدِينَة، وَكَانَ أَمِير جماعتهم عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل الأَنْصَارِيّ، فِي أعظم تِلَكَ الأرباع وأكثرها عددا.
قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي، فذكر أن عَبْد اللَّهِ بن مطيع كَانَ عَلَى قريش من أهل الْمَدِينَة، وعبد اللَّه بن حنظلة الغسيل عَلَى الأنصار، ومعقل بن سنان عَلَى الْمُهَاجِرِينَ.
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: قَالَ عَبْد الملك بن نوفل: وصمد مسلم ابن عُقْبَةَ بجميع من مَعَهُ، فأقبل من قبل الحرة حَتَّى ضرب فسطاطه عَلَى طريق الْكُوفَة، ثُمَّ وجه الخيل نحو ابن الغسيل، فحمل ابن الغسيل عَلَى الخيل فِي الرجال الَّذِينَ مَعَهُ حَتَّى كشف الخيل، حَتَّى انتهوا إِلَى مسلم بن عُقْبَةَ، فنهض فِي وجوههم بالرجال، وصاح بهم، فانصرفوا فقاتلوا قتالا شديدا.
ثُمَّ إن الفضل بْن عباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب جَاءَ الى عبد الله ابن حنظلة الغسيل فقاتل فِي نحو من عشرين فارسا قتالا شديدا حسنا، ثُمَّ قَالَ لعبد اللَّه: مر من معك فارسا فليأتني فليقف معى، فإذا حملت فليحملوا، فو الله لا أنتهي حَتَّى أبلغ مسلما، فإما أن أقتله، وإما أن أقتل دونه فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن حنظلة لعبد اللَّه بن الضحاك من بني عبد الأشهل من الأنصار: ناد فِي الخيل فلتقف مع الفضل بن العباس، فنادى فيهم فجمعهم إِلَى الفضل، فلما اجتمعت الخيل إِلَيْهِ حمل عَلَى أهل الشام فانكشفوا، فَقَالَ لأَصْحَابه: الا ترونهم كشفا لئاما! احملوا اخرى جعلت فداكم! فو الله لَئِنْ عاينت أميرهم، لأقتلنه أو لأقتلن دونه، ان صبر ساعه معقب سرور أبد، إنه ليس بعد لصبرنا إلا النصر ثُمَّ حمل وحمل أَصْحَابه مَعَهُ، فانفرجت خيل أهل الشام عن مسلم بن عُقْبَةَ فِي نحو من خمسمائة راجل جثاة عَلَى الركب، مشرعي الأسنة نحو القوم، ومضى كما هُوَ نحو رايته حَتَّى يضرب رأس صاحب الراية، وإن عَلَيْهِ لمغفرا، فقط المغفر، وفلق هامته فخر ميتا، فَقَالَ: خذها مني وأنا ابن عبد المطلب! فظن أنه قتل مسلما، فَقَالَ: قتلت طاغية القوم ورب الكعبة، فَقَالَ مسلم: أخطأت استك الحفرة! وإنما كَانَ ذَلِكَ غلاما لَهُ، يقال لَهُ: رومي، وَكَانَ شجاعا.
فأخذ مسلم رايته ونادى: يَا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا بِهِ عن دينهم، وأن يعزوا بِهِ نصر إمامهم! قبح اللَّه قتالكم منذ الْيَوْم! مَا أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي! اما والله ما جزاؤكم عليه الا ان تحرموا العطاء، وأن تجمروا فِي أقاصي الثغور شدوا مع هَذِهِ الراية، ترح اللَّه وجوهكم إن لم تعتبوا! فمشى برايته، وشدت تِلَكَ الرجال أمام الراية، فصرع الفضل بن عباس، فقتل وما بينه وبين اطناب مسلم بن عقبه الا نحو من عشر أذرع، وقتل مَعَهُ زَيْد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف، وقتل معه ابراهيم ابن نعيم العدوي، فِي رجال من أهل الْمَدِينَة كثير.
قَالَ هِشَام، عن عوانة: وَقَدْ بلغنا فِي حديث آخر أن مسلم بن عُقْبَةَ كَانَ مريضا يوم القتال، وأنه أمر بسرير وكرسي فوضع بين الصفين، ثُمَّ قَالَ:
يَا أهل الشام، قاتلوا عن أميركم أو دعوا ثُمَّ زحفوا نحوهم فأخذوا لا يصمدون لربع من تِلَكَ الأرباع إلا هزموه، وَلا يقاتلون إلا قليلا حَتَّى تولوا.
ثُمَّ إنه أقبل إِلَى عَبْد اللَّهِ بن حنظلة فقاتله أشد القتال، واجتمع من أراد القتال من تِلَكَ الأرباع إِلَى عَبْد اللَّهِ بن حنظلة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فحمل الفضل ابن العباس بن ربيعه في جماعه من وجوه النَّاسِ وفرسانهم يريد مسلم بن عُقْبَةَ، ومسلم عَلَى سريره مريض، فَقَالَ: احملوني فضعوني فِي الصف، فوضعوه بعد مَا حملوه أمام فسطاطه فِي الصف، وحمل الفضل بن العباس هُوَ وأَصْحَابه أُولَئِكَ حَتَّى انتهى إِلَى السرير، وَكَانَ الفضل أحمر، فلما رفع السيف ليضربه صاح بأَصْحَابه: إن العبد الأحمر قاتلي، فأين أنتم يَا بني الحرائر! اشجروه بالرماح، فوثبوا إِلَيْهِ فطعنوه حَتَّى سقط.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ثُمَّ إن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله ابن حنظلة الغسيل ورجاله بعده- كما حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ منقذ- حَتَّى دنوا مِنْهُ، وركب مسلم بن عُقْبَةَ فرسا لَهُ، فأخذ يسير فِي أهل الشام ويحرضهم ويقول: يَا أهل الشام، إنكم لستم بأفضل العرب فِي أحسابها وَلا أنسابها، وَلا أكثرها عددا، وَلا أوسعها بلدا، ولم يخصصكم اللَّه بِالَّذِي خصكم بِهِ من النصر عَلَى عدوكم، وحسن المنزلة عِنْدَ أئمتكم، إلا بطاعتكم واستقامتكم، وإن هَؤُلاءِ القوم وأشباههم من العرب غيروا فغير اللَّه بهم، فتموا عَلَى أحسن مَا كنتم عَلَيْهِ من الطاعة يتمم اللَّه لكم أحسن مَا ينيلكم من النصر والفلج ثُمَّ جَاءَ حَتَّى انتهى إِلَى مكانه الَّذِي كَانَ فِيهِ، وأمر الخيل أن تقدم عَلَى ابن الغسيل وأَصْحَابه، فأخذت الخيل إذا أقدمت عَلَى الرجال فثاروا فِي وجوهها بالرماح والسيوف نفرت وابذعرت وأحجمت، فنادى فِيهِمْ مسلم بن عُقْبَةَ: يَا أهل الشام، مَا جعلهم اللَّه أولى بالأرض مِنْكُمْ، يَا حصين بن نمير، انزل فِي جندك، فنزل فِي أهل حمص، فمشى إِلَيْهِم، فلما رآهم قَدْ أقبلوا يمشون تحت راياتهم نحو ابن الغسيل قام فِي أَصْحَابه فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، إن عدوكم قَدْ أصابوا وجه القتال الَّذِي كَانَ ينبغي أن تقاتلوهم بِهِ، وإني قَدْ ظننت أَلا تلبثوا إلا ساعة حَتَّى يفصل اللَّه بينكم وبينهم إما لكم وإما عَلَيْكُمْ أما إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة، وَاللَّهِ مَا أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان الْمُسْلِمِينَ بأرضى مِنْهُ عنكم، وَلا عَلَى أهل بلد من بلدان العرب بأسخط مِنْهُ عَلَى هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم ان لكل امرئ مِنْكُمْ ميتة هُوَ ميت بِهَا، وَاللَّهِ مَا من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها، فو الله مَا كل مَا أردتموها وجدتموها ثُمَّ مشى برايته غير بعيد، ثُمَّ وقف، وجاء ابن نمير برايته حَتَّى أدناها، وأمر مسلم بن عُقْبَةَ عَبْد اللَّهِ بن عضاه الأَشْعَرِيّ فمشى في خمسمائة مرام حَتَّى دنوا من ابن الغسيل وأَصْحَابه، فأخذوا ينضحونهم بالنبل، فَقَالَ ابن الغسيل: علام تستهدفون لَهُمْ! من أراد التعجل إِلَى الجنة فليلزم هَذِهِ الراية، فقام إِلَيْهِ كل مستميت، فقال: الغدو الى ربكم، فو الله إني لأرجو أن تكونوا عن ساعة قريري عين، فنهض القوم بعضهم إِلَى بعض فاقتتلوا أشد قتال رئى فِي ذَلِكَ الزمان ساعة من نهار، وأخذ يقدم بنيه أمامه واحدا واحدا حَتَّى قتلوا بين يديه، وابن الغسيل يضرب بسيفه، ويقول:
بعدا لمن رام الفساد وطغى *** وجانب الحق وآيات الهدى
لا يبعد الرحمن إلا من عصى
فقتل، وقتل مَعَهُ أخوه لأمه مُحَمَّد بن ثَابِتِ بْنِ قيس بن شماس، استقدم فقاتل حَتَّى قتل، وَقَالَ: مَا أحب أن الديلم قتلوني مكان هَؤُلاءِ القوم، ثُمَّ قاتل حَتَّى قتل وقتل مَعَهُ مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم الأنصاري، فمر عليه مروان ابن الحكم وكأنه برطيل من فضة، فَقَالَ: رحمك اللَّه! فرب سارية قَدْ رأيتك تطيل القيام فِي الصَّلاة إِلَى جنبها.
قَالَ هِشَام: فَحَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: فبلغنا أن مسلم بن عُقْبَةَ كَانَ يجلس عَلَى كرسي ويحمله الرجال وَهُوَ يقاتل ابن الغسيل يوم الحرة وَهُوَ يقول:
أحيا أباه هاشم بن حرمله *** يوم الهباتين ويوم اليعمله
كل الملوك عنده مغربله *** ورمحه للوالدات مثكله
لا يلبث القتيل حَتَّى يجدله *** يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب لَهُ
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: وخرج مُحَمَّد بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص يَوْمَئِذٍ يقاتل، فلما انهزم الناس مال عَلَيْهِم يضربهم بسيفه حَتَّى غلبته الهزيمة، فذهب فيمن ذهب مِنَ النَّاسِ وأباح مسلم الْمَدِينَة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال، فأفزع ذَلِكَ من كَانَ بِهَا من الصحابة، فخرج أَبُو سَعِيد الخدري حَتَّى دخل فِي كهف فِي الجبل، فبصر بِهِ رجل من أهل الشام، فَجَاءَ حَتَّى اقتحم عَلَيْهِ الغار.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْحَسَن بن عطية العوفي، عن أبي سَعِيد الخدري، قَالَ: دخل إلي الشامي يمشي بسيفه، قَالَ: فانتضيت سيفي فمشيت إِلَيْهِ لأرعبه لعله ينصرف عني، فأبى إلا الإقدام علي، فلما رأيت أن قَدْ جد شمت سيفي، ثُمَّ قلت لَهُ: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ} [المائدة: 28] ، فَقَالَ لي: من أنت لِلَّهِ أبوك! فقلت: أنا أَبُو سَعِيد الخدري، قَالَ:
صاحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، فانصرف عني.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: دعا الناس مسلم بن عُقْبَةَ بقباء إِلَى البيعة، وطلب الأمان لرجلين من قريش: ليزيد بن عَبْدِ اللَّهِ بْن زمعة بْن الأسود بْن المطلب بن أسد بن عبد العزى ومُحَمَّد بن أبي الجهم بن حُذَيْفَة العدوي ولمعقل ابن سنان الأشجعي، فأتي بهما بعد الوقعة بيوم فقال: بايعا، فَقَالَ القرشيان:
نبايعك عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا أقيلكم هَذَا ابدا، فقد مهما فضرب أعناقهما، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: سبحان اللَّه! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما! فنخس بالقضيب فِي خاصرته ثُمَّ قَالَ:
وأنت وَاللَّهِ لو قلت بمقالتهما مَا رأيت السماء إلا برقة.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وجاء معقل بن سنان، فجلس مع القوم، فدعا بشراب ليسقى، فَقَالَ لَهُ مسلم: أي الشراب أحب إليك؟
قَالَ: العسل، قَالَ: اسقوه، فشرب حَتَّى ارتوى، فَقَالَ لَهُ: أقضيت ريك من شرابك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: لا وَاللَّهِ لا تشرب بعده شرابا أبدا إلا الحميم فِي نار جهنم، أتذكر مقالتك لأمير الْمُؤْمِنِينَ: سرت شهرا، ورجعت شهرا، وأصبحت صفرا، اللَّهُمَّ غَيّر- تعني يَزِيد! فقدمه فضرب عنقه.
قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم فذكر أن مسلم بن عُقْبَةَ بعث عَمْرو بن محرز الأشجعي فأتاه بمعقل بن سنان فَقَالَ لَهُ مسلم: مرحبا بأبي مُحَمَّد! أراك عطشان! قَالَ: أجل، قَالَ: شوبوا لَهُ عسلا بالثلج الَّذِي حملتموه معنا- وَكَانَ لَهُ صديقا قبل ذَلِكَ- فشابوه لَهُ، فلما شرب معقل قَالَ لَهُ:
سقاك اللَّه من شراب الجنة، فَقَالَ لَهُ مسلم: أما وَاللَّهِ لا تشرب بعدها شرابا أبدا حَتَّى تشرب من شراب الحميم، قال: أنشدك الله والرحيم! فَقَالَ لَهُ مسلم: أنت الَّذِي لقيتني بطبرية ليلة خرجت من عِنْدَ يَزِيد، فقلت: سرنا شهرا ورجعنا من عِنْدَ يَزِيد صفرا، نرجع إِلَى الْمَدِينَة فنخلع هَذَا الفاسق، ونبايع لرجل من أبناء المهاجرين! فيم غطفان وأشجع من الخلع والخلافة! إني آليت بيمين لا ألقاك فِي حرب أقدر فِيهِ عَلَى ضرب عنقك إلا فعلت، ثُمَّ أمر بِهِ فقتل.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانه: واتى يزيد بن وهب بن زمعة، فَقَالَ: بايع، قَالَ:
أبايعك عَلَى سنة عمر، قَالَ: اقتلوه، قَالَ: أنا أبايع، قَالَ: لا وَاللَّهِ لا أقيلك عثرتك، فكلمه مَرْوَان بن الحكم- لصهر كَانَ بينهما- فأمر بمروان فوجئت عنقه، ثُمَّ قَالَ: بايعوا عَلَى أنكم خول ليزيد بن مُعَاوِيَة، ثُمَّ أمر بِهِ فقتل.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة، عن أبي مخنف قَالَ: قَالَ عَبْد الملك بن نوفل ابن مساحق: ثُمَّ إن مَرْوَان أتي بعلي بن الْحُسَيْن، وَقَدْ كَانَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن حين أخرجت بنو أُمَيَّة منع ثقل مَرْوَان وامرأته وآواها، ثُمَّ خرجت إِلَى الطائف، فهي أم أبان ابنة عُثْمَان بن عَفَّانَ، فبعث ابنه عَبْد اللَّهِ معها، فشكر ذَلِكَ لَهُ مَرْوَان- وأقبل عَلِيّ بن الْحُسَيْن يمشي بين مَرْوَان وعبد الملك يلتمس بهما عِنْدَ مسلم الأمان، فَجَاءَ حَتَّى جلس عنده بينهما، فدعا مَرْوَان بشراب ليتحرم بِذَلِكَ من مسلم، فأتي لَهُ بشراب، فشرب مِنْهُ مَرْوَان شَيْئًا يسيرا، ثُمَّ ناوله عَلِيًّا، فلما وقع فِي يده قَالَ له مسلم: لا تشرب من شرابنا، فأرعدت كفه، ولم يأمنه عَلَى نفسه، وأمسك القدح بكفه لا يشربه وَلا يضعه، فَقَالَ: إنك إنما جئت تمشي بين هَؤُلاءِ لتأمن عندي، وَاللَّهِ لو كَانَ هَذَا الأمر إليهما لقتلتك، ولكن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أوصاني بك، وأخبرني أنك كاتبته، فذلك نافعك عندي، فإن شئت فاشرب شرابك الَّذِي فِي يدك، وإن شئت دعونا بغيره، فَقَالَ: هَذِهِ الَّتِي في كفى اريد، قال: اشربها، ثم قال: الى هاهنا، فأجلسه مَعَهُ.
قَالَ هِشَام: وَقَالَ عوانة بن الحكم: لما أتي بعلي بن الْحُسَيْن إِلَى مسلم، قَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا عَلِيّ بن الْحُسَيْن، قَالَ: مرحبا وأهلا، ثُمَّ أجلسه مَعَهُ عَلَى السرير والطنفسة، ثُمَّ قَالَ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أوصاني بك قبلا، وَهُوَ يقول: إن هَؤُلاءِ الخبثاء شغلوني عنك وعن وصلتك، ثم قال لعلي: لعل أهلك فزعوا! قَالَ: إي وَاللَّهِ، فأمر بدابته فأسرجت، ثُمَّ حمله فرده عَلَيْهَا.
قَالَ هِشَام: وذكر عوانة أن عَمْرو بن عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ فيمن خرج من بني أُمَيَّة، وأنه أتى بِهِ يَوْمَئِذٍ إِلَى مسلم بن عُقْبَةَ فَقَالَ: يَا أهل الشام، تعرفون هَذَا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: هَذَا الخبيث ابن الطيب، هَذَا عَمْرو بن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ امير المؤمنين، هيه يَا عَمْرو! إذا ظهر أهل الْمَدِينَة قلت: أنا رجل مِنْكُمْ، وإن ظهر أهل الشام قلت: أنا ابن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ، فأمر بِهِ فنتفت لحيته، ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الشام، إن أم هَذَا كَانَتْ تدخل الجعل فِي فِيهَا ثُمَّ تقول: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حاجيتك، مَا فِي فمي؟ وفي فمها مَا ساءها وناءها، فخلى سبيله، وكانت أمه من دوس.
قَالَ أَبُو جَعْفَر الطبري: فَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وَحَدَّثَنِي الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عُمَرَ، قَالا: كَانَتْ وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وَقَالَ بعضهم: لثلاث ليال بقين مِنْهُ.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابن سعد، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن جَعْفَر، عن ابن عوف، قَالَ: حج ابن الزُّبَيْر بِالنَّاسِ سنة ثلاث وستين، وَكَانَ يسمى يَوْمَئِذٍ العائذ، ويرون الأمر شورى قَالَ: فلما كَانَتْ ليلة هلال المحرم ونحن فِي منزلنا إذ قدم علينا سَعِيد مولى المسور بن مخرمة، فخبرنا بِمَا أوقع مسلم بأهل الْمَدِينَة وما نيل مِنْهُمْ، فجاءهم امر عظيم، فرايت القوم شهروا ووجدوا وأعدوا وعرفوا أنه نازل بهم وَقَدْ ذكر من أمر وقعة الحرة ومقتل ابن الغسيل أمر غير الَّذِي روي عن أبي مخنف، عن الَّذِينَ روى ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ: حدثنا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُحَدِّثُونَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لك من اهل الدنيا يَوْمًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَارْمِهِمْ بِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ قَدْ عَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ فَلَمَّا هَلَكَ مُعَاوِيَةُ وَفَدَ إِلَيْهِ وَفْدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، وَكَانَ شَرِيفًا فَاضِلا سَيِّدًا عَابِدًا، مَعَهُ ثَمَانِيةُ بَنِينَ لَهُ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى بَنِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلافٍ سِوَى كِسْوَتِهِمْ وَحِمْلانِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ أَتَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا بَنِيَّ هَؤُلاءِ لَجَاهَدْتُهُ بِهِمْ، قَالُوا: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ أَجْدَاكَ وَأَعْطَاكَ وَأَكْرَمَكَ، قَالَ: قَدْ فَعَلَ، وَمَا قَبِلْتُ مِنْهُ إِلا لأَتَقَوَّى بِهِ، وَحَضَّضَ النَّاسَ فَبَايَعُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ، فَبَعَثَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى كُلِّ مَاءٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَصَبُّوا فِيهِ زُقًّا مِنْ قَطِرَانٍ، وَعُوِّرَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَقُوا بِدَلْوٍ حَتَّى وَرَدُوا الْمَدِينَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَهَيْئَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ الشَّامِ هَابُوهُمْ وَكَرِهُوا قِتَالَهُمْ، وَمُسْلِمٌ شَدِيدُ الْوَجَعِ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي قِتَالِهِمْ إِذْ سَمِعُوا التَّكْبِيرَ مِنْ خَلْفِهِمْ فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ، وَأَقْحَمَ عَلَيْهِمْ بَنُو حَارِثَةَ أَهْلَ الشَّامِ، وَهُمْ عَلَى الْجُدِّ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَكَانَ مَنْ أُصِيبَ فِي الْخَنْدَقِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ النَّاسِ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَهُزِمَ النَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَحَدِ بَنِيهِ يَغُطُّ نَوْمًا، فَنَبَّهَهُ ابْنُهُ، فَلَمَّا فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَرَأَى مَا صَنَعَ النَّاسُ أَمَرَ أَكْبَرَ بَنِيهِ، فَتَقَدَّمَ حَتَّى قُتِلَ، فَدَخَلَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ، فَدَعَا النَّاسَ لِلْبَيْعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَلٌ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، يَحْكُمْ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مَا شَاءَ.