فمن ذلك ما كان من إدخال العلوي المعروف بالحرون عسكر أبي أحمد في المحرم على جمل وعليه قباء ديباج وقلنسوة طويلة،ثم حمل في شذاة …
ومضي به حتى وقف به حيث يراه صاحب الزنج، ويسمع كلام الرسل.
وفي المحرم منها قطع الأعراب على قافلة من الحاج بين توز وسميراء، فسلبوهم واستاقوا نحوا من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناسا كثيرين.
وفي المحرم منها في ليلة أربع عشرة انخسف القمر وغاب منخسفا، وانكسفت الشمس يوم الجمعة لليلتين بقيتا من المحرم وقت المغيب، وغابت منكسفة، فاجتمع في المحرم كسوف الشمس والقمر.
وفي صفر منها كان ببغداد وثوب العامة بإبراهيم الخليجي، فانتهبوا داره، وكان السبب في ذلك أن غلاما له رمى امرأة بسهم فقتلها، فاستعدى السلطان عليه، فبعث إليه في إخراج الغلام، فامتنع ورمى غلمانه الناس، فقتلوا جماعه وجرحوا جماعه، فمنعهم من أعوان السلطان رجلان، فهرب وأخذ غلمانه، ونهب منزله ودوابه، فجمع مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن طاهر- وكان على الجسر من قبل أبيه- دواب إبراهيم، وما قدر عليه مما نهب له، وأمر عبيد الله بتسليم ذلك إليه، وأشهد عليه برده عليه وفيها وجه ابن أبي الساج بعد ما صار إلى الطائف منصرفا من مكة إلى جدة جيشا، فأخذوا للمخزومي مركبين فيهما مال وسلاح.
وفيها أخذ رومي بن حسنج ثلاثة نفر من قواد الفراغنة، يقال لأحدهم صديق، والآخر طخشى، وللثالث طغان، فقيدهم، وجرح صديق جراحات وأفلت.
وفيها كان وثوب خلف صاحب أحمد بن طولون في شهر ربيع الاول منها بالثغور الشامية، وهو عامله عليها، بيازمان الخادم مولى الفتح بن خاقان فحبسه، فوثبت جماعه من اهل الثغر بخلف، وتخلصوا يازمان، وهرب خلف، وتركوا الدعاء لابن طولون، ولعنوه على المنابر، فبلغ ذلك ابن طولون، فخرج من مصر، حتى صار إلى دمشق، ثم صار إلى الثغور الشامية، فنزل أذنة، وسد يازمان وأهل طرسوس أبوابها، خلا باب الجهاد وباب البحر، وبثقوا الماء، فجرى إلى قرب أذنة وما حولها، فتحصنوا بها، فأقام ابن طولون بأذنة، ثم انصرف فرجع إلى أنطاكية، ثم مضى إلى حمص، ثم إلى دمشق فأقام بها.
وفيها خالف لؤلؤ غلام ابن طولون مولاه، وفي يده حين خالفه حمص وحلب وقنسرين وديار مضر، وسار لؤلؤ إلى بالس فنهبها، وأسر سعيدا وأخاه ابني العباس الكلابي ثم كاتب لؤلؤ أبا أحمد في المصير إليه ومفارقة ابن طولون، ويشترط لنفسه شروطا، فأجابه أبو أحمد إلى ما ساله، وكان مقيما بالرقة، فشخص عنها، وحمل جماعة من أهل الرافقة وغيرهم معه، وصار إلى قرقيسيا، وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه فأخذ لؤلؤ قرقيسيا، وسلمها إلى أحمد بن مالك بن طوق، وهرب ابن صفوان، واقبل لؤلؤ يريد بغداد.
ذكر خبر اصابه الموفق
وفيها رمي أبو أحمد الموفق بسهم- رماه غلام رومي، يقال له قرطاس- للخبيث بعد ما دخل أبو أحمد مدينته التي كان بناها لهدم سورها، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن الخبيث بهبوذ لما هلك، طمع الزنج فيما كان بهبوذ قد جمع من الكنوز والأموال، وكان قد صح عنده أن ملكه قد حوى مائتي ألف دينار وجوهرا وذهبا وفضة لها قدر، فطلب ذلك بكل حيلة، وحرص عليه، وحبس أولياءه وقرابته وأصحابه، وضربهم بالسياط، وأثار دورا من دوره، وهدم أبنية من أبنيته، طمعا في أن يجد في شيء منها دفينا، فلم يجد من ذلك شيئا، وكان فعله الذي فعله بأولياء بهبوذ في طلب المال أحد ما أفسد قلوب أصحابه، ودعاهم إلى الهرب منه والزهد في صحبته، فأمر الموفق بالنداء في أصحاب بهبوذ بالأمان، فنودي بذلك، فسارعوا إليه راغبين فيه، فألحقوا في الصلات والجوائز والخلع والأرزاق بنظرائهم ورأى أبو أحمد لما كان يتعذر عليه من العبور إلى عسكر الفاجر في الأوقات التي تهب فيها الرياح وتحرك فيها الأمواج في دجلة أن يوسع لنفسه وأصحابه موضعا في الجانب الغربي من دجلة ليعسكر به فيما بين دير جابيل ونهر المغيرة، وأمر بقطع النخل وإصلاح موضع الخندق، وأن يحف بالخنادق، ويحصن بالسور ليأمن بيات الفجار واغتيالهم إياه، وجعل على قواده نوائب، فكان لكل واحد منهم نوبة يغدو إليها برجاله، ومعه العمال في كل يوم لإحكام أمر العسكر الذي عزم على اتخاذه هنالك، فقابل الفاسق ذلك بأن جعل على علي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا، فكان لكل واحد منهم يوم ينوب فيه.
وكان ابن الخبيث المعروف بأنكلاي يحضر في كل يوم نوبة سليمان، وربما حضر في نوبة إبراهيم ثم أقامه الخبيث مقام إبراهيم بن جعفر، وكان سليمان بن جامع يحضر معه في نوبته، وضم إليه الخبيث سليمان بن موسى الشعراني وأخويه، وكانوا يحضرون بحضوره، ويغيبون بغيبته وعلم الخبيث أن الموفق إذا جاوره في محاربته، وقرب على من يريد اللحاق به المسافة فيما يحاول من الهرب إليه، مع ما يدخل قلوب أصحابه من الرهبة بتقارب العسكرين أن في ذلك انتقاض تدبيره، وفساد جميع أموره، فأمر أصحابه بمحاربة من يعبر من القواد في كل يوم، ومنعهم من إصلاح ما يحاولون اصلاحه من امر عسكرهم الذى يريدون الانتقال إليه، وعصفت الرياح في بعض تلك الأيام وبعض قواد الموفق في الجانب الغربي لما كان يعبر له فانتهز الفاسق الفرصة في انفراد هذا القائد وانقطاعه عن أصحابه، وامتناع دجلة بعصوف الريح من أن يرام عبورها، فرمى القائد المقيم في غربي دجلة بجميع جيشه، وكاثره برجاله، ولم تجد الشذوات التي كانت تكون مع القائد الموجه سبيلا إلى الوقوف بحيث كانت تقف لحمل الرياح إياها على الحجارة، وما خاف أصحابها عليها من التكسر، فقوي الزنج على ذلك القائد وأصحابه، فأزالوهم من موضعهم، وأدركوا طائفة منهم، فثبتوا فقتلوا عن آخرهم، ولجأت طائفة إلى الماء، فتبعهم الزنج، فأسروا منهم أسارى، وقتلوا منهم نفرا، وأفلت أكثرهم، وأدركوا سفنهم، فألقوا أنفسهم فيها، وعبروا إلى المدينة الموفقية، فاشتد جزع الناس لما تهيأ للفسقة، وعظم بذلك اهتمامهم وتأمل أبو أحمد فيما كان دبر من النزول في الجانب الغربي من دجلة أنه أكدى، وما لا يؤمن من حيلة الفاسق وأصحابه في انتهاز فرصة، فيوقع بالعسكر بياتا، أو يجد مساغا إلى شيء مما يكون له فيه متنفس، لكثرة الأدغال في ذلك الموضع وصعوبة المسالك، وأن الزنج على التوغل إلى المواضع الوحشة أقدر، وهو عليهم أسهل من أصحابه.
فانصرف عن رأيه في نزول غربي دجلة، وجعل قصده لهدم سور الفاسق وتوسعه الطرق والمسالك منها لأصحابه، فأمر عند ذلك أن يبدأ بهدم السور مما يلي النهر المعروف بمنكى، فكان تدبير الخبيث في ذلك توجيه ابنه المعروف بأنكلاي وعلي بن أبان وسليمان بن جامع للمنع من ذلك، كل واحد منهم في نوبته في ذلك اليوم، فإذا كثر عليهم أصحاب الموفق اجتمعوا جميعا لمدافعة من يأتيهم.
فلما رأى الموفق تحاشد الخبثاء وتعاونهم على المنع من الهدم للسور، أزمع على مباشرة ذلك وحضوره ليستدعي به جد أصحابه واجتهادهم، ويزيد في عنايتهم ومجاهدتهم، ففعل ذلك، واتصلت الحرب، وغلظت على الفريقين، وكثر القتلى والجراح في الحزبين كليهما، فأقام الموفق أياما يغادي الفسقة ويراوحهم، فكانوا لا يفترون من الحرب في يوم من الأيام، وكان أصحاب أبي أحمد لا يستطيعون الولوج على الخبثة لقنطرتين كانتا على نهر منكى كان الزنج يسلكونهما في وقت استعار الحرب، فينتهون منهما إلى طريق يخرجهم في ظهور أصحاب أبي أحمد، فينالون منهم، ويحجزونهم عن استتمام ما يحاولون من هدم السور، فرأى الموفق إعمال الحيلة في هدم هاتين القنطرتين ليمنع الفسقة عن الطريق الذي كانوا يصيرون منه إلى استدبار أصحابه في وقت احتدام الحرب، فأمر قوادا من قواد غلمانه بقصد هاتين القنطرتين، وأن يختلوا الزنج، وينتهزوا الفرصة في غفلتهم عن حراستهما، وتقدم إليهم في ان يعدوا لهما من الفؤوس والمناشير والآلات التي يحتاج إليها لقطعهما ما يكون عونا لهم على الإسراع فيما يقصدون له من ذلك.
فانتهى الغلمان إلى ما أمروا به، وصاروا إلى نهر منكى وقت نصف النهار، فبرز لهم الزنج، فبادروا وتسرعوا، فكان ممن تسرع إليهم أبو النداء في جماعه من اصحابه يزيدون على الخمسمائة، ونشبت الحرب بين أصحاب الموفق والزنج، فاقتتلوا صدر النهار، ثم ظهر غلمان أبي أحمد على الفسقة فكشفوهم عن القنطرتين، فأصاب المعروف بأبي النداء سهم في صدره وصل إلى قلبه فصرعه، وحامى اصابه على جيفته فاحتملوها، وولوا منهزمين، وتمكن قواد غلمان الموفق من قطع القنطرتين، فقطعوهما وأخرجوهما إلى دجلة، وحملوا خشبهما إلى أبي أحمد، وانصرفوا على حال سلامة، وأخبروا الموفق بقتل أبي النداء وقطع القنطرتين، فعظم سروره وسرور أهل العسكر بذلك، وأمر لرامي أبي النداء بصلة وافرة.
وألح أبو أحمد على الخبيث وأشياعه بالحرب، وهدم من السور ما أمكنهم به الولوج عليهم، فشغلوهم بالحرب في مدينتهم عن المدافعة عن سورهم، فأسرع الهدم فيه، وانتهى منه إلى داري ابن سمعان وسليمان بن جامع، فصار ذلك أجمع في أيدي أصحاب الموفق، لا يستطيع الفسقة دفعهم عنه ولا منعهم من الوصول إليه، وهدمت هاتان الداران، وانتهب ما فيهما، وانتهى أصحاب الموفق إلى سوق لصاحب الزنج كان اتخذها مظلة على دجلة، سماها الميمونة، فأمر الموفق زيرك صاحب مقدمة أبي العباس بالقصد لهذه السوق، فقصد بأصحابه لذلك، وأكب عليها، فهدمت تلك السوق وأخربت، فقصد الموفق الدار التي كان صاحب الزنج اتخذها للجبائي فهدمها، وانتهب ما كان فيها وفي خزائن الفاسق كانت متصلة بها.
وأمر أصحابه بالقصد إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذ فيه بناء سماه مسجد الجامع، فاشتدت محاماة الفسقة عن ذلك والذب عنه، بما كان الخبيث يحضهم عليه، ويوهمهم أنه يجب عليهم من نصرة المسجد وتعظيمه، فيصدقون قوله في ذلك، ويتبعون فيه رأيه وصعب على أصحاب الموفق ما كانوا يرومون من ذلك، وتطاولت الأيام بالحرب على ذلك الموضع والذي حصل مع الفاسق يومئذ نخبة أصحابه وأبطالهم والموطنون أنفسهم على الصبر معه، فحاموا جهدهم، حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط، فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف موقفه إشفاقا من أن يخلو موقف رجل منهم، فيدخل الخلل على سائر أصحابه.
فلما رأى أبو أحمد صبر هذه العصابة ومحاماتها، وتطاول الأيام بمدافعتها، أمر أبا العباس بالقصد لركن البناء الذي سماها الخبيث مسجدا، وأن يندب لذلك أنجاد أصحابه وغلمانه، وأضاف إليهم الفعلة الذين كانوا أعدوا للهدم، فإذا تهيأ لهم هدم شيء أسرعوا فيه، وأمر بوضع السلاليم على السور فوضعوها، وصعد الرماة فجعلوا يرشقون بالسهام من وراء السور من الفسقة، ونظم الرجال من حد الدار المعروفة بالجبائي إلى الموضع الذي رتب فيه أبا العباس، وبذل الموفق الأموال والأطوقة والأسورة لمن سارع إلى هدم سور الفاسق وأسواقه ودور أصحابه، فتسهل ما كان يصعب بعد محاربة طويلة وشدة، فهدم البناء الذي كان الخبيث سماه مسجدا، ووصل إلى منبره فاحتمل، فأتي به الموفق، وانصرف به إلى مدينته الموفقية جذلا مسرورا ثم عاد الموفق لهدم السور فهدمه من حد الدار المعروفة بأنكلاي إلى الدار المعروفة بالجبائي.
وأفضى أصحاب الموفق إلى دواوين من دواوين الخبيث وخزائن من خزائنه، فانتهبت وأحرقت، وكان ذلك في يوم ذي ضباب شديد، قد ستر بعض الناس عن بعض، فما يكاد الرجل يبصره صاحبه فظهر في هذا اليوم للموفق تباشير الفتح، فإنهم لعلى ذلك، حتى وصل سهم من سهام الفسقة إلى الموفق، رماه به غلام رومي كان مع الفاسق يقال له قرطاس، فأصابه في صدره، وذلك في يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع وستين ومائتين، فستر الموفق ما ناله من ذلك السهم، وانصرف الى المدينة مع الموفقية، فعولج في ليلته تلك من جراحته، وبات ثم عاد إلى الحرب على ما به من الم الجراح، يشد بذلك قلوب أوليائه من أن يدخلها وهم أو ضعف، فزاد ما حمل نفسه عليه من الحركة في قوة علته، فغلظت وعظم امرها حتى خيف عليه، واحتاج إلى علاجه بأعظم ما يعالج به الجراح، واضطرب لذلك العسكر والجند والرعية، وخافوا قوة الفاسق عليهم، حتى خرج عن مدينته جماعة ممن كان مقيما بها، لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة، وحدثت في حال صعوبة العلة عليه حادثة في سلطانه، فأشار عليه مشيرون من أصحابه وثقاته بالرحلة عن معسكره إلى مدينة السلام، ويخلف من يقوم مقامه، فأبى ذلك، وخاف أن يكون فيه ائتلاف ما قد تفرق من شمل الخبيث فأقام على صعوبة علته عليه، وغلظ الأمر الحادث في سلطانه، فمن الله بعافيته، وظهر لقواده وخاصته، وقد كان أطال الاحتجاب عنهم، فقويت بذلك منتهم، وأقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة، فلما أبل وقوي على النهوض لحرب الفاسق، تيقظ لذلك، وعاود ما كان مواظبا عليه من الحرب، وجعل الخبيث لما صح عنده الخبر عما أصاب أبا أحمد يعد أصحابة العدات، ويمنيهم الأماني الكاذبة، وجعل يحلف على منبره- بعد ما اتصل به الخبر بظهور أبي أحمد وركوبه الشذا- أن ذلك باطل لا أصل له، وأن الذي رأوه في الشذا مثال موه لهم وشبه لهم.
ذكر عزم المعتمد على اللحاق بمصر
وفيها في يوم السبت للنصف من جمادى الأولى، شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وأقام يتصيد بالكحيل، وقدم صاعد بن مخلد من عند أبي أحمد، ثم شخص إلى سامرا في جماعة من القواد في جمادى الآخرة، وقدم قائدان لابن طولون- يقال لأحدهما أحمد بن جبغويه وللآخر محمد بن عباس الكلابي- الرقة، فلما صار المعتمد إلى عمل إسحاق بن كنداج- وكان العامل على الموصل وعامة الجزيرة- وثب ابن كنداج بمن شخص مع المعتمد من سامرا يريد مصر، وهم تينك وأحمد بن خاقان وخطارمش، فقيدهم وأخذ أموالهم ودوابهم ورقيقهم وكان قد كتب إليه بالقبض عليهم وعلى المعتمد، وأقطع إسحاق بن كنداج ضياعهم وضياع فارس بن بغا.
وكان سبب وصوله إلى القبض على من ذكرت، ان ابن كنداج لما صار إلى عمله، وقد نفذت إليه الكتب من قبل صاعد بالقبض عليهم، أظهر أنه معهم، وعلى مثل رأيهم في طاعة المعتمد، إذ كان الخليفة، وأنه غير جائز له الخلاف عليه وقد كان من مع المعتمد من القواد حذروا المعتمد المرور به، وخوفوه وثوبه بهم، فأبى إلا المرور به- فيما ذكر- وقال لهم: إنما هو مولاي وغلامي، وأريد أن أتصيد، فإن في الطريق إليه صيدا كثيرا فلما صاروا في عمله، لقيهم وسار معهم كي يرد المعتمد- فيما ذكر- منزلا قبل وصوله إلى عمل ابن طولون، فلما أصبح ارتحل التباع والغلمان الذين كانوا مع المعتمد ومن شخص معه من سامرا، وخلا ابن كنداج بالقواد الذين مع المعتمد، فقال لهم: إنكم قد قربتم من عمل ابن طولون والمقيم بالرقة من قواده، وأنتم إذا صرتم إلى ابن طولون، فالأمر أمره، وأنتم من تحت يده ومن جنده، أفترضون بذلك، وقد علمتم أنه إنما هو كواحد منكم! وجرت بينه وبينهم في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار، ولم يرتحل المعتمد بعد لاشتغال القواد بالمناظرة بينهم بين يديه، ولم يجتمع رأيهم بعد على شيء فقال لهم ابن كنداج: قوموا بنا حتى نتناظر في هذا في غير هذا الموضع، وأكرموا مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت فيه فأخذ بأيديهم، وأخرجهم من مضرب المعتمد فأدخلهم مضرب نفسه، لأنه لم يكن بقي مضرب إلا قد مضي به غير مضربه، لما كان من تقدمه إلى فراشيه وغلمانه وحاشيته وأصحابه في ذلك اليوم ألا تبرحوا إلا ببراحه فلما صاروا إلى مضربه دخل عليه وعلى من معه من القواد جلة غلمانه وأصحابه، وأحضرت القيود، وشد غلمانه على كل من كان شخص مع المعتمد من سامرا من القواد، فقيدوهم، فلما قيدوا وفرغ من أمرهم مضى إلى المعتمد، فعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو بها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وزوال ملكهم، ثم حمله والذين كانوا معه في قيودهم حتى وافى بهم سامرا.
[أخبار متفرقة]
وفيها قام رافع بن هرثمة بما كان الخجستاني غلب عليه من كور خراسان وقراها، وكان رافع بن هرثمة قد اجتبى عدة من كور خراسان خراجها سلفا لبضع عشرة سنة، فأفقر أهلها وخربها.
وفيها كانت وقعة بين الحسينيين والحسنيين والجعفريين، فقتل من الجعفريين ثمانية نفر، وعلا الجعفريون فتخلصوا الفضل بن العباس العباسي العامل على المدينة.
وفي جمادى الآخرة عقد هارون بن الموفق لابن أبي الساج على الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق، وولى أحمد بن محمد الطائي الكوفة وسوادها المعاون والخراج، فصير المعاون باسم علي بن الحسين المعروف بكفتمر، فلقي أحمد بن محمد الهيصم العجلي فيها، فانهزم الهيصم واستباح الطائي أمواله وضياعه.
ولأربع خلون من شعبان منها رد إسحاق بن كنداج المعتمد إلى سامرا فنزل الجوسق المطل على الحير.
ولثمان خلون من شعبان خلع على ابن كنداج، وقلد سيفين بحمائل:
أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وسمي ذا السيفين وخلع عليه بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان، وتوج بتاج، وقلد سيفا كل ذلك مفصص بالجوهر، وشيعه إلى منزله هارون بن الموفق وصاعد بن مخلد والقواد، وتغدوا عنده.
ذكر الخبر عن احراق قصر صاحب الزنج
وفي شعبان من هذه السنة أحرق أصحاب أبي أحمد قصر الفاسق، وانتهبوا ما فيه.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وسبب وصولهم إليه:
ذكر محمد بن الحسن، أن أبا أحمد لما برأ الجرح الذي كان أصابه، عاد للذي كان عليه من مغاداة الفاسق الحرب ومراوحته، وكان الخبيث قد أعاد بناء بعض الثلم التي ثلمت في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك، وهدم ما يتصل به، وركب في عشية من العشايا في أول وقت العصر، وقد كانت الحرب متصلة في ذلك اليوم مما يلي نهر منكى، والفسقة مجتمعون في تلك الناحية قد شغلوا أنفسهم بها، وظنوا أنهم لا يحاربون إلا فيها، فوافى الموفق وقد أعد الفعلة، وقرب على نهر منكى وناوش الفسقة فيه، حتى إذا استعرت الحرب أمر الجذافين والاشتيامين أن يحثوا السير حتى ينتهوا إلى النهر المعروف بجوى كور، وهو نهر يأخذ من دجلة أسفل من النهر المعروف بنهر أبي الخصيب، ففعلوا ذلك، فوافى جوى كور، وقد خلا من المقاتلة والرجال، فقرب وأخرج الفعلة، فهدموا من السور ما كان يلي ذلك النهر، وصعد المقاتله وولجوا النهر، فقتلوا فيه مقتلة عظيمة، وانتهوا إلى قصور من قصور الفسقة، فانتهبوا ما كان فيها وأحرقوها، واستنقذوا عددا من النساء اللواتي كن فيها، وأخذوا خيلا من خيل الفجرة، فحملوها إلى غربي دجلة، فانصرف الموفق في وقت غروب الشمس بالظفر والسلامة، وغاداهم الحرب والقصد لهدم السور، فأسرع فيه حتى اتصل بدار المعروف بأنكلاي، وكانت متصلة بدار الخبيث، فلما أعيت الحيل الخبيث في المنع من هدم السور، ودفع أصحاب الموفق عن ولوج مدينته، أسقط في يديه، ولم يدر كيف يحتال لحسم ذلك، فأشار عليه علي بن أبان المهلبي بإجراء الماء على السباخ التي يسلكها أصحاب الموفق لئلا يجدوا إلى سلوكها سبيلا، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يعوقهم بها عن دخول المدينة، فإن حملوا أنفسهم على اقتحامها فوقعت عليهم هزيمة، لم يسهل عليهم الرجوع إلى سفنهم، ففعلوا ذلك في عدة مواضع من مدينتهم، وفي الميدان الذي كان الخبيث جعله طريقا حتى انتهت تلك الخنادق إلى قريب من داره فراى الموفق بعد ما هيأ الله له من هدم سور مدينة الفاسق ما هيأ أن جعل قصده لطم الخنادق والأنهار والمواضع المعورة كي تصلح فيها مسالك الخيل والرجالة فرام ذلك، فحامى عنه الفسقة ودامت الحرب وطالت ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، حتى لقد عد الجرحى في بعض تلك الأيام زهاء ألفي جريح، وذلك لتقارب الفريقين في وقت القتال، ومنع الخنادق كل فريق منهم عن إزالة من بإزائه عن موضعهم.
فلما رأى ذلك الموفق قصد لإحراق دار الخبيث والهجوم عليها من دجلة، وكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث من المقاتلة والحماة عن داره، فكانت الشذا إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بالحجارة والنشاب والمقاليع والمجانيق والعرادات، وأذيب الرصاص، وأفرغ عليهم، فكان إحراق داره يتعذر عليهم لما وصفنا، فأمر الموفق بإعداد ظلال من خشب للشذا وإلباسها جلود الجواميس، وتغطية ذلك بالخيش المطلى بصنوف العقاقير والأدوية التي تمنع النار من الإحراق، فعمل ذلك، وطليت به عدة شذوات ورتب فيها جميعا شجعاء غلمانه: الرامحة والناشبة، وجمعا من حذاق النفاطين وأعدهم لإحراق دار الفاسق صاحب الزنج.
فاستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان كاتب الخبيث ووزيره في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، وكان سبب استمانه- فيما ذكر محمد بن الحسن- أنه كان ممن امتحن بصحبته، وهو لها كاره على علم منه بضلالته قال: وكنت له على ذلك مواصلا، وكنا جميعا ندبر الحيلة في التخلص، فيتعذر علينا، فلما نزل بالخبيث من الحصار ما نزل، وتفرق عنه أصحابه، وضعف أمره، شمر في الحيلة للخلاص، وأطلعني على ذلك، وقال: قد طبت نفسا بالا استصحب ولدا ولا أهلا، وأن أنجو وحيدا، فهل لك في مثل ما عزمت عليه؟ فقلت له: الرأي لك ما رأيت، إذ كنت انما تخلف ولدا صغيرا لا سبيل للخائن عليه إلى أن يصول به، أو أن يحدث عليك فيه حدثا يلزمك عاره، فأما أنا فإن معي نساء يلزمني عارهن، ولا يسعني تعريضهن لسطوة الفاجر، فامض لشأنك، فأخبر عني بما علمت من نيتي في مخالفة الفاجر وكراهة صحبته، وإن هيأ الله لي الخلاص بولدي، فأنا سريع اللحاق بك، وإن جرت المقادير فينا بشيء كنا معا وصبرنا.
فوجه محمد بن سمعان وكيلا له يعرف بالعراقي، فأتى عسكر الموفق، فأخذ له ما أراد من الأمان، وأعد له الشذا، فوافته في السبخة في اليوم الذي ذكرنا، فصار إلى عسكر الموفق وأعاد الموفق محاربة الخبيث والقصد للإحراق من غد اليوم الذي استأمن فيه محمد بن سمعان، وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، في أحسن زي، وأكمل عدة، ومعه الشذوات المطليه بما وصفنا، وسائر شذواته وسميرياته فيها مواليه وغلمانه والمعابر التي فيها الرجالة فأمر الموفق ابنه أبا العباس بالقصد الى دار محمد ابن يحيى المعروف بالكرنبائي، وهي بإزاء دار الخائن في شرقي النهر المعروف بأبي الخصيب، يشرع على النهر وعلى دجلة، وتقدم إليها في إحراقها وما يليها من منازل قواد الخائن، وشغلهم بذلك عن إنجاده ومعاونته، وأمر المرتبين في الشذا المظللة بالقصد، لما كان مطلا على دجلة من رواشين الخبيث وأبنيته، ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور القصر، وحاربوا الفجرة أشد حرب، ونضحوهم بالنيران، وصبر الفسقة وقاتلوا، فرزق الله النصر عليهم، فتزحزحوا عن تلك الرواشين والأبنية التي كانوا يحامون عليها، وأحرقها غلمان الموفق، وسلم من كان في الشذا مما كان الخبثاء يكيدونهم به من النشاب والحجارة وصب الرصاص المذاب وغير ذلك بالظلال التي كان اتخذها على الشذا، فكان ذلك سببا لتمكنها من دار الخبيث.
وأمر الموفق من كان في الشذا بالرجوع فرجعوا، فأخرج من كان فيها من الغلمان، ورتب فيها آخرين، وانتظر إقبال المد وعلوه، فلما تهيأ ذلك عادت الشذوات المظللة إلى قصر الخبيث، فأمر الموفق من كان فيها بإحراق بيوت كانت تشرع على دجلة من قصر الفاسق، ففعلوا ذلك، فاضطرمت النار في هذه البيوت، واتصلت بما يليها من الستارات التي كان الخبيث ظلل بها داره، وستور كانت على أبوابه، فقويت النار عند ذلك على الإحراق، وأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شيء مما كان في منزله من أمواله وذخائره وأثاثه وسائر أمتعته، فخرج هاربا، وترك ذلك كله.
وعلا غلمان الموفق قصر الخبيث مع أصحابهم، فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الأمتعة الفاخرة والذهب والفضة والجوهر والحلي وغير ذلك، واستنقذوا جماعة من النساء اللواتي كان الخبيث استرقهن، ودخل غلمان الموفق سائر دور الخبيث ودور ابنه أنكلاي، فأضرموها نارا، وعظم سرور الناس بما هيأ الله لهم في هذا اليوم فأقام جماعة يحاربون الفسقة في مدينتهم وعلى باب قصر الخبيث، مما يلي الميدان، فأثخنوا فيهم القتل والجراح والأسر، وفعل أبو العباس في دار المعروف بالكرنبائي وما يتصل بها من الإحراق والهدم والنهب مثل ذلك.
وقطع أبو العباس يومئذ سلسلة حديد عظيمة وثيقة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله، وحازها، فحملت في بعض شذواته وانصرف الموفق بالناس صلاة المغرب بأجمل ظفر، وقد نال الفاسق في ذلك اليوم في نفسه وماله وولده وما كان غلب عليه من نساء المسلمين مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتيت الشمل والمصيبة في الأهل والولد، وجرح ابنه المعروف بأنكلاي في هذا اليوم جراحة شديدة في بطنه اشفى منها على التلف.
ذكر الخبر عن غرق نصير المعروف بابى حمزه
وفي غد هذا اليوم وهو يوم الأحد لعشر بقين من شعبان من هذه السنة غرق نصير.
ذكر سبب غرقه:
ذكر محمد بن الحسن أنه لما كان غد هذا اليوم، باكر الموفق محاربة الخبيث، وأمر نصيرا المعروف بأبي حمزة بالقصد لقنطرة كان الخائن عملها بالسياج على النهر المعروف بأبي الخصيب، دون الجسرين اللذين اتخذهما عليه، وأمر زيرك بإخراج أصحابه مما يلي دار الجبائي لمحاربة من هناك من الفجرة، واخرج جمعا من قوادها مما يلي دار أنكلاي لمحاربتهم أيضا، فتسرع نصير، فدخل نهر أبي الخصيب في أول المد في عدة من شذواته، فحملها المد فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدة من شذوات موالي الموفق وغلمانه ممن لم يكن أمر بالدخول، فحملهم المد فألقاهم على شذوات نصير، فصكت الشذوات بعضها بعضا، حتى لم يكن للاشتيامين والجذافين فيها حيلة ولا عمل ورأى الزنج ذلك، فاجتمعوا على الشذوات، وأحاطوا بها من جانبي نهر أبي الخصيب، فألقى الجذافون أنفسهم في الماء ذعرا ووجلا، ودخل الزنج الشذوات، فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وحاربهم نصير في شذواته حتى خاف الاسر، فقذف نفسه في الماء فغرق، وأقام الموفق في يومه يحارب الفسقة، وينهب ويحرق منازلهم، ولم يزل باقي يومه مستعليا عليهم، وكان ممن حامى على قصر الخائن يومئذ وثبت في أصحابه سليمان بن جامع، فلم تزل الحرب بين أصحاب الموفق وبينه، وهو مقيم بموضعه لم يزل عنه إلى أن خرج في ظهره كمين من غلمان الموفق السودان، فانهزم لذلك، واتبعه الغلمان يقتلون أصحابه، ويأسرون منهم، وأصابت سليمان في هذا الوقت جراحة في ساقه، فهوى لفيه في موضع، قد كان الحريق ناله ببعض جمر فيه، فاحترق بعض جسده، وحامى عليه جماعة من أصحابه، فنجا بعد أن كاد الأسر يحيط به، وانصرف الموفق ظافرا سالما، وضعفت الفسقة، واشتد خوفهم لما رأوا من إدبار أمرهم، وعرضت لأبي أحمد علة من وجع المفاصل، فأقام فيها بقية شعبان وشهر رمضان وأياما من شوال ممسكا عن حرب الفاسق فلما استبل من علته وتماثل، أمر بإعداد ما يحتاج إليه للقاء الفسقه، فتأهب لذلك جميع اصحابه.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة كانت وفاة عيسى بن الشيخ بن السليل.
وفيها لعن ابن طولون المعتمد في دار العامة، وأمر بلعنه على المنابر، وصار جعفر المفوض إلى مسجد الجامع يوم الجمعة، ولعن ابن طولون وعقد لإسحاق ابن كنداج على أعمال ابن طولون، وولي من باب الشماسية إلى إفريقية وولي شرطة الخاصة.
وفي شهر رمضان منها كتب أحمد بن طولون إلى أهل الشام يدعوهم إلى نصر الخليفة، ووجد فيج يريد ابن طولون معه كتب من خليفته، جواب بأخبار، فأخذ جواب فحبس وأخذ له مال ورقيق ودواب.
وفي شوال منها كانت وقعة بين أبي الساج والأعراب، فهزموه فيها، ثم بيتهم فقتل منهم وأسر، ووجه بالرءوس والأسارى إلى بغداد، فوصلت في شوال منها ولإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال منها عقد جعفر المفوض لصاعد بن مخلد على شهرزور وداباذ والصامغان وحلوان وماسبذان ومهرجانقذق وأعمال الفرات، وضم إليه قواد موسى بن بغا خلا أحمد بن موسى وكيغلغ وإسحاق ابن كنداجيق وأساتكين، فعقد صاعد للؤلؤ على ما عهد له عليه من ذلك المفوض يوم السبت لثمان بقين من شوال، وبعث إلى ابن أبي الساج بعقد من قبله على العمل الذي كان يتولاه، وكان يتولى الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق بن مالك من قبل هارون بن الموفق، وكان شخص إليها في شهر رمضان، فلما ضم ذلك إلى صاعد أقره صاعد على ما كان إليه من ذلك.
وفي آخر شوال منها دخل ابن أبي الساج رحبة طوق بن مالك بعد أن حاربه أهلها، فغلبهم وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام، ثم صار ابن أبي الساج إلى قرقيسياء، فدخلها وتنحى عنها ابن صفوان العقيلي
ذكر الخبر عن الوقعه التي كانت بين الموفق وبين الزنج
وفي يوم الثلاثاء لعشر خلون من شوال من هذه السنة، كانت بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة في مدينة الفاسق أثر فيها آثارا، وصل بها إلى مراده منها.
ذكر السبب في هذه الوقعة وما كان منها:
ذكر محمد بن الحسن أن الخبيث عدو الله كان في مدة اشتغال الموفق بعلته أعاد القنطرة التي كانت شذوات نصير لججت فيها، وزاد فيها ما ظن أنه قد أحكمها، ونصب دونها ادقال ساج وصل بعضها ببعض، وألبسها الحديد، وسكر أمام ذلك سكرا بالحجارة ليضيق المدخل على الشذا، وتحتد جرية الماء في النهر المعروف بابى الخضيب، فيهاب الناس دخوله، فندب الموفق قائدين من قواد غلمانه في أربعة آلاف من الغلمان، وأمرهما أن يأتيا نهر أبي الخصيب، فيكون أحدهما في شرقيه والآخر في غربيه، حتى يوافيا القنطرة التي أصلحها الفاجر وما عمل في وجهها من السكر فيحاربا أصحاب الخبيث حتى يجلياهم عن القنطرة، وأعد معهما النجارين والفعلة لقطع القنطرة والبدود التي كانت جعلت أمامها، وأمر بإعداد سفن محشوة بالقصب المصبوب عليه النفط، لتدخل ذلك النهر المعروف بأبي الخصيب، وتضرم نارا لتحترق بها القنطرة في وقت المد فركب الموفق في هذا اليوم في الجيش حتى وافى فوهة نهر أبي الخصيب، وأمر بإخراج المقاتلة في عدة مواضع من أعلى عسكر الخبيث وأسفله، ليشغلهم بذلك عن التعاون على المنع عن القنطرة، وتقدم القائدان في أصحابهما، وتلقاهما أصحاب الخائن من الزنج وغيرهم، يقودهم ابنه أنكلاي وعلي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع، فاشتبكت الحرب بين الفريقين، ودامت، وقاتل الفسقة أشد قتال، محاماة عن القنطرة، وعلموا ما عليهم في قطعها من الضرر، وأن الوصول إلى ما بعدها من الجسرين العظيمين اللذين كان الخبيث اتخذهما على نهر أبي الخصيب سهل مرامه، فكثر القتل والجراح بين الفريقين، واتصلت الحرب إلى وقت صلاة العصر ثم إن غلمان الموفق أزالوا الفسقه عن القنطرة وجاوزوها، فقطعها التجارون والفعلة، ونقضوها وما كان اتخذ من البدود التي ذكرناها.
وكان الفاسق أحكم أمر هذه القنطرة والبدود إحكاما تعذر على الفعلة والنجارين الإسراع في قطعها، فأمر الموفق عند ذلك بإدخال السفن التي فيها القصب والنفط، وضربها بالنار وإرسالها مع الماء، ففعل ذلك، فوافت السفن القنطرة فأحرقتها، ووصل النجارون إلى ما أرادوا من قطع البدود فقطعوها، وأمكن أصحاب الشذا دخول النهر فدخلوه، وقوي نشاط الغلمان بدخول الشذا، فكشفوا أصحاب الفاجر عن مواقفهم حتى بلغوا بهم الجسر الأول الذي يتلو هذه القنطرة، وقتل من الفجرة خلق كثير، واستأمن فريق منهم، فأمر الموفق أن يخلع عليهم في ساعتهم تلك، وأن يوقفوا بحيث يراهم أصحابهم، ليرغبوا في مثل ما صاروا إليه، وانتهى الغلمان إلى الجسر الأول، وكان ذلك قبيل المغرب، فكر الموفق أن يظلم الليل، والجيش موغل في نهر أبي الخصيب، فيتهيأ للفجرة بذلك انتهاز فرصة، فأمر الناس بالانصراف، فانصرفوا سالمين إلى المدينة الموفقية، وأمر الموفق بالكتاب إلى النواحي بما هيأ الله له من الفتح والظفر، ليقرأ بذلك على المنابر، وأمر بإثابة المحسنين من غلمانه على قدر غنائهم وبلائهم وحسن طاعتهم، ليزدادوا بذلك جدا واجتهادا في حرب عدوهم.
ففعل ذلك، وعبر الموفق في نفر من مواليه وغلمانه في الشذوات والسميريات وما خف من الزواريق إلى فوهة نهر أبي الخصيب، وقد كان الخبيث ضيقها ببرجين عملهما بالحجارة ليضيق المدخل وتحتد الجرية، فإذا دخلت الشذا النهر لججت فيه، ولم يسهل السبيل إلى إخراجها منه، فأمر الموفق بقطع ذينك البرجين، فعمل فيهما نهار ذلك اليوم، ثم انصرف العمال وعادوا من غد لاستتمام قلع ما بقي من ذلك، فوجدوا الفجرة قد أعادوا ما قلع منهما في ليلتهم تلك، فأمر بنصب عرادتين قد كانتا أعدتا في سفينتين، نصبتا حيال نهر أبي الخصيب، وطرحت لهما الأناجر حتى استقرتا، ووكل بهما من أصحاب الشذا، وأمر بقطع هذين البرجين، وتقدم إلى أصحاب العرادتين في رمي كل من دنا من أصحاب الفاسق، لإعادة شيء من ذلك في ليل أو نهار، فتحامى الفجرة الدنو من الموضع، وأحجموا عنه، وألح الموكلون بقلع هذه الحجارة بعد ذلك، حتى استتموا ما أرادوا، واتسع المسلك للشذا في دخول النهر والخروج منه.
خبر انتقال صاحب الزنج الى شرقى نهر ابى الخصيب
وفي هذه السنة تحول الفاسق من غربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه وانقطعت عنه الميرة من كل وجهة.
ذكر الخبر عن حاله وحال أصحابه وما آل إليه أمرهم عند انتقاله من الجانب الغربي:
ذكر أن الموفق لما أخرب منازل صاحب الزنج وحرقها، لجأ إلى التحصن في المنازل الواغلة في نهر أبي الخصيب، فنزل منزلا كان لأحمد بن موسى المعروف بالقلوص، وجمع عياله وولده حوله هناك، ونقل أسواقه إلى السوق القريبة من الموضع الذي اعتصم به، وهي سوق كانت تعرف بسوق الحسين، وضعف أمره ضعفا شديدا، وتبين للناس زوال أمره، فتهيبوا جلب الميرة إليه، فانقطعت عنه كل مادة، فبلغ عنده الرطل من خبز البر عشرة دراهم، فأكلوا الشعير، ثم أكلوا أصناف الحبوب، ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كانوا يتبعون الناس، فإذا خلا أحدهم بامرأة أو صبي أو رجل ذبحه وأكله، ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعيفهم، فكان إذا خلا به ذبحه وأكل لحمه، ثم أكلوا لحوم أولادهم، ثم كانوا ينبشون الموتى، فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم، وكان لا يعاقب الخبيث أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس، فإذا تطاول حبسه أطلقه.
وذكر أن الفاسق لما هدمت داره وأحرقت، وانتهب ما فيها، وأخرج طريدا سليبا من غربي نهر أبي الخصيب، تحول إلى شرقيه، فرأى أبو أحمد أن يخرب عليه الجانب الشرقي لتصير حال الخبيث فيه كحاله في الغربي في الجلاء عنه، فأمر ابنه أبا العباس بالوقوف في جمع من أصحابه في الشذا في نهر أبي الخصيب، وأن يختار من أصحابه وغلمانه جمعا يخرجهم في الموضع الذي كانت فيه دار الكرنبائي من شرقي نهر أبي الخصيب، ويخرج معهم الفعلة لهدم كل ما يلقاهم من دور أصحاب الفاجر ومنازلهم، ووقف الموفق على قصر المعروف بالهمداني- وكان الهمداني يتولى حياطة هذا الموضع، وهو أحد قادة جيوش الخبيث وقدماء أصحابه- وأمر الموفق جماعة من قواده ومواليه فقصدوا لدار الهمداني، ومعهم الفعلة، وقد كان هذا الموضع محصنا بجمع كثير من أصحاب الخبيث من الزنج وغيرهم، وعليه عرادات ومجانيق منصوبة وقسي ناوكية، فاشتبكت الحرب وكثر القتلى والجراح إلى أن كشف أصحاب الموفق الخبثاء، ووضعوا فيهم السلاح، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وفعل أصحاب أبي العباس مثل ذلك بمن مر بهم من الفسقة.
والتقى أصحاب الموفق وأصحاب أبي العباس، فكانوا يدا واحدة على الخبثاء، فولوا منهزمين، وانتهوا إلى دار الهمداني، وقد حصنها ونصب عليها العرادات، وحفها بأعلام بيض من أعلام الفاجر، مكتوب عليها اسمه، فتعذر على أصحاب الموفق تسور هذه الدار لعلو سورها وحصانتها، فوضعوا عليها السلاليم الطوال، فلم تبلغ آخره، فرمى بعض غلمان الموفق بكلاليب كانوا أعدوها، وجعلوا فيها الحبال لمثل هذا الموضع، فأثبتوها في أعلام الفاسق وجذبوها، فانقلبت الأعلام منكوسة من أعلى السور، حتى صارت في أيدي أصحاب الموفق، فلم يشك المحامون عن هذه الدار ان أصحاب أبي أحمد قد علوها، فوجلوا فانهزموا، وأسلموها وما حولها، وصعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من المجانيق والعرادات، وما كان فيها للهمداني من متاع وأثاث، وأحرقوا ما كان حولها من دور الفجرة، واستنقذوا في هذا اليوم من نساء المسلمين المأسورات عددا كثيرا، فأمر الموفق بحملهن في الشذا والسميريات والمعابر إلى الموفقية والإحسان إليهن.
ولم تزل الحرب في هذا اليوم قائمة من أول النهار إلى بعد صلاة العصر، واستأمن يومئذ جماعة من أصحاب الفاسق وجماعة من خاصة غلمانه الذين كانوا في داره يلون خدمته والوقوف على رأسه، فآمنهم الموفق وأمر بالإحسان إليهم، وأن يخلع عليهم، ويوصلوا وتجرى لهم الأرزاق، وانصرف الموفق، وأمر أن تنكس أعلام الفاسق في صدور الشذوات ليراها أصحابه، ودلت جماعة من المستأمنة الموفق على سوق عظيمة كانت للخبيث في ظهر دار الهمداني متصلة بالجسر الأول المعقود على نهر أبي الخصيب، كان الخبيث سماها المباركة، وأعلموه أنه إن تهيأ له إحراقها لم يبق لهم سوق، وخرج عنهم تجارهم الذين بهم قوامهم، واستوحشوا لذلك واضطروا إلى الخروج في الأمان.
فعزم الموفق عند ذلك على قصد هذه السوق وما يليها بالجيوش من ثلاثة أوجه، فأمر أبا العباس بقصد جانب من هذه السوق مما يلي الجسر الأول، وأمر راشدا مولاه بقصدها مما يلي دار الهمداني، وأمر قوادا من قواد غلمانه السودان بالقصد لها من نهر أبي شاكر، ففعل كل فريق ما أمر به، ونذر الزنج بمسير الجيوش إليهم، فنهضوا في وجوههم، واستعرت الحرب وغلظت، فأمد الفاجر أصحابه وكان المهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع في جميع أصحابهم بعد أن تكاملوا ووافتهم أمداد الخبيث بهذه السوق يحامون عنها، ويحاربون فيها أشد حرب. وقد كان أصحاب الموفق في أول خروجهم إلى هذا الموضع وصلوا إلى طرف من أطراف هذه السوق، فأضرموه نارا فاحترق، فاتصلت النار بأكثر السوق، فكان الفريقان يتحاربون والنار محيطة بهم، ولقد كان ما علا من ظلال يحترق فيقع على رؤوس المقاتلة، فربما أحرق بعضهم، وكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس وإقبال الليل ثم تحاجزوا، وانصرف الموفق وأصحابه إلى سفنهم، ورجع الفسقة إلى طاغيتهم بعد أن احترق السوق، وجلا عنها أهلها ومن كان فيها من تجار عسكر الخائن وسوقتهم، فصاروا في أعلى مدينته بما تخلصوا به من أموالهم وأمتعتهم وقد كانوا تقدموا في نقل جل تجارتهم وبضائعهم من هذه السوق خوفا من مثل الذي نالهم في اليوم الذي أظفر الله فيه الموفق بدار الهمداني وهيأ له إحراق ما أحرق حولها.
ثم أن الخبيث فعل في الجانب الشرقي من حفر الخنادق وتعوير الطرق ما كان فعل في الجانب الغربي بعد هذه الوقعة، واحتفر خندقا عريضا من حد جوى كور إلى نهر الغربي، وكان أكثر عنايته بتحصين ما بين دار الكرنبائي إلى النهر المعروف بجوى كور، لأنه كان في هذا الموضع جل منازل أصحابه ومساكنهم، وكان من حد جوى كور إلى نهر الغربي بساتين ومواضع قد أخلوها، والسور والخندق محيطان بها، وكانت الحرب إذا وقعت في هذا الموضع قصدوا من موضعهم إليه للمحاماة عنه والمنع منه، فرأى الموفق عند ذلك أن يخرب باقي السور إلى نهر الغربي، ففعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة.
وكان الفاسق في الجانب الشرقي من نهر الغربي في عسكر فيه جمع من الزنج وغيرهم متحصنين بسور منيع وخنادق، وهم أجلد أصحاب الخبيث وشجعانهم، فكانوا يحامون عما قرب من سور نهر الغربي، وكانوا يخرجون في ظهور أصحاب الموفق في وقت الحرب على جوى كور وما يليه، فأمر الموفق بقصد هذا الموضع ومحاربة من فيه وهدم سوره وإزالة المتحصنين به، فتقدم عند ذلك إلى أبي العباس وعدة من قواد غلمانه ومواليه في التأهب لذلك، ففعلوا ما أمروا به، وصار الموفق بمن أعده إلى نهر الغربي، وأمر بالشذا فنظمت من حد النهر المعروف بجوى كور إلى الموضع المعروف بالدباسين، وخرج المقاتلة على جنبتي نهر الغربي، ووضعت السلاليم على السور.
وقد كانت لهم عليه عدة عرادات، ونشبت الحرب، ودامت مذ أول النهار إلى بعد الظهر، وهدم من السور مواضع، وأحرق ما كان عليه من العرادات، وتحاجز الفريقان، وليس لأحدهما فضل على صاحبه إلا ما وصل إليه أصحاب الموفق من هذه المواضع التي هدموها وإحراق العرادات، ونال الفريقين من ألم الجراح أمر غليظ موجع.
فانصرف الموفق وجميع اصحابه إلى الموفقية، فأمر بمداواة الجرحى، ووصل كل امرئ على قدر الجراح التي أصابته، وعلى ذلك كان أجرى التدبير في جميع وقائعه منذ أول محاربته الفاسق إلى أن قتله الله.
وأقام الموفق بعد هذه الوقعة مدة، ثم رأى معاودة هذا الموضع والتشاغل به دون المواضع، لما رأى من حصانته وشجاعة من فيه وصبرهم، وأنه لا يتهيأ ما يقدر فيما بين نهر الغربي وجوى كور إلا بعد إزالة هؤلاء، فأعد ما يحتاج إليه من آلات الهدم، واستكثر من الفعلة، وانتخب المقاتلة الناشبة والرامحة والسودان أصحاب السيوف، وقصد هذا الموضع على مثل قصده له المرة الأولى، فأخرج الرجالة في المواضع التي رأى إخراجهم فيها، وأدخل عددا من الشذا النهر، ونشبت الحرب ودامت، وصبر الفسقة أشد صبر، وصبر لهم أصحاب الموفق.
واستمد الفسقة طاغيتهم، فوافاهم المهلبي وسليمان بن جامع في جيشهما، فقويت قلوبهم عند ذلك، وحملوا على أصحاب الموفق، وخرج سليمان كمينا مما يلي جوى كور، فأزالوا أصحاب الموفق حتى انتهوا إلى سفنهم، وقتلوا منهم جماعة وانصرف الموفق ولم يبلغ كل الذي أراد، وتبين أنه قد كان يجب أن يحارب الفسقة من عدة مواضع، ليفرق جمعهم، فيخف وطؤهم على من يقصد لهذا الموضع الصعب، وينال منه ما يحب، فعزم على معاودتهم، وتقدم إلى أبي العباس وغيره من قواده في العبور واختيار أنجاد رجالهم، ووكل مسرورا مولاه بالنهر المعروف بمنكى، وأمره أن يخرج رجاله في ذلك الموضع وما يتصل به من الجبال والنخل، لتشتغل قلوب الفجرة، وليروا أن عليهم تدبيرا من تلك الجهة وأمر أبا العباس بإخراج أصحابه على جوى كور، ونظم الشذا على هذه المواضع حتى انتهى إلى الموضع المعروف بالدباسين، وهو أسفل نهر الغربي، وصار الموفق الى نهر الغربي، وامر قواده وغلمانه أن يخرجوا في أصحابهم فيحاربوا الفسقة في حصنهم ومعقلهم، وألا ينصرفوا عنهم حتى يفتح الله لهم، أو يبلغ إرادته منهم ووكل بالسور من يهدمه، وتسرع الفسقة كعادتهم، وأطمعهم ما تقدم من الوقعتين اللتين ذكرناهما، فثبت لهم غلمان الموفق، وصدقوهم اللقاء، فأنزل الله عليهم نصره، فأزالوا الفسقة عن مواقفهم، وقوي أصحاب الموفق، فحملوا عليهم حملة كشفوهم بها، فانهزموا وخلوا عن حصنهم، وصار في أيدي غلمان الموفق فهدموه، وأحرقوا منازلهم، وغنموا ما كان فيها، واتبعوا المنهزمين منهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا، واستنقذوا من هذا الحصن من النساء المأسورات خلقا كثيرا، فأمر الموفق بحملهن والإحسان إليهن، وأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم ففعلوا، وانصرف إلى عسكره بالموفقية، وقد بلغ ما حاول من هذا الموضع.
ذكر خبر دخول الموفق مدينه صاحب الزنج
وفيها دخل الموفق مدينة الفاسق، وأحرق منازله من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب.
ذكر الخبر عن سبب وصوله إلى ذلك:
ذكر أن أبا أحمد لما أراد ذلك بعد هدمه سور داره ذلك، أقام يصلح المسالك في جنبتي نهر أبي الخصيب وفي قصر الفاسق، ليتسع على المقاتلة الطريق في الدخول والخروج للحرب، وأمر بقلع باب قصر الخبيث الذي كان انتزعه من حصن أروخ بالبصرة، فقلع وحمل إلى مدينة السلام ثم رأى القصد لقطع الجسر الأول الذي كان على نهر أبي الخصيب، لما في ذلك من منع معاونة بعضهم بعضا عند وقوع الحرب في نواحي عسكرهم، فأمر بإعداد سفينة كبيرة تملأ قصبا قد سقي النفط، وأن ينصب في وسط السفينة دقل طويل يمنعها من مجاوزة الجسر إذا لصقت به، وانتهز الفرصة في غفلة الفسقة وتفرقهم.
فلما وجد ذلك في آخر النهار قدمت السفينة، فجرها الشذا حتى وردت النهر، وأشعل فيها النيران، وأرسلت وقد قوي المد، فوافت القنطرة، ونذر الزنج بها، وتجمعوا وكثروا حتى ستروا الجسر وما يليه، وجعلوا يقذفون السفينة بالحجارة والآجر، ويهيلون عليها التراب، ويصبون الماء، وغاص بعضهم فنقبها، وقد كانت أحرقت من الجسر شيئا يسيرا، فأطفأه الفسقة، وغرقوا السفينة وحازوها، فصارت في أيديهم.
فلما رأى أبو أحمد فعلهم ذلك، عزم على مجاهدتهم على هذا الجسر حتى يقطعه، فسمى لذلك قائدين من قواد غلمانه، وأمرهما بالعبور في جميع أصحابهما في السلاح الشاك واللأمة الحصينة والآلات المحكمة، وإعداد النفاطين والآلات التي تقطع بها الجسور، فأمر أحد القائدين أن يقصد غربي النهر، وجعل الآخر في شرقيه، وركب الموفق في مواليه وخدامه وغلمانه الشذوات والسميريات، وقصد فوهة نهر أبي الخصيب، وذلك في غداة يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة تسع وستين ومائتين، فسبق إلى الجسر القائد الذي كان أمر بالقصد له من غربي نهر أبي الخصيب، فأوقع بمن كان موكلا به من أصحاب الفاسق، وقتلت منهم جماعة، وضرب الجسر بالنار، وطرح عليه القصب وما كان أعد له من الأشياء المحرقة، فانكشف من كان هناك من أعوان الخبيث، ووافى بعد ذلك من كان أمر بالقصد للجسر من الجانب الشرقي، ففعلوا ما أمروا به من إحراقه وقد كان الخبيث أمر ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع بالمقام في جيشهما للمحاماة عن الجسر، والمنع من قطعه، ففعلا ذلك، فقصد إليهما من كان بإزائهما، وحاربوهم حربا غليظا حتى انكشفا، وتمكنوا من إحراق الجسر فأحرقوه، وتجاوزوه إلى الحظيرة التي كان يعمل فيها شذوات الفاسق وسميرياته وجميع الآلات التي كان يحارب بها، فأحرق ذلك عن آخره إلا شيئا يسيرا من الشذوات والسميريات كان في النهر، وانهزم أنكلاي وسليمان بن جامع، وانتهى غلمان الموفق إلى سجن كان للخبيث في غربي نهر أبي الخصيب، فحامى عنه الزنج ساعة من النهار حتى أخرجوا منه جماعة، وغلبهم عليه غلمان الموفق، فتخلصوا من كان فيه من الرجال والنساء، وتجاوز من كان في الجانب الشرقي من غلمان الموفق، بعد أن أحرقوا ما ولوا من الجسر إلى الموضع المعروف بدار مصلح، وهو من قدماء قواد الفاسق، فدخلوا داره وأنهبوها، وسبوا ولده ونساءه، وأحرقوا ما تهيأ لهم إحراقه في طريقهم، وبقيت من الجسر في وسط منه أدقال قد كان الخبيث أحكمها، فامر الموفق أبا العباس بتقديم عدة من الشذا إلى ذلك الموضع، ففعل ذلك، فكان فيمن تقدم زيرك في عدد من أصحابه، فوافى هذه الادقال، وأخرجوا إليها قوما قد كانوا أعدوهم لها معهم الفئوس والمناشير، فقطعوها، وجذبت وأخرجت عن النهر، وسقط ما بقي من القنطرة، ودخلت شذوات الموفق النهر، وسار القائدان في جميع أصحابهما على حافتيه فهزم أصحاب الفاجر في الجانبين، وانصرف الموفق وجميع أصحابه سالمين، واستنقذ خلق كثير وأتي الموفق بعدد كثير من رءوس الفسقة، فأثاب من أتاه بها، وأحسن إليه ووصله.
وكان انصرافه في هذا اليوم على ثلاث ساعات من النهار، بعد أن انحاز الفاسق وجميع أصحابه من الزنج وغيرهم إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، وأخلوا غربيه، واحتوى عليه أصحاب الموفق، فهدموا ما كان يعوق عن محاربة الفجرة من قصور الفاسق وقصور أصحابه، ووسعوا مخترقات ضيقة كانت على نهر أبي الخصيب، فكان ذلك مما زاد في رعب أصحاب الخائن ومال جمع كثير من قواده وأصحابه الذين كان لا يرى أنهم يفارقونه إلى طلب الأمان، فبذل ذلك لهم، فخرجوا أرسالا، فقبلوا، وأحسن إليهم وألحقوا بنظرائهم في الأرزاق والصلات والخلع.
ثم إن الموفق واظب على إدخال الشذا النهر، وتقحمه في غلمانه، وأمر بإحراق ما على حافتيه من منازل الفجرة وما في بطنه من السفن، وأحب تمرين أصحابه على دخول النهر وتسهيل سلوكه لهم لما كان يقدر من إحراق الجسر الثاني، والتوصل إلى أقصى مواضع الفجرة فبينا الموفق في بعض أيامه- التي ألح فيها على حرب الخبيث وولوج نهر أبي الخصيب- واقف في موضع من النهر، وذلك في يوم جمعه، إذ استأمن إليه رجل من أصحاب الفاجر، وأتاه بمنبر كان للخبيث في الجانب الغربي، فأمره بنقله إليه، ومعه قاض كان للخبيث في مدينته، فكان ذلك مما فت في أعضادهم، وكان الخبيث جمع ما كان بقي له من السفن البحرية وغيرها، فجعلها عند الجسر الثاني، وجمع قواده وأصحابه وأنجاد رجاله هنالك، فأمر الموفق بعض غلمانه بالدنو من الجسر وإحراق ما تهيأ إحراقه من المراكب البحرية التي تليه، وأخذ ما أمكن أخذه منها ففعل ذلك المأمورون به من الغلمان، فزاد فعلهم في تحرز الفاجر ومحاماته عن الجسر الثاني، فألزم نفسه وجميع أصحابه حفظه وحراسته خوفا من أن تتهيأ حيله، فيخرج الجانب الغربي عن يده، ويوطئه أصحاب الموفق، فيكون ذلك سببا لاستئصاله، فأقام الموفق بعد إحراق الجسر الأول أياما يعبر بجمع بعد جمع من غلمانه إلى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، فيحرقون ما بقي من منازل الفجرة.
ويقربون من الجسر الثاني فيحاربهم عليه الزنج.
وقد كان تخلف منهم جمع في منازلهم في الجانب الغربي المقاربة للجسر الثاني، وكان غلمان الموفق يأتون هذا الموضع ويقفون على الطرق والمسالك التي كانت تخفى عليهم من عسكر الخبيث، فلما وقف الموفق على معرفة غلمانه وأصحابه بهذه الطريق واهتدائهم لسلوكها، عزم على القصد لإحراق الجسر الثاني ليحوز الجانب الغربي من عسكر الخبيث، وليتهيأ لأصحابه مساواتهم على أرض واحدة، لا يكون بينهما فيها حائل غير نهر أبي الخصيب، فأمر الموفق عند ذلك أبا العباس بقصد الجانب الغربي في أصحابه وغلمانه، وذلك في يوم السبت لثمان بقين من شوال سنة تسع وستين ومائتين، وتقدم إليه أن يجعل خروجه بأصحابه في موضع البناء الذي كان الفاجر سماه مسجد الجامع، وأن يأخذ الشارع المؤدي إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذه مصلى بحضره في أعياده، فإذا انتهى إلى موضع المصلى عطف منه إلى الجبل المعروف بجبل المكتني بأبي عمرو أخي المهلبي، وضم إليه من قواد غلمانه الفرسان والرجالة زهاء عشرة آلاف، وأمره أن يرتب زيرك صاحب مقدمته في اصحابه في صحراء المصلى، ليأمن خروج كمين إن كان للفسقة من ذلك الموضع، وامر جماعة من قواد الغلمان أن يتفرقوا في الجبال التي فيها بين الجبل المعروف بالمكتنى بأبي عمرو وبين الجبل المعروف بالمكتنى أبا مقاتل الزنجي، حتى توافوا جميعا من هذه الجبال موضع الجسر الثاني في نهر أبي الخصيب، وتقدم إلى جماعة من قواد الغلمان المضمومين إلى أبي العباس أن يخرجوا في أصحابهم بين دار الفاسق ودار ابنه أنكلاي، فيكون مسيرهم على شاطئ نهر أبي الخصيب وما قاربه، ليتصلوا بأوائل الغلمان الذين يأتون على الجبال، ويكون قصد الجميع إلى الجسر وامرهم بحمل الآلات من المعاول والفؤوس والمناشير مع جمع من النفاطين لقطع ما يتهيأ قطعه، وإحراق ما يتهيأ إحراقه، وأمر راشدا مولاه بقصد الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في مثل العدة التي كانت مع أبي العباس وقصد الجسر ومحاربة من يدافع عنه، ودخل أبو أحمد نهر أبي الخصيب في الشذا، وقد أعد منها شذوات رتب فيها من أنجاد غلمانه الناشبة والرامحة من ارتضاه، وأعد معهم من الآلات التي يقطع بها الجسر ما يحتاج إليه لذلك، وقدمهم أمامه في نهر أبي الخصيب، واشتبكت الحرب في الجانبين جميعا بين الفريقين، واشتد القتال وكان في الجانب الغربي بإزاء أبي العباس ومن معه أنكلاي ابن الفاسق في جيشه، وسليمان بن جامع في جيشه، وفي الجانب الشرقي بإزاء راشد ومن معه الفاجر صاحب الزنج والمهلبي في باقي جيشهم، فكانت الحرب في ذلك اليوم إلى مقدار ثلاث ساعات من النهار ثم انهزمت الفسقة لا يلوون على شيء، وأخذت السيوف منهم مأخذها، وأخذ من رءوس الفسقة ما لم يقع عليه إحصاء لكثرته، فكان الموفق إذا أتي برأس من الرءوس أمر بإلقائه في نهر أبي الخصيب، ليدع المقاتلة الشغل بالرءوس، ويجدوا في اتباع عدوهم، وأمر أصحاب الشذا الذين رتبهم في نهر أبي الخصيب بالدنو من الجسر وإحراقه، ودفع من تحامى عنه من الزنج بالسهام، ففعلوا ذلك وأضرموا الجسر نارا، ووافى أنكلاي وسليمان في ذلك الوقت جريحين مهزومين، يريدان العبور إلى شرقي نهر أبي الخصيب، فحالت النار بينهما وبين الجسر، فألقوا أنفسهما ومن كان معهما من حماتهم في نهر أبي الخصيب، فغرق منهم خلق كثير، وأفلت أنكلاي وسليمان بعد أن أشفيا على الهلاك، وأجتمع على الجسر من الجانبين خلق كثير، فقطع بعد أن ألقيت عليه سفينة مملوءة قصبا مضروما بالنار، فأعانت على قطعه وإحراقه، وتفرق الجيش في نواحي مدينة الخبيث من الجانبين جميعا، فأحرقوا من دورهم وقصورهم وأسواقهم شيئا كثيرا، واستنقذوا من النساء المأسورات والأطفال ما لا يحصى عدده، وأمر الموفق المقاتلة بحملهم في سفنهم والعبور بهم إلى الموفقية.
وقد كان الفاجر سكن بعد إحراق قصره ومنازله الدار المعروفة بأحمد بن موسى القلوص والدار المعروفة بمحمد بن إبراهيم أبي عيسى، وأسكن ابنه أنكلاي الدار المعروفة بمالك ابن أخت القلوص، فقصد جماعة من غلمان الموفق المواضع التي كان الخبيث يسكنها فدخلوها، وأحرقوا منها مواضع، وانتهبوا منها ما كان سلم للفاسق من الحريق الأول، وهرب الخبيث ولم يوقف في ذلك اليوم على مواضع أمواله واستنقذ في هذا اليوم نسوة علويات كن محتبسات في موضع قريب من داره التي كان يسكنها، فأمر الموفق بحملهن إلى عسكره، وأحسن إليهن، ووصلهن، وقصد جماعة من غلمان الموفق من المستأمنة المضمومين إلى أبي العباس سجنا كان الفاسق اتخذه في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، ففتحوه وأخرجوا منه خلقا كثيرا ممن كان أسر من العساكر التي كانت تحارب الفاسق وأصحابه، ومن سائر الناس غيرهم فأخرج جميعهم في قيودهم وأغلالهم حتى أتى بهم الموفق، فأمر بفك الحديد عنهم وحملهم إلى الموفقية، وأخرج في ذلك اليوم كل ما كان بقي في نهر أبي الخصيب من شذا ومراكب بحرية وسفن صغار وكبار وحراقات وزلالات وغير ذلك من أصناف السفن من النهر إلى دجلة، وأباحها الموفق أصحابه وغلمانه مع ما فيها من السلب والنهب الذي حازوا في ذلك اليوم من عسكر الخبيث، وكان ذلك قدر جليل وخطر عظيم.
وفيها كان إحدار المعتمد إلى واسط، فسار إليها في ذي القعدة وأنزل دار زيرك.
وفيها سأل أنكلاي ابن الفاسق أبا أحمد الموفق الأمان، وأرسل إليه في ذلك رسولا، وسأل أشياء فأجابه الموفق إلى كل ما سأله، ورد إليه رسوله، وعرض للموفق بعقب ذلك ما شغله عن الحرب وعلم الفاسق أبو أنكلاي بما كان من ابنه فعذله- فيما ذكر- على ذلك، حتى ثناه عن رأيه في طلب الأمان، فعاد للجد في قتال أصحاب الموفق، ومباشرة الحرب بنفسه.
ذكر طلب رؤساء صاحب الزنج الامان
وفيها وجه أيضا سليمان بن موسى الشعراني- وهو أحد رؤساء أصحاب الفاسق- من يطلب الأمان له من أبي أحمد، فمنعه أبو أحمد ذلك، لما كان سلف منه من العبث وسفك الدماء، ثم اتصل به أن جماعة من أصحاب الخبيث قد استوحشوا لمنعه ذلك الشعراني، فأجابه أبو أحمد إلى إعطائه الأمان، استصلاحا بذلك غيره من أصحاب الفاسق، وأمر بتوجيه الشذا إلى الموضع الذي واعدهم الشعراني، ففعل ذلك، فخرج الشعراني وأخوه وجماعة من قواده، فحملهم في الشذا، وقد كان الخبيث حرس به مؤخر نهر أبي الخصيب، فحمله أبو العباس إلى الموفق، فمن عليه، ووفى له بأمانه، وأمر به فوصل ووصل أصحابه، وخلع عليهم، وحمل على عدة أفراس بسروجها وآلتها، ونزله وأصحابه أنزالا سنية، وضمه وإياهم إلى أبي العباس، وجعله في جملة أصحابه، وأمره بإظهاره في الشذا لأصحاب الخائن ليزدادوا ثقة بأمانه، فلم يبرح الشذا من موضعها من نهر أبي الخصيب، حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج وغيرهم، فحملوا إلى أبي أحمد، فوصلهم وألحقهم في الخلع والجوائز بمن تقدمهم.
ولما استأمن الشعراني اختل ما كان الخبيث يضبط به من مؤخر عسكره، ووهى أمره وضعف، فقلد الخبيث ما كان إلى الشعراني من حفظ ذلك شبل بن سالم، وأنزله مؤخر نهر أبي الخصيب، فلم يمس الموفق من اليوم الذي أظهر فيه الشعراني لأصحاب الخبيث حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان، ويسأل أن يوقف شذوات عند دار ابن سمعان، ليكون قصده فيمن يصحبه من قواده ورجاله في الليل إليها.
فأعطي الأمان، ورد إليه رسوله، ووقفت له الشذا في الموضع الذي سأل أن توقف له، فوافاها في آخر الليل ومعه عياله وولده وجماعة من قواده ورجاله، وشهر أصحابه سلاحهم، وتلقاهم قوم من الزنج قد كان الخبيث وجههم لمنعه من المصير إلى الشذا وقد كان خبره انتهى إليه، فحاربهم شبل وأصحابه، وقتلوا منهم نفرا، فصاروا إلى الشذا سالمين، فصير بهم إلى قصر الموفق بالموفقية، فوافاه وقد ابتلج الصبح، فأمر الموفق أن يوصل شبل بصلة جزيلة، وخلع عليه خلعا كثيرة، وحمله على عدة أفراس بسروجها ولجمها.
وكان شبل هذا من عدد الخبيث وقدماء أصحابه وذوي الغناء والبلاء في نصرته، ووصل أصحاب شبل، وخلع عليهم، وأسنيت له ولهم الأرزاق والأنزال، وضموا جميعا إلى قائد من قواد غلمان الموفق، ووجه به وبأصحابه في الشذا، فوقفوا بحيث يراهم الخبيث وأشياعه فعظم ذلك على الفاسق وأوليائه، لما رأوا من رغبة رؤسائهم في اغتنام الأمان، وتبين الموفق من مناصحة شبل وجودة فهمه ما دعاه إلى أن يستكفيه بعض الأمور التي يكيد بها الخبيث، فأمره بتبييت عسكر الخبيث في جمع أمر بضمهم إليه من أبطال الزنج المستأمنة، وأفرده وإياهم بما امرهم به من البيات، لعلمهم بالمسالك في عسكر الخبيث، فنفذ شبل لما أمر به، فقصد موضعا كان عرفه، فكبسه في السحر، فوافى به جمعا كثيفا من الزنج في عدة من قوادهم وحماتهم، قد كان الخبيث رتبهم في الدفع عن الدار المعروفة بأبي عيسى، وهي منزل الخبيث حينئذ، فأوقع بهم وهم غارون، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر جمعا من قواد الزنج، وأخذ لهم سلاحا كثيرا، وانصرف ومن كان معه سالمين، فأتي بهم الموفق، فأحسن جائزتهم، وخلع عليهم، وسور جماعة منهم.
ولما أوقع أصحاب شبل بأصحاب الخائن هذه الوقعة ذعرهم ذلك ذعرا شديدا، وأخافهم ومنعهم النوم، فكانوا يتحارسون في كل ليلة، ولا تزال النفرة تقع في عسكرهم لما استشعروا من الخوف، ووصل إلى قلوبهم من الوحشة، حتى لقد كان ضجيجهم وتحارسهم يسمع بالموفقية.
ثم أقام الموفق بعد ذلك ينفذ السرايا إلى الخبثة ليلا ونهارا من جانبي نهر أبي الخصيب، ويكدهم بالحرب، ويسهر ليلهم، ويحول بينهم وبين طلب أقواتهم، وأصحابه في ذلك يتعرفون المسالك، ويتدربون بالوغول في مدينة الخبيث وتقحمها، ويصرون من ذلك على ما كانت الهيبة تحول بينهم وبينه، حتى إذا ظن الموفق أن قد بلغ أصحابه ما كانوا يحتاجون إليه، صح عزمه على العبور إلى محاربة الفاسق في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فجلس مجلسا عاما، وأمر بإحضار قواد المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم من الزنج والبيضان، فأدخلوا إليه، ووقفوا بحيث يسمعون كلامه ثم خاطبهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم، وما كان الفاسق دين لهم من معاصي الله، وأن ذلك قد كان أباح له دماءهم، وأنه قد غفر الزلة، وعفا عن الهفوة، وبذل الأمان، وعاد على من لجأ إليه بفضله، فأجزل الصلات، وأسنى الأرزاق، وألحقهم بالأولياء وأهل الطاعة، وأن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته، وأنهم لن يأتوا شيئا يتعرضون به لطاعة ربهم والاستدعاء لرضا سلطانهم، أولى بهم من الجد والاجتهاد في مجاهدة عدو الله الخائن وأصحابه، وأنهم من الخبرة بمسالك عسكر الخبيث ومضايق طرق مدينته والمعاقل التي أعدها للهرب إليها على ما ليس عليه غيرهم، فهم أحرياء أن يمحضوه نصيحتهم، ويجتهدوا في الولوج على الخبيث، والتوغل إليه في حصونه، حتى يمكنهم الله منه ومن أشياعه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد وإن من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله وتصغير منزلته، ووضع مرتبته فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق والإقرار بإحسانه، وبما هم عليه من صحة الضمائر في السمع والطاعة والجد في مجاهدة عدوه، وبذل دمائهم ومهجهم في كل ما يقر بهم منه، وأن ما دعاهم إليه قد قوى نيتهم، ودلهم على ثقته بهم وإحلاله إياهم محل أوليائه، وسألوه أن يفردهم بناحية يحاربون فيها، فيظهر من حسن نياتهم ونكايتهم في العدو ما يعرف به إخلاصهم وتورعهم عما كانوا عليه من جهلهم فأجابهم الموفق إلى ما سألوا، وعرفهم حسن موقع ما ظهر له من طاعتهم، وخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول وجميل الوعد.
خبر دخول الموفق مدينه صاحب الزنج وتخريب داره
وفي ذي القعدة من هذه السنة دخل الموفق مدينة الفاسق بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فخرب داره، وانتهب ما كان فيها.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة:
ذكر أن أبا أحمد لما عزم على الهجوم على الفاسق في مدينته بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، أمر بجمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره، إذ كان ما في عسكره مقصرا عن الجيش لكثرته، وأحصى ما في الشذا والسميريات والرقيات التي كانت تعبر فيها الخيل، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح، ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة، ويركبها الناس في حوائجهم، وسوى ما كان لكل قائد ومن يحضر من أصحابه من السميريات والجريبيات والزواريق التي فيها الملاحون الراتبة فلما تكاملت له السفن والمعابر، ورضي عددها، تقدم إلى أبي العباس وإلى قواد مواليه وغلمانه في التأهب والاستعداد للقاء عدوهم، وأمر بتفرقة السفن والمعابر إلى حمل الخيل والرجالة، وتقدم إلى أبي العباس في أن يكون خروجه في جيشه في الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، وضم إليه قوادا من قواد غلمانه في زهاء ثمانية آلاف من أصحابهم، وأمره أن يعمد مؤخر عسكر الفاسق حتى يتجاوز دار المعروف بالمهلبي، وقد كان الخبيث حصنها وأسكن بقربها خلقا كثيرا من أصحابه، ليأمن على مؤخر عسكره، وليصعب على من يقصده المسلك إلى هذا الموضع.
فأمر أبو أحمد أبا العباس بالعبور بأصحابه إلى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، وأن يأتي هذه الناحية من ورائها، وأمر راشدا مولاه بالخروج في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في عدد كثير من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفا، وأمر بعضهم بالخروج في ركن دار المعروف بالكرنبائي كاتب المهلبي، وهي على قرنة نهر أبي الخصيب في الجانب الشرقي منه، وأمرهم أن يجعلوا مسيرهم على شاطئ النهر حتى يوافوا الدار التي نزلها الخبيث، وهي الدار المعروفة بأبي عيسى وأمر فريقا من غلمانه بالخروج على فوهة النهر المعروف بأبي شاكر، وهو أسفل من نهر أبي الخصيب، وأمر آخرين منهم بالخروج في أصحابهم على فوهة النهر المعروف بجوى كور، وأوعز إلى الجميع في تقديم الرجالة أمام الفرسان، وأن يزحفوا بجميعهم نحو دار الخائن، فإن أظفرهم الله به وبمن فيها من أهله وولده وإلا قصدوا دار المهلبي ليلقاهم هناك من أمر بالعبور مع أبي العباس، فتكون أيديهم يدا واحدة على الفسقة.
فعمل أبو العباس وراشد وسائر قواد الموالي والغلمان بما أمروا به، فظهروا جميعا، وأبرزوا سفنهم في عشيه يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وسار الفرسان يتلو بعضهم بعضا، ومشت الرجالة وسارت السفن في دجلة منذ صلاة الظهر من يوم الاثنين إلى آخر وقت عشاء الآخرة من ليلة الثلاثاء، فانتهوا إلى موضع من أسفل العسكر، وكان الموفق أمر بإصلاحه وتنظيفه وتنقية ما فيه من خراب ودغل، وطم سواقيه وأنهاره حتى استوى واتسع، وبعدت أقطاره واتخذ فيه قصرا وميدانا لعرض الرجال والخيل بإزاء قصر الفاسق، وكان غرضه في ذلك إبطال ما كان الخبيث يعد به أصحابه من سرعة انتقاله عن موضعه، فأراد أن يعلم الفريقين أنه غير راحل حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، فبات الجيش ليلة الثلاثاء في هذا الموضع بإزاء عسكر الفاسق، وكان الجميع زهاء خمسين ألف رجل من الفرسان والرجالة في أحسن زي وأكمل هيئة، وجعلوا يكبرون ويهللون، ويقرءون القرآن، ويصلون، ويوقدون النار فرأى الخبيث من كثرة الجمع والعدة والعدد ما بهر عقله وعقول أصحابه، وركب الموفق في عشية يوم الاثنين الشذا، وهي يومئذ مائة وخمسون شذاة قد شحنها بأنجاد غلمانه ومواليه الناشبة والرامحة، ونظمها من أول عسكر الخائن إلى آخره، لتكون حصنا للجيش من ورائه، وطرحت أناجرها بحيث تقرب من الشط، وأفرد منها شذوات اختارها لنفسه، ورتب فيها من خاصة قواد غلمانه ليكونوا معه عند تقحمه نهر أبي الخصيب، وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف، وأمرهم أن يسيروا على جانبي نهر أبي الخصيب بمسيره، ويقفوا بوقوفه، ويتصرفوا فيما رأى أن يصرفهم فيه في وقت الحرب.
وغدا الموفق يوم الثلاثاء لقتال الفاسق صاحب الزنج، وتوجه كل رئيس من رؤساء قواده نحو الموضع الذي أمر بقصده، وزحف الجيش نحو الفاسق وأصحابه، فتلقاهم الخبيث في جيشه، واشتبكت الحرب، وكثر القتل والجراح بين الفريقين، وحامى الفسقة عما كانوا اقتصروا عليه من مدينتهم أشد محاماة، واستماتوا، وصبر أصحاب الموفق، وصدقوا القتال، فمن الله عليهم بالنصر، وهزم الفسقة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا من مقاتلتهم وأنجادهم جمعا كثيرا.
وأتي الموفق بالأسارى، فأمر بهم فضربت أعناقهم في المعركة، وقصد بجمعه لدار الفاجر فوافاها، وقد لجأ الخبيث إليها، وجمع أنجاد أصحابه للمدافعة عنها، فلما لم يغنوا عنها شيئا أسلمها، وتفرق أصحابه عنها، ودخلها غلمان الموفق، وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وأثاثه، فانتهبوا ذلك كله، وأخذوا حرمه وولده الذكور والإناث، وكانوا أكثر من مائة بين امرأة وصبي، وتخلص الفاسق ومضى هاربا نحو دار المهلبي، لا يلوي على أهل ولا مال، وأحرقت داره وما بقي فيها من متاع وأثاث، وأتي الموفق بنساء الخبيث وأولاده، فأمر بحملهم إلى الموفقية والتوكيل بهم، والإحسان إليهم.
وكان جماعة من قواد أبي العباس عبروا نهر أبي الخصيب، وقصدوا الموضع الذي أمروا بقصده من دار المهلبي، ولم ينتظروا إلحاق أصحابهم بهم، فوافوا دار المهلبي، وقد لجأ إليها أكثر الزنج بعد انكشافهم عن دار الخبيث، فدخل أصحاب أبي العباس الدار، وتشاغلوا بالنهب وأخذ ما كان غلب عليه المهلبي من حرم المسلمين وأولاده منهن، وجعل كل من ظفر بشيء انصرف به إلى سفينته في نهر أبي الخصيب.
وتبين الزنج قلة من بقي منهم وتشاغلهم بالنهب، فخرجوا عليهم من عدة مواضع قد كانوا كمنوا فيها، فأزالوهم عن مواضعهم، فانكشفوا، واتبعهم الزنج حتى وافوا نهر أبي الخصيب وقتلوا من فرسانهم ورجالتهم جماعة يسيرة، وارتجعوا بعض ما كانوا أخذوا من النساء والمتاع.
وكان فريق من غلمان الموفق وأصحابه الذين قصدوا دار الخبيث في شرقي نهر أبي الخصيب تشاغلوا بالنهب وحمل الغنائم إلى سفنهم، فأطمع ذلك الزنج فيهم، فأكبوا عليهم، فكشفوهم واتبعوا آثارهم إلى الموضع المعروف بسوق الغنم من عسكر الزنج، فثبتت جماعة من قواد الغلمان في أنجاد أصحابهم وشجعانهم، فردوا وجوه الزنج حتى ثاب الناس، وتراجعوا إلى مواقفهم، ودامت الحرب بينهم إلى وقت صلاة العصر فأمر أبو أحمد عند ذلك غلمانه أن يحملوا على الفسقة بأجمعهم حملة صادقة، ففعلوا ذلك، فانهزم الزنج وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى دار الخبيث، فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف غلمانه وأصحابه على إحسانهم، فأمرهم بالرجوع، فانصرفوا على هدو وسكون، فأقام الموفق في النهر ومن معه في الشذا يحميهم، حتى دخلوا سفنهم، وأدخلوها خيلهم، وأحجم الزنج عن اتباعهم لما نالهم في آخر الوقعة وانصرف الموفق ومعه أبو العباس وسائر قواده وجميع جيشه قد غنموا أموال الفاسق، واستنقذوا جمعا من النساء اللواتي كان غلب عليهن من حرم المسلمين كثيرا، جعلن يخرجن في ذلك اليوم أرسالا إلى فوهة نهر أبي الخصيب، فيحملن في السفن إلى الموفقية إلى انقضاء الحرب.
وكان الموفق تقدم إلى أبي العباس في هذا اليوم أن ينفذ قائدا من قواده في خمس شذوات إلى مؤخر عسكر الخبيث بنهر أبي الخصيب، لإحراق بيادر ثم جليل قدرها، كان الخبيث يقوت أصحابه منها من الزنج وغيرهم، ففعل ذلك وأحرق أكثره وكان إحراق ذلك من أقوى الأشياء على إدخال الضعف على الفاسق وأصحابه، إذ لم يكن لهم معول في قوتهم غيره، فأمر أبو أحمد بالكتاب بما تهيأ له على الخبيث وأصحابه في هذا اليوم إلى الآفاق ليقرأ على الناس، ففعل ذلك.
وفي يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي الحجة من هذه السنة وافى عسكر أبي أحمد صاعد بن مخلد كاتبه منصرفا إليه من سامرا، ووافى معه بجيش كثيف قيل إن عدد الفرسان والرجالة الذين قدموا كان زهاء عشره آلاف، امر الموفق بإراحة أصحابه وتجديد أسلحتهم وإصلاح أمورهم، وأمرهم بالتأهب لمحاربة الخبيث فأقام أياما بعد قدومه لما أمر به فهم في ذلك من أمرهم، إذ ورد كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون مع بعض قواده، يسأله فيه الإذن له في القدوم عليه، ليشهد عليه حرب الفاسق فأجابه إلى ذلك، فأذن له في القدوم عليه، وأخر ما كان عزم عليه من مناجزة الفاجر انتظارا منه قدوم لؤلؤ، وكان لؤلؤ مقيما بالرقة في جيش عظيم من الفراغنة والأتراك والروم والبربر والسودان وغيرهم، من نخبة أصحاب ابن طولون، فلما ورد على لؤلؤ كتاب أبي أحمد بالإذن له في القدوم عليه، شخص من ديار مضر حتى ورد مدينة السلام في جميع أصحابه، وأقام بها مدة، ثم شخص إلى أبي أحمد فوافاه بعسكره يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجلس له أبو أحمد، وحضر ابنه أبو العباس وصاعد والقواد على مراتبهم، فأدخل عليه لؤلؤ في زي حسن، فأمر أبو العباس أن ينزل معسكرا كان أعد له بإزاء نهر أبي الخصيب، فنزله في اصحابه، وتقدم اليه في مباكره المصير الى دار الموفق، ومعه قواده وأصحابه للسلام عليه فغدا لؤلؤ يوم الجمعة لثلاث خلون من المحرم، وأصحابه معه في السواد، فوصل إلى الموفق وسلم عليه فقربه وأدناه، ووعده وأصحابه خيرا، وأمر أن يخلع عليه وعلى خمسين ومائة قائد من قواده، وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلاة بالذهب والفضة، وحمل بين يديه من أصناف الكسى والأموال في البدور ما يحمله مائة غلام، وأمر لقواده من الصلات والحملان والكسى على قدر محل كل إنسان منهم عنده، وأقطعه ضياعا جليلة القدر، وصرفه إلى عسكره بإزاء نهر أبي الخصيب بأجمل حال، وأعدت له ولأصحابه الأنزال والعلوفات، وأمره برفع جرائد لأصحابه بمبلغ أرزاقهم على مراتبهم، فرفع ذلك، فأمر لكل إنسان منهم بالضعف مما كان يجرى له وامر لهم بالعطاء عند رفع الجرائد، ووفوا ما رسم لهم.
ثم تقدم إلى لؤلؤ في التأهب والاستعداد للعبور إلى غربي دجلة لمحاربة الفاسق وأصحابه، وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقطعت القناطر والجسور التي كانت عليه أحدث سكرا في النهر من جانبيه، وجعل في وسط السكر بابا ضيقا ليحتد فيه جرية الماء، فيمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذر خروجها منه في المد، فرأى أبو أحمد أن حربه لا تتهيأ له إلا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك، فاشتدت محاماة الفسقة عنه، وجعلوا يزيدون فيه في كل يوم وليلة، وهو متوسط دورهم، والمئونة لذلك تسهل عليهم وتغلظ على من حاول قلعه.
فرأى أبو أحمد أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ، ليضروا لمحاربة الزنج، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر، وأمر بإحضار الفعلة لقلعه، ففعل فرأى الموفق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدة اليسيرة منهم، في وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سره فأمر لؤلؤا بصرف أصحابه إشفاقا عليهم، وضنا بهم، فوصلهم الموفق، وأحسن إليهم، وردهم إلى معسكرهم، وألح الموفق على هذا السكر، فكان يحارب المحامين عنه من أصحاب الخبيث بأصحاب لؤلؤ وغيرهم، والفعلة يعملون في قلعه، ويحارب الفاجر وأشياعه من عدة وجوه، فيحرق مساكنهم، ويقتل مقاتلتهم، ويستأمن إليه الجماعة من رؤسائهم.
وكانت قد بقيت للخبيث وأصحابه أرضون من ناحية نهر الغربي، كان لهم فيها مزارع وخضر وقنطرتان على نهر الغربي، يعبرون عليها إلى هذه الأرضين، فوقف أبو العباس على ذلك فقصد لتلك الناحية، واستأذن الموفق في ذلك، فأذن له، وأمره باختيار الرجال، وأن يجعلهم شجعاء أصحابه وغلمانه، ففعل أبو العباس ذلك، وتوجه نحو نهر الغربي، وجعل زيرك كمينا في جمع من أصحابه في غربي النهر، وأمر رشيقا غلامه أن يقصد في جمع كثير من أنجاد رجاله ومختاريهم للنهر المعروف بنهر العميسيين، ليخرج في ظهور الزنج وهم غارون، فيوقع بهم في هذه الأرضين وأمر زيرك أن يخرج في وجوههم إذا أحس بانهزامهم من رشيق.
وأقام أبو العباس في عدة شذوات قد انتخب مقاتلتها واختارهم في فوهة نهر الغربي، ومعه من غلمانه البيضان والسودان عدد قد رضيه، فلما ظهر رشيق للفجرة في شرقي نهر الغربي، راعهم فأقبلوا يريدون العبور إلى غربيه ليهربوا إلى عسكرهم، فلما عاينهم أبو العباس اقتحم النهر بالشذوات، وبث الرجاله على جافتيه، فأدركوهم ووضعوا السيف فيهم، فقتل منهم في النهر وعلى ضفتيه خلق كثير، وأسر منهم أسرى، وأفلت آخرون، فتلقاهم زيرك في أصحابه فقتلوهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، وأخذ أصحاب أبي العباس من أسلحتهم ما ثقل عليهم حمله، حتى ألقوا أكثره وقطع أبو العباس القنطرتين، وأمر بإخراج ما كان فيهما من البدود والخشب إلى دجلة وانصرف إلى الموفق بالأسارى والرءوس، فطيف بها في العسكر، وانقطع عن الفسقة ما كانوا يرتفقون به من المزارع التي كانت بنهر الغربي.
[أخبار متفرقة]
وفي ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة تسع وستين ومائتين- أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد.
وفيها سمي صاعد ذا الوزارتين وفي ذي الحجة منها كانت وقعة بين قائدين وجيش معهما لابن طولون كان أحدهما يسمى محمد بن السراج والآخر منهما يعرف بالغنوي، كان ابن طولون وجههما، فوافيا مكة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي القعده في أربعمائة وسبعين فارسا وألفي راجل، فأعطوا الجزارين والحناطين دينارين دينارين، والرؤساء سبعة سبعة، وهارون بن محمد عامل مكة إذ ذاك ببستان ابن عامر، فوافى مكة جعفر بن الباغمردي لثلاث خلون من ذي الحجة في نحو من مائتي فارس، وتلقاه هارون في مائة وعشرين فارسا ومائتي أسود وثلاثين فارسا من أصحاب عمرو بن الليث ومائتي راجل ممن قدم من العراق، فقوي بهم جعفر، فالتقوا هم وأصحاب ابن طولون، وأعان جعفرا حاج أهل خراسان، فقتل من أصحاب ابن طولون ببطن مكة نحو من مائتي رجل، وانهزم الباقون في الجبال وسلبوا دوابهم وأموالهم، ورفع جعفر السيف.
وحوى جعفر مضرب الغنوي وقيل: أنه كان فيه مائتا ألف دينار، وآمن المصريين والحناطين والجزارين، وقرئ كتاب في المسجد الحرام ولعن ابن طولون، وسلم الناس وأموال التجار.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، ولم يبرح إسحاق بن كنداج- وقد ولي المغرب كله في هذه السنة- سامرا حتى انقضت السنة.