ذكر خبر قتل باغر التركى،
فمما كان فيها من ذلك قتل وصيف وبغا الصغير باغر التركي واضطراب أمر الموالي …
ذكر الخبر عن سبب قتلهما باغر:
ذكر أن سبب ذلك كان أن باغر كان أحد قتلة المتوكل، فزيد لذلك في أرزاقه، وأقطع قطائع، فكان مما أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع التي أقطعها باغر هنالك من كاتب كان لباغر يهودي- رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك- بألفي دينار في السنة، فعدا رجل بتلك الناحية، يقال له ابن مارمة على وكيل لباغر هنالك، فتناوله أو دس إليه من تناوله، فحبس ابن مارمة، وقيد، ثم عمل حتى تخلص من الحبس، فصار إلى سامرا، فلقي دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره، وإليه أمر العسكر، يركب إليه القواد والعمال، لمكانه من بغا وكان ابن مارمة صديقا لدليل، وكان باغر أحد قواد بغا، فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمة، وانتصف له منه، فأوغر ذلك من فعله بصدر باغر، وباين كل واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب، وباغر شجاع بطل معروف القدر في الاتراك، يتوقاه بغا وغيره، ويخافون شره.
فذكر أن باغر جاء يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة خمسين ومائتين إلى بغا، وبغا في الحمام، وباغر سكران شديد السكر، وانتظره حتى خرج من الحمام، ثم دخل عليه، فقال له: والله ما من قتل دليل بد ثم سبه، فقال له بغا: لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك، فكيف دليل النصراني! ولكن أمري وأمر الخلافة في يديه فتنتظر حتى اصير مكانه إنسانا، وشانك به ثم وجه بغا إلى دليل يأمره ألا يركب، وقيل: بل تلقاه طبيب لبغا، يقال له ابن سرجويه، فأخبره بالقصة، فرجع إلى منزله، فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قبل ذلك، فجعله مكان دليل، فيوهم باغر أنه قد عزل دليلا، فسكن باغر، ثم أصلح بغا بين دليل وباغر، وباغر يتهدد دليلا بالقتل إذا خلا بأصحابه، ثم تلطف باغر للمستعين، ولزم الخدمة في الدار، وكره المستعين مكانه، فلما كان يوم نوبة بغا في منزله قال المستعين: أي شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ فأخبره وصيف، فقال: ينبغي أن تصيروا هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر، فقال وصيف: نعم، وبلغت القصة دليلا، فركب إلى بغا فقال له: أنت في بيتك، وهم في تدبير عزلك عن كل أعمالك، فإذا عزلت فما بقاؤك إلا أن يقتلوك! فركب بغا إلى دار الخلافة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي، فقال لوصيف: أردت أن تزيلني عن مرتبتي، وتجيء بباغر فتصيره مكاني، وإنما باغر عبد من عبيدي ورجل من أصحابي، فقال له وصيف: ما علمت ما أراد الخليفة من ذلك فتعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار والاحتيال له، وأرجفوا له انه يؤمر ويضم إليه جيش سوى جيشه، ويخلع عليه، ويجلس في الدار مجلس بغا ووصيف- وهما يسميان الأميرين- ودافعوه بذلك وإنما كان المستعين تقرب إليه بذلك ليأمن ناحيته، فأحس هو ومن في ناحيته بالشر، فجمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل أو بعضها مع غيرهم، فلما جمعهم ناظرهم ووكد البيعة عليهم كما وكدها في قتل المتوكل، فقالوا: نحن على بيعتنا، فقال:
الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفا، ونجيء بعلي بن المعتصم أو بابن الواثق، فنقعده خليفة حتى يكون الأمر لنا، كما هو لهذين اللذين قد استوليا على أمر الدنيا، وبقينا نحن في غير شيء، فأجابوه إلى ذلك، وانتهى الخبر إلى المستعين فبعث إلى بغا ووصيف، وذلك يوم الاثنين، فقال لهما: ما طلبت إليكما أن تجعلاني خليفة، وإنما جعلتماني وأصحابكما، ثم تريدان أن تقتلاني! فحلفا له أنهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر.
وقيل: إن امرأة لباغر كانت مطلقة منه، سعت إلى أم المستعين وإلى بغا بذلك، وبكر دليل إلى بغا، وحضر وصيف إلى منزل بغا ومع وصيف أحمد بن صالح كاتبه، فاتفق رأيهم على أخذ باغر واثنين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم فيهم، فأحضروا باغر، فأقبل في عدة حتى دخل الدار إلى بغا فذكر عن بشر بن سعيد المرثدي أنه قال: كنت حاضرا دخوله، فمنع من الوصول إلى بغا ووصيف، وعطف به إلى حمام لبغا، ودعي له بالقيود، فامتنع عليهم، فحبسوه في الحمام، وبلغ ذلك الأتراك في الهاروني والكرخ والدور، فوثبوا على إصطبل السلطان، فأخذوا ما كان فيه من الدواب فانتهبوها وركبوها، وحضروا الجوسق بالسلاح، فلما أمسوا أمر وصيف وبغا رشيد بن سعاد أخت وصيف أن يقتل باغر، فأتاه في عدة، فشدخوه بالطبرزينات حتى أسكنوه، فلما علم المستعين باجتماعهم، ركب ووصيف وبغا حراقة، وصاروا إلى دار وصيف جميعا، وتراكض الناس يومهم- وهو يوم الثلاثاء وليلته- بالسلاح جائين وذاهبين، فقال لهم وصيف:
ترفقوا حتى تنظروا، فإن ثبتوا على المقاومة رمينا إليهم برأسه فلما انتهى قتله إلى الأتراك المشغبة، أقاموا على ما هم عليه من الشغب حتى علموا أن المستعين وبغا ووصيف قد انحدروا إلى بغداد، وقد كان وصيف أعطى قوما من المغاربة فرسانا ورجالة السلاح والرماح، ووجه بهم إلى هؤلاء المشغبة، وبعث دليل ابن يعقوب ودور أهل بيته ممن قرب منه وجيرانه، فانتهبوا ما فيها حتى صاروا إلى الخشب والدروندات، وقتلوا ما قدروا عليه من البغال، وانتهبوا علف الدواب والخمر التي في خزانة الشراب، ودفع عن دار سلمة بن سعيد النصراني جماعة كان وكلهم بها، من المصارعين وغيرهم من جيرانهم، ومنعوهم من دخول الدار، لأنهم أرادوا دار إبراهيم بن مهران النصراني العسكري، فدفعوهم عنها، وسلم سلمة وإبراهيم من النهب.
وقال في قتل باغر والفتنة التي هاجت بسببه بعض الشعراء، ذكر أن قائله أحمد بن الحارث اليمامي:
لعمري لئن قتلوا باغرا *** لقد هاج باغر حربا طحونا
وفر الخليفة والقائدان *** بالليل يلتمسان السفينا
وصاحوا بميسان ملاحهم *** فجاءهم يسبق الناظرينا
فألزمهم بطن حراقة *** وصرت مجاذيفهم سائرينا
وما كان قدر ابن مارمه *** فتكسب فيه الحروب الزبونا
ولكن دليل سعى سعية *** فأخزى الإله بها العالمينا
فحل ببغداد قبل الشروق *** فحل بها منه ما يكرهونا
فليت السفينة لم تأتنا *** وغرقها الله والراكبينا
وأقبلت الترك والمغربون *** وجاء الفراغنة الدارعونا
تسير كراديسهم في السلاح *** يروحون خيلا ورجلا ثبينا
فقام بحربهم عالم *** بأمر الحروب تولاه حينا
فجدد سورا على الجانبين *** حتى أحاطهم أجمعينا
وأحكم أبوابها المصمتات *** على السور يحمي بها المستعينا
وهيا مجانيق خطارة *** تفيت النفوس وتحمي العرينا
وعبى فروضا وجيشية *** ألوف ألوف إذ تحسبونا
وعبى المجانيق منظومة *** على السور حتى أغار العيونا
فذكر أنهم لما قدموا بغداد اعتل ابن مارمة، فعاده دليل بن يعقوب، فقال له: ما سبب علتك؟ قال: عقر القيد انتقض علي، فقال دليل:
لئن عقرك القيد، لقد نقضت الخلافة، وبعثت فتنة ومات ابن مارمة في تلك الأيام، فقال أبو علي اليمامي الحنفي في شخوص المستعين إلى بغداد:
ما زال إلا لزوال ملكه … وحتفه من بعده وهلكه ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد، فذكر أنهم أخذوا ملاحا قد أكرى سفينته، فضربوه مائتي سوط، وصلبوه على دقل سفينته، فامتنع أصحاب السفن من الانحدار الا سرا او بمؤنه ثقيله.
وقوع الفتنة ببغداد بين أهلها وبين جند السلطان
وفي هذه السنة هاجت الفتنة ووقعت الحرب بين أهل بغداد وجند السلطان الذين كانوا بسامرا، فبايع كل من كان بسامرا منهم المعتز، وأقام من ببغداد منهم على الوفاء ببيعة المستعين.
ذكر الخبر عن سبب هيج هذه الفتنة، وسبب بيعة من كان بسامرا من الجند المعتز وخلعهم المستعين، ونصبهم الحرب لمن اقام على الوفاء ببيعته:
قال ابو جعفر: قد ذكرنا قبل موافاة المستعين وشاهك الخادم ووصيف وبغا وأحمد بن صالح بن شيرزاد بغداد، وكانت موافاتهم إياها يوم الأربعاء لثلاث ساعات مضين من النهار لأربعة أيام- وقيل لخمسة أيام- خلون من المحرم من هذه السنة، فلما وافاها، نزل المستعين على محمد بن عبد الله بن طاهر في داره، ثم وافى بغداد خليفة لوصيف على أعماله، يعرف بسلام، فاستعلم ما عنده، ثم انصرف راجعا إلى منزله بسامرا، فوافى القواد خلا جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ بغداد مع جلة الكتاب والعمال وبني هاشم، ثم وافى بعد ذلك من قواد الأتراك الذين في ناحيه وصيف كلباتكين القائد وطيغج الخليفة، تركي، وابن عجوز الخليفة، نسائي، وممن في ناحية بغا بايكباك القائد من غلمان الخدمة مع عدة من خلفاء بغا.
وكان- فيما ذكر- وجه إليهم وصيف وبغا قبل قدومهم رسولا، يأمرانهم أن يصيروا إذا قدموا بغداد إلى الجزيرة التي حذاء دار محمد بن عبد الله بن طاهر، ولا يصيروا إلى الجسر، فيرعبوا العامة بدخولهم ففعلوا وصاروا إلى الجزيرة، فنزلوا عن دوابهم، فوجهت إليهم زواريق حتى عبروا فيها، فصعد كلباتكين وبايكباك والقواد من أهل الدور وأرناتجور التركي، فدخلوا على المستعين، فرموا بأنفسهم بين يديه، وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللا وخضوعا، وكلموا المستعين وسألوه الصفح عنهم والرضا، فقال لهم: أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم، ألم ترفعوا إلي في أولادكم، فألحقتهم بكم، وهم نحو من ألفي غلام، وفي بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات وهن نحو من أربعة آلاف امرأة في المدركين والمولودين! وكل هذا قد أجبتكم إليه، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها، كل ذلك إرادة لصلاحكم ورضاكم، وأنتم تزدادون بغيا وفسادا وتهددا وإبعادا! فتضرعوا، وقالوا: قد أخطأنا، وأمير المؤمنين الصادق في كل قوله، ونحن نسأله العفو عنا والصفح عن زلتنا! فقال المستعين: قد صفحت عنكم ورضيت، فقال له بايكباك: فإن كنت قد رضيت عنا وصفحت، فقم فاركب معنا إلى سامرا، فإن الأتراك ينتظرونك، فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكز في حلق بايكباك وقال له محمد بن عبد الله: هكذا يقال لأمير المؤمنين، قم فاركب معنا! فضحك المستعين من ذلك وقال: هؤلاء قوم عجم، ليس لهم معرفة بحدود الكلام وقال لهم المستعين، تصيرون الى إلى سامرا، فإن أرزاقكم دارة عليكم، وأنظر في امرى هاهنا ومقامي.
فانصرفوا آيسين منه، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله، وأخبروا من وردوا عليه من الأتراك خبرهم، وخالفوا فيما رد عليهم تحريضا لهم على خلعه والاستبدال به، وأجمع رأيهم على إخراج المعتز والبيعة له، وكان المعتز والمؤيد في حبس في الجوسق في حجرة صغيرة، مع كل واحد منهما غلام يخدمه، موكل بهم رجل من الأتراك يقال له عيسى خليفة بليار ومعه عدة من الأعوان، فأخرجوا المعتز من يومهم، فأخذوا من شعره، وقد كان بويع له بالخلافة، وأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة، فلم يتم المال، فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم.
وكان المستعين خلف بسامرا في بيت المال مما كان طلمجور وأساتكين القائدان قدما به من ناحية الموصل من مال الشام نحوا من خمسمائة ألف دينار، وفي بيت مال أم المستعين قيمة ألف ألف دينار، وفي بيت مال العباس ابن المستعين قيمه ستمائه ألف دينار، فذكر أن نسخة البيعة التي أخذت:
بسم الله الرحمن الرحيم تبايعون عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد، ورضا ورغبة وإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم، لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من تقوى الله وإيثار طاعته، وإعزاز حقه ودينه، ومن عموم صلاح عباد الله واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين، على أن أبا عبد الله المعتز بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ونصيحته والوفاء بحقه وعهده، لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع والطاعة، والمشايعة والوفاء، والاستقامة والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله أبو عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين، من موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، من خاص وعام، وقريب وبعيد، متمسكين ببيعته بوفاء العقد وذمة العهد، سرائركم في ذلك كعلانيتكم، وضمائركم فيه كمثل ألسنتكم، راضين بما يرضى به أمير المؤمنين بعد بيعتكم هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم صفقة، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وبولاية عهد المسلمين لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد عليكم، وعلى ألا يميل بكم في ذلك مميل عن نصرة وإخلاص وموالاة، وعلى ألا تبدلوا ولا تغيروا، ولا يرجع منكم راجع عن بيعته وانطوائه على غير علانيته، وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتموها بألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتمادها.
وعلى الوفاء بذمة الله فيها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم نفاق ولا إدهان ولا تأول، حتى تلقوا الله موفين بعهده، مؤدين حقه عليكم، غير مستريبين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين بيعة خلافته وولاية العهد من بعده لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين: {إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 10] . عليكم بذلك وبما أكدت عليكم به هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم من وفاء ونصرة، وموالاة واجتهاد وعليكم عهد الله إن عهده كان مسئولا، وذمة الله عز وجل وذمة محمد ص، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من مواكيده ومواثيقه، أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا ولا تميلوا، وأن تمسكوا بما عاهدتم الله عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم، وذوي الوفاء والعهد بوفائهم، ولا يلفتكم عن ذلك هوى ولا ميل، ولا يزيغ قلوبكم فتنة أو ضلالة عن هدى، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة والوفاء بما جعلتم على أنفسكم، لا يقبل الله منكم في هذه البيعة إلا الوفاء بها.
فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين هذه البيعة على ما أخذ عليكم، مسرا أو معلنا، مصرحا أو محتالا أو متأولا، وادهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذ عليه من مواثيق الله وعهوده، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الرأي، فكل ما يملك كل واحد منكم ممن ختر في ذلك منكم عهده، من مال أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع صدقة على المساكين في وجوه سبيل الله، محبوس محرم عليه أن يرجع شيئا من ذلك إلى ماله، عن حيلة يقدمها لنفسه، أو يحتال له بها، وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقل خطرها أو يجل، فذلك سبيلها، إلى أن توافيه منيته، ويأتي عليه أجله وكل مملوك يملكه اليوم وإلى ثلاثين سنة، ذكر أو أنثى، أحرار لوجه الله، ونساؤه يوم يلزمه فيه الحنث ومن يتزوج بعدهن إلى ثلاثين سنة طوالق طلاق الحرج، لا يقبل الله منه إلا الوفاء بها، وهو بريء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان، ولا قبل الله منه صرفا ولا عدلا، والله عليكم بذلك شهيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأحضر- فيما ذكر- البيعة ابو احمد بن الرشيد وبه النقرس محمولا في محفة، فأمر بالبيعة فامتنع، وقال للمعتز: خرجت إلينا خروج طائع فخلعتها، وزعمت أنك لا تقوم بها، فقال المعتز: أكرهت على ذلك وخفت السيف فقال أبو أحمد: ما علينا أنك أكرهت، وقد بايعنا هذا الرجل، فتريد أن نطلق نساءنا، ونخرج من أموالنا، ولا ندري ما يكون! إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس، وإلا فهذا السيف فقال المعتز اتركوه، فرد إلى منزله من غير بيعة وكان ممن بايع إبراهيم الديرج وعتاب بن عتاب، فهرب فصار إلى بغداد وأما الديرج فخلع عليه، وأقر على الشرطة، وخلع على سليمان بن يسار الكاتب، وصير على ديوان الضياع، وأقام يومه يأمر وينهى وينفذ الأعمال، ثم توارى في الليل، وصار إلى بغداد ولما بايع الأتراك المعتز ولي عماله، فولى سعيد بن صالح الشرطه، وجعفر ابن دينار الحرس، وجعفر بن محمود الوزارة، وأبا الحمار ديوان الخراج، ثم عزل وجعل مكانه محمد بن ابراهيم منقار، وولى ديوان جيش الأتراك المعروف بأبي عمر كاتب سيما الشرابي، وولى مقلدا كيد الكلب أخا أبي عمر بيوت الأموال وإعطاء الأتراك والمغاربة والشاكرية، وولى بريد الآفاق والخاتم سيما السارباني، واستكتب أبا عمر، فكان في حد الوزارة.
ولما اتصل بمحمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتز وتوجيهه العمال، أمر بقطع الميرة عن أهل سامرا، وكتب إلى مالك بن طوق في المصير إلى بغداد هو ومن معه من أهل بيته وجنده، وإلى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار في الاحتشاد والجمع، وإلى سليمان بن عمران الموصلي في جمع أهل بيته ومنع السفن أو شيء من الميرة أن ينحدر إلى سامرا، ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد إلى سامرا، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط، فهرب الملاح منها وبقيت السفينة حتى غرقت، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر بتحصين بغداد، فتقدم في ذلك، فأدير عليها السور من دجلة من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة ومن دجلة من باب قطيعة أم جعفر، حتى أورده قصر حميد بن عبد الحميد، ورتب على كل باب قائدا في جماعة من أصحابه وغيرهم وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران في الجانبين جميعا ومظلات يأوي إليها الفرسان في الحر والأمطار، فبلغت النفقة- فيما ذكر- على السورين وحفر الخنادق والمظلات ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وجعل على باب الشماسية خمس شداخات بعرض الطريق، فيها العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاني باب معلق بمقدار الباب ثخين، قد ألبس بصفائح الحديد، وشد بالحبال كي إن وافى أحد ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلق، فقتل من تحته وجعل على الباب الداخل عرادة، وعلى الباب الخارج خمسة مجانيق كبار، وفيها واحد كبير سموه الغضبان، وست عرادات ترمي بها إلى ناحية رقة الشماسية، وصير على باب البردان ثماني عرادات، في كل ناحية أربع، وأربع شداخات وكذلك على كل باب من أبواب بغداد في الجانب الشرقي والغربي، وجعل على كل باب من أبوابها قوادا برجالهم وجعل لكل باب من أبوابها دهليزا بسقائف تسع مائة فارس ومائة راجل، ولكل منجنيق وعرادة رجالا مرتبين يمدون بحباله وراميا يرمي إذا كان القتال وفرض فروضا ببغداد ومر قوم من اهل خراسان قدموا حجاجا، فسألوا المعونة على قتال الاتراك.
فأعينوا وأمر محمد بن عبد الله بن طاهر أن يفرض من العيارين فرض، وأن يجعل عليهم عريف، ويعمل لهم تراس من البواري المقيرة، وأن يعمل لهم مخال تملأ حجارة ففعل ذلك وتولى- فيما ذكر- عمل البواري المقيرة محمد بن أبي عون وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها.
عملت نسائجات، أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب البواري المقيرة من العيارين رجلا يقال له ينتويه وكان الفراغ من عمل السور يوم الخميس لسبع بقين من المحرم.
وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلدة وموضع أن يكون حملهم ما يحملون من الأموال إلى السلطان إلى بغداد، ولا يحملون إلى سامرا شيئا، وإلى عمال المعاون في رد كتب الأتراك وأمر بالكتاب إلى الأتراك والجند الذين بسامرا يأمرهم بنقض بيعة المعتز ومراجعة الوفاء ببيعتهم إياه، ويذكرهم أياديه عندهم، وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته، وكان كتابه بذلك إلى سيما الشرابي ثم جرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله بن طاهر مكاتبات ومراسلات، يدعو المعتز محمدا إلى الدخول فيما دخل فيه من بايعه بالخلافة وخلع المستعين، ويذكره ما كان أبوه المتوكل أخذ له عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة، ودعوة محمد بن عبد الله المعتز إلى ما عليه من الأوبة إلى طاعة المستعين، واحتجاج كل واحد منهما على صاحبه فيما يدعوه إليه من ذلك بما يراه حجة له، تركت ذكرها كراهة الإطالة بذكرها.
وأمر محمد بن عبد الله بكسر القناطر وبثق المياه بطسوج الأنبار وما قرب منه من طسوج بادوريا، ليقطع طريق الأتراك حين تخوف من ورودهم الأنبار.
وكان الذي تولى ذلك نجوبة بن قيس ومحمد بن حمد بن منصور السعدي.
وبلغ محمد بن عبد الله توجيه الأتراك لاستقبال الشمسة التي كانت مع البينوق الفرغاني من يحميها من أصحابه فوجه محمد ليلة الأربعاء لعشر بقين من المحرم خالد بن عمران وبندار الطبري إلى ناحية الأنبار.
ثم وجه بعدهما رشيد بن كاوس، فصادفوا البينوق ومن معه من الأتراك والمغاربة، وطالبهم خالد وبندار بالشمسة، فصار البينوق وأصحابه مع خالد وبندار إلى بغداد إلى المستعين وكان محمد بن الحسن بن جيلويه الكردي يتولى معونة عكبراء، وكان على الراذان رجل من المغاربة قد اجتمع عنده مال، فتوجه إليه ابن جيلويه، ودعاه إلى حمل مال الناحية، فامتنع عليه، ونصب له الحرب، فأسر ابن جيلويه المغربي، وحمله إلى باب محمد بن عبد الله، ومعه من مال الناحية اثنا عشر ألف دينار وثلاثون ألف درهم، فأمر محمد بن عبد الله لابن جيلويه بعشرة آلاف درهم وكتب كل واحد من المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا، وهو مقيم بأطراف الشام قرب الجزيرة- وكان خرج إلى حمص لحرب أهلها- يدعوه إلى نفسه، وبعث كل واحد منهما إليه بعدة ألوية يعقدها لمن أحب، ويأمره المستعين بالانصراف إلى مدينة السلام، ويستخلف على عمله من رأى فانصرف إلى المعتز وصار معه وقدم عبد الله بن بغا الصغير بغداد على ابيه، وكان قد تخلف بسامرا حين خرج أبوه منها مع المستعين، وصار إلى المستعين، فاعتذر إليه وقال لأبيه: إنما قدمت إليك لأموت تحت ركابك وأقام ببغداد أياما، ثم استأذن ليخرج إلى قرية بقرب بغداد على طريق الأنبار، فأذن له، فأقام فيها إلى الليل، ثم هرب من تحت ليلته، فمضى في الجانب الغربي الى سامرا مجانبا لأبيه، وممالئا عليه، واعتذر إلى المعتز من مصيره إلى بغداد، وأخبره أنه إنما صار إليها ليعرف اخبارهم، وليصير اليه فيعرفه صحتها فقبل ذلك منه، ورده إلى خدمته.
وورد الحسن بن الأفشين بغداد، فخلع عليه المستعين، وضم إليه من الأشروسنية وغيرهم جماعة كثيرة، وزاد في أرزاقه ستة عشر ألف درهم في كل شهر.
ولم يزل أسد بن داود سياه مقيما بسامرا، حتى هرب منها، فذكر أن الأتراك بعثوا في طلبه إلى ناحية الموصل والأنبار والجانب الغربي في كل ناحية خمسين فارسا، فوافى مدينة السلام، فدخل على محمد بن عبد الله، فضم إليه من أصحاب إبراهيم الديرج مائة فارس ومائتي راجل، ووكله بباب الأنبار مع عبد الله بن موسى بن ابى خالد.
وعقد المعتز لأخيه أبي أحمد بن المتوكل يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة- وهي سنة إحدى وخمسين ومائتين- على حرب المستعين وابن طاهر، وولاه ذلك، وضم إليه الجيش، وجعل إليه الأمر والنهي، وجعل التدبير الى كلباتكين التركي، فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة، وضم المغاربة إلى محمد بن راشد المغربي، فوافوا عكبراء ليلة الجمعة لليلة بقيت من المحرم، فصلى أبو أحمد، ودعا للمعتز بالخلافة، وكتب بذلك نسخا إلى المعتز، فذكر جماعة من أهل عكبراء أنهم رأوا الأتراك والمغاربة وسائر أتباعهم، وهم على خوف شديد، يرون أن محمد بن عبد الله قد خرج إليهم فسبقهم إلى حربهم، وجعلوا ينتهبون القرى ما بين عكبراء وبغداد وأوانا وسائر القرى من الجانب الغربي، تخوفا على أنفسهم وخلوا عن الغلات والضياع، فخربت الضياع، وانتهبت الغلات والأمتعة وهدمت المنازل، وسلب الناس في الطريق.
ولما وافى أبو أحمد عكبراء ومن معه خرج جماعة من الأتراك الذين كانوا مع بغا الشرابي بمدينة السلام من مواليه والمضمومين إليه، فهربوا ليلا، فاجتازوا بباب الشماسية، وكان على الباب عبد الرحمن بن الخطاب، ولم يعلم بخبرهم، وبلغ محمد بن عبد الله ذلك، فأنكره عليه وعنفه، وتقدم في حفظ الأبواب وحراستها والنفقة على من يتولاها.
ولما وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكل بباب الشماسية.
ثم وافى أبو أحمد وعسكره الشماسية ليلة الأحد لسبع خلون من صفر، ومعه كاتبه محمد بن عبد الله بن بشر بن سعد المرثدي، وصاحب خبر العسكر من قبل المعتز الحسن بن عمرو بن قماش ومن قبله، صاحب خبر له يقال له جعفر بن احمد البناتى، يعرف بابن الخبازة، فقال رجل من البصريين كان في عسكره ويعرف بباذنجانة:
يا بني طاهر أتتكم جنود الله *** والموت بينها منثور
وجيوش أمامهن أبو أحمد *** نعم المولى ونعم النصير
ولما صار أبو أحمد بباب الشماسية ولى المستعين الحسين بن اسماعيل باب الشماسيه، وصير من هناك من القواد تحت يده، فلم يزل مقيما هناك مدة الحرب إلى أن شخص إلى الأنبار، فولى مكانه إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، ولثلاث عشرة مضت من صفر، صار إلى محمد بن عبد الله جاسوس له، فأعلمه أن أبا أحمد قد عبى قوما يحرقون ظلال الأسواق من جانبي بغداد، فكشطت في ذلك اليوم وذكر أن محمد بن عبد الله وجه محمد بن موسى المنجم والحسين بن إسماعيل، وأمرهما أن يخرجا من الجانب الغربي، وأن يرتفعا حتى يجاوزا عسكر أبي أحمد ويحزرا: كم في عسكره؟ فزعم محمد بن موسى أنه حزرهم ألفي إنسان، معهم ألف دابة، فلما كان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر وافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية، فوقفوا بالقرب منه، فوجه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال وبندار الطبري فيمن معهم، وعزم على الركوب لمقاتلتهم، فانصرف إليه الشاه، فأعلمه أنه وافى بمن معه باب الشماسية.
فلما عاين الأتراك الأعلام والرايات وقد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم، فانصرف الشاه والحسين، وترك محمد الركوب يومئذ.
فلما كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر عزم محمد بن عبد الله على توجيه الجيوش إلى القفص ليعرض جنده، هنالك، ويرهب بذلك الأتراك، وركب معه وصيف وبغا في الدروع، وعلى محمد درع، وفوق الدرع صدرة من درع طاهر، وعليه ساعد حديد، ومضى معه بالفقهاء والقضاة، وعزم على دعائهم إلى الرجوع عما هم عليه من التمادي في الطغيان واللجاج والعصيان، وبعث يبذل لهم الأمان على أن يكون أبو عبد الله ولي العهد بعد المستعين، فإن قبلوا الأمان وإلا باكرهم بالقتال يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة تخلو من صفر، فمضى نحو باب قطربل، فنزل على شاطئ دجلة هو ووصيف وبغا، ولم يمكنه التقدم لكثرة الناس، وعارضهم من جانب دجلة الشرقي محمد بن راشد المغربي.
ثم انصرف محمد، فلما كان من الغد وافته رسل عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس وعلك القائد ومن معهما من القواد، يعلمونه أن القوم قد دنوا منهم، وأنهم قد رجعوا إلى عسكرهم إلى رقة الشماسية، فنزلوا وضربوا مضاربهم فأرسل إليهم ألا تبدءوهم، وإن قاتلوكم فلا تقاتلوهم، وادفعوهم اليوم فوافى باب الشماسية اثنا عشر فارسا من عسكر الأتراك- وكان على باب الشماسية باب وسرب، وعلى السرب باب، فوقف الاثنا عشر الفارس بإزاء الباب، وشتموا من عليه، ورموا بالسهام، ومن باب الشماسية سكوت عنهم، فلما أكثروا أمر علك صاحب المنجنيق أن يرميهم، فرماهم فأصاب منهم رجلا فقتله، فنزل أصحابه إليه، فحملوه وانصرفوا إلى عسكرهم بباب الشماسية.
وقدم عبد الله بن سليمان خليفة وصيف التركي الموجه إلى طريق مكة لضبط الطريق مع أبي الساج في ثلاثمائة رجل من الشاكرية، فدخل على محمد بن عبد الله، فخلع عليه خمس خلع، وعلى آخر ممن معه أربع خلع.
ودخل أيضا في هذا اليوم رجل من الأعراب من أهل الثعلبية يطلب الفرض معه خمسون رجلا، وورد الشاكرية القادمون من سامرا من قيادات شتى، وهم أربعون رجلا، فأمر بإعطائهم وإنزالهم فأعطوا.
ووافى الأتراك في هذا اليوم باب الشماسية، فرموا بالسهام والمنجنيق والعرادات، وكان بينهم قتلى وجرحى كثير، وكان الأمير الحسين بن اسماعيل لمحاربتهم، ثم أمد بأربعمائة رجل من الملطيين مع رجل يعرف بأبي السنا الغنوي وهو ابن أخت الهيثم الغنوي، ثم أمدهم بقوم من الاعراب نحو من ثلاثمائة رجل، وحمل في هذا اليوم من الصلات لمن أبلى في الحرب.
خمسة وعشرين ألف درهم، واطوقه واسوره من ذهب، فصار ذلك الى الحسين ابن إسماعيل وعبد الرحمن بن الخطاب وعلك ويحيى بن هرثمة والحسن بن الأفشين وصاحب الحرب الحسين بن إسماعيل، فكان الجرحى من أهل بغداد أكثر من مائتي إنسان، والقتلى عدة، وكذلك الجراحات في الأتراك والقتلى أكثرهم بالمجانيق، وانهزم أكثر عامة أهل بغداد، وثبت أصحاب البواري وانصرفوا جميعا، وهم في القتلى والجرحى شبيه بالسواء، وجرح من هؤلاء- فيما ذكر- مائتان، ومن هؤلاء مائتان، وقتل جماعة من الفريقين.
وجاء كردوس من الفراغنة والأتراك في هذا اليوم إلى باب خراسان من الجانب الشرقي ليدخلوا منه، وأتى الصريخ محمد بن عبد الله، وثبت لهم المبيضة والغوغاء فردوهم وقد كان محمد أمر أن يمخر تلك الناحية، فلما أرادوا الانصراف، وحلت عامة دوابهم، ونجا أكثرهم، أحضر الأتراك منجنيقا، فغلبهم الغوغاء عليه والمبيضة، وكسروا قائمة من قوائمه، وقتل اثنان من الشاشية من الحجاج، وأمر بحمل الآجر من قصر الطين وتلك الناحية إلى باب الشماسية، وفتحوا باب الشماسية، وأخرجوا إلى الآجر من لقطه، وردوه إلى هذا الجانب من السور.
وكان محمد بن عبد الله اتصل به أن جماعة من الأتراك قد صاروا إلى ناحية النهروان، فوجه قائدين من قواده يقال لهما عبد الله بن محمود السرخسي ويحيى بن حفص المعروف بحبوس في خمسمائة من الفرسان والرجالة إلى هذه الناحية، ثم اردفهم بسبعمائة رجل أيضا، وأمرهم بالمقام هناك، ومنع من أراده من الأتراك، فتوجه آخرهم إلى هذه الناحية يوم الجمعة لسبع خلون من صفر.
فلما كان ليلة الاثنين لثلاث عشرة بقيت من صفر، صار قوم من الأتراك إلى النهروان، فخرج جماعة ممن كان مع عبد الله بن محمود، فرجعوا هرابا، وأخذت دوابهم، وانصرف من نجا منهم إلى مدينة السلام مفلولين، وقتل زهاء خمسين رجلا، وأخذوا ستين دابة، وعدة من البغال قد كانت جاءت من ناحيه حلوان عليها الثلج، فوجهوا بها إلى سامرا، ووجهوا برءوس من قتلوا من الجند، فكانت أول رءوس وافت في تلك الحرب سامرا.
وانصرف عبد الله بن محمود مفلولا في شرذمة، وصار طريق خراسان في أيدي الأتراك، وانقطع الطريق من بغداد إلى خراسان.
وكان إسماعيل بن فراشة وجه إلى همذان للمقام بها، فكتب إليه بالانصراف، فانصرف، فأعطي هو وأصحابه استحقاقهم ووجه المعتز عسكرا من الأتراك والمغاربة والفراغنة ومن هو في عدادهم.
وعلى الأتراك والفراغنة الدرغمان الفرغاني، وعلى المغاربة ربلة المغربي، فساروا إلى مدينة السلام من الجانب الغربي، فجازوا قطربل إلى بغداد، وضربوا عسكرهم بين قطربل وقطيعة أم جعفر، وذلك عشية الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر فلما كان يوم الأربعاء من غد هذه الليلة، وجه محمد بن عبد الله بن طاهر الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارا وخالد بن عمران فيمن معهم من أصحابهم من الفرسان والرجالة فصافهم الشاه وأصحابه، فتراموا بالحجارة والسهام، وألجئوا الشاه إلى مضيق عند باب القطيعة، وكثر المبيضة من أهل بغداد، ثم حمل الشاه والمبيضة حملة واحدة أزالوا بها الأتراك والمغاربة ومن معهم عن موضعهم، وحمل عليهم المبيضة، وأصحروا بهم، وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم، وخرج عليهم بندار وخالد بن عمران من الكمين، وكانوا كمنوا في ناحية قطربل، فوضعوا في أصحاب أبي أحمد الأتراك منهم وغيرهم السيف، فقتلوهم أبرح قتل، فلم يفلت منهم إلا القليل، وانتهب المبيضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأهل والأثقال والمضارب والخرثي، فكل من أفلت منهم من السيف رمى بنفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد، فأخذه أصحاب الشبارات، وكانت الشبارات قد شحنت بالمقاتلة- فقتلوا وأسروا، وجعل القتلى والرءوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم في الزواريق، فنصبت بعضها في الجسرين، وعلى باب محمد بن عبد الله، فأمر محمد بن عبد الله لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة، فسور قوم كثير من الجند وغيرهم، فطلب المنهزمة، فبلغ بعضهم أوانا، وبلغ بعضهم ناحية عسكر أبي أحمد عبر دجلة، وبعضهم نفذ إلى سامرا.
وذكر أن عسكر الاتراك يوم هزموا بباب القطيعة كانوا أربعة آلاف، فقتل منهم يوم الوقعة هنالك ألفان، وكان وضع فيهم بالسيف من باب القطيعة إلى القفص، فقتلوا من قتلوا، وغرق من غرق، وأسر منهم جماعة، فخلع محمد بن عبد الله على بندار أربع خلع ملحم، ووشي وسواد وخز، وطوقه طوقا من ذهب، وخلع على أبي السنا أربع خلع، وعلى خالد بن عمران وجميع القواد، كل رجل أربع خلع وكان انصرافهم من الوقعة مع المغرب، وسخرت البغال، وأخذ لها الجواليق لتحمل فيها الرءوس إلى بغداد.
وكان كل من وافى دار محمد برأس تركي أو مغربي أعطوه خمسين درهما، وكان أكثر ذلك العمل للمبيضه والعيارين، ثم وافى عيار وبغداد قطربل، فانتهبوا ما تركه الأتراك من متاع أهل قطربل وأبواب دورهم، فوجه محمد في آخر هذا اليوم أخاه أبا أحمد عبيد الله بن عبد الله والمظفر بن سيسل في أثر المنهزمين حياطة لأهل بغداد، لأنه لم يأمن رجعتهم عليه فبلغا القفص، وانصرفا سالمين، وزعجا من اقام من الرجاله والعيار بن بناحية قطربل، وأشير على محمد بن عبد الله أن يتبعهم بعسكر في اليوم الثاني وفي تلك الليلة، ليوغل في آثارهم، فأبى ذلك ولم يتبع موليا، ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن، وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابا يذكر فيه هذه الوقعة، فقرئ على أهل بغداد في مسجد جامعها، نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فالحمد لله المنعم فلا يبلغ أحد شكر نعمته، والقادر فلا يعارض في قدرته، والعزيز فلا يغالب في امره، والحكم العدل فلا يرد حكمه، والناصر فلا يكون نصره إلا للحق وأهله، والمالك لكل شيء فلا يخرج أحد عن أمره، والهادي إلى الرحمة فلا يضل من انقاد لطاعته، والمقدم إعذاره ليظاهر به حجته، الذي جعل دينه لعباده رحمة، وخلافته لدينه عصمة، وطاعة خلفائه فرضا واجبا على كافة الأمة، فهم المستحفظون في ارضه على ما بعث به رسله، وأمناؤه على خلقه فيما دعاهم إليه من دينه، والحاملون لهم على منهاج حقه، لئلا يتشعب بهم الطريق إلى المخالفة لسبيله، والهادي لهم إلى صراطه، ليجمعهم على الجادة التي ندب إليها عباده الذين بهم يحمى الدين من الغواة والمخالفين، محتجين على الأمم بكتاب الله الذي استعملهم به، ودعا الأمة بحق الله الذي اختارهم له، إن جاهدوا كانت حجة الله معهم، وإن حاربوا حكم بالنصر لهم، وإن بغاهم عدو كانت كفاية الله حائلة دونهم ومعقلا لهم، وإن كادهم كائد فالله من وراء عونهم، نصبهم الله لإعزاز دينه، فمن عاداهم فإنما عادى الدين الذي أعزه وحرسه بهم، ومن ناواهم فإنما طعن على الحق الذي يكلؤه بحراستهم، جيوشهم بالنصر والعز منصورة، وكتائبهم بسلطان الله من عدوهم محفوظة، وأيديهم عن دين الله دافعة، وأشياعهم بتناصرهم في الحق عالية، وأحزاب أعدائهم ببغيهم مقموعة، وحجتهم عند الله وعند خلقه داحضه، ووسائلهم إلى النصر مردودة، تجمعهم مواطن التحاكم، وأحكام الله بخذلانهم واقعة، وأقداره بإسلامهم إلى أوليائه جارية، وعاداتهم في الأمم السالفة والقرون الخالية ماضية، ليكون أهل الحق على ثقة من انجاز سابق الوعد، واعداؤه محجوبون بما قدم إليهم من الإنذار، معجلة لهم نقمة الله بأيدي أوليائه، معد لهم العذاب عند ربهم، والخزي موصول بنواصيهم في دنياهم، وعذاب الآخرة من ورائهم وما الله بظلّام للعبيد.
وصلى الله على نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، والمنقذ من الضلالة إلى الهدى، صلاة تامة نامية بركاتها، دائمة اتصالها، وسلم تسليما. والحمد لله تواضعا لعظمته، والحمد لله إقرارا بربوبيته، والحمد لله اعترافا بقصور أقصى منازل الشكر عن أدنى منزلة من منازل كرامته والحمد لله الهادي إلى حمده، والموجب به مزيده، والمحصي به عوائد إحسانه، حمدا يرضاه ويتقبله، ويوجب طوله وأفضاله والحمد لله الذي حكم بالخذلان على من بغى على أهل دينه، وسبق وعده بالنصر لمن بغي عليه من أنصار حقه.
وأنزل بذلك كتابه العزيز، موعظة للباغين، فإن أقلعوا كانت التذكرة نافعة لهم، والحجة عند الله لمن قام بها فيهم، ثم أوجب بعد التذكرة والإصرار جهادهم، فقال فيما قدم من وعده، وأبان من برهانه: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60]، وعدا من الله حقا نهى به أعداءه عن معصيته، وثبت به أولياءه على سبيله، والله لا يخلف الميعاد ولله عند أمير المؤمنين في رئيس دعوته، وسيف دولته، والمحامي عن سلطانه ومحل ثقته، والمتقدم في طاعته ونصيحته لأوليائه، والذاب عن حقه، والقائم بمجاهدة أعدائه، محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، نعمة يرغب إلى الله في إتمامها، والتوفيق لشكرها، والتطول بمن أراد المزيد فيها، فإن الله قدر لآبائه القيام بالدعوة الأولى لآباء أمير المؤمنين، ثم جمع له آثارهم بقيامه بالدولة الثانية، حين حاول أعداء الله أن يطمسوا معالم دينه ويعفوها، فقام بحق الله وحق خليفته، محاميا عنها، ومراميا من ورائها، متناولا للبعيد برأيه ونظره، مباشرا للقريب بإشرافه وتفقده، باذلا نفسه في كل ما قربه من الله، وأوجب له الزلفة عنده، وسيمتع الله أمير المؤمنين به وليا، مكانفا على الحق، وناصرا موازرا على الخير، وظهيرا مجاهدا لعدو الدين وقد علمتم ما كان كتاب أمير المؤمنين تقدم به إليكم فيما أحدثته الفرقة الضالة عن سبيل ربها، المفارقة لعصمة دينها، الكافرة لنعم الله ونعم خليفته عندها، المباينة لجماعة الأمة التي ألف الله بخلافته نظامها، المحاولة لتشتيت الكلمة بعد اجتماعها، الناكثة لبيعته، الخالعة لربقة الإسلام من أعناقها، الموالي الأتراك، وما صارت إليه من نصر الغلام المعروف بأبي عبد الله بن المتوكل لإقامتها عند مصير أمير المؤمنين إلى مدينة السلام، محل سلطانه، ومجتمع أنصاره وأبناء أنصار آبائه، وما قابل به أمير المؤمنين خيانتهم وآثره من الأناة في أمرهم ثم إن هؤلاء الناكثين جمعوا جمعا من الأتراك والمغاربة، ومن ولج في سوادهم، ودخل في غمارهم، مؤاتيا للفتنة من ألفاف الغي، ورأسوا عليهم المعروف بأبي أحمد بن المتوكل، ثم ساروا نحو مدينة السلام في الجانب الشرقي، معلنين للبغي والاقتدار، مظهرين للغي والإصرار، فتأناهم أمير المؤمنين، وفسح لهم في النظرة لهم، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد، وتذكيرهم بما قدموا من البيعة، وإفهامهم ما لله عليهم وله في ذلك من الحق، وأن خروجهم مما دخلوا فيه من بيعتهم طوعا، الخروج من دين الله والبراءة منه ومن رسوله، وتحريمهم أموالهم ونساءهم عليهم، وأن في تمسكهم به سلامة أديانهم، وبقاء نعمتهم، والاحتراس من حلول النقم بهم، وأن يبين لهم ما سلف من بلائه عندهم، من أسنى المواهب، وأرفع الرغائب، والاختصاص بسني المراتب، والتقدم في المحافل، فأبوا إلا تماديا ونفارا، وتمسكا بالغي وإصرارا.
فقلد أمير المؤمنين نصيحة المؤتمن ووليه محمد بن عبد الله مولى امير المؤمنين تدبير أمورهم ودعائهم إلى الحق ما كانت الإنابة او محاربتهم ان جنح بهم غيهم، وتتابعوا في ضلالهم، فلم يألهم نظرا وإفهاما، وتبيينا وإرشادا، وهم في ذلك رافعون أصواتهم بالتوعد لأهل لمدينه السلام، بسفك دمائهم وسبي نسائهم وتغنم أموالهم، وقبل ذلك ما كانوا في مسيرهم على السبيل التي يستعملها أهل الشرك في غاراتهم، ويميلون إليها عند إمكان النهزة لهم، لا يجتازون بعامر إلا أخربوه، ولا بحريم لمسلم ولا غيره إلا أباحوه، ولا بمسلم يعجز عنهم إلا قتلوه، ولا بمال لمسلم ولا ذمي إلا أخذوه، حتى انتقل كثير ممن سبقت إليه أخبارهم ممن أمامهم عن أوطانهم، وفارقوا منازلهم ورباعهم، وفزعوا إلى باب أمير المؤمنين تحصنا من معرتهم، لا يمرون بغني إلا خلعوا عنه لباس الغنى، ولا بمستور إلا هتكوا عن الذرية والنساء ستره، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، ولا يتوقفون عن مسلم بهتك ولا مثلة، ولا يرغبون عما حرم الله من دم ولا حرمة.
ثم تلقوا التذكرة بالحرب، وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا التبصير بالاستبصار في الباطل، فذلفوا نحو باب الشماسيه، وقد رتب محمد ابن عبد الله مولى أمير المؤمنين بذلك الباب والأبواب التي سبيلها سبيله من أبواب مدينة السلام الجيوش في العدة الكاملة، والعدة المتظاهرة، معاقلهم التوكل على ربهم، وحصونهم الاعتصام بطاعته، وشعارهم التكبير والتهليل أمام عدوهم.
ومحمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، يأمرهم بتحصين ما يليهم والإمساك عن الحرب ما كانت مندوحة لهم، فباداهم الأولياء بالموعظة، وبدأهم الغواة الناكثون بحربهم، وعادوهم أياما بجموعهم وعدادهم، مدلين بعدتهم ومقدرين ألا غالب لهم، ولا يعلمون بالله أن قدرته فوق قدرتهم، وأن أقداره نافذة بخلاف إرادتهم، وأحكامه عادلة ماضية لأهل الحق عليهم، حتى إذا كان يوم السبت للنصف من صفر وافوا باب الشماسية بأجمعهم، قد نشروا أعلامهم، وتنادوا بشعارهم، وتحصنوا بأسلحتهم، وبدا الأمر منهم لمن عاينهم، ليس لهم وعيد دون سفك الدماء، وسبي النساء، واستباحة الأموال، فبدأهم الأولياء بالموعظة فلم يسمعوا، وقابلوهم بالتذكرة فلم يصغوا إليها، وبدءوا بالحرب منابذين لها، فتسرع الأولياء عند ذلك إليهم، واستنصروا عليهم، واستحكمت بالله ثقتهم، ونفذت به بصائرهم، فلم تزل الحرب بينهم إلى وقت العصر من هذا اليوم، فقتل الله من حماتهم وفرسانهم ورؤسائهم وقاده باطلهم جماعه كثيرا عددها، ونالت الجراحة المثخنة التي تأتي على من نالته أكثر عامتهم.
فلما رأى أعداء الله وأعداء دينه أن قد أكذب ظنونهم، وحال بينهم وبين أمانيهم، وجعل عواقبها حسرات عليهم، استنهضوا جيشا من سامرا من الأتراك والمغاربة في العتاد والعدة والجلد والأسلحة في الجانب الغربي، طالبين المعرة، ومؤملين أن ينالوا نيلا من أهله باشتغال إخوانهم في الجانب الشرقي بأعدائهم.
وقد كان محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين شحن الجانبين جميعا بالرجال والعدة، ووكل بكل ناحية من يقوم بحفظها وحراستها، ويكف عن الرعية بوائق أعدائهم، ووكل بكل باب من الأبواب قائدا في جمع كثيف، ورتب على السور من يراعيه في الليل والنهار وبث الرجال ليعرف أخبار أعداء الله في حركاتهم ونهوضهم ومقامهم وتصرفهم، فيعامل كل حال لهم بحال يفت الله في أعضادهم بها.
فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر، وافى الجيش الذي أنهضوه من الجانب الغربي الباب المعروف بباب قطربل، فوقفوا بإزاء الناكثين المعسكرين بالجانب الشرقي من دجلة في عدد لا يسعه إلا الفضاء، ولا يحمله إلا المجال الفسيح، وقد تواعدوا أن يكون دنوهم من الأبواب معا لشغل الأولياء بحربهم من الجهات، فيضعفوا عنهم ويغلبوا حقهم بباطلهم، املا كاذبا كادهم الله فيه غير صادق، وظنا خائبا لله فيه قضاء نافذ.
وأنهض محمد بن عبد الله نحوهم محمد بن أبي عون وبندار بن موسى الطبري مولى أمير المؤمنين وعبد الله بن نصر بن حمزة من باب قطربل، وأمرهم بتقوى الله وطاعته، والاتباع لأمره والتصرف مع كتابه، والتوقف عن الحرب حتى تسبق التذكره الاسماع، وتزول الحجة بالتتابع منهم والإصرار، فنفذوا في جمع يقابل جمعهم، مستبصرين في حق الله عليهم، مسارعين إلى لقاء عدوهم، محتسبين خطاهم ومسيرهم، واثقين بالثواب الآجل والجزاء العاجل فتلقاهم ومن معهم أعداء الله، قد أطلقوا نحوهم أعنتهم، وأشرعوا لنحورهم أسنتهم، لا يشكون أنهم نهزة المختلس، وغنيمه المنتهب، فنادوهم بالموعظة نداء مسمعا، فمجتها أسماعهم، وعميت عنها أبصارهم، وصدقهم أولياء الله في لقائهم، بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم، فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرة بعد كرة عليهم، طعنا بالرماح، وضربا بالسيوف، ورشقا بالسهام، فلما مسهم ألم جراحها، وكلمتهم الحرب بأنيابها، ودارت عليهم رحاها، وصمم عليهم أبناؤها، ظمأ إلى دمائهم، ولوا أدبارهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصنوا من عقابه بأمانة، ثم ثابت ثانية، فوقفوا بإزاء الأولياء، وعبر إليهم أشياعهم الغاوون من عسكرهم بباب الشماسية ألف رجل من أنجادهم في السفن، معاونين لهم على ضلالتهم، فانهض لهم محمد بن عبد الله خالد بن عمران والشاه بن ميكال مولى طاهر نحوهم، فنفذوا ببصيرة لا يتخونها فتور، ونية لا يلحقها تقصير، ومعهما العباس بن قارن مولى أمير المؤمنين.
فلما وافى الشاه فيمن معه أعداء الله، وكل بالمواضع التي يتخوف منها مدخل الكمناء، ثم حمل من توجه معه من القواد المسمين ماضين لا يغويهم الوعيد، ولا يشكون من الله في النصر والتأييد، فوضعوا أسيافهم فيهم، تمضي أحكام الله عليهم، حتى ألحقوهم بالمعسكر الذي كانوا عسكروا فيه وجاوزوه، وسلبوهم كل ما كان من سلاح وكراع وعتاد الحرب، فمن قتيل غودرت جثته بمصرعه، ونقلت هامته إلى مصير فيه معتبر لغيره، ومن لاجئ من السيف إلى الغرق لم يجره الله من حذاره، ومن أسير مصفود يقاد إلى دار أولياء الله وحزبه، ومن هارب بحشاشة نفسه، قد أسكن الله الخوف قلبه، فكانت النقمة بحمد الله واقعة بالفريقين ممن وافى الجانب الغربي قادما، ومن عبر إليهم من الجانب الشرقي منجدا، لم ينج منهم ناج، ولم يعتصم منهم بالتوبة معتصم، ولا أقبل إلى الله مقبل، فرقا أربعا يجمعها النار، ويشملها عاجل النكال، عظة ومعتبرا لأولي الأبصار، فكانوا كما قال اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ} [إبراهيم: 28-29].
ولم تزل الحرب بين الأولياء وبين الفرقة التي كانت في الجانب الشرقي والقتل محتفل في أعلامهم، والجراح فاشية فيهم، حتى إذا عاينوا ما أنزل الله بأشياعهم من البوار، وأحل بهم من النقمة والاستئصال، ما لهم من الله من عاصم، ولا من أوليائه ملجأ ولا موئل، ولوا منهزمين مفلولين منكوبين، قد أراهم الله العبر في إخوانهم الغاوية، وطوائفهم المضلة، وضل ما كان في أنفسهم لما رأوا من نصر الله لجنده، وإعزازه لأوليائه، والحمد لله رب العالمين، قامع الغواة الناكبين عن دينه، والبغاة الناقضين لعهده، والمراق الخارجين من جملة أهل حقه، حمدا مبلغا رضاه، وموجبا أفضل مزيده وصلى الله أولا وآخرا على محمد عبده ورسوله، الهادي إلى سبيله، والداعي إليه بإذنه، وسلم تسليما.
وكتب سعيد بن حميد يوم السبت لسبع خلون من صفر سنة إحدى وخمسين ومائتين وركب محمد بن عبد الله بن طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر إلى باب الشماسية، وأمر بهدم ما وراء سور بغداد من الدور والحوانيت والبساتين وقطع النخل والشجر من باب الشماسيه الى ثلاثة أبواب، لتتسع الناحية على من يحارب فيها، وكان وجه من ناحية فارس والأهواز نيف وسبعون حمارا بمال إلى بغداد، قدم به- فيما ذكر- منكجور بن قارن الأشروسني القائد، فوجه الاتراك وأبو أحمد بن بابك إلى طرارستان في ثلاثمائة فارس وراجل، ليلتقى ذلك المال إذا صار إليها فوجه محمد بن عبد الله قائدا له يقال له يحيى بن حفص، يحمل ذلك المال، فعدل به عن طرارستان، خوفا من ابن بابك، فلما علم ابن بابك أن المال قد فاته صار بمن معه إلى النهروان، فأوقع من كان معه من الجند بأهلها، وأخرج أكثرهم، وأحرق سفن الجسر، وهي أكثر من عشرين سفينة، وانصرف إلى سامرا.
وقدم محمد بن خالد بن يزيد- وكان المستعين قلده الثغور الجزرية، وكان مقيما بمدينة بلد ينتظر من يصير إليه من الجند والمال- فلما كان من اضطراب أمر الأتراك ودخول المستعين بغداد ما كان، لم يمكنه المصير إلى بغداد إلا من طريق الرقة، فصار إليها بمن معه من خاصته وأصحابه، وهم زهاء أربعمائة فارس وراجل، ثم انحدر منها إلى مدينة السلام، فدخلها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، فصار إلى دار محمد بن عبد الله بن طاهر، فخلع عليه خمس خلع: دبيقي، وملحم، وخز، ووشي، وسواد، ثم وجهه في جيش كثيف لمحاربة أيوب بن أحمد، فأخذ على ظهر الفرات فحاربه في نفر يسير، فهزم وصار إلى ضيعته بالسواد.
فذكر عن سعيد بن حميد أنه قال: لما انتهى خبر هزيمة محمد بن عبد الله، قال: ليس يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره به.
وفي هذا اليوم كانت للأتراك وقعة بباب الشماسيه، كانوا صاروا إلى الباب، فقاتلوا عليه قتالا شديدا حتى كشفوا من عليه، ورموا المنجنيق المنصوب بسره الباب بالنفط والنار، فلم يعمل فيه نارهم، وكثرهم من على الباب من الجند حتى أزالوهم عن موقفهم، ودفعوهم عن الباب بعد قتلهم عدة يسيرة من أهل بغداد، وجرحهم منهم جماعة كثيرة بالسهام فوجه محمد بن عبد الله إليهم عند ذلك العرادات التي كانت تحمل في السفن والزواريق، فرموهم بها رميا شديدا، فقتلوا منهم جماعة كثيرة نحوا من مائة إنسان، فتنحوا عن الباب، وكان بعض المغاربة صار في هذا اليوم إلى سور باب الشماسيه، فرمى كلاب إلى السور، وتعلق به وصعد، فأخذه الموكلون بالسور فقتلوه، ورموا برأسه في المنجنيق إلى عسكر الأتراك، وانصرفوا عند ذلك إلى معسكرهم.|
وذكر أن بعض الموكلين بسور باب الشماسية من الأبناء هاله ما رأى من كثرة من ورد باب الشماسيه في هذا اليوم من الأتراك والمغاربة، وكانوا قربوا من الباب بأعلامهم وطبولهم، ووضع بعض المغاربة كلابا على السور، فأراد بعض الموكلين بالسور أن يصيح: يا مستعين، يا منصور، فغلط، فصاح: يا معتز، يا منصور، فظنه بعض الموكلين بالباب من المغاربة، فقتلوه وبعثوا برأسه الى دار محمد بن عبد الله، فأمر بنصبه، فجاءت أمه وأخوه في عشية هذا اليوم بجثته في محمل يصيحان ويطلبان رأسه، فلم يدفع إليهما، ولم يزل منصوبا على الجسر إلى أن أنزل مع ما أنزل من الرؤوس.
ووافى ليلة الجمعة لسبع بقين من صفر جماعة من الأتراك باب البردان، وكان الموكل به محمد بن رجاء، وذلك قبل شخوصه إلى ناحية واسط، فقتل منهم ستة نفر، وأسر أربعة، وكان الدرغمان شجاعا بطلا، وصار في بعض الأيام مع الأتراك إلى باب الشماسية، فرمى بحجر منجنيق، فأصاب صدره، فانصرف به إلى سامرا، فمات بين بصرى وعكبراء، فحمل إلى سامرا، فذكر يحيى بن العكي القائد المغربي أنه كان إلى جنب الدرغمان في يوم من ايامهم، إذ وافاه ناوكي، فأصاب عينه، ثم أصابه بعد ذلك حجر فأطار رأسه، فحمل ميتا.
وذكر عن علي بن حسن الرامي، أنه قال: كنا قد جمعنا على السور على باب الشماسية من الرماة جماعة، وكان مغربي يجيء حتى يقرب من الباب، ثم يكشف استه ثم يضرط ويصيح، قال: فانتخبت له سهما فأنفذته في دبره حتى خرج من حلقه، وسقط ميتا وخرج من الباب جماعة فنصبوه كالمصلوب، وجاءت المغاربة بعد ذلك، فاحتملوه.
وذكر أن الغوغاء اجتمعوا بسامرا بعد هزيمة الأتراك يوم قطربل، ورأوا ضعف أمر المعتز، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والسيوف والصيارفة، وأخذوا جميع ما وجدوا فيها من متاع وغيره، فاجتمع التجار إلى إبراهيم المؤيد أخي المعتز، فشكوا ذلك اليه، واعلموه انهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم قال: فقال لهم: كان ينبغي لكم أن تحولوا متاعكم الى منازلكم، وكبر عنده ذلك وقدم بحونه بن قيس بن أبي السعدي يوم السبت لثمان بقين من صفر بمن فرض من الاعراب وهم ستمائه راجل ومائتا فارس وقدم في هذا اليوم عشرة نفر من وجوه أهل طرسوس يشكون بلكاجور، ويزعمون أن بيعة المعتز وردت عليه، فخرج بعد ساعتين من وصول الكتاب، ودعا إلى بيعة المعتز، وأخذ القواد وأهل الثغر بذلك. فبايع أكثرهم، وامتنع بعض، فأقبل على من امتنع بالضرب والقيد والحبس، وذكر أنهم امتنعوا وهربوا لما أخذهم بالبيعة كرها، فقال وصيف: ما أظن الرجل إلا اغترموه عليه وإن الوارد عليه بكتاب المعتز هو الليث بن بابك، وذكر له أن المستعين مات، وأقاموا المعتز مكانه، فتكلم هؤلاء النفر يشكون بلكاجور، ونسبوه إلى أنه فعل ذلك على عمد، ورفعوا عليه أنه كان يرى في بني الواثق، وقد ورد كتاب بلكاجور يوم الأربعاء لأربع بقين من صفر مع رجل يقال له على الحسين المعروف بابن الصعلوك، يذكر فيه أنه ورد عليه كتاب من أبي عبد الله بن المتوكل، أنه قد ولي الخلافة، وبايع له فلما ورد عليه كتاب المستعين بصحة الأمر، جدد أخذ البيعة على من قبله، وأنه على السمع والطاعة له فأمر للرسول بألف درهم فقبضها، وقد كان أمر بالكتاب إلى محمد بن علي الأرمني المعروف بأبي نصر بولايته على الثغور الشامية فلما ورد كتاب بلكاجور بالطاعة أمسك عن إنفاذ كتاب محمد بن علي الأرمني بالولاية. وفي يوم الاثنين لست بقين من صفر من هذه السنة قدم إسماعيل بن فراشة من ناحيه همذان في نحو ثلاثمائة فارس، وكان جنده ألفا وخمسمائة، فتقدم بعضهم وتأخر بعض، وتفرقوا، وقدم معه برسول للمعتز، كان وجه إليه لأخذ البيعة، فقيد الرسول، وصار به إلى مدينة السلام على بغل بلا اكاف، فخلع على إسماعيل خمس خلع وورد برجل ذكر أنه علوي أخذ بناحية الري وطبرستان، متوجها إلى من هناك من العلوية، وكان معه دواب وغلمان، فأمر به فحبس في دار العامة أشهرا، ثم أخذ منه كفيل وأطلق.
وقرئ في هذا اليوم كتاب موسى بن بغا يذكر فيه أنه ورد كتاب المعتز، وأنه دعا أصحابه، وأخبرهم بما حدث، وأمرهم بالانصراف معه إلى مدينة السلام، فامتنعوا، وأجابه الشاكرية والأبناء، واعتزله الأتراك ومن كانفهم، وحاربوه فقتل منهم جماعة وأسر أسرى، فهم قادمون معه فكبروا في دار ابن طاهر عند قراءتهم كتابه.
ولخمس بقين من صفر دخل من البصرة عشر سفائن بحرية، تسمى البوارج، في كل سفينة اشتيام وثلاثة نفاطين ونجار وخباز وتسعة وثلاثون رجلا من الجذافين والمقاتلة، فذلك في كل سفينة خمسة وأربعون رجلا.
فمدت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، ولعب أصحابها بالنيران، ثم مدت إلى ناحية الشماسية في هذه الليلة، فرمى من فيها من الأتراك بالنيران، فعزموا على الانتقال من معسكرهم برقه الشماسيه الى بستان ابى جعفر بالحير، ثم بدا لهم فارتفعوا فوق عسكرهم في موضع لا ينالهم شيء من النار. ولليلة بقيت من صفر صار الأتراك والمغاربة إلى أبواب مدينة السلام من الجانب الشرقي، فأغلقت الأبواب في وجوههم، ورموا بالسهام والمنجنيقات والعرادات، فقتل من الفريقين وجرح جماعة كثيرة، فلم يزالوا كذلك إلى العصر.
وفي هذه السنة كر سليمان بن عبد الله راجعا من جرجان إلى طبرستان وشخص من آمل، وخرج بجمع كثير وخيل وسلاح، فتنحى الحسن بن زيد ولحق بالديلم، فكتب إلى السلطان ابن أخيه محمد بن طاهر بدخوله طبرستان، فقرئ كتابه ببغداد، وكتب نسخة ذلك المستعين إلى بغا الصغير مولى أمير المؤمنين بفتح طبرستان على يدي محمد بن طاهر وهزيمه الحسن ابن زيد، وأن سليمان بن عبد الله دخل سارية على حال من السلامة، وأنه ورد عليه ابنان لقارن بن شهريار مولى أمير المؤمنين، يقال لهما مازيار ورستم، في خمسمائة رجل، إلى ما ذكر من غير ذلك في الفتح، وأن أهل آمل أتوه منيبين مظهرين إنابتهم، مستقيلين عثراتهم، فلقيهم بما زاد في سكونهم وثقتهم، ونهض بعسكره على تعبيته، مستقرئا للقرى والطرق، وتقدم بالنهي عن القتل، وترك العرض لأحد في سلب وغيره، وتوعد من جاوز ذلك، وأن كتاب أسد بن جندان وافاه بهزيمة علي بن عبد الله الطالبي المسمى بالمرعشي فيمن كان معه، وهم أكثر من ألفي رجل ورجلين من رؤساء الجبل، في جمع عظيم عند تأدي الخبر إليهم بانهزام الحسن بن زيد ودخوله بالأولياء إلى تلك الناحية، وأنه دخل مدينة آمل في احسن هيئة، واظهر عزه وسلامه شامله، وانقطعت عنه أسباب الفتنة ولخمس بقين من المحرم من هذه السنة ورد كتاب العلاء بن أحمد عامل بغا الشرابي على الخراج والضياع بأرمينية، بما كان من خروج رجلين بتلك الناحية، سماهما وذكر إيقاعه بهما، وأنهما التجآ إلى قلعة، فوضع عليها المجانيق حتى جهدها، وأنهما خرجا من القلعة هاربين، وخفي أمرهما وصارت القلعة في أيدي الأولياء.
وفيها أيضا ورد كتاب مؤرخ لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم بانتقاض أهل أردبيل، وكتاب الطالبي إليهم، وأنه بعث أربعة عساكر على أربعة أبواب مدينتهم ليحاصرهم وفيها ورد كتاب مخبر عن الحرب التي كانت بين عيسى بن الشيخ والموفق الخارجي وأسر عيسى الموفق، ومسألة عيسى المستعين توجيه ما يحتاج إليه من السلاح، ليكون عدة له في البلد، يقوى به الجند على الغزو، وأن يكتب إلى صاحب الصور في توجيه أربع مراكب إليه بجميع آلتها، تكون قبله مع ما قبله منها وفيها أيضا ورد كتاب محمد بن طاهر بخبر الطالبي الذي ظهر بالري ونواحيها، وما أعد له من العساكر، ووجه اليه من المقاتله، وبهرب الحسن ابن زيد عند مصيره إلى المحمدية وإحاطة عسكره بها، وأنه عند دخوله المحمدية وكل بالمسالك والطرق، وبث أصحابه، وأن الله أظفره بمحمد بن جعفر أسيرا على غير عقد ولا عهد والذي صار إلى الري من العلوية في المرة الثانية بعد ما أسر محمد بن جعفر أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بن على ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن موسى بْن عبد الله بْن موسى بْن عبد الله بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، وهو الذي خرج في مصعد الحاج، والذي بطبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بْن الحسن بْن زيد بْن الحسن بْن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه وفيها أيضا ورد كتاب من محمد بن طاهر على المستعين، يذكر فيه انهزام الحسن بن زيد منه، وأنه لقيه في زهاء ثلاثين ألفا، فجرت فيما بينه وبينه حرب، وأنه قتل من رءوس اصحابه ثلاثمائة ونيفا وأربعين رجلا وأمر المستعين أن يقرأ نسخة كتابه في الآفاق 4 وفيها خرج يوسف بن إسماعيل العلوي ابن أخت موسى بن عبد الله الحسيني وفي شهر ربيع الأول منها أمر محمد بن عبد الله أن يتخذ لعيارى اهل بغداد كافر كوبات، وأن يصير فيها مسامير الحديد، ويجعل ذلك في دار المظفر بن سيسل، لأنهم كانوا يحضرون القتال بغير سلاح، وكانوا يرمون بالآجر، ثم أمر مناديا، فنادى: من أراد السلاح فليحضر دار المظفر، فوافاها العيارون من كل جانب، فقسم ذلك فيهم، وأثبت أسماءهم، ورأس العيارون عليهم رجلا يدعى ينتويه، ويكنى أبا جعفر وعدة أخر، يدعى أحدهم دونل، والآخر دمحال، والآخر أبا نملة، والآخر أبا عصارة، فلم يثبت منهم إلا ينتويه، فإنه لم يزل رئيسا على عياري الجانب الغربي، حتى انقضى امر هذه الفتنة ولما اعطى العيارون الكافر كوبات تفرقوا على أبواب بغداد، فقتلوا من الأتراك ومن أتباعهم نحوا من خمسين نفسا في ذلك اليوم، وقتل منهم عشره انفس وجرح منهم خمسمائة بالنشاب، وأخذوا من الأتراك علمين وسلمين.
وفيها كانت لبحونه بن قيس وقعة مع جماعة من الأتراك بناحيه بزوغى، لقيهم هو ومحمد بن أبي عون وغيرهما، فأسروا منهم سبعة، وقتلوا ثلاثة، ورمى بعضهم بنفسه في الماء، فغرق بعضهم ونجا بعضهم.
وذكر عن أحمد بن صالح بن شيرزاد، أنه سأل رجلا من الأسرى عن عدة القوم الذين لقيهم بحونه، قال: كنا اربعين رجلا، فلقينا بحونه وأصحابه سحرا، فقتل منا ثلاثة، وغرق ثلاثة، وأسر ثمانية، وأفلت الباقون، وأخذ ثماني عشرة دابة وجواشن وراية لعامل أوانا، وهو أخو هارون بن شعيب.
وكانت الوقعة بأوانا يوم الأربعاء، واقام جند بحونه وعبد الله بن نصر بن حمزة بقطربل مسلحة.
وخرج- فيما ذكر- ينتويه وأصحابه من العيارين في بعض هذه الأيام من باب قطربل، فمضوا يشتمون الأتراك حتى جازوا قطربل، فعبر من عبر إليهم من الأتراك ناشبة في الزواريق، فقتلوا منهم رجلا، وجرحوا منهم عشرة، وكاثرهم العيارون بالحجارة فأثخنوهم، فرجعوا إلى معسكرهم، فأحضر ينتويه دار ابن طاهر، فأمر ألا يخرج إلا في يوم قتال، وسور، وامر له بخمسمائة درهم.
ولأربع عشرة خلت من ربيع الأول منها، قدم من ناحية الرقة مزاحم بن خاقان، وأمر القواد وبني هاشم وأصحاب الدواوين بتلقيه، وقدم معه من كان معه من اصحابه من الخراسانية والأتراك والمغاربة، وكانوا زهاء ألف رجل، معهم عتاد الحرب من كل صنف، ودخل بغداد، ووصيف عن يمينه وبغا عن شماله، وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن يسار بغا، وإبراهيم بن إسحاق خلفهم، وهو بوقار ظاهر، فلما وصل خلع عليه سبع خلع، وقلد سيفا، وخلع على ابنيه، على كل واحد منهما خمس خلع ثم أمر أن يفرض له ثلاثة آلاف رجل من الفرسان والرجالة، ووجه المعتز موسى بن اشناس ومعه حاتم بن داود بن بنحور في ثلاثة آلاف رجل من الفرسان والرجالة فعسكر بإزاء عسكر أبي أحمد من الجانب الغربي بباب قطربل لليلة خلت من ربيع الأول وخرج رجل من العيارين يعرف بديكويه على حمار وخليفته على حمار، ومعهم ترسة وسلاح، وخرج آخر في الجانب الشرقي يكنى أبا جعفر ويعرف بالمخرمي في خمسمائة رجل في سلاح ظاهر، معهم الترسة وبواري مقيره وسيوف وسكاكين في مناطقهم، ومعهم كافر كوبات، وقرب العسكر الوارد من سامرا إلى الجانب الغربي من بغداد فركب محمد بن عبد الله ومعه أربعة عشر قائدا من قواده في عدة كاملة، وخرج من المبيضة والنظارة خلق كثير، فسار حتى حاذى عسكر أبي أحمد، وكانت بينهم في الماء جولة قتل من عسكر أبي أحمد أكثر من خمسين رجلا، ومضى المبيضة حتى جازت العسكر بأكثر من نصف فرسخ، فعبرت إليهم شبارات من عسكر أبي أحمد، فكانت بينهم مناوشة، وأخذوا عدة من الشبارات بما فيها من المقاتلة والملاحين، فاستوثق منهم، وانصرف محمد بن عبد الله، وأمر ابن أبي عون أن يصرف الناس، فوجه ابن أبي عون إلى النظارة والعامة من صرفهم وأغلظ لهم القول، وشتمهم وشتموه، وضرب رجلا منهم فقتله وحملت عليه العامة، فانكشف من بين أيديهم، وقد كان أربع شبارات من شبارات أهل بغداد تخلفت، فلما انصرف ابن أبي عون منهزما من العامة نظر إليها أهل عسكر أبي أحمد فوجهوا في طلبها شبارات، فأخذوها وأحرقوا سفينة فيها عرادة لأهل بغداد وصار العامة من فورهم إلى دار ابن أبي عون لينهبوها، وقالوا: مايل الأتراك، وأعانهم وانهزم بأصحابه، وكلموا محمد بن عبد الله في صرفه وضجوا، فوجه المظفر بن سيسل في أصحابه، وأمره أن يصرف العامة ويمنعهم أن يأخذوا لابن أبي عون شيئا من متاعه، وأعلمهم أنه قد عزله عن امر الشبارات والبحريات والحرب، وصير ذلك إلى أخيه عبيد الله بن عبد الله، فمضى مظفر، فصرف الناس عن دار محمد بن أبي عون.
وفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول وافى عسكر الأتراك الشاخص من سامرا إلى بغداد عكبراء، فأخرج ابن طاهر بندار الطبري وأخاه عبيد الله وأبا السنا ومزاحم بن خاقان وأسد بن داود سياه وخالد ابن عمران وغيرهم من قواده، فمضوا حتى بلغوا قطربل، وفيها كمين الأتراك فأوقع بهم، ونشبت الحرب بينهم، فدفعهم الأتراك حتى بلغوا الحائطين بطريق قطربل وقاتل أبو السنا وأسد بن داود قتالا شديدا، وقتل كل واحد منهما عدة من الأتراك والمغاربة، ومال أبو السنا ميله، وتبعه الناس، فقتل قائدا من قواد الأتراك يقال له سور، ورفع رأسه فصار من فوره إلى دار ابن طاهر، وأعلمه هزيمة الناس وسأله المدد، فأمر ابن طاهر به فطوق- وكان وزن الأطواق كل طوق ثلاثين دينارا، وكل سوار سبعة مثاقيل ونصف- وانصرف أبو السنا راجعا إلى الناس فيمن أخرج إليهم من المدد من جميع الأبواب، فذكر أن محمد بن عبد الله عنف أبا السنا بإخلاله بموضعه ومجيئه نفسه بالراس، وقال له: اخللت بالفاس، فقبح الله هذا الرأس ومجيئك به! ولما انصرف محمد بن عبدوس قاتل أسد بن داود أشد قتال بعد تفرق الناس عنه، فقتل وثاب إلى موضعه قوم من أهل بغداد بعد ما أخذ الأتراك رأسه، فدافعوهم عن جثته، فحملوه إلى بغداد في زورق، وبلغ الأتراك باب قطربل، فخرج الناس إليهم فدفعوهم عن الباب دفعا شديدا، واتبعوهم حتى نحوهم، فأتي دار ابن طاهر بعدة رءوس ممن قتل من الأتراك والمغاربة في هذا اليوم، فأمر بنصبها بباب الشماسية، فنصبت هنالك، ثم رجع الاتراك والمغاربه على اهل بغداد ممن ناحية قطربل، فقتل من أهل بغداد خلق كثير، وقتل من الأتراك جمع كثير، ولم يزل بندار ومن معه يقاتلونهم حتى أمسوا وانصرف بندار بالناس، وغلقت الأبواب، وأمر ابن طاهر المظفر بن سيسل ورشيد ابن كاوس وقائدا معهم فتوجهوا في نحو من خمسمائة فارس من باب قطربل إلى ناحية عسكر ابن أشناس، فوافوهم على حال سكون وأمن، فقتلوا منهم نحوا من ثلاثمائة، وأسروا عدة وانصرفوا.
وذكر أن الأتراك والمغاربة وافوا في هذا اليوم باب القطيعة، فنقبوا نقبا بقرب الحمام الذي يعرف بباب القطيعة، فقتل أول من خرج منهم من النقب، وكان القتل في هذا اليوم أكثر في الأتراك والمغاربة والجراح بالسهام في أهل بغداد.
وسمعت جماعة يذكرون أنه حضر هذه الوقعة غلام لم يبلغ الحلم، ومعه مخلاة فيها حجارة ومقلاع في يده، يرمي عنه فلا يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابهم وأن أربعة من فرسان الأتراك الناشبة جعلوا يرمونه فيخطئونه، وجعل يرميهم فلا يخطئ، وتقطر بهم دوابهم، فمضوا حتى جاءوا معهم بأربعة من رجالة المغاربة بأيديهم الرماح والتراس، فجعلوا يحملون عليه، ثم داخله اثنان منهم، فرمى بنفسه في الماء، ودخلا خلفه فلم يلحقاه، وعبر إلى الجانب الشرقي، وصيح بهما، وكبر الناس، فرجعوا ولم يصلوا إليه.
وذكر أن عبيد الله بن عبد الله دعا القواد في هذا اليوم وهم خمسة نفر، فأمر كل واحد منهم بناحية، ثم مضى الناس إلى الحرب، وانصرف هو إلى الباب، فقال لعبد الله بن جهم وهو موكل بباب قطربل: إياك أن تدع منهم أحدا يدخل منهزما من الباب ونشبت الحرب، وتشتت الناس، ووقعت الهزيمة، وثبت أسد بن داود، حتى قتل وقتل بيده ثلاثة، ثم أتاه سهم غرب، فوقع في حلقه فولى، وجاء سهم آخر فوقع في كفل دابته فشبت به فصرعته، ولم يثبت معه أحد إلا ابنه، فجرح، وكان إغلاق الباب على المنهزمين أشد من عدوهم، وحمل- فيما ذكر- إلى سامرا من أهل بغداد سبعون أسيرا، ومن الرءوس ثلاثمائة رأس.
وذكر أن الاسرى لما قربوا من سامرا أمر الذي وجه به معهم ألا يدخلهم سامرا إلا مغطي الوجوه، وأن أهل سامرا لما رأوهم كثر ضجيجهم وبكاؤهم، وارتفعت أصواتهم وأصوات نسائهم بالصراخ والدعاء، فبلغ ذلك المعتز، فكره ان تغلظ قلوب من بحضرته من الناس عليه، فأمر لكل أسير بدينارين، وتقدم إليهم بترك معاودة القتال، وأمر بالرءوس فدفنت.
وكان في الأسرى ابن لمحمد بن نصر بن حمزة وأخ لقسطنطينة جارية أم حبيب وخمسة من وجوه بغداد ممن كان في النظارة، فأما ابن محمد بن نصر، فذكر أنه قتل وصلب بإزاء باب الشماسية لمكان أبيه.
وفي يوم الخميس لأربع بقين من شهر ربيع الأول، قدم أبو الساج من طريق مكة في نحو من سبعمائة فارس ومعه ثمانية عشر محملا فيها ستة وثلاثون أسيرا من أسارى الأعراب في الأغلال، ودخل هو وأصحابه بغداد في زي حسن وسلاح ظاهر، فصار إلى الدار، فخلع عليه خمس خلع، وقلد سيفا، وانصرف إلى منزله مع أصحابه.
وقد خلع على أربع نفر من أصحابه وفي يوم الاثنين لانسلاخ شهر ربيع الأول، وافى باب الشماسية- فيما قيل- جماعة من الأتراك، معهم من المعتز كتاب إلى محمد بن عبد الله، وسألوا إيصاله إليه، فامتنع الحسين بن إسماعيل من قبوله حتى استأمر، فأمر بقبوله، فوافى يوم الجمعة ثلاثة فوارس، فأخرج إليهم الحسين بن إسماعيل رجلا معه سيف وترس، فأخذ الكتاب من خريطة، فأخرج، فأوصله إلى محمد، فإذا فيه تذكير محمد بما يجب عليه من حفظه لقديم العهد بينه وبين المعتز والحرمة، وأن الواجب كان عليه أن يكون أول من سعى في أمره وتوجيه خلافته، وذكر أن ذلك أول كتاب ورد عليه من المعتز بعد الحرب.
وفي يوم السبت لخمس خلون من ربيع الآخر وافى بغداد حبشون ابن بغا الكبير ومعه يوسف بن يعقوب قوصرة مولى الهادي فيمن كان مع موسى ابن بغا من الشاكرية، وانضم إليهم عامة الشاكرية المقيمين بالرقة، وهم في نحو من ألف وثلاثمائة، فخلع عليه خمس خلع، وعلى يوسف أربع خلع، وعلى نحو من عشرين من وجوه الشاكرية، وانصرفوا إلى منازلهم وقدم بغداد رجل ذكر أن عدة الأتراك والمغاربة وحشوهم في الجانب الغربي اثنا عشر ألف رجل ورأسهم بايكباك القائد، وأن عدة من مع أبي أحمد في الجانب الشرقي سبعة آلاف رجل خليفته عليهم الدرغمان الفرغاني، وأنه ليس بسامرا من قواد الأتراك ولا من قواد المغاربة إلا ستة نفر، وكلوا بحفظ الأبواب وكانت بين الفريقين وقعة يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الآخر، فقتل- فيما ذكر- فيها من أصحاب المعتز مع من غرق منهم أربعمائة رجل، وقتل من أصحاب ابن طاهر مع من غرق ثلاثمائة رجل، لم يكن فيهم إلا جندي، وذلك أنه لم يخرج في ذلك اليوم من الغوغاء أحد وقتل الحسن بن علي الحربي، وكان يوما صعبا على الفريقين جميعا.
وذكر أن مزاحم بن خاقان رمى فيه موسى بن أشناس بسهم فأصابه، فانصرف مجروحا، وافتقد من عسكر أبي أحمد نحو من عشرين قائدا من الأتراك والمغاربة.
ولما كان يوم الخميس لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على أبي الساج خمس خلع، وعلى ابن فراشة أربع خلع، وعلى يحيى بن حفص حبوس ثلاث خلع وعسكر أبو الساج في سوق الثلاثاء، وأعطى الجند بغالا من بغال السلطان يحمل عليها الرجالة، وحول مزاحم بن خاقان من باب حرب إلى باب السلامة، وصار مكان مزاحم خالد بن عمران الطائي الموصلي.
وذكر أن أبا الساج لما أمره ابن طاهر بالشخوص قال له: أيها الأمير، عندي مشورة أشير بها، قال: قل يا أبا جعفر، فإنك غير متهم، قال:
إن كنت تريد أن تجاد هؤلاء القوم فالرأي لك ألا تفارق قوادك ولا تفرقهم، واجمعهم حتى تفض هذا العسكر المقيم بإزائك، فإنك إذا فرغت من هؤلاء فما أقدرك على من وراءك! فقال: ان لي تدبيرا، ويكفى ان شاء فقال أبو الساج: السمع والطاعة، ومضى لما أمر به.
وذكر أن المعتز كتب إلى أبي أحمد يلومه للتقصير في قتال أهل بغداد، فكتب إليه:
لأمر المنايا علينا طريق *** وللدهر فيه اتساع وضيق
فأيامنا عبر للأنام *** فمنها البكور ومنها الطروق
ومنها هنات تشيب الوليد *** ويخذل فيها الصديق الصديق
وسور عريض له ذروة *** تفوت العيون وبحر عميق
قتال مبيد، وسيف عتيد *** وخوف شديد، وحصن وثيق
وطول صياح لداعي الصباح *** السلاح السلاح، فما يستفيق
فهذا قتيل وهذا جريح *** وهذا حريق وهذا غريق
وهذا قتيل وهذا تليل *** وآخر يشدخه المنجنيق
هناك اغتصاب وثم انتهاب *** ودور خراب وكانت تروق
إذا ما سمونا إلى مسلك *** وجدناه قد سد عنا الطريق
فبالله نبلغ ما نرتجيه *** وبالله ندفع ما لا نطيق
فأجابه محمد بن عبد الله- أو قيل على لسانه:
ألا كل من زاغ عن أمره *** وجار به عن هداه الطريق
ملاق من الأمر ما قد وصفت *** وهذا بأمثال هذا خليق
ولا سيما ناكث بيعة *** وتوكيدها فيه عهد وثيق
يسد عليه طريق الهدى *** ويلقى من الأمر ما لا يطيق
وليس ببالغ ما يرتجيه *** من كان عن غيه لا يفيق
أتانا به خبر سائر *** رواه لنا عن خلوق خلوق
وهذا الكتاب لنا شاهد *** يصدقه ذا النبي الصدوق
أما الشعر الأول، فإنه ينشد لعلي بن أمية في فتنة المخلوع والمأمون، والجواب لا يعرف قائله.
وفي ربيع الآخر من هذه السنة ذكر أن مائتي نفس من بين فارس وراجل مضوا من قبل المعتز الى ناحيه البندنيجين ورئيسهم تركي يدعى أبلج، فقصدوا الحسن بن علي، فانتهبوا داره، وأغاروا على قريته، ثم صاروا إلى قرية قريبة منها، فأكلوا وشربوا، فلما اطمأنوا استصرخ عليهم الحسن بن علي أكرادا من أخواله وقوما من قرى حوله، فصاروا إليهم وهم غارون، فأوقع بهم وقتل أكثرهم، وأسر سبعة عشر رجلا منهم، وقتل أبلج، وهرب من بقي منهم ليلا، ثم بعث الحسن بن علي الأسرى ورأس أبلج ورءوس من قتل معه إلى بغداد.
والحسن بن علي هذا رجل من شيبان كان يخلف- فيما ذكر- يحيى بن حفص في عمله، وأمه من الأكراد.
ذكر خبر المدائن في هذه الفتنة
ذكر أن أبا الساج وإسماعيل بن فراشة ويحيى بن حفص، لما خلع عليهم للشخوص نحو المدائن، عسكروا بسوق الثلاثاء، فلما كان يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول، حمل رجالته على البغال، وصار إلى المدائن، ثم إلى الصيادة، وابتدأ في حفر خندق المدائن- وهو خندق كسرى- وكتب يستمد، فوجه اليه خمسمائة رجل من رجاله الجيشية، وكان شخوصه في ثلاثة آلاف فارس وراجل، ثم استمده فأمده، فحصل في عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل، ثم أمد بمائتي راجل من الشاكرية القدماء، وحملوا في السفن، وانحدروا إليه يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة ذكر الخبر عن أمر الأنبار وما كان فيها من هذه الفتنة فمما كان بها ان محمد بن عبد الله وجه بحونه بن قيس في الأعراب إلى الأنبار، وأمره بالمقام بها والفرض لأعراب الناحية، ففرض قوما منهم ومن المشبهة بهم نحوا من ألفي رجل، فأقام بالأنبار وضبطها، فبلغه أن قوما من الأتراك قد قصدوه، فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار، فامتلأ الخندق لزيادة الماء، وفاض على ما يليه من الصحاري، فصار الماء إلى السالحين فصار ما يلي الأنبار بطيحة واحدة، وقطع القناطر التي توصل إلى الأنبار، وكتب يستمد فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين، وضم إليه ممن كان معه من رجاله تتمة ألف رجل، خمسمائة فارس وخمسمائة راجل، فشخص وعسكر في قصر عبدويه، وأمده ابن طاهر بثلاثمائة راجل من الملطيين القادمين من الثغور، وانتخبوا، ودفع إليهم استحقاقهم، ونفذوا إليه يوم الثلاثاء ورحل من قصر عبدويه يوم الاثنين سلخ ربيع الآخر في نحو من الف وخمسمائة رجل، وأخرج المعتز أبا نصر بن بغا من سامرا على طريق الإسحاقي يوم الثلاثاء، فسار يومه وليلته، فصبح الأنبار ساعة نزلها رشيد بن كاوس.
وكان بحونه نازلا في المدينة ورشيد خارجها، فلما وافى أبو نصر عاجل رشيدا وأصحابه وهم غارون على غير تعبئة، فوضع أصحابه فيهم السيف، ورموهم بالنشاب فقتلوا عدة، وثار بعض أصحاب رشيد إلى أسلحتهم، فقاتلوا الاتراك والمغاربه قتالا شديدا، وقتلوا منهم جماعة، ثم انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا فيه منصرفين الى بغداد.
ولما بلغ بجونه ما لقيه أصحاب رشيد، وأن الأتراك قد مالوا عند انهزام رشيد إلى الأنبار عبر إلى الجانب الغربي، وقطع جسر الأنبار، وعبر معه جماعة من أصحابه، وصار رشيد إلى المحول في ليلته، وسار بحونه في الجانب الغربي حتى وافى بغداد يوم الخميس بالعشي ثم دخل رشيد في هذه العشية الى دار ابن طاهر، فاعلم بحونه محمد بن عبد الله أنه عند مصير الأتراك إلى الأنبار وجه إلى رشيد يسأله أن يوجه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتبهم قدام أصحابه، فامتنع من ذلك، وسأله أن يضم إليه ناشبة من الفرسان والرجالة ليصير إلى بني عمه، وذكر أنهم مقيمون هنالك في الجانب الغربي على الطاعة وانتظار أمير المؤمنين، وضمن أن يتلافى ما كان منه فضم اليه ثلاثمائة رجل من فرسان الشاكرية الناشبة ورجالتهم، وخلع عليه خمس خلع، ومضى إلى قصر ابن هبيرة يستعد هنالك.
ثم اختار محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل للأنبار، ووجه محمد بن رجاء الحضاري معه وعبد الله بن نصر بن حمزة ورشيد بن كاوس ومحمد بن يحيى وجماعة من الناس، وأمر بإخراج المال لمن يخرج مع الحسين ومع هؤلاء القوم، فامتنع من كان قدم من ملطية من الشاكرية وهم عظم الناس من قبض رزق أربعة أشهر، لأن أكثرهم كان بغير دواب، وقالوا: نحتاج إلى أن نقوى في أنفسنا، ونشتري الدواب وكان الذي أطلق لهم أربعة آلاف دينار، ثم رضوا بقبض أربعة أشهر، فجلس الحسين في مجلس على باب محمد بن عبد الله، وتقدم في تصحيح الجرائد، ليكون عرضه الناس وأصحابه في مدينة أبي جعفر، فأعطى في ذلك اليوم جماعة من خاصته ثم صار الحسين وأصحاب الدواوين بعد ذلك الى مدينة أبي جعفر، ووضع العطاء لمن يخرج معه من الجند في ثلاثة مجالس، واستتم إعطاؤهم يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى.
فلما كان يوم الاثنين أحضر الحسين بن إسماعيل الدار ومعه القواد الخارجون معه: رشيد بن كاوس، ومحمد بن رجاء، وعبد الله بن نصر بن حمزه، وارمش الفرغاني، ومحمد بن يعقوب أخو حزام، ويوسف بن منصور بن يوسف البرم، والحسين بن علي بن يحيى الأرمني، والفضل بن محمد بن الفضل، ومحمد بن هرثمة بن النصر،، وخلع على الحسين، وقدمت مرتبته إلى الفوج الثاني- وكان في الفوج الرابع- وخلع على هؤلاء القواد، وصير رشيد بن كاوس على المقدمة، ومحمد بن رجاء على الساقة، ومضى الحسين ومن ضم إليه من عشيرته وقواده إلى معسكرهم، وأمر وصيف وبغا أن يسبقا الحسين إلى معسكره، وشيعه عبيد الله بن عبد الله وجميع قواد ابن طاهر وكتابه وبنو هاشم والوجوه إلى الياسرية، وأخرج لأهل العسكر من المال ستة وثلاثون ألف دينار، وحمل إلى معسكر الياسرية بعد لاعطاء من بقي الف وثمانمائه دينار، تمام استحقاقهم.
فلما كان يوم الخميس سارت مقدمة الحسين والمقلد لها عبد الله بن نصر ومحمد بن يعقوب في ألف فارس وراجل، فنزلوا البثق المعروف بالقاطوفة، وكان الأتراك قد وجهوا إلى المنصورية على خمسة فراسخ من بغداد جماعة منهم ومن المغاربة والغوغاء زهاء مائة إنسان، فظفر بسبعة من المغاربة، فوجه بهم إلى الحسين، فأنفذهم إلى الباب، وسار الحسين يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى وقد كان أهل الأنبار حين تنحى بحونه ورشيد، وصار الأتراك والمغاربة إلى الأنبار ونادوا الأمان، فأعطوه، وأمروا بفتح حوانيتهم والتسوق فيها والانتشار في أمورهم، واطمأنوا إلى ذلك منهم وسكنوا، وطمعوا فيهم أن يفوا لهم، فأقاموا بذلك يومهم وليلتهم حتى أصبحوا، وكان في وقت غلبتهم عليها وافتهم سفن من الرقة فيها دقيق وأطواف فيها زيت وغير ذلك، فأخذوه وجمعوا ما وجدوا فيها من إبل ودواب وبغال وحمير، ووجهوا بذلك مع من يؤديه إلى منازلهم بسامرا، وانتهبوا ما وجدوا، ووجهوا برءوس من قتل من أصحاب رشيد وبحونه وأهل بغداد وبمن أسروا وكانوا مائة وعشرين رجلا، والرءوس سبعون رأسا، وجعلوا الأسرى في الجوالقات، قد أخرجوا منها رءوسهم حتى صاروا إلى سامرا، وصار الأتراك إلى فم الأستانة، وحاولوا سدها ليقطعوا ماء الفرات عن بغداد، فوجهوا رجلا، ودفعوا إليه مالا لآلة السكر وسده مع القلوس والصواري، ففطن به وهو يبتاع ذلك، فحمل إلى دار ابن طاهر بعد أن نالته العامة بالضرب والشتم، حتى أشفى على الموت، فسئل عن أمره فصدق، فوجه به إلى الحبس.
وكان ابن طاهر قد وجه الحارث خليفة أبي الساج، فكان على طريق مكة إلى قصر ابن هبيرة، وضم اليه خمسمائة رجل من فرسان الشاكرية القادمين معه، فنفذ ومن معه لسبع خلون من جمادى الأولى، ووجه ابن ابى دلف هشام ابن القاسم في مائتي راجل وفارس إلى السيبين، ليقيم هناك، فلما توجه الحسين إلى الأنبار كتب إليه باللحاق بعسكر الحسين ليصير معه إلى الأنبار، ونودي ببغداد في أصحاب الحسين ومزاحم بن خاقان أن يلحقوا بقوادهم فسار الحسين، وتقدم خالد بن عمران حتى نزل دمما، فأراد أن يعقد على نهر أنق جسرا ليعبر عليه أصحابه، فمانعه الأتراك، فعبر إليهم جماعة من الرجالة فكشفوهم، وعقد خالد الجسر، فعبر هو وأصحابه، وصار الحسين إلى دمما فعسكر خارجها، وأقام في معسكره يوما، ووافته طلائع الأتراك مما يلي نهر أنق ونهر رفيل فوق قرية دمما، فصف الحسين أصحابه من جانب النهر والأتراك من الجانب الآخر، وهم زهاء ألف رجل، وتراشقوا بالسهام، فجرح بينهم عداد، وانصرف الأتراك إلى الأنبار.
وكان بحونه مقيما بقصر ابن هبيرة، فانضم إلى الحسين في جميع من كان معه من الأعراب وغيرهم، وكتب بحونه يسأل مالا لإعطاء أصحابه، فأمر أن يحمل الى معسكر الحسين لاعطاء اصحاب بحونه ثلاثة آلاف دينار، وحمل إلى الحسين مال واطواق واسوره وجوائز لمن أبلى في الحرب، وكان الحسين وعد أن يمد بالرجال حتى يكمل عسكره عشره آلاف رجل، فكتب ينتجز ذلك، فأمر بتوجيه أبي السنا محمد بن عبدوس الغنوي والجحاف بن سواد في ألف فارس وراجل من الملطيين وجند انتخبوا من قيادات شتى، فقبضوا أنزالهم لليلتين بقيتا من جمادى وساروا مع أبي السناء والجحاف على نهر كرخايا إلى المحول، ثم إلى دمما، ونزل الحسين بعسكره في موضع يعرف بالقطيعة واسع يحتمل العسكر، فأقام فيه يومه، ثم عزم على الرحلة منه إلى قرب الأنبار، فأشار عليه رشيد والقواد أن ينزل عسكره بهذا الموضع لسعته وحصانته، ويسير هو وقواده في خيل جريدة، فإن كان الأمر له كان قادرا أن ينقل عسكره، وإن كان عليه انحاز إلى عسكره وراجع عدوه، فلم يقبل الرأي، وحملهم على المسير من موضعهم، فساروا بين الموضعين فرسخان أو نحوهما فلما بلغوا الموضع الذي أراد الحسين النزول فيه، أمر الناس بالنزول، وكان جواسيس الأتراك في عسكر الحسين، فساروا إليهم، وأعلموهم رحلة الحسين، وضيق العسكر بالموضع الذي نزل فيه، فوافوهم والناس يحطون أثقالهم، فسار أهل العسكر، ونادوا السلاح، فصافوهم، فكانت بينهم قتلى من الفريقين، وحمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم كشفا قبيحا، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الفرات وكان الأتراك قد كمنوا قوما، فخرج الكمين عند ذلك على بقية العسكر، فلم يكن لهم ملجأ إلا الفرات وغرق من أصحاب الحسين خلق كثير، وقتل جماعة وأسر من الرجالة جماعة، وأما الفرسان فضربوا دوابهم هرابا لا يلوون على شيء، والقواد ينادونهم يسألونهم الرجعة، فلم يرجع منهم أحد، وأبلى محمد بن رجاء ورشيد يومئذ بلاء حسنا، ولم يكن لمن انهزم معقل دون الياسرية على باب بغداد، فلم يملك القواد أمور أصحابهم، فأشفقوا حينئذ على أنفسهم، فانثنوا راجعين وراءهم، يحمونهم من أدبارهم أن يتبعوا، وحوى الأتراك جميع عسكر الحسين بما فيه من المضارب وأثاث الجند وتجارات أهل السوق، وكان معه في السفن سلاح سلم، لأن الملاحين حرزوا سفنهم، فسلم ما كان معهم من السلاح ومن تجارات التجار.
وذكر عن ابن زنبور كاتب الحسين أنه أخذ للحسين اثنا عشر صندوقا فيها كسوة ومال من مال السلطان مبلغه ثمانية آلاف دينار، ونحو من أربعة آلاف دينار لنفسه، ونحو من مائة بغل، وانتهب فروض الحسين مضارب الحسين وأصحابه، وطاروا مع من طار، فوافوا الياسرية، وكان اكثر النهب مع أصحاب أبي السنا ووافى الحسين والفل الياسرية يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الآخرة.
ولقي الحسين رجل من التجار في جماعة ممن ذهبت أموالهم في عسكره، فقال: الحمد لله الذي بيض وجهك! أصعدت في اثني عشر يوما، وانصرفت في يوم واحد! فتغافل عنه.
قال أبو جعفر: ومما انتهى إلينا من خبر الحسين بن إسماعيل ومن كان معه من القواد والجند الذين كان محمد بن عبد الله بن طاهر استنهضهم من بغداد في هذه السنة لحرب من كان قصد الأنبار وما اتصل بها من البلاد من الأتراك والمغاربة، أنه لما صار إلى الياسرية منصرفه مهزوما من دمما، أقام بها في بستان ابن الحروري، وأقام من وافى الياسرية من المنهزمة في الجانب الغربي من الياسرية، ومنعوا من العبور، ونودي ببغداد فيمن دخلها من الجند الذين في عسكر الحسين أن يلحقوا بالحسين في معسكره، وأجلوا ثلاثة ايام، فمن وجد منهم ببغداد بعد ثلاثة ضرب ثلاثمائة سوط، ومحي اسمه من الديوان.
فخرج الناس، وأمر خالد بن عمران في الليلة التي قدم فيها الحسين أن يعسكر في أصحابه بالمحول، وأعطى أصحابه أرزاقهم في تلك الليلة في الشرج، ونودي في أصحابه بالمحول باللحاق به.
ونودي في الفرض القدماء الذين كانوا فرضوا بسبب أبي الحسين يحيى بن عمر بالكوفه وهم خمسمائة رجل، وأصحاب خالد وهم نحو من ألف رجل، فعسكروا بالمحول يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة وأمر ابن طاهر الشاه بن ميكال في صبيحة الليلة التي وافى فيها الحسين أن يتلقاه ويمنعه من دخول بغداد فلقيه في الطريق، فرده إلى بستان ابن الحروري، وأقاموا يومهم، فلما كان الليل صاروا إلى دار ابن طاهر، فوبخه ابن طاهر وأمره بالرجوع إلى الياسرية لينفذ إلى الأنبار مع من ينفذ إليها من الجند، فصار من ليلته إلى الياسرية، ثم أمر بإخراج مال لإعطاء شهر واحد لآل هذا العسكر فحمل تسعة آلاف دينار، وصار كتاب ديوان العطاء وديوان العرض إلى الياسرية لعرض الجند وإعطائهم.
فلما كان يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الآخرة توجه خالد بن عمران مصعدا إلى قنطرة بهلايا- وهي موضع السكر- وخرجت معه نحو من عشرين سفينة وركب عبيد الله بن عبد الله وأحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد إلى عسكر الحسين بن إسماعيل بالياسرية، فقرءوا على الحسين والقواد كتابا كتب به عن المستعين، يخبرهم فيه بسوء طاعتهم وما ركبوا من العصيان والتخاذل، فقرئ عليهم والعسكر مقيم، والعراض يعرضونهم ليتعرفوا من قتل ومن غرق من كل قيادة، ونودي باللحاق بعسكرهم، فخرجوا.
وأتاهم كتاب بعض عيونهم بالأنبار يخبر أن القتلى كانت من الأتراك أكثر من مائتين، والجرحى نحوا من أربعمائة، وأن جميع من أسره الأتراك من أهل بغداد الجيشية والفروض من الرجالة مائتان وعشرون إنسانا، وأنه عد رءوس من قتل فوجدها سبعين رأسا، وكانوا أخذوا جماعة من أهل الأسواق.
فصاحوا لأبي نصر: نحن أهل السوق، فقال: ما بالكم معهم! فقالوا:
أكرهنا فخرجنا، شئنا او أبينا فأطلق من كان منهم يشبه السوقة، وأمر بحبس الأسرى في القطيعة.
وذكر عن صاحب بغال السلطان: أن جميع ما ذهب من بغال السلطان مائة وعشرون بغلا.
ورحل الحسين يوم الاثنين لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وكتب إلى خالد بن عمران وهو مقيم على السكر، أن يرحل متقدما أمامه، فامتنع خالد من ذلك، وذكر أنه لا يبرح من موضعه إلا أن يأتيه قائد في جند كثيف فيقيم مكانه، لأنه يتخوف أن يأتيه الأتراك من خلفه من عسكرهم بناحية قطربل وأمر ابن طاهر بمال، فحمل إلى الحسين بن إسماعيل لإعطاء جميع من في عسكره رزق شهر واحد، ليفرق فيهم بدمما، وأمر أن يخرج معه الكتاب والعراض لأصحابه هنالك، وقلد أمر نفقات عسكره وإعطاء الجند من قبل ديوان الخراج الفضل بن مظفر السبعي، وحمل المال مع السبعي إلى معسكر الحسين، لينفذ معه إذا نفذ وقد قيل: إن الحسين ارتحل إلى الأنبار في النصف من ليلة الأربعاء لعشر بقين من جمادى الآخرة، فسار وتبعه من في عسكره يوم الأربعاء، ونودي في أصحابه باللحاق به، فسار حتى نزل دمما، وأراد أن يعقد على نهر أنق جسرا ليعبر عليه، فمانعه الأتراك، فعبر إليهم جماعة من أصحابه من الرجالة، فحاربوهم حتى كشفوهم وعقد خالد الجسر، فعبر اصحابه ووجه محمد بن عبد الله بكاتبه محمد بن عيسى بشيء شافهه به، فيقال: أنه حمل معه أطواقا وأسورة، وانصرف إلى منزله، وصار إلى الحسين يوم السبت لثمان خلون من رجب رجل، فأخبره أن الأتراك قد دلوا على عدة مواضع في الفرات، تخاض إلى عسكره، فأمر بضرب الرجل مائتي سوط، ووكل بالمخاوض رجلا من قواده، يقال له الحسين بن علي بن يحيى الأرمني في مائة راجل ومائة فارس، فطلع أول القوم، فخرج عليهم وقد أتاه منهم أربعة عشر علما، فقاتل أصحابه ساعة، ووكل بالقنطرة أبا السنا، وأمره أن يمنع من انهزم من العبور، فأتى الأتراك المخاضة، فرأوا الموكل بها، فتركوه واقفا، وصاروا إلى مخاضة أخرى خلف الموكل فقاتلوهم، فصبر الحسين بن علي وقاتل، فقيل للحسين بن إسماعيل، فقصد نحوه، ولم يصل إليه حتى انهزم، وانهزم خالد بن عمران معه ومن معه، ومنعهم أبو السنا من العبور على القنطرة، فرجع الرجالة والخراسانية فرموا بأنفسهم في الفرات، فغرق من لم يحسن السباحة، وعبر من كان يحسن السباحة، فنجا عريانا، وخرج إلى جزيرة لا يصل منها إلى الشط، لما على الشط من الأتراك، فذكر عن بعض جند الحسين، أنه قال: بعث الحسين بن علي الأرمني إلى الحسين بن إسماعيل أن الأتراك قد وافوا المخاضة، فأتاه الرسول، فقيل: الأمير نائم، فرجع الرسول فأعلمه، فرد آخر، فقال له الحاجب: الأمير في المخرج، فرجع فأخبره، فرد رسولا ثالثا، فقال: قد خرج من المخرج ونام، فعلت الصيحة فعبر الاتراك، فقعد الحسين في زورق أو شبارة، وانحدر واستأثر قوم من الخراسانية، ورموا ثيابهم وسلاحهم، وقعدوا على الشط عراة، وشد أصحاب أعلام الأتراك حتى ضربوا أعلامهم على مضرب الحسين بن إسماعيل، واقتطعوا السوق، وانحدرت عامة السفن، فسلمت إلا ما كان موكلا به منها، ولحق الأتراك أصحاب الحسين، فوضعوا فيهم السيف، فقتلوا وأسروا نحوا من مائتين، وغرق خلق كثير، ووافى الحسين والمنهزمة بغداد نصف الليل، ووافى فلهم وبقيتهم في النهار، وفيهم جرحى كثيرة، فلم يزالوا إلى نصف النهار يتتابعون عراة مجرحين، وفقد من قواد الحسين بن يوسف البرم وغيره.
ثم جاء كتابه أنه أسير في أيدي الأتراك عند مفلح، وأن عدة الأسرى من وقعة الحسين الثانية مائة ونيف وسبعون إنسانا، والقتلى مائة، والدواب نحو من ألفي دابة ومائتي بغل وأكثر، وقيمة السلاح والثياب وغير ذلك اكثر من مائه الف دينار، فقال الهندواني في الحسين بن إسماعيل:
يا أحزم الناس رأيا في تخلفه *** عن القتال خلطت الصفو بالكدر
لما رأيت سيوف الترك مصلتة *** علمت ما في سيوف الترك من قدر
فصرت منحجزا ذلا ومنقصة *** والنجح يذهب بين العجز والضجر
ولحق بالمعتز في جمادى الآخرة منها من بغداد جماعة من الكتاب وبني هاشم، ومن القواد مزاحم بن خاقان أرطوج، ومن الكتاب عيسى بن ابراهيم ابن نوح ويعقوب بن إسحاق ونماري ويعقوب بن صالح بن مرشد ومقله وابن لأبي مزاحم بن يحيى بن خاقان ومن بني هاشم على ومحمد ابنا الواثق، ومحمد ابن هارون بن عيسى بن جعفر، ومحمد بن سليمان من ولد عبد الصمد بن علي وفيها كانت وقعة بين محمد بن خالد بن يزيد وأحمد المولد وأيوب بن أحمد بالسكير من أرض بني تغلب، قتل بين الفريقين جماعه كثيره، وانهزم محمد ابن خالد، وانتهب الآخرون متاعه، وهدم أيوب دور آل هارون بن معمر.
وقتل من ظفر به من رجالهم وفيها كانت لبلكاجور غزوة فتح- فيما ذكر- فيها مطمورة أصاب فيها غنيمة كثيرة، وأسر جماعة من الأعلاج، وورد بذلك على المستعين كتاب تاريخه يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين ومائتين وفي يوم السبت لثمان بقين من رجب من هذه السنة كانت وقعه بين محمد ابن رجاء وإسماعيل بن فراشة وبين جعلان التركي بناحية بادرايا وباكسايا، فهزم ابن رجاء وابن فراشة جعلان، وقتلا من أصحابه جماعة.
وأسرا جماعة وفي رجب منها كان- فيما ذكر- وقعة بين ديوداد أبي الساج وبين بايكباك بناحية جرجرايا، قتل فيها أبو الساج بايكباك، وقتل من رجاله جماعة، وأسر منهم جماعة، وغرق منهم في النهروان جماعة.
وفي النصف من رجب منها اجتمع من كان ببغداد من بني هاشم من العباسيين، فصاروا إلى الجزيرة التي بإزاء دار محمد بن عبد الله، فصاحوا بالمستعين وتناولوا محمد بن عبد الله بالشتم القبيح، وقالوا: قد منعنا أرزاقنا، وتدفع الأموال إلى غيرنا ممن لا يستحقها، ونحن نموت هزلا وجوعا! فإن دفعت إلينا أرزاقنا وإلا قصدنا إلى الأبواب ففتحناها، وأدخلنا الأتراك، فليس يخالفنا أحد من أهل بغداد فعبر إليهم الشاه بن ميكال، فكلمهم ورفق بهم، وسألهم أن يعبر معه منهم ثلاثة أنفس ليدخلهم على ابن طاهر، فامتنعوا من ذلك، وأبوا إلا الصياح وشتم محمد بن عبد الله، فانصرف عنهم الشاه، فلم يزالوا على حالهم إلى قرب الليل، ثم انصرفوا واجتمعوا من غد ذلك اليوم، فوجه إليهم محمد بن عبد الله، فأمرهم بحضور الدار يوم الاثنين ليأمر من يناظرهم، فصاروا إلى الدار، فأمر محمد بن داود الطوسي بمناظرتهم، وبذل لهم رزق شهر واحد، وأمرهم أن يقبضوا ذلك، ولا يكلفوا الخليفة أكثر من هذا، فأبوا أن يقبضوا رزق شهر، وانصرفوا.
خروج الحسين بن محمد الطالبي وما آل اليه امره
وفيها خرج بالكوفة رجل من الطالبيين يقال له الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بْن علي بْن حسين بْن علي بْن أبي طالب، فاستخلف بها رجلا منهم يقال له محمد بن جعفر بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن حسن، ويكنى أبا أحمد، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان أرطوج، وكان العلوي بسواد الكوفه في ثلاثمائة رجل من بنى اسد وثلاثمائة رجل من الجارودية والزيدية وعامتهم صوافية، وكان العامل يومئذ بالكوفه احمد ابن نصر بن مالك الخزاعي، فقتل العلوي من أصحاب ابن نصر أحد عشر رجلا، منهم من جند الكوفة أربعة، وهرب أحمد بن نصر إلى قصر ابن هبيرة، فاجتمع هو وهشام بن أبي دلف، وكان يلي بعض سواد الكوفة- فلما صار مزاحم إلى قرية شاهي كتب إليه في المقام حتى يوجه إلى العلوي من يرده إلى الفيئة والرجوع فوجه إليه داود بن القاسم الجعفري، وأمر له بمال، فتوجه إليه وأبطأ داود وخبره على مزاحم، فزحف مزاحم إلى الكوفة من قرية شاهي، فدخلها وقصد العلوي فهرب، فوجه في طلبه قائدا، وكتب بفتحه الكوفة في خريطة مريشة 4 وقد ذكر أن أهل الكوفة عند ورود مزاحم حملوا العلوي على قتاله، ووعدوه النصر، فخرج في غربي الفرات، فوجه مزاحم قائدا من قواده في الشرقي من الفرات، وأمره أن يمضي حتى يعبر قنطرة الكوفة ثم يرجع، فمضى القائد لذلك، وأمر مزاحم بعض أصحابه الذين بقوا معه أن يعبروا مخاضة الفرات في قرية شاهي، وأن يتقدموا حتى يحاربوا أهل الكوفة ويصافوهم من أمامهم فساروا ومعهم مزاحم، وعبر الفرات، وخلف أثقاله ومن بقي معه من أصحابه، فلما رآهم أهل الكوفة ناوشوهم الحرب، ووافاهم قائد مزاحم، فقاتلهم من ورائهم ومزاحم من أمامهم، فأطبقوا عليهم جميعا فلم يفلت منهم أحد.
وذكر عن ابن الكردية أن مزاحما قتل من أصحابه قبل دخوله الكوفة ثلاثة عشر رجلا، وقتل من الزيدية أصحاب الصوف سبعة عشر رجلا، ومن الأعراب ثلاثمائة رجل، وأنه لما دخل الكوفة رمي بالحجارة فضرب ناحيتي الكوفة بالنار، وأحرق سبعة أسواق، حتى خرجت النار إلى السبيع، وهجم على الدار التي فيها العلوي فهرب، ثم أتي به وقتل في المعركة من العلوية رجل وذكر أنه حبس جميع من بالكوفة من العلوية، وحبس أبناء هاشم، وكان العلوي فيهم.
وذكر عن أبي إسماعيل العلوي أن مزاحما أحرق بالكوفة ألف دار، وأنه أخذ ابنة الرجل منهم فعنفها.
وذكر أنه أخذ للعلوي جوار، فيهم امرأة حرة مضمومة، فأقامها على باب المسجد ونادى عليها.
وفي النصف من رجب من هذه السنة، ورد على مزاحم كتاب من المعتز يأمره بالمصير إليه، ويعده وأصحابه ما يحب ويحبون فقرأ الكتاب مزاحم على أصحابه، فأجابه الأتراك والفراغنة والمغاربة، وأبي الشاكرية ذلك، فمضى فيمن أطاعه منهم وهم زهاء أربعمائة إنسان وقد كان أبو نوح تقدمه إلى سامرا، فأشار بالكتاب إليه، وكان مزاحم ينتظر أمر الحسين بن إسماعيل، فلما انهزم الحسين مضى إلى سامرا، وقد كان المستعين وجه إلى مزاحم عند فتح الكوفة عشرة آلاف دينار وخمس خلع وسيفا ونفذ الرسول إليه، والفى الجند الذين كانوا معه في الطريق، فردوا جميع ذلك معهم، وصاروا إلى باب محمد بن عبد الله، وأعلموه ما فعل مزاحم وكان في الجند والشاكرية خليفة الحسين بن يزيد الحراني وهشام بن أبي دلف والحارث خليفة أبي الساج، فأمر ابن طاهر أن يخلع على كل واحد منهم ثلاث خلع وذكر أن هذا العلوي كان قد ظهر بنينوى في آخر جمادى الآخرة من هذه السنة، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب، وفيهم قوم ممن كان خرج مع يحيى بن عمر في سنة خمسين ومائتين، وقد كان قدم إلى تلك الناحية هشام ابن ابى دلف، فواقعهم العلوي في جماعه نحو من خمسين رجلا، فهزمه وقتل عدة من أصحابه، وأسر عشرين رجلا وغلاما، وهرب العلوى إلى الكوفة، فاختفى بها، ثم ظهر بعد ذلك وحمل الأسرى والرءوس إلى بغداد، فعرف خمسة نفر ممن كان مع أصحاب أبي الحسين يحيى بن عمر، فأطلقوا وأمر محمد بن عبد الله أن يضرب كل واحد ممن اطلق وعاد خمسمائة سوط، فضربوا في آخر يوم من جمادى الآخرة وذكر أن كتب أبي الساج لما وردت بما كان من إيقاعه ببايكباك، وذلك لاثنتي عشرة بقيت من رجب من هذه السنة، وجه إليه بعشرة آلاف دينار معونة له، وبخلعه فيها خمسه أثواب وسيف.
[أخبار متفرقة]
وفيها كانت وقعة- فيما ذكر- بين منكجور بن خيدر وبين جماعة من الأتراك بباب المدائن هزمهم فيها منكجور، وقتل منهم جماعة وفيها كانت لبلكاجور صائفة، فتح فيها فتوحا فيما ذكر وفيها كانت وقعة بين يحيى بن هرثمة وأبي الحسين بن قريش، قتل من الفريقين جماعة، ثم انهزم أبو الحسين بن قريش وفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان كانت بباب بغواريا وقعة بين الأتراك وأصحاب ابن طاهر، وكان السبب في ذلك ان الموكل كان بباب بغواريا إبراهيم بن محمد بن حاتم والقائد المعروف بالنساوى في نحو من ثلاثمائة فارس وراجل، فجاءت الأتراك والمغاربة في جمع كثير، فنقبوا السور في موضعين، فدخلوا منهما، فقاتلهم النساوي فهزموه، ووافوا باب الأنبار، وعليه إبراهيم بن مصعب وابن أبي خالد وابن أسد بن داود سياه، وهم لا يعلمون بدخولهم باب بغواريا، فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل من الفريقين جماعة ثم إن من كان على باب الأنبار من أهل بغداد انهزموا لا يلوون على شيء، فضرب الأتراك والمغاربة باب الأنبار بالنار فاحترق، وأحرقوا ما كان على باب الأنبار من المجانيق والعرادات، ودخلوا بغداد حتى صاروا إلى باب الحديد ومقابر الرهينة ومن ناحية الشارع إلى موضع أصحاب الدواليب، فاحرقوا ما هنالك وأحرقوا كل ما قرب من ذلك من أمامهم وورائهم، ونصبوا أعلامهم على الحوانيت التي تقرب من ذلك الموضع، وانهزم الناس، حتى لم يقف بين أيديهم أحد، وكان ذلك مع صلاة الغداة، فوجه ابن طاهر إلى القواد، ثم ركب في السلاح فوقف على باب درب صالح المسكين، ووافاه القواد، فوجههم إلى باب الأنبار وباب بغواريا وجميع الأبواب التي في الجانب الغربي، وشحنها بالرجال، وركب بغا ووصيف، فتوجه بغا في أصحابه وولده إلى باب بغواريا، وصار الشاه بن ميكال والعباس بن قارن والحسين بن إسماعيل إلى باب الأنبار والغوغاء، فالتقوا والأتراك في داخل الباب، فبادرهم العباس بن قارن، فقتل- فيما ذكر- في مقام واحد جماعة من الأتراك، ووجه برءوسهم إلى باب ابن طاهر، وكاثرهم الناس على هذه الأبواب، فدفعوهم حتى أخرجوهم بعد أن قتل منهم جماعة، وكان بغا الشرابي خرج إلى باب بغواريا في جمع كثير، فوافاهم وهم غارون، فقتل منهم جماعة كثيرة، وهرب الباقون، فخرجوا من الباب، فلم يزل بغا يحاربهم إلى العصر، ثم انهزموا وانصرفوا، ووكل بالباب من يحفظه، وانصرف إلى باب الأنبار، ووجه في حمل الجص والآجر، وأمر بسده.
وفي هذا اليوم أيضا كانت حرب شديدة بباب الشماسية، قتل من الفريقين- فيما ذكر- جماعة كثيرة، وجرح آخرون، وكان الذي قاتل الأتراك في هذا اليوم- فيما ذكر- يوسف بن يعقوب قوصرة وفيها أمر محمد بن عبد الله المظفر بن سيسل أن يعسكر بالياسرية، ففعل ذلك، ثم انتقل إلى الكناسة إلى أن وافاه بالفردل بن إيزنكجيك الأشروسني، فأمر له بفرض، وضم إليه رجالا من الشاكرية وغيرهم، وأمر أن يضام المظفر ويعسكر بالكناسة، ويكون أمرهما واحدا، ويضبط تلك الناحية، فأقاما هنالك حينا، ثم أمر بالفردل المظفر بالمضي، ليعرف خبر الأتراك ليدبر في أمرهم بما يراه، فامتنع من ذلك المظفر، وزعم أن الأمير لم يأمره بشيء مما سأله، وكتب كل واحد منهما يشكو صاحبه، وكتب المظفر يستعفي من المقام بالكناسة، ويزعم أنه ليس بصاحب حرب، فأعفي، وأمر بالانصراف ولزوم البيت، وقلد أمر ذلك العسكر ومن فيه من الجند النائبة والأثبات بالفردل، وضم إليه أثبات المظفر وأفرد بالناحية.
وفي شهر رمضان من هذه السنة التقى هشام بن أبي دلف والعلوي الخارج بنينوى، ومعه رجل من بني أسد، فاقتتلوا فقتل من أصحاب العلوي- فيما ذكر- نحو من أربعين رجلا، ثم افترقا، فدخل العلوي الكوفة فبايع أهلها المعتز، ودخل هشام بن أبي دلف بغداد وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت بين أبي الساج والأتراك وقعه بناحيه جرجرايا، هزمهم فيها أبو الساج، وقتل منهم جماعة كثيرة، واسر منهم جماعه اخر.
ذكر خبر قتل بالفردل
ولليلة بقيت من شهر رمضان منها قتل بالفردل، وكان سبب قتله أن أبا نصر بن بغا لما غلب على الأنبار وما قرب منها، وهزم جيوش ابن طاهر من تلك الناحية وأجلاهم عنها، بث خيله ورجاله في أطراف بغداد من الجانب الغربي، وصار الى قصر ابن هبيرة، وبها بحونه بن قيس من قبل ابن طاهر، فهرب منه من غير قتال جرى بينه وبينه، ثم صار أبو نصر إلى نهر صرصر، واتصل بابن طاهر خبره وخبر الوقعة التي كانت بين أبي الساج والأتراك بجرجرايا وخذلان من معه من الفروض إياه عند احمرار البأس فندب بالفردل إلى اللحاق بأبي الساج والمسير بمن معه إليه، فسار بالفردل فيمن معه غداة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فسار يومه وصبح المدائن، فوافاها مع موافاة الأتراك ومن هو مضموم إليهم من غيرهم، وبالمدائن رجال ابن طاهر وقواده، فقاتلهم الأتراك، فانهزموا ولحق من فيها من القواد بأبي الساج، وقاتل بالفردل قتالا شديدا، ولما راى انهزام من هنا لك من أصحاب ابن طاهر مضى متوجها نحو أبي الساج بمن معه فأدرك فقتل.
وذكر عن ابن القواريري- وكان أحد القواد- قال: كنت وابو الحسين ابن هشام موكلين بباب بغداد ومنكجور منفرد بباب ساباط، وكان بقرب بابه ثلمة في سور المدائن، فسألت منكجور أن يسدها فأبى، فدخل الأتراك منها، وتفرق أصحابه قال: وبقيت في نحو من عشرة أنفس، ووافى بالفردل هو وأصحابه، فقال: أنا الأمير، أنا فارس ومعي فرسان، نمضي على الشط، وتكون الرجالة على السفن، فدافع ساعه ثم مضى لوجهه وعسكره في السفن على حالهم يريد أبا الساج، أو تلك الناحية، وأقمت بعده ساعة تامة، وتحتي أشقر عليه حلية، فصرت إلى نهر فعثر بي، فسقطت عنه، وقصدوني يقولون: صاحب الأشقر! فخرجت من النهر راجلا قد طرحت عني السلاح، فنجوت وغضب ابن طاهر على ابن القواريري وأصحابه، وأمرهم بلزوم منازلهم، وغرق بالفردل.
ولأربع خلون من شوال من هذه السنة، جمع- فِيمَا ذكر- مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طاهر جميع قواده الموكلين بأبواب بغداد وغيرهم، فشاورهم جميعا في الأمور، وأعلمهم ما ورد عليهم من الهزائم، فكل أجاب بما أحب من بذل النفس والدم والأموال، فجزاهم خيرا وأدخلهم إلى المستعين، وأعلمه ما ناظرهم فيه وما ردوا عليه من الجواب، فقال لهم المستعين: والله يا معشر القواد، لئن قاتلت عن نفسي وسلطاني ما أقاتل إلا عن دولتكم وعامتكم، وأن يرد الله إليكم أموركم قبل مجيء الأتراك وأشباههم، فقد يجب عليكم المناصحة والجهد في قتال هؤلاء الفسقة، فردوا أحسن مرد، وجزاهم الخير، وأمرهم بالانصراف الى مراكزهم فانصرفوا.
ذكر خبر هزيمه الاتراك ببغداد
وفي يوم الاثنين لأيام خلت من ذي القعدة من هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد، هزموا فيها الأتراك، وانتهبوا عسكرهم، وكان سبب ذلك أن الأبواب كلها من الجانبين فتحت ونصبت المجانيق والعرادات في الأبواب كلها والشبارات في دجلة، وخرج منها الجند كلهم، وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف حين تزاحف الفريقان، واشتدت الحرب إلى باب القطيعة، ثم عبروا إلى باب الشماسية، وقعد ابن طاهر في قبة ضربت له، وأقبلت الرماة من بغداد بالناوكية في الزواريق، ربما انتظم السهم الواحد عدة منهم فقتلهم، فهزمت الأتراك، وتبعهم أهل بغداد حتى صاروا إلى عسكرهم، وانتهبوا سوقهم هنالك، وضربوا زورقا لهم كان يقال له الحديدي، كان آفة على أهل بغداد بالنار، وغرق من فيه، وأخذوا لهم شبارتين، وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء، وجعل وصيف وبغا يقولان كلما جيء برأس: ذهب والله الموالي واتبعهم أهل بغداد إلى الروذبار، ووقف أبو أحمد بن المتوكل يرد الموالي، ويخبرهم أنهم إن لم يكروا لم يبق لهم بقية، وأن القوم يتبعونهم إلى سامرا فتراجعوا، وثاب بعضهم، وأقبلت العامة تحز رءوس من قتل، وجعل محمد بن عبد الله يطوق كل من جاء برأس ويصله، حتى كثر ذلك، وبدت الكراهة في وجوه من مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي، ثم ارتفعت غبرة من ريح جنوب، وارتفع الدخان مما احترق، وأقبلت أعلام الحسن بن الأفشين مع أعلام الأتراك يقدمها علم أحمر، قد استلبه غلام لشاهك، فنسي أن ينكسه، فلما رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه، توهموا أن الأتراك قد رجعوا عليهم وانهزموا، وأراد بعض من وقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه، فنكس العلم، والناس قد ازدحموا منهزمين، وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فتحملوا عليهم، فانصرف الفريقان بعضهم عن بعض.
خبر وقعه ابى السلاسل مع المغاربه
وفيها كانت وقعة لأبي السلاسل وكيل وصيف بناحية الجبل مع المغاربة، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن رجلا من المغاربة يقال له نصر سلهب، صار بجماعة من المغاربة إلى عمل بعض ما إلى أبي الساج من الأرض، وانتهب هو وأصحابه ما هنالك من القوى، فكتب أبو السلاسل إلى أبي الساج يعلمه ذلك، فوجه أبو الساج إليه- فيما ذكر- بنحو من مائة نفس بين فارس وراجل، فلما صاروا إليه كبس أولئك المغاربة، فقتل منهم تسعة، وأسر عشرين، وأفلت نصر سهلب ساريا.
ذكر خبر وقوع الصلح بين الموالي وابن طاهر
ووضعت الحرب أوزارها بعد هذه الوقعة بين الموالي وابن طاهر، فلم يعودوا لها، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن ابن الطاهر قد كان كاتب المعتز قبل ذلك في الصلح، فلما كانت هذه الوقعة أنكرت عليه، فكتب إليه، فذكر أنه لا يعود بعدها لشيء يكرهه، ثم أغلقت بعد ذلك على أهل بغداد أبوابها، فاشتد عليهم الحصار، فصاحوا في أول ذي القعدة من هذه السنة في يوم الجمعة: الجوع! ومضوا إلى الجزيرة التي هي تلقاء دار ابن طاهر، فأرسل إليهم ابن طاهر: وجهوا إلي منكم خمسة مشايخ، فوجهوا بهم، فأدخلوا عليه، فقال لهم: إن من الأمور أمورا لا يعلم بها العامة، وأنا عليل، ولعلي أعطي الجند أرزاقهم ثم أخرج بهم إلى عدوكم فطابت أنفسهم، وخرجوا عن غير شيء، وعادت العامة والتجار بعد إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، فصاحوا وشكوا ما هم فيه من غلاء السعر، فبعث إليهم فسكنهم، ووعدهم ومناهم وأرسل ابن طاهر إلى المعتز في الصلح واضطرب أمر أهل بغداد، فوافى بغداد للنصف من ذي القعدة من هذه السنه حماد بن إسحاق ابن حماد بن زيد، ووجه مكانه أبو سعيد الأنصاري إلى عسكر أبي أحمد رهينة، فلقي حماد بن إسحاق ابن طاهر، فخلا به فلم يذكر ما جرى بينهما.
ثم انصرف حماد إلى عسكر أبي أحمد، ورجع أبو سعيد الأنصاري، ثم رجع حماد إلى ابن طاهر، فجرت بين ابن طاهر وبين أبي أحمد رسائل مع حماد.
ولتسع بقين من ذي القعدة خرج أحمد بن إسرائيل إلى عسكر أبي أحمد مع حماد وأحمد بن إسحاق وكيل عبيد الله بن يحيى بإذن ابن طاهر لمناظرة أبي أحمد في الصلح.
ولسبع بقين من ذي القعدة أمر ابن طاهر بإطلاق جميع من في الحبوس ممن كان حبس بسبب ما كان بينه وبين أبي أحمد من الحروب ومعاونته إياه عليه فأطلقه ومن غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجالة الجند وكثير من العامة، فطلب الجند أرزاقهم، وشكت العامة سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدة الحصار، وقالوا: إما خرجت فقاتلت، وإما تركتنا، فوعدهم أيضا الخروج أو فتح الباب للصلح، ومناهم فانصرفوا.
فلما كان بعد ذلك، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة شحن السجون والجسر وباب داره والجزيرة بالجند والرجال، فحضر الجزيرة بشر كثير، فطردوا من كان ابن طاهر صيرهم فيها، ثم صاروا إلى الجسر من الجانب الشرقي، ففتحوا سجن النساء، وأخرجوا من فيه، ومنعهم علي بن جهشيار ومن معه من الطبرية من سجن الرجال، ومانعهم أبو مالك الموكل بالجسر الشرقي، فشجوه وجرحوا دابتين لأصحابه، فدخل داره وخلاهم، فانتهبوا ما في مجلسه، وشد عليهم الطبرية فنحوهم حتى أخرجوهم من الأبواب، وأغلقوها دونهم، وخرج منهم جماعة، ثم عبر إليهم محمد بن أبي عون، فضمن للجند رزق أربعة أشهر، فانصرفوا على ذلك، وأمر ابن طاهر بإعطاء أصحاب ابن جهشيار أرزاقهم لشهرين من يومهم فأعطوا.
ذكر بدء عزم ابن طاهر على خلع المستعين والبيعه للمعتز
ووجه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقت وتبن إلى ابن طاهر في هذه الأيام، فوصلت إليه ولما كان يوم الخميس لأربع خلون من ذي الحجة علم الناس ما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتز، ووجه ابن طاهر قواده إلى أبي أحمد حتى بايعوه للمعتز، فخلع على كل واحد منهم أربع خلع، وظنت العامة أن الصلح جرى بإذن الخليفة المستعين، وان المعتز ولى عهده.
خروج العامه ونصره المستعين على ابن طاهر
ولما كان يوم الأربعاء خرج رشيد بن كاوس- وكان موكلا بباب السلامة- مع قائد يقال له نهشل بن صخر بن خزيمة بن خازم وعبد الله بن محمود، ووجه إلى الأتراك بأنه على المصير إليهم ليكون معهم، فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس، فخرج إليهم على سبيل التسليم عليهم، على ان الصلح قد وقع، فسلم عليهم، وعانق من عرف منهم، وأخذوا بلجام دابته، ومضوا به وبابنه في أثره، فلما كان يوم الاثنين صار رشيد إلى باب الشماسية فكلم الناس، وقال: ان امير المؤمنين وأبا جعفر يقرئان عليكم السلام، ويقولان لكم: من دخل في طاعتنا قربناه ووصلناه، ومن آثر غير ذلك فهو أعلم، فشتمه العامة ثم طاف على جميع أبواب الشرقية بمثل ذلك، وهو يشئم في كل باب، ويشتم المعتز فلما فعل رشيد ذلك علمت العامة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، فصاحوا به وشتموه أقبح شتم، ثم صاروا إلى بابه، ففعلوا مثل ذلك، فخرج إليهم راغب الخادم، فحضهم على ما فعلوا، وسألهم الزيادة فيما هم فيه من نصرة المستعين، ثم مضى إلى الحظيرة التي فيها الجيش، فمضى بهم وجماعة أخر غيرهم وهم زهاء ثلاثمائة في السلاح، فصاروا إلى باب ابن طاهر، فكشفوا من عليه وردوهم، فلم يبرحوا يقاتلونهم، حتى صاروا إلى دهليز الدار، وأرادوا إحراق الباب الداخل فلم يجدوا نارا، وقد كانوا باتوا بالجزيرة الليل كله يشتمونه ويتناولنه بالقبيح.
وذكر عن ابن شجاع البلخي أنه قال: كنت عند الأمير وهو يحدثني ويسمع ما يقذف به من كل إنسان، حتى ذكروا اسم أمه، فضحك وقال:
يا أبا عبد الله، ما أدري كيف عرفوا اسم أمي! ولقد كان كثير من جواري أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها، فقلت له: أيها الأمير، ما رأيت أوسع من حلمك، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما رأيت أوفق من الصبر عليهم، ولا بد من ذلك فلما أصبحوا وافوا الباب، فصاحوا، فصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطلع إليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه لهم، فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة، وابن طاهر إلى جانبه، فحلف لهم بالله ما اتهمه، وإني لفي عافية ما علي منه بأس، وإنه لم يخلع، ووعدهم أنه يخرج في غد يوم الجمعة ليصلي بهم، ويظهر لهم فانصرف عامتهم بعد قتلى وقعت ولما كان يوم الجمعة بكر الناس بالصياح يطلبون المستعين، وانتهبوا دواب علي بن جهشيار- وكانت في الخراب، على باب الجسر الشرقي- وانتهب جميع ما كان في منزله وهرب، وما زال الناس وقوفا على ما هم عليه إلى ارتفاع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما ومواليهما وقوادهما وأخوال المستعين، فصار الناس جميعا إلى الباب، فدخل وصيف وبغا في خاصتهما، ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز، ووقفوا على دوابهم، وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال، فأذن لهم.
بالنزول فأبوا، وقالوا: ليس هذا يوم نزولنا عن ظهور دوابنا حتى نعلم نحن والعامه ما نحن عليه، ولم تزل الرسل تختلف إليهم، وهم يأبون، فخرج إليهم محمد بن عبد الله نفسه، فسألهم النزول والدخول إلى المستعين، فأعلموه أن العامة قد ضجت مما بلغها وصح عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتز، وتوجيهك القواد بعد القواد للبيعة للمعتز، وإرادتك التهويل ليصير الأمر اليه وادخاله الأتراك والمغاربة بغداد، فيحكموا فيهم بحكمهم فيمن ظهروا عليه من أهل المدائن والقرى، واستراب بك أهل بغداد.
واتهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم عنه فلما تبين محمد بن عبد الله صحة قولهم، ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجيجهم سأل المستعين الخروج إليهم، فخرج إلى دار العامة التي كان يدخلها جميع الناس، فنصب له فيها كرسي، وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه، ثم خرجوا إلى من وراءهم، فأعلموهم صحة أمره، فلم يقنعوا بذلك، فلما تبين له أنهم لا يسكنون دون أن يخرج إليهم- وقد كان عرف كثرة الناس- أمر بإغلاق الباب الحديد الخارج فأغلق، وصار المستعين وأخواله ومحمد بن موسى المنجم ومحمد بن عبد الله إلى الدرجة التي تفضي إلى سطوح دار العامة وخزائن السلاح، ثم نصب لهم سلاليم على سطح المجلس الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله والفتح بن سهل، فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد، وفوق السواد برده النبي ص، ومعه القضيب، فكلم الناس وناشدهم، وسألهم بحق صاحب البردة إلا انصرفوا، فإنه في أمن وسلامة، وإنه لا بأس عليه من محمد بن عبد الله، فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله لأنهم لا يأمنونه عليه، فأعلمهم أنه على النقلة منها إلى دار عمته أم حبيب ابنة الرشيد، بعد أن يصلح له ما ينبغي أن يسكن فيه، وبعد أن يحول أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ماله في دار محمد بن عبد الله، فانصرف أكثر الناس، وسكن أهل بغداد ولما فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرة بعد مرة وإسماعهم إياه المكروه، تقدم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنها.
وذكروا أنه أراد أن يقصد المدائن، واجتمع على بابه جماعة من مشايخ الحربية والأرباض جميعا، يعتذرون إليه، ويسألونه الصفح عما كان منهم، ويذكرون أن الذي فعل ذلك الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا بها والفاقة التي نالتهم، فرد عليهم- فيما ذكر- مردا جميلا، وقال لهم قولا حسنا، وأثنى عليهم، وصفح عما كان منهم، وتقدم إليهم بالتقدم إلى شبابهم وسفهائهم في الأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة، وكتب إلى أصحاب المعاون بترك السخره.
ذكر خبر انتقال المستعين الى دار رزق الخادم بالرصافة
ولأيام خلون من ذي الحجة انتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله، وركب منها، فصار إلى دار رزق الخادم في الرصافة، ومر بدار علي بن المعتصم، فخرج إليه علي، فسأله النزول عنده، فأمره بالركوب، فلما صار إلى دار رزق الخادم نزلها، فوصل إليها- فيما ذكر- مساء، فأمر للفرسان من الجند حين صار إليها بعشرة دنانير لكل فارس منهم، وبخمسة دنانير لكل راجل وركب بركوب المستعين ابن طاهر، وبيده الحربة يسير بها بين يديه، والقواد خلفه، وأقام- فيما ذكر- مع المستعين ليلة انتقل إلى دار رزق محمد بن عبد الله إلى ثلث الليل، ثم انصرف، وبات عنده وصيف وبغا حتى السحر، ثم انصرفا إلى منازلهما ولما كان صبيحة الليلة التي انتقل المستعين فيها من دار ابن طاهر اجتمع الناس في الرصافة، وأمر القواد وبنو هاشم بالمصير إلى ابن طاهر والسلام عليه، وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة فصاروا إليه، فلما كان الضحى الأكبر من ذلك اليوم، ركب ابن طاهر وجميع قواده في تعبئه وحوله ناشبة رجالة، فلما خرج من داره وقف للناس، فعاتبهم وحلف أنه ما أضمر لأمير المؤمنين- أعزه الله- ولا لولي له ولا لأحد من الناس سوءا، وأنه ما يريد إلا إصلاح أحوالهم، وما تدوم به النعمة عليهم، وأنهم قد توهموا عليه ما لا يعرفه، حتى أبكى الناس فدعا له من حضر، وعبر الجسر، وصار إلى المستعين، وبعث فأحضر جيرانه ووجوه أهل الأرباض من الجانب الغربي، فخاطبهم بكلام عاتبهم فيه، واعتذر إليهم مما بلغهم، ووجه وصيف وبغا من طاف على أبواب بغداد، ووكلا صالح بن وصيف بباب الشماسية.
وذكر أن المستعين كان كارها لنقله عن دار محمد، ولكنه انتقل عنها من أجل أن الناس ركبوا الزواريق بالنفاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لما صعب عليهم فتح بابه يوم الجمعة.
وذكر أن قوما منهم كنجور، وقفوا بباب الشماسية من قبل أبي أحمد، فطلبوا ابن طاهر ليكلموه، فكتب إلى وصيف يعلمه خبر القوم، ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى، فرد المستعين الأمر في ذلك إليه، وأن التدبير في جميع ذلك مردود إليه، فيتقدم في ذلك بما رأى وذكر أن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم كلم محمد بن عبد الله في ذلك بكلام غليظ، فوثب عليه محمد بن أبي عون فأسمعه وتناوله.
وذكر عن سعيد بن حميد أن أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبيد الله بن يحيى خلوا بابن طاهر، فما زالوا يفتلونه في الذروة والغارب، ويشيرون عليه بالصلح، وأنه ربما كان عنده قوم فأجروا الكلام في خلاف الصلح، فيكشر في وجوههم، ويعرض عنهم، فإذا حضر هؤلاء الثلاثة أقبل عليهم وحادثهم وشاورهم.
وذكر عن بعضهم أنه قال: قلت لسعيد بن حميد يوما: ما ينبغي إلا أن يكون قد كان انطوى على المداهنة في أول أمره، قال: وددت أنه كان كذلك، لا والله ما هو إلا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتى كاتب القوم، وأجابهم بعد أن كان قد جادهم.
وحدثني أحمد بن يحيى النحوي- وكان يؤدب ولد ابن طاهر- أن محمد بن عبد الله لم يزل جادا في نصرة المستعين حتى أحفظه عبيد الله بن يحيى ابن خاقان، فقال له: أطال الله بقاءك! إن هذا الذي تنصره وتجد في أمره من أشد الناس نفاقا، وأخبثهم دينا، والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك، فاستعظما ذلك ولم يفعلاه، وإن كنت شاكا فيما وصفت من أمره، فسل تخبره، وإن من ظاهر نفاقه أنه كان وهو بسامرا لا يجهر في صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما صار إلى ما قبلك، جهر بها مراءاة لك، وتترك نصرة وليك وصهرك وتربيتك، ونحو ذلك من كلام كلمه به، فقال محمد بن عبد الله: أخزى الله هذا، لا يصلح لدين ولا دنيا، قال: وكان أول من تقدم على صرف محمد بن عبد الله عن الجد في أمر المستعين عبيد الله بن يحيى في هذا المجلس، ثم ظاهر عبيد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد، فلم يزالوا به حتى صرفوه عما كان عليه من الرأي في نصرة المستعين.
وفي يوم الأضحى من هذه السنة صلى بالناس المستعين صلاة الأضحى في الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، وركب وبين يديه عبيد الله بن عبد الله، معه الحربة التي لسليمان، وبيد الحسين بن إسماعيل حربة السلطان، وبغا ووصيف يكنفانه، ولم يركب محمد بن عبد الله بن طاهر، وصلى عبد الله ابن إسحاق في الرصافه.
ذكر بدء المفاوضه في امر خلع المستعين
وفي يوم الخميس ركب محمد بن عبد الله إلى المستعين، وحضره عدة من الفقهاء والقضاة، فذكر أنه قال للمستعين: قد كنت فارقتني على ان تنفذ في كل ما أعزم عليه، ولك عندي بخطك رقعة بذلك، فقال المستعين: أحضر الرقعة فأحضرها، فإذا فيها ذكر الصلح، وليس فيها ذكر الخلع، فقال: نعم، أنفذ الصلح، فقام الحلنجى فقال: يا أمير المؤمنين، أنه يسألك أن تخلع قميصا قمصك به الله وتكلم علي بن يحيى المنجم فاغلظ لمحمد ابن عبد الله ثم ركب بعد ذلك محمد بن عبد الله- وذلك للنصف من ذي الحجة- إلى المستعين بالرصافة، ثم انصرف ومعه وصيف وبغا، فمضوا جميعا حتى صاروا إلى باب الشماسية، فوقف محمد بن عبد الله على دابته، ومضى وصيف وبغا إلى دار الحسن بن الأفشين، وانحدرت المبيضة والغوغاء من السور، ولم يطلق لأحد فتح الأبواب، وقد كان خرج قبل ذلك جماعة كثيرة إلى عسكر أبي أحمد، فاشتروا ما أرادوا، فلما خرج من ذكرنا إلى باب الشماسية نودي في أصحاب أبي أحمد ألا يباع من أحد من أهل بغداد شيء، فمنعوا من الشراء، وكان قد ضرب لمحمد بن عبد الله بباب الشماسية مضرب كبير أحمر، وكان مع ابن طاهر بندار الطبرى وأبو السنا ونحو من مائتي فارس ومائتي راجل، وجاء أبو أحمد في زلال حتى قرب من المضرب، ثم خرج ودخل المضرب مع محمد بن عبد الله، ووقف الذين مع كل واحد منهما من الجند ناحية، فتناظر ابن طاهر وأبو أحمد طويلا، ثم خرجا من المضرب، وانصرف ابن طاهر من مضربه إلى داره في زلال، فلما صار إليها خرج من الزلال، فركب ومضى إلى المستعين ليخبره بما دار بينه وبين أبي أحمد، وأقام عنده إلى العصر، ثم انصرف، فذكر أنه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار، ويقطع غلة ثلاثين ألف دينار في السنة، وأن يكون مقامه بغداد حتى يجتمع لهم مال يعطون الجند، وعلى أن يولي بغا مكة والمدينة والحجاز، ووصيف الجبل وما والاه، ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله، وجند بغداد والثلثان للموالي والاتراك وذكر أن أحمد بن إسرائيل لما صار إلى المعتز ولاه ديوان البريد، وفارقه على ان يكون هو الوزير وعيسى بن فرخان شاه على ديوان الخراج وأبو نوح على الخاتم والتوقيع، فاقتسموا الأعمال، فوردت خريطة الموسم إلى بغداد بالسلامة، فبعث بها إلى أبي أحمد، ثم ركب ابن طاهر- فيما قيل- لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة إلى المستعين، لمناظرته في الخلع، فناظره فامتنع عليه المستعين، وظن المستعين أن بغا ووصيفا معه، فكاشفاه، فقال المستعين: هذا عنقي والسيف والنطع، فلما رأى امتناعه انصرف عنه، فبعث المستعين إلى ابن طاهر بعلي بن يحيى المنجم وقوم من ثقاته، وقال: قولوا له:
اتق الله، فإنما جئتك لتدفع عني، فإن لم تدفع عني فكف عني فرد عليه، أما أنا فأقعد في بيتي، ولكن لا بد لك من خلعها طائعا أو مكرها.
وذكر عن علي بن يحيى أنه قال له: قل له: إن خلعتها فلا باس، فو الله لقد تمزقت تمزقا لا يرقع، وما تركت فيها فضلا فلما رأى المستعين ضعف أمره وخذلان ناصريه أجاب إلى الخلع، فلما كان يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، وجه ابن طاهر ابن الكردية وهو محمد بن إبراهيم بن جعفر الأصغر بن المنصور والخلنجي وموسى بن صالح بن شيخ وأبا سعيد الأنصاري وأحمد بن إسرائيل ومحمد بن موسى المنجم الى عسكر ابى أحمد ليوصلوا كتاب محمد إليه بأشياء سألها المستعين من حين ندب إلى أن يخلع نفسه فأوصلوا الكتاب، فأجاب إلى ما سأل وكتب الجواب بأن يقطع وينزل مدينة الرسول ص، وأن يكون مضطربه من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة فأجابه إلى ذلك، فلم يقنع المستعين إلا بخروج ابن الكردية بما سأل إلى المعتز، حتى يكتب بإجابته بذلك بخطه بعد مشافهة ابن الكردية المعتز بذلك، فتوجه ابن الكردية بها.
وكان سبب إجابة المستعين إلى الخلع- فيما ذكر- أن وصيفا وبغا وابن طاهر ناظروه في ذلك وأشاروا عليه، فأغلظ لهم، فقال له وصيف:
أنت أمرتنا بقتل باغر، فصرنا إلى ما نحن فيه، وأنت عرضتنا لقتل اوتامش، وقلت: إن محمدا ليس بناصح، وما زالوا يفزعونه ويحتالون له، فقال محمد ابن عبد الله: وقد قلت لي إن أمرنا لا يصطلح إلا باستراحتنا من هذين، فلما اجتمعت كلمتهم أذعن لهم بالخلع، وكتب بما اشترط لنفسه عليهم، وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة.
ولما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، وأدخلهم على المستعين فوجا فوجا، واشهدهم عليه انه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، ثم أدخل عليه البوابين والخدم، وأخذ منه جوهر الخلافة، وأقام عنده حتى مضى هوي من الليل، وأصبح الناس يرجفون بألوان الأراجيف، وبعث ابن طاهر إلى قواده في موافاته، مع كل قائد منهم عشرة نفر من وجوه أصحابه، فوافوه، فأدخلهم ومناهم، وقال لهم: إنما أردت بما فعلت صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء وأعد للخروج إلى المعتز في الشروط التي اشترطها للمستعين ولنفسه ولقواده قوما ليوقع المعتز في ذلك بخطه ثم أخرجهم إلى المعتز، فمضوا إليه حتى وقع في ذلك بخطه إمضاء كل ما سأل المستعين وابن طاهر لأنفسهما من الشروط، وشهدوا عليه بإقراره بذلك كله، وخلع المعتز على الرسل، وقلدهم سيوفا، وانصرفوا بغير جائزة ولا نظر في حاجة لهم، ووجه معهم لأخذ البيعة له على المستعين جماعة من عنده، ولم يأمر للجند بشيء.
وحمل إلى المستعين أمه وابنته وعياله بعد ما فتش عياله، وأخذ منهم بعض ما كان معهم مع سعيد بن صالح، فكان دخول الرسل بغداد منصرفهم من عند المعتز يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
وذكر أن رسل المعتز لما صاروا بالشماسية، قال ابن سجادة: أنا أخاف من أهل بغداد، فإما أن يحمل المستعين إلى الشماسية أو إلى دار محمد بن عبد الله ليبايع المعتز، ويخلع نفسه ويؤخذ منه القضيب والبرده وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة كان ظهور المعروف بالكوكبي بقزوين وزنجان وغلبته عليها وطرده عنها آل طاهر، واسم الكوكبي الحسين بن احمد ابن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ابن أبي طالب رضي الله عنه.
وفيها قطعت بنو عقيل طريق جدة، فحاربهم جعفر بشاشات، فقتل من اهل مكة نحو من ثلاثمائة رجل، وبعض بني عقيل القائل:
عليك ثوبان وأمي عاريه *** فالق لي ثوبك يا بن الزانية
فلما فعل بنو عقيل ما فعلوا غلت بمكة الأسعار، وأغارت الأعراب على القرى.
ذكر خبر خروج اسماعيل بن يوسف بمكة
وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب بمكة، فهرب جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى العاملي على مكة، فانتهب إسماعيل بن يوسف منزل جعفر ومنزل أصحاب السلطان، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما كان حمل لإصلاح العين من المال وما كان في الكعبة من الذهب، وما في خزائنها من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار، وأنهب مكة، وأحرق بعضها في شهر ربيع الأول منها ثم خرج منها بعد خمسين يوما، ثم صار إلى المدينة، فتوارى علي بن الحسين بن إسماعيل العامل عليها، ثم رجع إسماعيل إلى مكة في رجب، فحصرهم حتى تماوت أهلها جوعا وعطشا، وبلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة ماء ثلاثة دراهم، ولقي أهل مكة منه كل بلاء ثم رحل بعد مقام سبعة وخمسين يوما إلى جدة، فحبس عن الناس الطعام، وأخذ أموال التجار وأصحاب المراكب، فحمل إلى مكة الحنطة والذرة من اليمن، ثم وافت المراكب من القلزم، ثم وافى إسماعيل بن يوسف الموقف، وذلك يوم عرفة، وبه محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور الملقب كعب البقر، وعيسى بن محمد المخزومي صاحب جيش مكة- وكان المعتز وجههما إليها- فقاتلهم، فقتل نحو من ألف ومائة من الحاج، وسلب الناس، وهربوا إلى مكة، ولم يقفوا بعرفة ليلا ولا نهارا، ووقف إسماعيل وأصحابه، ثم رجع إلى جدة فأفنى أموالها.