قال أبو جعفر: فمما كان فيها من ذلك عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن المدينة، واستعماله عليها الحجاج بن يوسف، فقدمها …
– فيما ذكر- فأقام بها شهرا ثم خرج معتمرا.
وفيها كان- فيما ذكر- نقض الحجاج بن يوسف بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه، وكان إذ بناه أدخل في الكعبة الحجر، وجعل لها بابين، فأعادها الحجاج على بنائها الأول في هذه السنة، ثم انصرف إلى المدينة في صفر، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهل المدينة ويتعنتهم، وبنى بها مسجدا في بني سلمة، فهو ينسب إليه.
واستخف فيها باصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فختم في أعناقهم، فذكر مُحَمَّد بن عمران بن أبي ذئب، حدثه عمن رأى جابر بن عبد الله مختوما في يده.
وعن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد، أنه رأى أنس بن مالك مختوما في عنقه، يريد أن يذله بذلك.
قال ابن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أبيه، قال: رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد فدعاه، فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان! قال: قد فعلت قال: كذبت، ثم أمر به فختم في عنقه برصاص.
وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني- فيما ذكر الواقدي.
وفي هذه السنة شخص في قول بعضهم بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها.
ذكر الخبر عن حرب المهلب للازارقه
وفي هذه السنة ولي المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك ذكر الخبر عن أمره وأمرهم فيها:
ولما صار بشر بالبصرة كتب عبد الملك إليه- فِيمَا ذكر هِشَام عن أبي مخنف، عن يونس بْن أبي إسحاق، عن أبيه:
أما بعد، فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة، ولينتخب من أهل مصره وجوههم وفرسانهم وأولي الفضل والتجربة منهم، فإنه أعرف بهم، وخله ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا شريفا، حسيبا صليبا، يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثم أنهض إليهم أهل المصرين فليتبعوهم أي وجه ما توجهوا حتى يبيدهم الله ويستأصلهم والسلام عليك.
فدعا بشر المهلب فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء، فبعث بجديع بن سعيد بن قبيصة بن سراق الأزدي- وهو خال يزيد ابنه- فأمره أن يأتي الديوان فينتخب الناس، وشق على بشر أن أمرة المهلب جاءت من قبل عبد الملك، فلا يستطيع أن يبعث غيره، فأوغرت صدره عليه حتى كأنه كان له إليه ذنب ودعا بشر بن مروان عبد الرحمن بن مخنف فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولي الفضل منهم والنجدة.
قال أبو مخنف: فحدثني أشياخ الحي، عن عبد الرحمن بن مخنف قال: دعاني بشر بن مروان فقال لي: انك قد عرفت منزلتك منى، واثرتك عندي، وقد رأيت أن أوليك هذا الجيش للذي عرفت من جزئك وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظني بك أنظر هذا الكذا كذا- يقع في المهلب- فاستبد عليه بالأمر، ولا تقبلن له مشورة ولا رأيا، وتنقصه وقصر به.
قال: فترك أن يوصيني بالجند، وقتال العدو، والنظر لأهل الإسلام، وأقبل يغريني بابن عمى كأني من السفهاء أو ممن يستصبي ويستجهل، ما رأيت شيخا مثلي في مثل هيئتي ومنزلتي طمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني، شب عمرو عن الطوق.
قال: ولما رأى أني لست بالنشيط إلى جوابه قال لي: مالك؟ قلت:
أصلحك الله! وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك في كل ما أحببت وكرهت! قال: امض راشدا قال: فودعته وخرجت من عنده، وخرج المهلب بأهل البصرة حتى نزل رام مهرمز فلقي بها الخوارج، فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمن بن مخنف بأهل الكوفة على ربع أهل المدينة معه بشر بن جرير، وعلى ربع تميم وهمدان مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وعلى ربع كندة وربيعة إسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث، وعلى ربع مذحج، وأسد زحر بن قيس فأقبل عبد الرحمن حتى نزل من المهلب على ميل أو ميل ونصف حيث تراءى العسكران برام مهرمز، فلم يلبث الناس إلا عشرا حتى أتاهم نعي بشر بن مروان، وتوفي بالبصرة، فارفض ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة، واستخلف بشر خالد بن عبد الله ابن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن مُحَمَّد بن الاشعث ومحمد بن ابن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فبعث عبد الرحمن بن مخنف ابنه جعفرا في آثارهم، فرد إسحاق ومُحَمَّدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين، ثم أخذ عليهما الا يفارقاه، فلم يلبثا إلا يوما حتى انصرفا، فأخذا غير الطريق، وطلبا فلم يحلقا، وأقبلا حتى لحقا زحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إلى الناس كتابا وبعث رسولا يضرب وجوه الناس ويردهم، فقدم بكتابه مولى له، فقرأ الكتاب على الناس، وقد جمعوا له:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ خَالِدِ بْنِ عبد الله، إِلَى من بلغه كتابي هَذَا من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين سلام عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هو أما بعد، فإن الله كتب على عباده الجهاد، وفرض طاعة ولاة الأمر، فمن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، ومن ترك الجهاد في الله كان الله عنه أغنى، ومن عصى ولاة الأمر والقوام بالحق أسخط الله عليه، وكان قد استحق العقوبة في بشره، وعرض نفسه لاستفاءة ماله وإلقاء عطائه، والتسيير إلى أبعد الأرض وشر البلدان أيها المسلمون، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم! إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، الذي ليست فيه غميزة، ولا لأهل المعصية عنده رخصة، سوطه على من عصى، وعلى من خالف سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإني لم آلكم نصيحه عباد الله، ارجعوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين فيأتيكم ما تكرهون أقسم بالله لا أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلا قتلته إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه وأخذ كلما قرأ عليهم سطرا أو سطرين قال له زحر: أوجز، فيقول له مولى خالد: والله إني لأسمع كلام رجل ما يريد أن يفهم ما يسمع أشهد لا يعيج، بشيء مما في هذا الكتاب فقال له: اقرأ أيها العبد الأحمر ما أمرت به، ثم ارجع إلى أهلك، فإنك لا تدري ما في أنفسنا فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إلى ما في كتابه، وأقبل زحر وإسحاق بن مُحَمَّد ومُحَمَّد بن عبد الرحمن حتى نزلوا قرية لآل الأشعث إلى جانب الكوفة، وكتبوا إلى عمرو بن حريث:
أما بعد، فإن الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمة الله عليه تفرقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا الى الأمير والى مصرنا، وأحببنا الا ندخل الكوفة إلا بإذن الأمير وعلمه فكتب إليهم:
أما بعد، فإنكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فليس لكم عندنا إذن ولا أمان.
فلما أتاهم ذلك انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتى قدم الحجاج بن يوسف
عزل بكير بن وشاح عن خراسان وولايه اميه بن عبد الله عليها
وفي هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح عن خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد.
ذكر الخبر عن سبب عزل بكير وولاية أمية:
وكانت ولاية بكير بن وشاح خراسان إلى حين قدم أمية عليها واليا سنتين في قول أبي الحسن، وذلك أن ابن خازم قتل سنة ثلاث وسبعين وقدم أمية سنة أربع وسبعين.
وكان سبب عزل بكير عن خراسان أن بحيرا- فيما ذكر علي عن المفضل- حبسه بكير بن وشاح لما كان منه فيما ذكرت في رأس ابن خازم حين قتله، فلم يزل محبوسا عنده حتى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله ابن خالد بن أسيد، فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال: ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة! فمشت السفراء بينهم، فأبى بحير، فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي، فقال: ألا أراك مائقا! يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسيره، والمشرفي في يده- ولو قتلك ما حبقت فيك عنز- ولا تقبل منه! ما أنت بموفق اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك فقبل مشورته، وصالح بكيرا، فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير الا يقاتله وكانت تميم قد اختلفت بخراسان، فصارت مقاعس والبطون يتعصبون له، فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد، ويقهرهم عدوهم من المشركين، فكتبوا إلى عبد الملك بن مروان: أن خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولا يتعصبون عليه، فقال عبد الملك: خراسان ثغر المشرق، وقد كان به من الشر ما كان، وعليه هذا التميمي، وقد تعصب الناس وخافوا أن يصيروا إلى ما كانوا عليه، فيهلك الثغر ومن فيه، وقد سألوا أن أولي أمرهم رجلا من قريش فيسمعوا له ويطيعوا، فقال أمية بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، تداركهم برجل منك، قال: لولا انحيازك عن أبي فديك كنت ذلك الرجل قال: يا أمير المؤمنين، والله ما انحزت حتى لم أجد مقاتلا، وخذلني الناس، فرأيت أن انحيازي إلى فئة أفضل من تعريضي عصبة بقيت من المسلمين للهلكة، وقد علم ذلك مرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكتب إليك خالد بن عبد الله بما بلغه من عذري- قال: وكان خالد كتب إليه بعذره، ويخبره أن الناس قد خذلوه- فقال مرار:
صدق أمية يا أمير المؤمنين، لقد صبر حتى لم يجد مقاتلا، وخذله الناس.
فولاه خراسان، وكان عبد الملك يحب أمية، ويقول: نتيجتي، أي لدتي، فقال الناس: ما رأينا أحدا عوض من هزيمة ما عوض أمية، فر من أبي فديك فاستعمل على خراسان، فقال رجل من بكر بن وائل في محبس بكير بن وشاح:
أتتك العيس تنفخ في براها *** تكشف عن مناكبها القطوع
كأن مواقع الأكوار منها *** حمام كنائس بقع وقوع
بأبيض من أمية مضرحي *** كأن جبينه سيف صنيع
وبحير يومئذ بالسنج يسأل عن مسير أمية، فلما بلغه انه قد قارب ابرشهر قال الرجل من عجم أهل مرو يقال له رزين- أو زرير: دلني على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه، ولك كذا وكذا، وأجزل لك العطية، وكان عالما بالطريق، فخرج به فسار من السنج إلى أرض سرخس في ليلة، ثم مضى به إلى نيسابور فوافى أمية حين قدم أبرشهر، فلقيه فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها وتحسن به طاعتهم، ويخف على الوالي مئونتهم، ورفع على بكير أموالا أصابها، وحذره غدره.
قال: وسار معه حتى قدم مرو، وكان أمية سيدا كريما، فلم يعرض لبكير ولا لعماله، وعرض عليه أن يوليه شرطته، فأبى بكير، فولاها بحير بن ورقاء، فلام بكيرا رجال من قومه، فقالوا: أبيت أن تلي، فولى بحيرا وقد عرفت ما بينكما! قال: كنت أمس والي خراسان تحمل الحراب بين يدي، فأصير اليوم على الشرطة أحمل الحربة! وقال أمية لبكير: اختر ما شئت من عمل خراسان، قال:
طخارستان، قال: هي لك قال: فتجهز بكير وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأمية: إن أتى بكير طخارستان خلعك، فلم يزل يحذره حتى حذر، فأمره بالمقام عنده
[أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف وكان ولي قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مخرمة قبل شخوصه إلى المدينة كذلك، ذكر ذلك عن مُحَمَّد بن عمر.
وكان على المدينة ومكة الحجاج بن يوسف، وعلى الكوفة والبصرة بشر بن مروان، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح بن الْحَارِث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وقد ذكر أن عبد الملك بن مروان اعتمر في هذه السنة، ولا نعلم صحة ذلك.