ذكر ابتداء امر القادسية، ففي أول يوم من المحرم سنة أربع عشرة فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ بِهِ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة …
وزياد بِإِسْنَادِهِمْ، خَرَجَ عُمَرُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ يُدْعَى صِرَارًا، فَعَسْكَرَ بِهِ وَلا يَدْرِي النَّاسُ مَا يُرِيدُ، أَيَسِيرُ أَمْ يُقِيمُ وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ رَمَوْهُ بِعُثْمَانَ أَوْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُدْعَى فِي إِمَارَةِ عُمَرَ رَدِيفًا -قَالُوا: وَالرَّدِيفُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ الرَّجُلُ الَّذِي بَعْدَ الرَّجُلِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَرْجُونَهُ بَعْدَ رَئِيسِهِمْ- وَكَانُوا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ هَذَانِ عَلَى عِلْمِ شَيْءٍ مِمَّا يُرِيدُونَ، ثَلَّثُوا بِالْعَبَّاسِ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِعُمَرَ: مَا بَلَغَكَ؟ مَا الَّذِي تُرِيدُ؟ فَنَادَى: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ ثُمَّ نَظَرَ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَقَالَ الْعَامَّةُ: سِرْ وَسِرْ بِنَا مَعَكَ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ فِي رَأْيِهِمْ، وَكَرِهَ أَنْ يَدَعَهُمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ مِنْهُ فِي رِفْقٍ، فَقَالَ: اسْتَعِدُّوا وَأَعِدُّوا فَإِنِّي سَائِرٌ إِلا أَنْ يَجِيءَ رَأْيٌ هُوَ أَمْثَلُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أَهْلِ الرَّأْيِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ وُجُوهُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلامُ الْعَرَبِ، فَقَالَ: أَحْضِرُونِي الرَّأْيَ فَإِنِّي سَائِرٌ فَاجْتَمَعُوا جَمِيعًا، وَأَجْمَعَ مَلَؤُهُمْ عَلَى أَنْ يبعث رجلا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وَيُقِيمُ، وَيَرْمِيهِ بِالْجُنُودِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَشْتَهِي مِنَ الْفَتْحِ، فَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ وَيُرِيدُونَ، وَإِلا أَعَادَ رَجُلا وَنَدَبَ جُنْدًا آخَرَ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَغِيظُ الْعَدُوَّ، وَيَرْعَوِي الْمُسْلِمُونَ، وَيَجِيءُ نَصْرُ اللَّهِ بِإِنْجَازِ مَوْعُودِ اللَّهِ فَنَادَى عُمَرُ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ عليه السلام، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَاهُ، وَإِلَى طَلْحَةَ وقد بعثه عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ عَلَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ الزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَمَعَ عَلَى الإِسْلامِ أَهْلَهُ، فَأَلَّفَ بَيْنَ الْقُلُوبِ، وَجَعَلَهُمْ فِيهِ إِخْوَانًا، وَالْمُسْلِمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَالْجَسَدِ لا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَ غيره، وكذلك يحق على المسلمين ان يكونوا أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْهُمْ، فَالنَّاسُ تُبَّعٌ لِمَنْ قَامَ بِهَذَا الأَمْرِ، مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَرَضُوا بِهِ لَزِمَ النَّاسُ وَكَانُوا فِيهِ تُبَّعًا لَهُمْ، وَمَنْ أَقَامَ بِهَذَا الأَمْرِ تَبِعٌ لأُولِي رَأْيِهِمْ مَا رَأَوْا لَهُمْ وَرَضُوا بِهِ لَهُمْ مِنْ مَكِيدَةٍ فِي حَرْبٍ كَانُوا فيه تبعا لهم يا ايها النَّاسُ، إِنِّي إِنَّمَا كُنْتُ كَرَجُلٍ مُنْكُمْ حَتَّى صَرَفَنِي ذَوُو الرَّأْيِ مِنْكُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، فَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أُقِيمَ وَأَبْعَثَ رَجُلا، وَقَدْ أَحْضَرْتُ هَذَا الأَمْرَ، مَنْ قَدَّمْتُ وَمَنْ خَلَّفْتُ: وَكَانَ علي عليه السلام خَلِيفَتَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَطَلْحَةُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ بِالأَعْوَصِ، فَأَحْضَرَهُمَا ذَلِكَ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: لَمَّا انْتَهَى قَتْلُ أَبِي عُبَيْدِ ابن مَسْعُودٍ إِلَى عُمَرَ، وَاجْتِمَاعُ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ كِسْرَى، نَادَى فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَخَرَجَ حَتَّى أَتَى صِرَارًا، وَقَدَّمَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ حَتَّى يَأْتِي الأَعْوَصَ، وَسَمَّى لِمَيْمَنَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَلِمَيْسَرَتِهِ الزُّبَيْرَ ابن الْعَوَّامِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَشَارَ النَّاسَ، فَكُلُّهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالسَّيْرِ إِلَى فَارِسَ، وَلَمْ يَكُنِ اسْتَشَارَ فِي الَّذِي كَانَ حَتَّى نَزَلَ بِصِرَارٍ وَرَجَعَ طَلْحَةُ، فَاسْتَشَارَ ذَوِي الرَّأْيِ، فَكَانَ طَلْحَةُ مِمَّنْ تَابَعَ النَّاسَ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِمَّنْ نَهَاهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَمَا فَدَيْتُ أَحَدًا بِأَبِي وَأُمِّي بَعْدَ النبي صلى الله عليه وسلم قَبْلَ يَوْمَئِذٍ وَلا بَعْدَهُ، فَقُلْتُ: يَا بِأَبِي وَأُمِّي، اجْعَلْ عَجُزَهَا بِي وَأَقِمْ وَابْعَثْ جُنْدًا، فَقَدْ رَأَيْتُ قَضَاءَ اللَّهِ لَكَ فِي جُنُودِكَ قَبْلُ وَبَعْدُ، فَإِنَّهُ إِنْ يُهْزَمْ جَيْشُكَ لَيْسَ كَهَزِيمَتِكَ، وَإِنَّكَ إِنْ تُقْتَلْ أَوْ تُهْزَمْ فِي أَنْفِ الأَمْرِ خَشِيتُ أَلا يُكَبِّرَ الْمُسْلِمُونَ وَأَلا يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَبَدًا وَهُوَ فِي ارْتِيَادٍ مِنْ رَجُلٍ، وَأَتَى كتاب سعد على حفف مَشُورَتِهِمْ، وَهُوَ عَلَى بَعْضِ صَدَقَاتِ نَجْدٍ، فَقَالَ عُمَرُ: فَأَشِيرُوا عَلَيَّ بِرَجُلٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَجَدْتُهُ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: الأَسَدُ فِي بَرَاثِنِهِ، سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَالأَهُ أُولُو الرَّأْيِ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ ذَفْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ الْمُثَنَّى إِلَى عُمَرَ بِاجْتِمَاعِ فَارِسَ عَلَى يزدجرد وببعوثهم، وَبِحَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ، أَنْ تَنَحَّ إِلَى الْبَرِّ، وَادْعُ مَنْ يَلِيكَ، وَأَقِمْ مِنْهُمْ قَرِيبًا عَلَى حُدُودِ أَرْضِكَ وَأَرْضِهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي وَعَاجَلَتْهُمُ الأَعَاجِمُ فَزَاحَفَتْهُمُ الزُّحُوفُ، وَثَارَ بِهِمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَخَرَجَ الْمُثَنَّى بِالنَّاسِ حَتَّى يَنْزِلَ الطَّفَّ، فَفَرَّقَهُمْ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَأَقَامَ مَا بَيْنَ غُضَيٍّ إِلَى الْقُطْقُطَانَةِ مَسَالِحَهُ، وَعَادَتْ مَسَالِحُ كِسْرَى وَثُغُورُهُ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ فَارِسَ وَهُمْ فِي ذَلِكَ هَائِبُونَ مُشْفِقُونَ، وَالْمُسْلِمُونَ مُتَدَفِّقُونَ قَدْ ضَرُّوا بِهِمْ كَالأَسَدِ يُنَازِعُ فَرِيسَتَهُ، ثُمَّ يُعَاوِدُ الْكَرَّ، وَأُمَرَاؤُهُمْ يُكَفْكِفُونَهُمْ بِكِتَابِ عُمَرَ وَأَمْدَادِ الْمُسْلِمِينَ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ اسْتَعْمَلَ سَعْدًا عَلَى صَدَقَاتِ هَوَازِنَ بِنَجْدٍ، فَأَقَرَّهُ عُمَرُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ فِيمَنْ كَتَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعُمَّالِ حِينَ اسْتَنْفَرَ النَّاسَ أَنْ يَنْتَخِبَ أَهْلَ الْخَيْلِ وَالسِّلاحِ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ وَنَجْدَةٌ فَرَجَعَ إِلَيْهِ كِتَابُ سَعْدٍ بِمَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ، فَوَافَقَ عُمَرُ وَقَدِ اسْتَشَارَهُمْ فِي رَجُلٍ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ بِإِسْنَادِهِمَا، قَالا: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى صَدَقَاتِ هَوَازِنَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ فِيمَنْ كَتَبَ إِلَيْهِ بِانْتِخَابِ ذَوِي الرَّأْيِ وَالنَّجْدَةِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ سِلاحٌ أَوْ فَرَسٌ، فَجَاءَهُ كِتَابُ سَعْدٍ: إِنِّي قَدِ انْتَخَبْتُ لَكَ أَلْفَ فَارِسٍ مؤد كُلَّهُمْ لَهُ نَجْدَةٌ وَرَأْيٌ، وَصَاحَبُ حِيطَةٍ يَحُوطُ حَرِيمَ قَوْمِهِ، وَيَمْنَعُ ذمَارَهُمْ، إِلَيْهِمْ انْتَهَتْ أَحْسَابُهُمْ وَرَأْيُهُمْ، فَشَأْنُكَ بِهِمْ وَوَافَقَ كِتَابُهُ مَشُورَتَهُمْ، فَقَالُوا: قَدْ وَجَدْتُهُ، قَالَ: فَمَنْ؟ قَالُوا: الأَسَدُ عَادِيًا، قَالَ: مَنْ؟ قَالُوا: سَعْدٌ، فَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَأَمَّرَهُ عَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ وَأَوْصَاهُ فَقَالَ: يَا سَعْدُ، سَعْدَ بَنِي وُهَيْبٍ، لا يَغُرَّنَّكَ مِنَ اللَّهِ أَنْ قِيلَ خَالُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول الله، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنَّهُ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ نَسَبٌ إِلا طَاعَتَهُ، فَالنَّاسُ شَرِيفُهُمْ وَوَضِيعُهُمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ سَوَاءٌ، اللَّهُ رَبُّهُمْ وَهُمْ عِبَادُهُ، يَتَفَاضَلُونَ بِالْعَافِيَةِ، وَيُدْرِكُونَ مَا عِنْدَهُ بِالطَّاعَةِ فَانْظُرِ الأَمْرَ الَّذِي رَأَيْتَ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مُنْذُ بُعِثَ إِلَى أَنْ فَارَقَنَا فَالْزَمْهُ فَإِنَّهُ الأَمْرُ هَذِهِ عِظَتِي إِيَّاكَ إِنْ تَرَكْتَهَا وَرَغِبْتَ عَنْهَا حَبِطَ عَمَلُكَ، وَكُنْتَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسَرِّحَهُ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ حَرْبَ الْعِرَاقِ فَاحْفَظْ وَصِيَّتِي فَإِنَّكَ تُقْدِمُ عَلَى أَمْرٍ شَدِيدٍ كَرِيهٍ لا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلا الْحَقُّ، فَعَوِّدْ نَفْسَكَ وَمَنْ مَعَكَ الخير، واستفتح به واعلم ان لكل عاده عتادا، فعتاد الخير الصبر، فالصبر عَلَى مَا أَصَابَكَ أَوْ نَابَكَ، يَجْتَمِعُ لَكَ خَشْيَةُ اللَّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ فِي أَمْرَيْنِ: فِي طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَإِنَّمَا أَطَاعَهُ مَنْ أَطَاعَهُ بِبُغْضِ الدُّنْيَا وَحُبِّ الآخِرَةِ، وَعَصَاهُ مَنْ عَصَاهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا وَبُغْضِ الآخِرَةِ، وَلِلْقُلُوبِ حَقَائِقُ يُنْشِئُهَا اللَّهُ إِنْشَاءً، مِنْهَا السِّرُّ، وَمِنْهَا الْعَلانِيَةُ، فَأَمَّا الْعَلانِيَةُ فَأَنْ يَكُونَ حَامِدُهُ وَذَامُّهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءٌ، وَأَمَّا السِّرُّ فَيُعْرَفُ بِظُهُورِ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ، وَبِمَحَبَّةِ النَّاسِ، فَلا تَزْهَدْ فِي التَّحَبُّبِ فَإِنَّ النَّبِيِّينَ قَدْ سَأَلُوا مَحَبَّتَهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَبَّبَهُ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا بَغَّضَهُ فَاعْتَبِرْ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَتِكَ عِنْدَ النَّاسِ، مِمَّنْ يَشْرَعُ مَعَكَ فِي أَمْرِكَ ثُمَّ سَرَّحَهُ فِيمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ نَفِيرِ الْمُسْلِمِينَ.
فَخَرَجَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قَاصِدًا الْعِرَاقَ فِي أَرْبَعَةِ آلافٍ، ثَلاثَةٍ مِمَّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْيَمَنِ وَالسُّرَاةِ، وَعَلَى أَهْلِ السَّرَوَاتِ حُمَيْضَةُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ حُمَيْضَةَ الْبَارِقِيُّ، وَهُمْ بَارِقُ وَأَلْمَعُ وَغَامِدُ وَسَائِرُ اخوتهم، في سبعمائة من اهل السراة، واهل اليمن الفان وثلاثمائه، مِنْهُمُ النَّخَعُ بْنُ عَمْرٍو، وَجَمِيعُهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةُ آلاف، مقاتلتهم وذراريهم ونساؤهم، وَأَتَاهُمْ عُمَرُ فِي عَسْكَرِهِمْ، فَأَرَادَهُمْ جَمِيعًا عَلَى الْعِرَاقِ، فَأَبَوْا إِلا الشَّامَ، وَأَبَى إِلا الْعِرَاقَ، فسمح نِصْفَهُمْ فَأَمْضَاهُمْ نَحْوَ الْعِرَاقِ، وَأَمْضَى النِّصْفَ الآخَرَ نَحْوَ الشَّامِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ حَنَشٍ النَّخَعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ، أَنَّ عُمَرَ أَتَاهُمْ فِي عَسْكَرِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّرَفَ فِيكُمْ يَا مَعْشَرَ النَّخَعِ لَمُتَرَبِّعٌ، سِيرُوا مَعَ سَعْدٍ فَنَزَعُوا إِلَى الشَّامِ، وَأَبَى إِلا الْعِرَاقَ، وَأَبَوْا إِلا الشَّامَ، فَسَرَّحَ نِصْفَهُمْ إِلَى الشَّامِ وَنِصْفَهُمْ إِلَى الْعِرَاقِ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة والمستنير وحنش، قالوا: وكان فيهم من حضرموت والصدف ستمائه، عليهم شداد بْن ضمعج، وكان فيهم ألف وثلاثمائة من مذحج، على ثلاثة رؤساء: عمرو بْن معديكرب على بني منبه، وأبو سبرة بْن ذؤيب على جعفي ومن في حلف جعفي من إخوة جزء وزبيد وأنس اللَّه ومن لفهم، ويزيد بْن الحارث الصدائي على صداء وجنب ومسليه في ثلاثمائة، هؤلاء شهدوا من مذحج فيمن خرج من المدينة مخرج سعد منها، وخرج معه من قيس عيلان ألف عليهم بشر بْن عبد اللَّه الهلالي.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن إبراهيم، قال: خرج أهل القادسية من المدينة، وكانوا أربعة آلاف، ثلاثة آلاف منهم من أهل اليمن وألف من سائر النَّاسِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَسَهْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالُوا: وَشَيَّعَهُمْ عُمَرُ مِنْ صِرَارٍ إِلَى الأَعْوَصِ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ضَرَبَ لَكُمُ الأَمْثَالَ، وَصَرَفَ لَكُمُ الْقَوْلَ، لِيُحْيِيَ بِهِ الْقُلُوبَ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَيِّتَةٌ فِي صُدُورِهَا حَتَّى يُحْيِيَهَا اللَّهُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَنْتَفِعْ بِهِ، وَإِنَّ لِلْعَدْلِ أَمَارَاتٍ وَتَبَاشِيرَ، فَأَمَّا الأَمَارَاتُ فَالْحَيَاءُ وَالسَّخَاءُ وَالْهَيْنُ وَاللِّينُ، وَأَمَّا التَّبَاشِيرُ فَالرَّحْمَةُ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ أَمْرٍ بَابًا، وَيَسَّرَ لِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحًا، فَبَابُ الْعَدْلِ الاعْتِبَارُ وَمِفْتَاحُهُ الزُّهْدُ.
وَالاعْتِبَارُ ذِكْرُ الْمَوْتِ بِتَذَكُّرِ الأَمْوَاتِ، وَالاسْتِعْدَادِ لَهُ بِتَقْدِيمِ الأَعْمَالِ، وَالزُّهْدُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبْلَهُ حَقٌّ، وَتَأْدِيَةُ الْحَقِّ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ لَهُ حَقٌّ وَلا تُصَانِعُ فِي ذَلِكَ أَحَدًا، وَاكْتَفِ بِمَا يَكْفِيكَ مِنَ الْكَفَافِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكْفِهِ الْكَفَافُ لَمْ يُغْنِهِ شَيْءٌ إِنِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَحَدٌ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْزَمَنِي دَفْعَ الدُّعَاءِ عَنْهُ، فَانْهُوا شُكَاتَكُمْ إِلَيْنَا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِلَى مَنْ يَبْلِغُنَاهَا نَأْخُذُ لَهُ الْحَقَّ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ وَأَمَرَ سَعْدًا بِالسَّيْرِ، وَقَالَ: إِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى زَرُودَ فَانْزِلْ بِهَا، وَتَفَرَّقُوا فِيمَا حَوْلَهَا، وَانْدُبْ مَنْ حَوْلَكَ مِنْهُمْ، وَانْتَخِبْ أَهْلَ النَّجْدَةِ وَالرَّأْيِ وَالْقُوَّةِ وَالْعُدَّةِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بْن سوقة، عن رجل، قال: مرت السكون مع أول كندة مع حصين بْن نمير السكوني ومعاويه بن حديج في أربعمائة، فاعترضهم، فإذا فيهم فتية دلم سباط مع معاوية بْن حديج، فأعرض عنهم، ثم اعرض، ثم اعرض، حتى قيل له: مالك ولهؤلاء! قال: إني عنهم لمتردد، وما مر بي قوم من العرب أكره إلي منهم ثم أمضاهم، فكان بعد يكثر أن يتذكرهم بالكراهية، وتعجب الناس من رأي عمر وكان منهم رجل يقال له سودان بْن حمران، قتل عثمان بْن عفان رضي اللَّه عنه، وإذا منهم حليف لهم يقال له خالد بْن ملجم، قتل علي بْن أبي طالب رحمه اللَّه، وإذا منهم معاوية بْن حديج، فنهض في قوم منهم يتبع قتلة عثمان يقتلهم، وإذا منهم قوم يقرون قتلة عثمان.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، عَنْ مَاهَانَ، وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِ، قَالُوا: وَأَمَدَّ عُمَرُ سَعْدًا بَعْدَ خُرُوجِهِ بِأَلْفَيْ يَمَانِيٍّ وَأَلْفَيْ نَجْدِيٍّ مُؤَدٍّ مِنْ غَطَفَانَ وَسَائِرِ قَيْسٍ، فَقَدِمَ سَعْدٌ زَرُودَ فِي أَوَّلِ الشِّتَاءِ، فَنَزَلَهَا وَتَفَرَّقَتِ الْجُنُودُ فِيمَا حَوْلَهَا مِنْ أَمْوَاهِ بَنِي تَمِيمٍ وَأَسَدٍ، وَانْتَظَرَ اجْتِمَاعَ النَّاسِ، وَأَمَّرَ عُمَرُ، وَانْتَخَبَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَالرَّبَابِ أَرْبَعَةَ آلافٍ، ثَلاثَةُ آلافٍ تَمِيمِيٌّ وَأَلْفٌ رَبِيٌّ، وَانْتَخَبَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ ثَلاثَةَ آلافٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حَدِّ أَرْضِهِمْ بَيْنَ الْحَزْنِ وَالْبَسِيطَةِ، فَأَقَامُوا هُنَالِكَ بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَبَيْنَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، وَكَانَ الْمُثَنَّى فِي ثَمَانِيَةِ آلافٍ، مِنْ رَبِيعَةَ سِتَّةُ آلافٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَأَلْفَانِ مِنْ سَائِرِ رَبِيعَةَ، أَرْبَعَةُ آلافٍ مِمَّنْ كَانَ انْتُخِبَ بَعْدَ فُصُولِ خَالِدٍ، وَأَرْبَعَةُ آلافٍ كَانُوا مَعَهُ مِمَّنْ بَقِيَ يَوْمَ الْجِسْرِ وَكَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَلْفَانِ مِنْ بَجِيلَةَ، وَأَلْفَانِ مِنْ قُضَاعَةَ وَطَيِّئٍ مِمَّنِ انْتُخِبُوا إِلَى مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، عَلَى طَيِّئٍ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَلَى قُضَاعَةَ عَمْرُو بْنُ وَبَرَةَ، وَعَلَى بَجِيلَةَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَبَيْنَا النَّاسُ كَذَلِكَ، سَعْدٌ يَرْجُو أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ الْمُثَنَّى، وَالْمُثَنَّى يَرْجُو أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، مَاتَ الْمُثَنَّى مِنْ جِرَاحَتِهِ الَّتِي كَانَ جُرِحَهَا يَوْمَ الْجِسْرِ، انْتَقَضَتْ بِهِ، فَاسْتَخْلَفَ الْمُثَنَّى عَلَى النَّاسِ بَشِيرَ بْنَ الْخَصَّاصِيَّةِ، وَسَعْدٌ يَوْمَئِذٍ بِزَرُودَ، وَمَعَ بَشِيرٍ يَوْمَئِذٍ وُجُوهُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَمَعَ سَعْدٍ وُفُودُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ كَانُوا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ، مِنْهُمْ فُرَاتُ بن حيان الْعِجْلِيُّ وَعُتَيْبَةُ، فَرَدَّهُمْ مَعَ سَعْدٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد بإسناده، وزياد عن ماهان، قالا: فمن أجل ذلك اختلف الناس في عدد أهل القادسية، فمن قال: أربعة آلاف فلمخرجهم مع سعد من المدينة، ومن قال: ثمانية آلاف فلاجتماعهم بزرود، ومن قال: تسعة آلاف فللحاق القيسيين، ومن قال: اثنا عشر ألفا فلدفوف بني أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف.
وأمر سعدا بالإقدام، فأقدم ونهض إلى العراق وجموع الناس بشراف، وقدم عليه مع قدومه شراف الاشعث بن قيس في الف وسبعمائة من أهل اليمن، فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفا، وجميع من قسم عليه فيء القادسية نحو من ثلاثين ألفا.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عُنْ زِيَادٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَنْزِعُونَ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَتْ مُضَرَ تَنْزِعُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَرْحَامُكُمْ أَرْسَخُ مِنْ أَرْحَامِنَا! مَا بَالُ مُضَرَ لا تَذْكُرُ أَسْلافَهَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن أبي سعد بْن المرزبان، عمن حدثه، عن مُحَمَّد بْن حذيفة بْن اليمان، قال: لم يكن أحد من العرب أجرأ على فارس من ربيعة، فكان المسلمون يسمونهم ربيعة الأسد إلى ربيعة الفرس، وكانت العرب في جاهليتها تسمي فارس الأسد، والروم الأسد.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طَلْحَةَ، عَنْ مَاهَانَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لأَضْرِبَنَّ مُلُوكَ الْعُجْمِ بِمُلُوكِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَدَعْ رَئِيسًا، وَلا ذَا رَأْيٍ، وَلا ذَا شَرَفٍ، ولا ذا سطة، وَلا خَطِيبًا، وَلا شَاعِرًا، إِلا رَمَاهُمْ بِهِ، فَرَمَاهُمْ بِوُجُوهِ النَّاسِ وَغَرَّرَهُمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ قَدْ كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ مُرْتَحَلَهُ مِنْ زَرُودَ، أَنِ ابْعَثْ إِلَى فرج الهند رَجُلا تَرْضَاهُ يَكُونُ بِحِيَالِهِ، وَيَكُونُ رِدْءًا لَكَ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَتَاكَ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ، فبعث المغيره بن شعبه في خمسمائة، فَكَانَ بِحِيَال الأُبُلَّةِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، فَأَتَى غضيا، ونزل على جرير، وهو فِيمَا هُنَالِكَ يَوْمَئِذٍ فَلَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ بِشَرَافَ، كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِمَنْزِلِهِ وُبِمَنَازِلِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَ غُضَيٍّ إِلَى الْجَبَّانَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَعَشِّرِ النَّاسَ وَعَرِّفْ عَلَيْهِمْ، وَأَمِّرْ عَلَى أَجْنَادِهِمْ، وَعَبِّهِمْ، وَمُرْ رُؤَسَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَشْهَدُوا، وَقَدِّرْهُمْ وَهُمْ شُهُودٌ، ثُمَّ وَجِّهْهُمْ إِلَى أَصْحَابِهِمْ، وَوَاعِدْهُمُ الْقَادِسِيَّةَ، وَاضْمُمُ إِلَيْكَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي خَيْلِهِ، وَاكْتُبْ إِلَيَّ بِالَّذِي يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ فَبَعَثَ سَعْدٌ إِلَى الْمُغِيرَةِ، فَانْضَمَّ إِلَيْهِ وَإِلَى رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ، فَأَتَوُهْ، فَقَدَّرَ النَّاسَ وَعَبَّاهُمْ بِشَرَافَ، وَأَمَّرَ أُمَرَاءَ الأَجْنَادِ، وَعَرَّفَ الْعُرَفَاءَ، فَعَرَّفَ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ رَجُلا، كَمَا كانت العرافات ازمان النبي صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ كَانَتْ إِلَى أَنْ فُرِضَ الْعَطَاءُ، وَأَمَّرَ عَلَى الرَّايَّاتِ رِجَالا مِنْ أَهْلِ السَّابِقَةِ، وَعَشَّرَ النَّاسَ، وَأَمَّرَ عَلَى الأَعْشَارِ رِجَالا مِنَ النَّاسِ لَهُمْ وَسَائِلُ فِي الإِسْلامِ، وَوَلَّى الْحُرُوبَ رِجَالا، فَوَلَّى عَلَى مُقَدِّمَاتِهَا وَمُجَنِّبَاتِهَا وَسَاقَتِهَا وَمُجَرِّدَاتِهَا وَطَلائِعِهَا ورجلها وركبانها، فلم يفصل الا على تعبئة، وَلَمْ يَفْصِلْ مِنْهَا إِلا بِكِتَابِ عُمَرَ وَإِذْنِهِ، فاما أمراء التعبئة، فَاسْتَعْمَلَ زَهْرَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ الحوية بْنِ مَرْثَدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَعْنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَرْثَمَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ الأَعْرَجِ، وَكَانَ مَلِكُ هَجَرَ قَدْ سَوَّدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَوَفَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه سلم، فَقَدَّمَهُ، فَفَصَلَ بِالْمُقَدِّمَاتِ بَعْدَ الإِذْنِ مِنْ شَرَافَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْعُذَيْبِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَمِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَحَدَ التِّسْعَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَمَّمَهُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَشَرَةً، فَكَانُوا عِرَافَةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ شُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْكِنْدِيَّ -وَكَانَ غُلامًا شَابًّا، وَكَانَ قَدْ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَوَفَّى اللَّهَ، فَعُرِفَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَانَ قَدْ غَلَبَ الأَشْعَثَ عَلَى الشَّرَفِ فِيمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ، إِلَى أَنِ اخْتَطَّتِ الْكُوفَةِ وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ إِلَى الشَّامِ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ- وَجَعَلَ خَلِيفَتَهُ خَالِدَ ابن عَرْفَطَةَ، وَجَعَلَ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو التَّمِيمِيَّ ثُمَّ العمرى على الساقه، وسواد ابن مَالِكٍ التَّمِيمِيَّ عَلَى الطَّلائِعِ، وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ عَلَى الْمُجَرَّدَةِ، وَعَلَى الرجلِ حَمَّالَ بْنَ مَالِكٍ الأَسَدِيَّ، وَعَلَى الرُّكْبَانِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ذي السهمين الخثعمى، فكان أمراء التعبئة يَلُونَ الأَمِيرَ، وَالَّذِينَ يَلُونَ أُمَرَاءَ الأَعْشَارِ، وَالَّذِينَ يَلُونَ أُمَرَاءَ الأَعْشَارِ أَصْحَابُ الرَّايَاتِ، وَالَّذِينَ يَلُونَ أَصْحَابَ الرَّايَاتِ وَالْقُوَّادِ رُءُوسُ الْقَبَائِلِ، وَقَالُوا جَمِيعًا: لا يَسْتَعِينُ أَبُو بَكْرٍ فِي الرِّدَّةِ وَلا عَلَى الأَعَاجِمِ بِمُرْتَدٍّ، وَاسْتَنْفَرَهُمْ عُمَرُ وَلَمْ يُوَّلِّ مِنْهُمْ أَحَدًا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُجَالِدٍ وَعَمْرٍو بِإِسْنَادِهِمَا، وَسَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، قَالُوا: بَعَثَ عُمَرُ الأَطِبَّةَ، وَجَعَلَ عَلَى قَضَاءِ النَّاسِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ ذَا النُّورِ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ الأَقْبَاضَ وَقِسْمَةَ الْفَيْءِ، وَجَعَلَ دَاعِيَتَهُمْ وَرَائِدَهُمْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: وَالتُّرْجُمَانُ هِلالٌ الْهَجَرِيُّ وَالْكَاتِبُ زِيَادُ بْنُ أَبِي سفيان.
فلما فرغ سعد من تعبيته، وعد لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ جَمَاعًا وَرَأْسًا، كَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ سَعْدٍ فِيمَا بَيْنَ كِتَابِهِ إِلَى عُمَرَ بِالَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَبَيْنَ رُجُوعِ جَوَابِهِ وَرَحْلِهِ مِنْ شراف الى القادسية قدوم المثنى بْنِ حَارِثَةَ وَسَلْمَى بِنْتِ خَصَفَةَ التَّيْمِيَّةِ، تَيْمِ اللاتِ، إِلَى سَعْدٍ بِوَصِيَّةِ الْمُثَنَّى، وَكَانَ قَدْ أَوْصَى بِهَا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعَجِّلُوهَا عَلَى سَعْدٍ بِزَرُودَ، فَلَمْ يَفْرُغُوا لِذَلِكَ وَشَغَلَهُمْ عَنْهُ قَابُوسُ بْنُ قَابُوسَ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الآزاذمردَ بْنَ الآزاذبهِ بَعَثَهُ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، وَقَالَ لَهُ: ادْعُ الْعَرَبَ، فَأَنْتَ عَلَى مَنْ أَجَابَكَ، وَكُنْ كَمَا كَانَ آبَاؤُكَ فَنَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ، وَكَاتَبَ بَكْرَ بن وَائِلٍ بِمِثْلِ مَا كَانَ النُّعْمَانُ يُكَاتِبُهُمْ بِهِ مُقَارَبَةً وَوَعِيدًا فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمُعَنَّى خَبَرُهُ، أَسْرَى الْمُعَنَّى مِنْ ذِي قَارٍ حَتَّى بَيْتِهِ، فَأَنَامَهُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذِي قَارٍ، وَخَرَجَ مِنْهَا هُوَ وَسَلْمَى إِلَى سَعْدٍ بُوَصِيَّةِ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ وَرَأْيِهِ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ بِشَرَافَ، يَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ رَأْيَهُ لِسَعْدٍ أَلا يُقَاتِلَ عَدُوَّهُ وَعُدُوَّهُمْ -يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، إِذَا اسْتُجْمِعَ أَمْرُهُمْ وَمَلَؤُهُمْ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَى حُدُودِ أَرْضِهِمْ عَلَى أَدْنَى حَجَرٍ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ وَأَدْنَى مَدَرَةٍ مِنْ أَرْضِ الْعُجْمِ، فَإِنْ يُظْهِرِ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ مَا وَرَاءَهُمْ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَاءُوا إِلَى فِئَةٍ، ثُمَّ يَكُونُوا أَعْلَمَ بِسَبِيلِهِمْ، وَأَجْرَأَ عَلَى أَرْضِهِمْ، إِلَى أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ.
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى سَعْدٍ رَأْيُ الْمُثَنَّى وَوَصِيَّتُهُ تَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَأَمَّرَ الْمُعَنَّى عَلَى عَمَلِهِ، وَأَوْصَى بِأَهْلِ بَيْتِهِ خَيْرًا، وَخَطَبَ سَلْمَى فَتَزَوَّجَهَا وَبَنَى بِهَا، وَكَانَ فِي الأَعْشَارِ كلها بضعه وسبعون بدريا، وثلاثمائة وَبِضْعَةُ عَشْرَ مِمَّنْ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، فِيمَا بَيْنَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وثلاثمائة ممن شهد الفتح، وسبعمائة مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ، فِي جَمِيعِ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَقَدِمَ عَلَى سَعْدٍ وَهُوَ بِشَرَافِ كِتَابُ عُمَرَ بِمِثْلِ رَأْيِ الْمُثَنَّى، وَقَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ مَعَ كِتَابِ سَعْدٍ، فَفَصَلَ كِتَابَاهُمَا إِلَيْهِمَا، فَأَمَرَ أَبَا عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِهِ بِصَرْفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُمْ سِتَّةُ آلافٍ، وَمَنِ اشْتَهَى أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ، وَكَانَ كِتَابُهُ إِلَى سَعْدٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَسِرْ مِنْ شَرَافَ نَحْوَ فَارِسَ بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتَعِنْ بِهِ عَلَى أَمْرِكَ كُلِّهِ، وَاعْلَمْ فِيمَا لَدَيْكَ أَنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى أُمَّةٍ عَدَدُهُمْ كَثِيرٌ، وَعُدَّتُهُمْ فَاضِلَةٌ، وَبَأْسُهُمْ شَدِيدٌ، وَعَلَى بَلَدٍ مَنِيعٍ -وَإِنْ كان سهلا- كؤود لِبُحُورِهِ وَفُيُوضِهِ وَدَآدِئِهِ، إِلا أَنْ تُوَافِقُوا غَيْضًا مِنْ فَيْضٍ.
وَإِذَا لَقِيتُمُ الْقَوْمَ أَوْ أَحَدًا مِنْهُمْ فَابْدَءُوهُمُ الشَّدَّ وَالضَّرْبَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمُنَاظَرَةَ لِجُمُوعِهِمْ وَلا يَخْدَعَنَّكُمْ، فَإِنَّهُمْ خُدْعَةٌ مَكْرَةٌ، أَمْرُهُمْ غَيْرُ امركم، الا أَنْ تُجَادُّوهُمْ، وَإِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ -وَالْقَادِسِيَّةُ بَابُ فَارِسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ أَجْمَعُ تِلْكَ الأَبْوَابِ لِمَادَّتِهِمْ، وَلِمَا يُرِيدُونَهُ مِنَ تِلْكَ الآصل، وَهُوَ مَنْزِلٌ رَغِيبٌ خَصِيبٌ حَصِينٌ دُونَهُ قَنَاطِرٌ، وَأَنْهَارٌ مُمْتَنِعَةٌ- فَتَكُونُ مَسَالِحُكَ عَلَى أَنْقَابِهَا، وَيَكُونُ النَّاسُ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ عَلَى حَافَّاتِ الْحَجَرِ وَحَافَّاتِ الْمَدَرِ، وَالْجِرَاعُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ الْزَمْ مَكَانَكَ فلا تبرحه، فإنهم إذا احسوك انغضتهم وَرَمَوْكَ بِجَمْعِهِمُ الَّذِي يَأْتِي عَلَى خَيْلِهِمْ وَرِجْلِهِمْ وَحَدِّهِمْ وَجَدِّهِمْ، فَإِنْ أَنْتُمْ صَبَرْتُمْ لِعَدُوِّكُمْ وَاحْتَسَبْتُمْ لِقِتَالِهِ وَنَوَيْتُمُ الأَمَانَةَ، رَجَوْتُ أَنْ تُنْصَرُوا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لا يَجْتَمِعُ لَكُمْ مِثْلَهُمْ أَبَدًا إِلا أَنْ يَجْتَمِعُوا، وَلَيْسَتْ مَعَهُمْ قُلُوبُهُمْ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى كَانَ الْحَجَرُ فِي أَدْبَارِكُمْ، فَانْصَرَفْتُمْ مِنْ أَدْنَى مَدَرَةٍ مِنْ أَرْضِهِمْ إِلَى أَدْنَى حَجَرٍ مِنْ أَرْضِكُمْ، ثُمَّ كُنْتُمْ عَلَيْهَا أَجْرَأَ وَبِهَا أَعْلَمَ، وَكَانُوا عَنْهَا أَجْبَنَ وَبِهَا أَجْهَلَ، حَتَّى يَأْتِي اللَّهُ بِالْفَتْحِ عَلَيْهِمْ، وَيَرُدُّ لَكُمُ الْكَرَّةَ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا بِالْيَوْمِ الَّذِي يَرْتَحِلُ فِيهِ مِنْ شَرَافَ: فَإِذَا كَانَ يَوْمُ كَذَا وَكَذَا فَارْتَحِلْ بِالنَّاسِ حَتَّى تَنْزِلَ فِيمَا بَيْنَ عُذَيْبِ الْهَجَانَاتِ وَعُذَيْبِ الْقَوَادِسِ، وَشَرِّقْ بِالنَّاسِ وَغَرِّبْ بِهِمْ.
ثم قدم عليه كتاب جواب عُمَرَ: أَمَّا بَعْدُ، فَتُعَاهِدْ قَلْبَكَ، وَحَادِثْ جُنْدَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ، وَمَنْ غَفَلَ فَلْيُحَدِّثْهُمَا، وَالصَّبْرَ الصَّبْرَ، فَإِنَّ الْمَعُونَةَ تَأْتِي مِنَ اللَّهِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، وَالأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْحِسْبَةِ وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ عَلَى مَنْ أَنْتَ عَلَيْهِ وَمَا أَنْتَ بِسَبِيلِهِ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، وَاكْتُبْ إِلَيَّ أَيْنَ بَلَغَكَ جَمْعُهُمْ، وَمَنْ رَأْسُهُمُ الَّذِي يَلِي مُصَادَمَتَكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ مَنَعَنِي مِنْ بَعْضِ مَا أَرَدْتَ الْكِتَابَ بِهِ قِلَّةُ عِلْمِي بِمَا هَجَمْتُمْ عَلَيْهِ، وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُ عَدُوِّكُمْ، فَصِفْ لَنَا مَنَازِلَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَلَدِ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَدَائِنِ صِفَةً كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَمْرِكُمْ عَلَى الْجَلِيَّةِ، وَخَفِ اللَّهَ وَارْجُهُ، وَلا تُدْلِ بِشَيْءٍ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكُمْ وَتَوَكَّلَ لِهَذَا الأَمْرِ بِمَا لا خُلْفَ لَهُ، فَاحْذَرْ أَنْ تَصْرِفَهُ عَنْكَ، وَيُسْتَبْدَلَ بِكُمْ غَيْرُكُمْ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ بِصِفَةِ الْبُلْدَانِ: إِنَّ الْقَادِسِيَّةَ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَالْعَتِيقِ، وَإِنَّ مَا عَنْ يَسَارِ الْقَادِسِيَّةِ بَحْرٌ أَخْضَرُ فِي جَوْفٍ لاحَ إِلَى الْحِيرَةِ بَيْنَ طَرِيقَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَعَلَى الظَّهْرِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَعَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ يُدْعَى الْحَضُوضَ، يَطْلَعُ بِمَنْ سَلَكَهُ عَلَى مَا بَيْنَ الْخَوَرْنَقِ وَالْحِيرَةِ، وَمَا عَنْ يَمِينِ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى الْولجَةِ فَيْضٌ مِنْ فُيُوضِ مِيَاهِهِمْ وَإِنَّ جَمِيعَ مَنْ صَالَحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ قَبْلِي ألب لأَهْلِ فَارِسَ قَدْ خَفُّوا لَهُمْ، وَاسْتَعَدُّوا لَنَا وَإِنَّ الَّذِي أَعَدُّوا لِمُصَادَمَتِنَا رُسْتُمَ فِي أَمْثَالٍ لَهُ مِنْهُمْ، فَهُمْ يُحَاوِلُونَ إِنْغَاضَنَا وَإِقْحَامَنَا، وَنَحْنُ نُحَاوِلُ إِنْغَاضَهُمْ وَإِبْرَازَهُمْ، وَأَمْرُ اللَّهِ بَعْدُ مَاضٍ، وَقَضَاؤُهُ مُسَلِّمٌ إِلَى مَا قَدَّرَ لَنَا وَعَلَيْنَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ الْقَضَاءِ، وَخَيْرَ الْقَدَرِ فِي عَافِيَةٍ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: قَدْ جَاءَنِي كِتَابُكَ وَفَهِمْتُهُ، فَأَقِمْ بِمَكَانِكَ حَتَّى يُنْغِضَ اللَّهُ لَكَ عَدُوَّكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا مَا بَعْدَهَا، فَإِنْ مَنَحَكَ اللَّهُ أَدْبَارَهُمْ فَلا تَنْزَعْ عَنْهُمْ حَتَّى تَقْتَحِمَ عَلَيْهِمُ الْمَدَائِنَ، فَإِنَّهُ خَرَابُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَجَعَلَ عُمَرُ يَدْعُو لِسَعْدٍ خَاصَّةً، وَيَدْعُونَ لَهُ مَعَهُ، وَلِلْمُسْلِمِينَ عامه، فقدم زهره سعد حَتَّى عَسْكَرَ بِعُذَيْبِ الْهَجَانَاتِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أَثَرِهِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى زَهْرَةَ بِعُذَيْبِ الْهَجَانَاتِ، وَقَدَّمَهُ، فَنَزَلَ زَهْرَةُ الْقَادِسِيَّةَ بَيْنَ الْعَتِيقِ وَالْخَنْدَقِ بِحِيالِ الْقَنْطَرَةِ، وَقُدَيْسُ يَوْمَئِذٍ أَسْفَلُ مِنْهَا بِمَيْلٍ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الْقَعْقَاعِ بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: إِنِّي قَدْ أُلْقِيَ فِي رَوْعِي أَنَّكُمْ إذا لقيتم العدو هزمتموهم، فَاطْرَحُوا الشَّكَّ، وَآثِرُوا التَّقِيَّةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لاعَبَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنَ الْعُجْمِ بِأَمَانٍ أَوْ قرفه باشاره او بلسان، فكان لا يَدْرِي الأَعْجَمِيُّ مَا كَلَّمَهُ بِهِ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ أَمَانًا فَأَجْرُوا ذَلِكَ لَهُ مَجْرَى الأَمَانِ، وَإِيَّاكُمْ وَالضَّحِكَ وَالْوَفَاءَ الْوَفَاءَ! فَإِنَّ الْخَطَأَ بِالْوَفَاءِ بقية وان الخطا بالغدر الهلكة، وفيها وهنك وَقُوَّةُ عَدُوِّكُمْ، وَذَهَابُ رِيحِكُمْ، وَإِقْبَالُ رِيحِهِمْ وَاعْلَمُوا أَنِّي أُحَذِّرُكُمْ أَنْ تَكُونُوا شَيْنًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَسَبَبًا لِتَوْهِينِهِمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عبد اللَّه بْن مسلم العكلي والمقدام بْن أبي المقدام، عن أبيه، عن كرب بْن أبي كرب العكلي -وكان في المقدمات أيام القادسية- قال: قدمنا سعد من شراف، فنزلنا بعذيب الهجانات ثم ارتحل، فلما نزل علينا بعذيب الهجانات وذلك في وجه الصبح خرج زهرة بْن الحوية في المقدمات، فلما رفع لنا العذيب -وكان من مسالحهم- استبنا على بروجه ناسا، فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلا أو بين شرفتين إلا رأيناه، وكنا في سرعان الخيل، فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف ونحن نرى أن فيها خيلا، ثم أقدمنا على العذيب، فلما دنونا منه، خرج رجل يركض نحو القادسية، فانتهينا إليه، فدخلناه فإذا ليس فيه أحد، وإذا ذلك الرجل هو الذي كان يتراءى لنا على البروج وهو بين الشرف مكيدة، ثم انطلق بخبرنا، فطلبناه فأعجزنا، وسمع بذلك زهرة فاتبعنا، فلحق بنا وخلفنا واتبعه وقال: إن أفلت الربيء أتاهم الخبر فلحقه بالخندق فطعنه فجدله فيه، وكان أهل القادسية يتعجبون من شجاعة ذلك الرجل، ومن علمه بالحرب، لم ير عين قوم قط أثبت ولا أربط جأشا من ذلك الفارسي، لولا بعد غايته لم يلحق به، ولم يصبه زهرة، ووجد المسلمون في العذيب رماحا ونشابا وأسفاطا من جلود وغيرها، انتفع بها المسلمون ثم بث الغارات، وسرحهم في جوف الليل، وأمرهم بالغارة على الحيرة، وأمر عليهم بكير بْن عبد اللَّه الليثي -وكان فيها الشماخ الشاعر القيسي في ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس- فسروا حتى جازوا السيلحين، وقطعوا جسرها يريدون الحيرة، فسمعوا جلبة وأزفلة، فأحجموا عن الإقدام، وأقاموا كمينا حتى يتبينوا، فما زالوا كذلك حتى جازوا بهم، فإذا خيول تقدم تلك الغوغاء، فتركوها فنفذت الطريق إلى الصنين، وإذا هم لم يشعروا بهم، وإنما ينتظرون ذلك العين لا يريدونهم، ولا يأبهون لهم، إنما همتهم الصنين، وإذا اخت آزاذ مرد بْن آزاذبه مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين -وكان من أشراف العجم- فسار معها من يبلغها مخافة ما هو دون الذي لقوا، فلما انقطعت الخيل عن الزواف، والمسلمون كمين في النخل، وجازت بهم الأثقال، حمل بكير على شيرزاذ بْن أزاذبه، وهو بينها وبين الخيل، فقصم صلبه، وطارت الخيل على وجوهها، وأخذوا الأثقال وابنة آزاذبه في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع، ومعهم ما لا يدرى قيمته، ثم عاج واستاق ذلك، فصبح سعدا بعذيب الهجانات بما أفاء اللَّه على المسلمين، فكبروا تكبيرة شديدة فقال سعد: أقسم بالله لقد كبرتم تكبيرة قوم عرفت فيهم العز، فقسم ذلك سعد على المسلمين فالخمس نفله، وأعطى المجاهدين بقيته، فوقع منهم موقعا، ووضع سعد بالعذيب خيلا تحوط الحريم، وانضم إليها حاطة كل حريم، وأمر عليهم غالب بْن عبد اللَّه الليثي، ونزل سعد القادسية، فنزل بقديس، ونزل زهرة بحيال قنطرة العتيق في موضع القادسية اليوم، وبعث بخبر سرية بكير، وبنزوله قديسا، فأقام بها شهرا، ثم كتب إلى عمر: لم يوجه القوم إلينا أحدا، ولم يسندوا حربا إلى أحد علمناه، ومتى ما يبلغنا ذلك نكتب به، واستنصر اللَّه، فإنا بمنحاة دنيا عريضة، دونها بأس شديد، قد تقدم إلينا في الدعاء إليهم، فقال: {سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: 16].
وبعث سعد في مقامه ذلك إلى أسفل الفرات عاصم بْن عمرو فسار حتى أتى ميسان، فطلب غنما أو بقرا فلم يقدر عليها، وتحصن منه من في الأفدان، ووغلوا في الآجام، ووغل حتى أصاب رجلا على طف أجمة، فسأله واستدله على البقر والغنم، فحلف له وقال: لا أعلم، وإذا هو راعي ما في تلك الأجمة، فصاح منها ثور كذب والله وها نحن أولاء، فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر، فقسم ذلك سعد على الناس فأخصبوا أياما، وبلغ ذلك الحجاج في زمانه، فأرسل إلى نفر ممن شهدها أحدهم نذير بْن عمرو والوليد بْن عبد شمس وزاهر، فسألهم فقالوا: نعم، نحن سمعنا ذلك، ورأيناه واستقناها، فقال: كذبتم! فقالوا: كذلك، إن كنت شهدتها وغبنا عنها، فقال: صدقتم، فما كان الناس يقولون في ذلك؟ قالوا: آية تبشير يستدل بها على رضا اللَّه، وفتح عدونا، فقال: والله ما يكون هذا إلا والجمع أبرار أتقياء، قالوا: والله ما ندري ما أجنت قلوبهم، فأما ما رأينا فإنا لم نر قوما قط أزهد في دنيا منهم، ولا أشد لها بغضا، ما اعتد على رجل منهم في ذلك اليوم بواحدة من ثلاث، لا بجبن ولا بغدر ولا بغلول، وكان هذا اليوم يوم الأباقر، وبث الغارات بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما كانوا يستكفون به زمانا، وبعث سعد عيونا إلى أهل الحيرة وإلى صلوبا، ليعلموا له خبر أهل فارس، فرجعوا إليه بالخبر، بأن الملك قد ولى رستم بْن الفرخزاذ الأرمني حربه، وأمره بالعسكرة فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالا من أهل المنظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن اللَّه جاعل دعاءهم توهينا لهم، وفَلْجا عليهم، واكتب إلي في كل يوم ولما عسكر رستم بساباط كتبوا بذلك إلى عمر.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حازم، قالا: لما بلغ سعدا فصول رُسْتُمَ إِلَى سَابَاطَ، أَقَامَ فِي عَسْكَرِهِ لاجْتِمَاعِ النَّاسِ، فَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ أَنَّ رُسْتُمَ قَدْ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ بِسَابَاطَ دُونَ الْمَدَائِنِ وَزَحَفَ إِلَيْنَا، وَأَمَّا أَبُو ضَمْرَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ رُسْتُمَ قَدْ عَسْكَرَ بِسَابَاطَ، وَزَحَفَ إِلَيْنَا بِالْخُيُولِ وَالْفُيُولِ وَزُهَاءِ فَارِسَ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ وَلا أَنَا لَهُ أَكْثَرُ ذِكْرًا مِنِّي لِمَا أَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ عَلَيْهِ، وَنَسْتَعِينُ بِاللَّهِ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ بعثت فلانا وفلانا وهم ما وصفت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عَمْرٍو وَالْمُجَالِدِ بِإِسْنَادِهِمَا، وَسَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ جَاءَهُ أَمْرُ عُمَرَ فِيهِمْ، جَمَعَ نَفَرًا عَلَيْهِمْ نِجَارٌ، وَلَهُمْ آرَاءٌ، وَنَفَرًا لَهُمْ مَنْظَرٌ، وَعَلَيْهِمْ مَهَابَةٌ وَلَهُمْ آرَاءٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ عَلَيْهِمْ نِجَارٌ وَلَهُمْ آرَاءٌ وَلَهُمُ اجْتِهَادٌ فَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ وَبُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ وَحَمَلَةُ بْنُ جُوَيَّةَ الْكِنَانِيُّ وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ التَّمِيمِيُّ وَفُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ الْعِجْلِيُّ وعدى بن سهيل والمغيره بن زراره بْنُ النَّبَّاشِ بْنِ حَبِيبٍ، وَأَمَّا مَنْ لَهُمْ مَنْظَرٌ لأَجْسَامِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ مَهَابَةٌ وَلَهُمْ آرَاءٌ، فَعُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ وَالأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَالْحَارِثُ بْنُ حسان وعاصم بن عمرو وعمرو ابن معديكرب والمغيره بن شعبه والمثنى بْنُ حَارِثَةَ، فَبَعَثَهُمْ دُعَاةً إِلَى الْمَلِكِ.
حَدَّثَنِي محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عبد الرحمن، قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: جَاءَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ، وَمَعَهُ النَّاسُ، قَالَ: لا أَدْرِي لَعَلَّنَا لا نَزِيدُ عَلَى سَبْعَةِ آلافٍ أَوْ نحو من ذلك، والمشركين ثَلاثُونَ أَلْفًا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَقَالُوا لَنَا: لا يدي لَكُمْ وَلا قوة وَلا سِلاح، ما جاء بكم؟ ارجعوا، قَالَ: قُلْنَا: لا نَرْجِعُ، وَمَا نَحْنُ بِرَاجِعِينَ، فَكَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ نُبْلِنَا، وَيَقُولُونَ: دوك دوك، وَيُشَبِّهُونَهَا بِالْمَغَازِلِ قَالَ: فَلَمَّا أَبَيْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ نَرْجِعَ، قَالُوا: ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلا مِنْكُمْ، عَاقِلا يُبَيِّنُ لَنَا مَا جَاءَ بِكُمْ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَنَا، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ، فَقَعَدَ مَعَ رُسْتُمَ عَلَى السَّرِيرِ، فَنَخَرُوا وَصَاحُوا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَزِدْنِي رِفْعَةً، وَلَمْ يُنْقِصْ صَاحِبَكُمْ، قَالَ رُسْتُمَ: صَدَقْتَ، مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالَ: انا كنا قوما في شر وَضَلالَةٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا، فَهَدَانَا اللَّهُ بِهِ وَرَزَقَنَا عَلَى يَدَيْهِ، فَكَانَ مِمَّا رَزَقَنَا حَبَّةٌ زعمت تَنْبُتُ بِهَذَا الْبَلَدِ، فَلَمَّا أَكَلْنَاهَا وَأَطْعَمْنَاهَا أَهْلِينَا قَالُوا: لا صَبْرَ لَنَا عَنْ هَذِهِ، أَنْزِلُونَا هَذِهِ الأَرْضَ حَتَّى نَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ الْحَبَّةِ، فَقَالَ رُسْتُمُ: إِذًا نَقْتُلَكُمْ، فَقَالَ: ان قتلتمونا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، وَإِنْ قَتَلْنَاكُمْ دَخَلْتُمُ النَّارَ، أَوْ أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ قَالَ: فَلَمَّا قَالَ: أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ، نَخَرُوا وَصَاحُوا، وَقَالُوا: لا صُلْحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَقَالَ: الْمُغِيرَةُ: تَعْبُرُونَ إِلَيْنَا أَوْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالَ رُسْتُمُ: بَلْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ، فَاسْتَأْخَرَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى عَبَرَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَرَ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فهزموهم.
قَالَ حُصَيْنٌ: فَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ بْنُ جَحْشٍ السُّلَمِيُّ، قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَإِنَّا لَنَطَأُ عَلَى ظُهُورِ الرِّجَالِ، مَا مَسَّهُمْ سِلاحٌ، قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا أَصَبْنَا جِرَابًا مِنْ كَافُورٍ، فَحَسِبْنَاهُ مِلْحًا لا نَشُكُّ أَنَّهُ مِلْحٌ، فَطَبَخْنَا لَحْمًا، فَجَعَلْنَا نُلْقِيهِ فِي الْقِدْرِ فَلا نَجِدْ لَهُ طَعْمًا، فَمَرَّ بِنَا عبادي مَعَهُ قَمِيصٌ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُعَرِّبِينَ، لا تُفْسِدُوا طَعَامَكُمْ، فَإِنَّ مِلْحَ هَذِهِ الأَرْضِ لا خَيْرَ فِيهِ، هَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا هَذَا الْقَمِيصَ بِهِ؟ فَأَخَذْنَاهُ مِنْهُ، وَأَعْطَيْنَاهُ مِنَّا رَجُلا يَلْبَسُهُ، فَجَعَلْنَا نُطِيفُ بِهِ وَنَعْجَبُ مِنْهُ، فَلَمَّا عَرَفْنَا الثِّيَابَ، إِذَا ثَمَنُ ذَلِكَ الْقَمِيصِ دِرْهَمَانِ قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَقْرَبَ إِلَى رَجُلٍ عَلَيْهِ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، وَسِلاحُهُ، فَجَاءَ فَمَا كَلَّمْتُهُ حَتَّى ضَرَبْتُ عُنُقَهُ.
قَالَ: فَانْهَزَمُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الصَّرَاةِ، فَطَلَبْنَاهُمْ فَانْهَزَمُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَدَائِنِ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بِكُوثَى وَكَانَ مَسْلَحَةُ الْمُشْرِكِينَ بِدَيْرِ الْمِسْلاخِ، فَأَتَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَالْتَقَوْا، فَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى نَزَلُوا بِشَاطِئِ دِجْلَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَبَرَ مِنْ كَلْوَاذَى، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَرَ مِنْ أَسْفَلِ الْمَدَائِنِ، فَحَصَرُوهُمْ حَتَّى مَا يَجِدُونَ طَعَامًا يَأْكُلُونَهُ، إِلا كِلابَهُمْ وَسَنَانِيرَهُمْ فَخَرَجُوا لَيْلا، فَلَحِقُوا بِجَلُولاءَ، فَأَتَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَعَلَى مُقَدِّمَةِ سَعْدٍ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، وَمَوْضِعُ الْوَقْعَةِ الَّتِي أَلْحَقَهُمْ مِنْهَا فَرِيدٌ قَالَ أَبُو وَائِلٍ: فَبَعَثَ عُمَرُ بن الخطاب حذيفة ابن الْيَمَانِ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالُوا: فَخَرَجُوا مِنَ الْعَسْكَرِ حَتَّى قَدِمُوا الْمَدَائِنَ احْتِجَاجًا وَدُعَاةً لِيَزْدَجَرْدَ، فَطَوَوْا رُسْتُمَ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى بَابِ يَزْدَجَرْدَ، فَوَقَفُوا عَلَى خُيُولٍ عَرَواتٍ، مَعَهُمْ جَنَائِبُ، وَكُلُّهَا صَهَّالٌ، فَاسْتَأْذَنُوا فَحُبِسُوا، وَبَعَثَ يَزْدَجَرْدُ إِلَى وُزَرَائِهِ وَوَجُوهِ أَرْضِهِ يَسْتَشِيرَهُمْ فِيمَا يَصْنَعُ بِهِمْ، وَيَقُولُهُ لَهُمْ، وَسَمِعَ بِهِمُ النَّاسُ فَحَضَرُوهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، وَعَلَيْهِمُ الْمُقَطَّعَاتُ وَالْبُرُودُ، وَفِي أَيْدِيهِمْ سِيَاطٌ دِقَاقٌ، وَفِي أَرْجُلِهِمُ النِّعَالُ فَلَمَّا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ أَذِنَ لَهُمْ فَأُدْخِلُوا عَلَيْهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن طلحة، عن بنت كيسان الضبية، عن بعض سبايا القادسية ممن حسن إسلامه، وحضر هذا اليوم الذي قدم فيه وفود العرب قال: وثاب إليهم الناس ينظرون إليهم، فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط ويوعد بعضها بعضا وجعل أهل فارس يسوءهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس، وكان سَيِّئَ الأدب، فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان بينه وبينهم فقال: سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ فسأل النعمان -وكان على الوفد: ما تسمي رداءك؟ قال: البرد، فتطير وقال: بردجهان، وتغيرت ألوان فارس وشق ذلك عليهم ثم قال: سلهم عن أحذيتهم، فقال: ما تسمون هذه الاحذيه؟ فقال: النعمان، فعاد لمثلها، فقال: ناله ناله في أرضنا، ثم سأله عن الذي في يده فقال: سوط، والسوط بالفارسية الحريق، فقال: أحرقوا فارس أحرقهم اللَّه! وكان تطيره على أهل فارس، وكانوا يجدون من كلامه.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، بمثله وزاد: ثم قال الملك: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟
أمن أجل أنا أجممناكم، وتشاغلنا عنكم، اجترأتم علينا! فقال لهم النعمان ابن مقرن: إن شئتم أجبت عنكم، ومن شاء آثرته فقالوا: بل تكلم، وقالوا للملك: كلام هذا الرجل كلامنا فتكلم النعمان، فقال: إن اللَّه رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين، فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص فمكث بذلك ما شاء اللَّه أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب، وبدأ بهم وفعل، فدخلوا معه جميعا على وجهين: مكره عليه فاغتبط، وطائع أتاه فازداد، فعرفنا جميعا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب اللَّه، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم.
قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم لا تغزون فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم.
فأسكت القوم فقام المغيرة بْن زرارة بْن النباش الأسيدي، فقال: أيها الملك، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، ويفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك، فجاوبني لأكون الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك، أنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالما، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، فنرى ذلك طعامنا وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث اللَّه إلينا رجلا معروفا، نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا الى امر فلم يجبه احد قبل ترب كان له وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئا إلا كان، فقذف اللَّه في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول اللَّه، وما أمرنا فهو أمر اللَّه، فقال لنا: إن ربكم يقول: إني أنا اللَّه وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء، وإلي يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري، دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم فمن قتل منكم أدخلته جنى، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك.
فقال: أتستقبلني بمثل هذا! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، وقال: ائتوني بوقر من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم حتى يدفيكم ويدفيه في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم، حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.
ثم قال: من أشرفكم؟ فسكت القوم، فقال عاصم بْن عمرو -وافتات ليأخذ التراب-: أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملنيه، فقال: أكذاك؟ قالوا: نعم، فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها، ثم انجذب في السير، فأتوا به سعدا وسبقهم عاصم فمر بباب قديس فطواه، فقال: بشروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء اللَّه.
ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر، ثم رجع فدخل على سعد، فأخبره الخبر فقال: أبشروا فقد والله أعطانا اللَّه أقاليد ملكهم وجاء أصحابه وجعلوا يزدادون في كل يوم قوة، ويزداد عدوهم في كل يوم وهنا، واشتد ما صنع المسلمون، وصنع الملك من قبول التراب على جلساء الملك، وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم، وكيف رآهم، فقال الملك: ما كنت أرى أن في العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا علي وما أنتم بأعقل منهم، ولا أحسن جوابا منهم، وأخبره بكلام متكلمهم، وقال: لقد صدقني القوم، لقد وعد القوم أمرا ليدركنه أو ليموتن عليه، على أني قد وجدت أفضلهم أحمقهم، لما ذكروا الجزية أعطيته ترابا فحمله على رأسه، فخرج به، ولو شاء اتقى بغيره، وأنا لا أعلم.
قال: أيها الملك، إنه لأعقلهم، وتطير إلى ذلك، وأبصرها دون أصحابه.
وخرج رستم من عنده كئيبا غضبان -وكان منجما كاهنا- فبعث في أثر الوفد، وقال لثقته: إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا، وإن أعجزوه سلبكم اللَّه أرضكم وأبناءكم فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم غير ذي شك، ما كان من شأن ابن الحجامة الملك! ذهب القوم بمفاتيح أرضنا! فكان ذلك مما زاد اللَّه به فارس غيظا وأغاروا بعد ما خرج الوفد إلى يزدجرد، إلى أن جاءوا إلى صيادين قد اصطادوا سمكا، وسار سواد بْن مالك التميمي إلى النجاف والفراض الى جنبها، فاستاق ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور، فأوقروها سمكا، واستاقوها، فصبحوا العسكر، فقسم السمك بين الناس سعد، وقسم الدواب، ونفل الخمس إلا ما رد على المجاهدين منه، وأسهم على السبي، وهذا يوم الحيتان، وقد كان الآزاذمرد ابن الآزاذبه خرج في الطلب، فعطف عليه سواد وفوارس معه، فقاتلهم على قنطرة السيلحين، حتى عرفوا أن الغنيمة قد نجت، ثم اتبعوها فأبلغوها المسلمين، وكانوا إنما يقرمون إلى اللحم، فأما الحنطة والشعير والتمر والحبوب، فكانوا قد اكتسبوا منها ما اكتفوا به لو أقاموا زمانا، فكانت السرايا إنما تسري للحوم، ويسمون أيامها بها، ومن أيام اللحم يوم الأباقر ويوم الحيتان وبعث مالك بْن ربيعة بْن خالد التيمي، تيم الرباب، ثم الواثلي ومعه المساور بْن النعمان التيمي ثم الربيعي في سرية أخرى، فأغارا على الفيوم، فأصابا إبلا لبني تغلب والنمر فشلاها ومن فيها، فغدوا بها على سعد، فنحرت الإبل في الناس واخصبوا، واغار على النهرين عمرو ابن الحارث، فوجدوا على باب ثوراء مواشي كثيرة، فسلكوا أرض شيلى -وهي اليوم نهر زياد- حتى أتوا بها العسكر.
وقال عمرو: ليس بها يومئذ إلا نهران وكان بين قدوم خالد العراق ونزول سعد القادسية سنتان وشيء وكان مقام سعد بها شهرين وشيئا حتى ظفر.
قال -والإسناد الأول-: وكان من حديث فارس والعرب بعد البويب أن الأنوشجان بْن الهربذ خرج من سواد البصرة يريد أهل غضي، فاعترضه أربعة نفر على أفناء تميم، وهم بإزائهم: المستورد وهو على الرباب، وعبد اللَّه بْن زيد يسانده، الرباب بينهما، وجزء بْن معاوية وابن النابغة يسانده، سعد بينهما، والحصين بْن نيار والأعور بْن بشامة يسانده على عمرو، والحصين بْن معبد والشبه على حنظلة، فقتلوه دونهم وقدم سعد فانضموا إليه هم وأهل غضي وجميع تلك الفرق.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: وعج أهل السواد إلى يزدجرد بْن شهريار، وأرسلوا إليه أن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب، وإن فعل العرب مذ نزلوا القادسية لا يبقى عليه شيء، وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات، وليس فيما هنالك أنيس إلا في الحصون، وقد ذهب الدواب وكل شيء لم تحتمله الحصون من الأطعمة، ولم يبق إلا أن يستنزلونا، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطف، وأعانوهم عليه، وهيجوه على بعثه رستم.
ولما بدا ليزدجرد أن يرسل رستم أرسل إليه، فدخل عليه، فقال له: إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه، وإنما يعد للأمور على قدرها، وأنت رجل أهل فارس اليوم، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم مثله منذ ولي آل أردشير فأراه أن قد قبل منه، وأثنى عليه.
فقال له الملك: قد أحب أن أنظر فيما لديك لأعرف ما عندك، فصف لي العرب وفعلهم منذ نزلوا القادسية، وصف لي العجم وما يلقون منهم.
فقال رستم: صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت فقال: ليس كذلك، إني إنما سألتك رجاء أن تعرب صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب، فافهم عني، إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفى على جبل يأوي إليه الطير بالليل، فتبيت في سفحه في أوكارها، فلما أصبحت تجلت الطير، فأبصرته يرقبها، فإن شذ منها شيء اختطفه، فلما أبصرته الطير لم تنهض من مخافته، وجعلت كلما شذ منها طائر اختطفه، فلو نهضت نهضة واحدة ردته، وأشد شيء يكون في ذلك أن تنجو كلها إلا واحدا، وإن اختلفت لم تنهض فرقة إلا هلكت، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم، فاعمل على قدر ذلك فقال له رستم: أيها الملك، دعني، فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضرهم بي، ولعل الدولة أن تثبت بي فيكون اللَّه قد كفى، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأي الحرب، فإن الرأي فيها والمكيدة أنفع من بعض الظفر فأبى عليه، وقال: أي شيء بقي! فقال رستم: إن الأناة في الحرب خير من العجلة، وللأناة اليوم موضع، وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا فلج وأبى، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط، وجعلت تختلف إلى الملك الرسل ليرى موضعا لإعفائه وبعثة غيره، ويجتمع إليه الناس وجاء العيون إلى سعد بذلك من قبل الحيرة وبني صلوبا، وكتب إلى عمر بذلك ولما كثرت الاستغاثة على يزدجرد من أهل السواد على يدي الآزاذمرد بْن الآزاذبه جشعت نفسه، واتقى الحرب برستم، وترك الرأي -وكان ضيقا لجوجا- فاستحث رستم، فأعاد عليه رستم القول، وقال: أيها الملك، لقد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها، ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به، فأنشدك اللَّه في نفسك وأهلك وملكك، دعني أقم بعسكري وأسرح الجالنوس، فإن تكن لنا فذلك، وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره، حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة صبرنا لهم، وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون فأبى إلا أن يسير.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بْن السري الضبي، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم بساباط، وجمع آلة الحرب وأداتها بعث على مقدمته الجالنوس في أربعين ألفا، وقال: ازحف زحفا، ولا تنجذب إلا بأمري، واستعمل على ميمنته الهرمزان، وعلى ميسرته مهران بْن بهرام الرازي، وعلى ساقته البيرزان، وقال رستم ليشجع الملك: إن فتح اللَّه علينا القوم فهو وجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم، إلى أن يقبلوا المسالمة أو يرضوا بما كانوا يرضون به فلما قدمت وفود سعد على الملك، ورجعوا من عنده رأى رستم فيما يرى النائم رؤيا فكرهها، وأحس بالشر، وكره لها الخروج ولقاء القوم، واختلف عليه رأيه واضطرب وسأل الملك أن يمضي الجالنوس ويقيم حتى ينظر ما يصنعون، وقال: إن غناء الجالنوس كغنائي، وإن كان اسمي أشد عليهم من اسمه، فإن ظفر فهو الذي نريد، وإن تكن الأخرى وجهت مثله، ودفعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما، فإني لا أزال مرجوا في أهل فارس، ما لم أهزم ينشطون، ولا أزال مهيبا في صدور العرب، ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم، فإن باشرتهم اجترءوا آخر دهرهم، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم فبعث مقدمته أربعين ألفا، وخرج في ستين ألفا، وساقته في عشرين ألفا.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: وخرج رستم في عشرين ومائة ألف، كلهم متبوع، وكانوا بأتباعهم أكثر من مائتي ألف، وخرج من المدائن في ستين ألف متبوع.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة، أن رستم زحف لسعد وهو بالقادسية في ستين ألف متبوع.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة، أن رستم زحف لسعد وهو بالقادسية في ستين ألف متبوع.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما أبى الملك إلا السير، كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس أهل بلادهم: من رستم إلى البندوان مرزبان الباب، وسهم أهل فارس، الذي كان لكل كون يكون، فيفض اللَّه به كل جند عظيم شديد، ويفتح به كل حصن حصين، ومن يليه، فرموا حصونكم، وأعدوا واستعدوا، فكأنكم بالعرب قد وردوا بلادكم، وقارعوكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود سعودهم نحوسا، فأبى الملك.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن الصلت بن بهرام، عن رجل، أن يزدجرد لما أمر رستم بالخروج من ساباط، كتب إلى أخيه بنحو من الكتاب الأول، وزاد فيه: فإن السمكة قد كدرت الماء، وإن النعائم قد حسنت، وحسنت الزهرة، واعتدل الميزان، وذهب بهرام، ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا، ويستولون على ما يلينا وإن أشد ما رأيت أن الملك قال: لتسيرن إليهم أو لأسيرن إليهم أنا بنفسي فأنا سائر إليهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى، وكان من أهل فرات بادقلى، فأرسل إليه فقال: ما ترى في مسير رستم وحرب العرب اليوم؟ فخافه على الصدق فكذبه، وكان رستم يعلم نحوا من علمه، فثقل عليه مسيره لعلمه، وخف على الملك لما غره منه، وقال: انى أحب ان تخبرني بشيء أراه اطمان به إلى قولك، فقال الغلام لزرنا الهندي: أخبره، فقال: سلني، فسأله فقال: أيها الملك يقبل طائر فيقع على إيوانك فيقع منه شيء في فيه هاهنا -وخط دارة- فقال العبد: صدق، والطائر غراب، والذى في فيه درهم وبلغ جابان أن الملك طلبه، فأقبل حتى دخل عليه، فسأله عما قال غلامه، فحسب فقال: صدق ولم يصب، هو عقعق، والذي في فيه درهم، فيقع منه على هذا المكان، وكذب زرنا.
ينزو الدرهم فيستقر هاهنا -ودور دارة أخرى- فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق، فسقط منه الدرهم في الخط الأول، فنزا فاستقر في الخط الآخر ونافر الهندي جابان حيث خطأه، فأتيا ببقرة نتوج، فقال الهندي:
سخلتها غراء سوداء، فقال جابان: كذبت، بل سوداء صبغاء، فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها، فإذا هي ذنبها بين عينيها، فقال جابان: من هاهنا أتي زرنا، وشجعاه على إخراج رستم، فأمضاه، وكتب جابان إلى جشنسماه: إن أهل فارس قد زال أمرهم، وأديل عدوهم عليهم، وذهب ملك المجوسية، وأقبل ملك العرب، وأديل دينهم، فاعتقد منهم الذمة، ولا تخلبنك الأمور، والعجل العجل قبل أن تؤخذ! فلما وقع الكتاب إليه خرج جشنسماه إليهم حتى أتى الْمُعَنَّى، وهو في خيل بالعتيق، وأرسله إلى سعد، فاعتقد منه على نفسه وأهل بيته ومن استجاب له ورده، وكان صاحب أخبارهم وأهدى للمعنى فالوذق، فقال لامرأته: ما هذا؟ فقالت: أظن البائسة امرأته أراغت العصيدة فأخطأتها، فقال الْمُعَنَّى: بؤسا لها!
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما فصل رستم من ساباط، لقيه جابان على القنطرة، فشكا إليه، وقال: ألا ترى ما أرى؟ فقال له رستم: أما أنا فأقاد بخشاش وزمام، ولا أجد بدا من الانقياد وأمر الجالنوس حتى قدم الحيرة، فمضى واضطرب فسطاطه بالنجف، وخرج رستم حتى ينزل بكوثى، وكتب إلى الجالنوس والآزاذمرد: أصيبا لي رجلا من العرب من جند سعد فركبا بأنفسهما طليعة، فأصابا رجلا، فبعثا به إليه وهو بكوثى فاستخبره، ثم قتله.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما فصل رستم، وأمر الجالنوس بالتقدم إلى الحيرة، أمره أن يصيب له رجلا من العرب، فخرج هو والآزاذمرد سرية في مائة، حتى انتهيا إلى القادسية، فأصابا رجلا دون قنطرة القادسية فاختطفاه، فنفر الناس فأعجزوهم إلا ما أصاب المسلمون في أخرياتهم.
فلما انتهيا إلى النجف سرحا به إلى رستم، وهو بكوثى، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ قال: جئنا نطلب موعود اللَّه، قال: وما هو؟
قال: أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أبيتم أن تسلموا قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: في موعود اللَّه أن من قتل منا قبل ذلك أدخله الجنة، وأنجز لمن بقي منا ما قلت لك، فنحن على يقين. فقال رستم: قد وضعنا إذا في أيديكم، قال: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم اللَّه بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تحاول الانس، انما تحاول القضاء والقدر! فاستشاط غضبا، فأمر به فضربت عنقه، وخرج رستم من كوثى، حتى ينزل ببرس، فغصب أصحابه الناس أموالهم ووقعوا على النساء، وشربوا الخمور فضج العلوج إلى رستم، وشكوا إليه ما يلقون في أموالهم وأبنائهم فقام فيهم، فقال: يا معشر أهل فارس، والله لقد صدق العربي، والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله للعرب في هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم إن اللَّه كان ينصركم على العدو، ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة وكف الظلم والوفاء بالعهود والإحسان، فأما إذ تحولتم عن ذلك إلى هذه الأعمال، فلا أرى اللَّه إلا مغيرا ما بكم، وما أنا بآمن أن ينزع اللَّه سلطانه منكم وبعث الرجال، فلقطوا له بعض من يشكى فأتي بنفر، فضرب أعناقهم، ثم ركب ونادى في الناس بالرحيل، فخرج ونزل بحيال دير الأعور، ثم انصب إلى الملطاط، فعسكر مما يلي الفرات بحيال أهل النجف بحيال الخورنق إلى الغريين، ودعا بأهل الحيرة، فأوعدهم وهم بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا اثنتين: أن تعجز عن نصرتنا، وتلومنا على الدفع عن أنفسنا وبلادنا فسكت.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، والمقدام الحارثي عمن ذكره، قالا: دعا رستم أهل الحيرة وسرادقه إلى جانب الدير، فقال: يا أعداء اللَّه، فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا، وكنتم عيونا لهم علينا، وقويتموهم بالأموال! فاتقوه بابن بقيله، وقالوا له: كن أنت الذي تكلمه، فتقدم، فقال: أما أنت وقولك: إنا فرحنا بمجيئهم، فماذا فعلوا؟ وبأي ذلك من أمورهم نفرح! إنهم ليزعمون أنا عبيد لهم، وما هم على ديننا، وإنهم ليشهدون علينا أنا من أهل النار. وأما قولك: إنا كنا عيونا لهم، فما الذي يحوجهم إلى أن نكون عيونا لهم، وقد هرب أصحابكم منهم، وخلوا لهم القرى! فليس يمنعهم أحد من وجه أرادوه، إن شاءوا أخذوا يمينا أو شمالا وأما قولك: إنا قويناهم بالأموال، فإنا صانعناهم بالأموال عن أنفسنا، وإذ لم تمنعونا مخافة أن نسبى وأن نحرب، وتقتل مقاتلتنا -وقد عجز منهم من لقيهم منكم- فكنا نحن أعجز، ولعمري لأنتم أحب إلينا منهم، وأحسن عندنا بلاء، فامنعونا منهم لكن لكم أعوانا، فإنما نحن بمنزلة علوج السواد، عبيد من غلب؛ فقال رستم: صدقكم الرجل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: رأى رستم بالدير أن ملكا جاء حتى دخل عسكر فارس، فختم السلاح أجمع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَشَارَكَهُمُ النَّضْرُ بِإِسْنَادِهِ، قَالُوا: وَلَمَّا اطْمَأَنَّ رُسْتُمُ أَمَرَ الْجَالِنُوسَ أَنْ يَسِيرَ مِنَ النَّجَفِ، فَسَارَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، فَنَزَلَ فِيمَا بَيْنَ النَّجَفِ وَالسَّيْلَحِينِ، وَارْتَحَلَ رُسْتُمُ، فَنَزَلَ النَّجَفَ -وَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِ رُسْتُمَ مِنَ الْمَدَائِنِ وَعَسْكَرَتِهِ بِسَابَاطَ وَزَحْفِهِ مِنْهَا إِلَى أَنْ لَقِيَ سَعْدًا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، لا يُقْدِمُ وَلا يُقَاتِلُ- رَجَاءَ أَنْ يَضْجُرُوا بِمَكَانِهِمْ، وَأَنْ يُجْهَدُوا فَيَنْصَرِفُوا، وَكَرِهَ قِتَالَهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَلْقَى مَا لَقِيَ مَنْ قَبْلَهُ، وَطَاوَلَهُمْ لَوْلا مَا جَعَلَ الْمَلِكُ يَسْتَعْجِلُهُ وَيُنْهِضُهُ وَيُقَدِّمُهُ، حَتَّى أَقْحَمَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ رُسْتُمُ النَّجَفَ عَادَتْ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا، فَرَأَى ذَلِكَ الْمَلَكُ ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وَعُمَرُ، فَأَخَذَ الْمَلَكُ سِلاحَ أَهْلِ فارس، فختمه، ثم دفعه الى النبي صلى الله عليه وسلم، فَدَفَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُمَرَ فَأَصْبَحَ رُسْتُمُ، فَازْدَادَ حُزْنًا، فَلَمَّا رَأَى الرُّفَيْلُ ذَلِكَ رَغِبَ فِي الإِسْلامِ، فَكَانَتْ دَاعِيَتُهُ إِلَى الإِسْلامِ.
وَعَرَفَ عُمَرُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيُطَاوِلُونَهُمْ، فَعَهِدَ إِلَى سَعْدٍ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوا حُدُودَ أَرْضِهِمْ، وَأَنْ يُطَاوِلُوهُمْ أَبَدًا حَتَّى يُنْغِضُوهُمْ، فَنَزَلُوا الْقَادِسِيَّةَ، وَقَدْ وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَالْمُطَاوَلَةِ، وَأَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، فَأَقَامُوا وَاطْمَأَنُّوا، فَكَانُوا يُغِيرُونَ عَلَى السَّوَادِ، فَانْتَسَفُوا مَا حَوْلَهُمْ فَحَوَوْهُ وَأَعَدُّوا لِلْمُطَاوَلَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ جاءوا، او يفتح اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَ عُمَرُ يَمُدُّهُمْ بِالأَسْوَاقِ إِلَى مَا يُصِيبُونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمَلِكُ وَرُسْتُمُ وعرفوا حَالَهُمْ، وَبَلَغَهُمْ عَنْهُمْ فِعْلُهُمْ، عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ غَيْرُ مُنْتَهِينَ، وَأَنَّهُ إِنْ أَقَامَ لَمْ يَتْرُكُوهُ، فَرَأَى أَنْ يَشْخُصَ رُسْتُمُ، وَرَأَى رُسْتُمُ أَنْ يَنْزِلَ بَيْنَ الْعَتِيقِ وَالنَّجَفِ، ثُمَّ يُطَاوِلَهُمْ مَعَ الْمُنَازَلَةِ، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْثَلُ مَا هُمْ فَاعِلُونَ، حَتَّى يُصِيبُوا مِنَ الإِحْجَامِ حَاجَتَهُمْ، أَوْ تَدُورَ لَهُمْ سُعُودٌ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وجعلت السرايا تطوف، ورستم بالنجف والجالنوس بين النجف والسيلحين وذو الحاجب بين رستم والجالنوس، والهرمزان ومهران على مجنبتيه، والبيرزان على ساقته وزاذ بْن بهيش صاحب فرات سريا على الرجالة، وكنارى على المجردة، وكان جنده مائة وعشرين ألفا، ستين ألف متبوع مع الرجل الشاكري، ومن الستين ألفا خمسة عشر ألف شريف متبوع، وقد تسلسلوا وتقارنوا لتدور عليهم رحى الحرب.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قَيْسٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَرِيفٍ، قَالَ: قَالَ النَّاسُ لِسَعْدٍ: لَقَدْ ضَاقَ بِنَا الْمَكَانُ، فَأَقْدِمْ، فَزَبَرَ مَنْ كَلَّمَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ: إِذَا كُفِيتُمُ الرَّأْيَ، فَلا تَكَلَّفُوا، فَإِنَّا لَنْ نَقْدُمَ إِلا عَلَى رَأْيِ ذَوِي الرَّأْيِ، فَاسْكُتُوا مَا سَكَتْنَا عنكم وبعث طُلَيْحَةَ وَعَمْرًا فِي غَيْرِ خَيْلٍ كَالطَّلِيعَةِ، وَخَرَجَ سَوَّادٌ وَحُمَيْضَةُ فِي مِائَةِ مِائَةٍ، فَأَغَارُوا عَلَى النَّهْرَيْنِ، وَقَدْ كَانَ سَعْدٌ نَهَاهُمَا أَنْ يُمْعِنَا، وَبَلَغَ رَسْتُمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ خَيْلا، وَبَلَغَ سَعْدًا أَنَّ خَيْلَهُ قَدْ وَغِلَتْ، فَدَعَا عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو وَجَابِرًا الأَسَدِيَّ، فَأَرْسَلَهُمَا فِي آثَارِهِمْ يَقْتَصَّانِهَا، وَسَلَكَا طَرِيقَهُمَا، وَقَالَ لِعَاصِمٍ: إِنْ جَمَعَكُمْ قِتَالٌ فَأَنْتَ عَلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ بَيْنَ النَّهْرَيْنِ وَإصطيميا، وَخَيْلُ أَهْلِ فَارِسَ مُحْتَوِشَتُهُمْ، يُرِيدُونَ تَخَلُّصَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَقَدْ قَالَ سَوَّادٌ لِحُمَيْضَةَ: اخْتَرْ، إِمَّا أَنْ تُقِيمَ لَهُمْ وَأَسْتَاقُ الْغَنِيمَةَ، أَوْ أُقِيمَ لَهُمْ وَتَسْتَاقُ الْغَنِيمَةَ قَالَ: أَقِمْ لَهُمْ وَنَهْنِهُهُمْ عنى، وانا ابلغ لك الغنيمه، فَأَقَامَ لَهُمْ سَوَّادٌ، وَانْجَذَبَ حُمَيْضَةُ، فَلَقِيَهُ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، فَظَنَّ حُمَيْضَةُ أَنَّهَا خَيْلٌ لِلأَعَاجِمِ أُخْرَى، فَصَدَّ عَنْهَا مُنْحَرِفًا، فَلَمَّا تَعَارَفُوا سَاقَهَا، وَمَضَى عَاصِمٌ إِلَى سَوَّادٍ -وَقَدْ كَانَ أَهْلُ فَارِسَ تَنَقَّذُوا بَعْضَهَا- فَلَمَّا رَأَتِ الأَعَاجِمُ عَاصِمًا هَرَبُوا، وَتَنَقَّذَ سَوَّادٌ مَا كَانُوا ارْتَجَعُوا، فَأَتَوْا سَعْدًا بِالْفَتْحِ وَالْغَنَائِمِ وَالسَّلامَةِ، وَقَدْ خَرَجَ طُلَيْحَةُ وَعَمْرٌو، فَأَمَّا طُلَيْحَةُ فَأَمَرَهُ بِعَسْكَرِ رُسْتُمَ، وَأَمَّا عَمْرٌو فَأَمَرَهُ بِعَسْكَرِ الْجَالِنُوسِ، فَخَرَجَ طُلَيْحَةُ وَحْدَهُ، وَخَرَجَ عَمْرٌو فِي عِدَّةٍ، فَبَعَثَ قَيْسَ بْنَ هُبَيْرَةَ فِي آثَارِهِمَا، فَقَالَ: إِنْ لَقِيتَ قِتَالا فَأَنْتَ عَلَيْهِمْ -وَأَرَادَ إِذْلالَ طُلَيْحَةَ لِمَعْصِيَتِهِ، وَأَمَّا عَمْرٌو فَقَدْ أَطَاعَهُ- فَخَرَجَ حَتَّى تَلَقَّى عَمْرًا، فَسَأَلَهُ عَنْ طُلَيْحَةَ، فَقَالَ: لا عِلْمَ لِي بِهِ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى النَّجَفِ مِنْ قَبْلِ الْجَوْفِ، قَالَ لَهُ قَيْسٌ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُغِيرَ عَلَى أَدْنَى عَسْكَرِهِمْ، قَالَ: فِي هَؤُلاءِ! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لا أَدَعَكَ وَاللَّهِ وَذَاكَ! أَتُعَرِّضُ الْمُسْلِمِينَ لِمَا لا يُطِيقُونَ! قَالَ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ! قَالَ: إِنِّي أُمِّرْتُ عَلَيْكَ، وَلَوْ لَمْ أَكُنْ أَمِيرًا لَمْ أَدَعْكَ وَذَاكَ وَشَهِدَ لَهُ الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ فِي نَفَرٍ إِنَّ سَعْدًا قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْكَ، وَعَلَى طُلَيْحَةَ إِذَا اجْتَمَعْتُمْ، فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ يَا قَيْسُ، إِنَّ زَمَانًا تَكُونُ عَلَيَّ فِيهِ أَمِيرًا لَزَمَانُ سُوءٍ! لأَنْ أَرْجِعَ عَنْ دِينِكُمْ هَذَا إِلَى دِينِي الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ وَأُقَاتِلُ عَلَيْهِ حَتَّى أَمُوتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَتَأَمَّرَ عَلَيَّ ثَانِيَةً وَقَالَ: لَئِنْ عَادَ صَاحِبُكَ الَّذِي بَعَثَكَ لِمِثْلِهَا لَنُفَارِقَنَّهُ، قَالَ: ذَاكَ إِلَيْكَ بَعْدَ مَرَّتِكَ هَذِهِ، فَرَدَّهُ، فَرَجَعَا إِلَى سَعْدٍ بِالْخَبَرِ وَبِأَعْلاجٍ وَأَفْرَاسٍ، وَشَكَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، أَمَّا قَيْسٌ فَشَكَا عِصْيَانَ عَمْرٍو، وَأَمَّا عَمْرٌو، فَشَكَا غِلْظَةَ قَيْسٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا عَمْرُو، الْخَبَرُ وَالسَّلامَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُصَابِ مِائَةٍ بِقَتْلِ أَلْفٍ، أَتَعْمَدُ إِلَى حَلَبَةِ فَارِسَ فَتُصَادِمُهُمْ بِمِائَةٍ! إِنْ كُنْتُ لأَرَاكَ أَعْلَمَ بِالْحَرْبِ مِمَّا أَرَى فَقَالَ: إِنَّ الأَمْرَ لَكُمَا قُلْتُ، وَخَرَجَ طُلَيْحَةُ حَتَّى دَخَلَ عَسْكَرَهُمْ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَتَوَسَّمَ فِيهِ، فَهَتَكَ أَطْنَابَ بَيْتِ رَجُلٍ عَلَيْهِ، وَاقْتَادَ فَرَسَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى مَرَّ بِعَسْكَرِ ذِي الْحَاجِبِ، فَهَتَكَ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ بَيْتَهُ، وَحَلَّ فَرَسَهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الْجَالِنُوسِ عَسْكَرَهُ فَهَتَكَ عَلَى آخَرَ بَيْتَهُ، وَحَلَّ فَرَسَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى الْخَرَّارَةَ، وَخَرَجَ الَّذِي كَانَ بِالنَّجَفِ، وَالَّذِي كَانَ فِي عَسْكَرِ ذِي الْحَاجِبِ فَاتَّبَعَهُ الَّذِي كَانَ فِي عسكر الجالنوس، فكان اولهم لحاقا به الجالنوس، ثُمَّ الْحَاجِبِيُّ، ثُمَّ النَّجَفِيُّ، فَأَصَابَ الأَوَّلَيْنِ، وَأَسَرَ الآخِرَ وَأَتَى بِهِ سَعْدًا فَأَخْبَرَهُ، وَأَسْلَمَ، فَسَمَّاهُ سَعْدٌ مُسْلِمًا، وَلَزِمَ طُلَيْحَةَ، فَكَانَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَغَازِي كُلِّهَا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ قَدْ عَهِدَ إِلَى سَعْدٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى فَارِسَ، أَلا يَمُرَّ بِمَاءٍ مِنَ الْمِيَاهِ بِذِي قُوَّةٍ وَنَجْدَةٍ وَرِيَاسَةٍ إِلا أَشْخَصَهُ، فَإِنْ أَبَى انْتَخَبَهُ، فَأَمَّرَهُ عُمَرُ، فَقَدِمَ الْقَادِسِيَّةَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الأَيَّامِ، وَأُنَاسٍ مِنَ الْحَمْرَاءِ اسْتَجَابُوا لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَعَانُوهُمْ، أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَأَسْلَمَ بَعْضُهُمْ غِبَّ الْقِتَالِ، فَأُشْرِكُوا فِي الْغَنِيمَةِ، وَفُرِضَتْ لَهُمْ فَرَائِضُ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ أَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ، وَسَأَلُوا عَنْ أَمْنَعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَعَادُوا تَمِيمًا، فَلَمَّا دَنَا رُسْتُمُ، وَنَزَلَ النَّجَفَ بَعَثَ سَعْدٌ الطَّلائِعَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُصِيبُوا رَجُلا لِيَسْأَلَهُ عَنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَخَرَجَتِ الطَّلائِعُ بَعْدَ اخْتِلافٍ، فَلَمَّا اجمع ملا النَّاسَ أَنَّ الطَّلِيعَةَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ سَمُحُوا، فَأَخْرَجَ سَعْدٌ طُلَيْحَةَ فِي خَمْسَةٍ، وَعَمْرَو بْنَ مَعْدِيكَرِبَ فِي خَمْسَةٍ، وَذَلِكَ صَبِيحَةَ قدم رستم الجالنوس وذا الحاجب، ولا يشعرون بفصولهم مِنَ النَّجَفِ، فَلَمْ يَسِيرُوا إِلا فَرْسَخًا وَبَعْضَ آخَرَ، حَتَّى رَأَوْا مَسَالِحَهُمْ وَسَرْحَهُمْ عَلَى الطفُوفِ قَدْ مَلَئُوهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: ارْجِعُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ فَإِنَّهُ سَرَّحَكُمْ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ الْقَوْمَ بِالنَّجَفِ، فاخبروه الخبر، وقال بعضهم: ارجعوا لا يُنْذِرَ بِكُمْ عَدُوَّكُمْ! فَقَالَ عَمْرٌو لأَصْحَابِهِ: صَدَقْتُمْ، وَقَالَ طُلَيْحَةُ لأَصْحَابِهِ: كَذَبْتُمْ، مَا بُعِثْتُمْ لِتُخْبِرُوا عَنِ السَّرْحِ، وَمَا بُعِثْتُمْ إِلا لِلْخَبَرِ قَالُوا: فَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُخَاطِرَ الْقَوْمَ أَوْ أَهْلَكَ، فَقَالُوا: أَنْتَ رَجُلٌ فِي نَفْسِكَ غدر، ولن تفلح بعد قتل عكاشة ابن مِحْصَنٍ، فَارْجِعْ بِنَا، فَأَبَى وَأَتَى سَعْدًا الْخَبَرُ بِرَحِيلِهِمْ، فَبَعَثَ قَيْسَ بْنَ هُبَيْرَةَ الأَسَدِيَّ، وَأَمَّرَهُ عَلَى مِائَةٍ، وَعَلَيْهِمْ إِنْ هُوَ لَقِيَهُمْ فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ وَقَدِ افْتَرَقُوا، فَلَمَّا رَآهُ عَمْرٌو قَالَ: تجلدوا له، اروه أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْغَارَةَ، فَرَدَّهُمْ، وَوَجَدَ طُلَيْحَةَ قَدْ فَارَقَهُمْ فَرَجَعَ بِهِمْ فَأَتَوْا سَعْدًا، فَأَخْبَرُوهُ بِقُرْبِ الْقَوْمِ، وَمَضَى طُلَيْحَةُ، وَعَارَضَ الْمِيَاهَ عَلَى الطّفُوفِ، حَتَّى دَخَلَ عَسْكَرَ رُسْتُمَ، وَبَاتَ فِيهِ يَجُوسُهُ وَيَنْظُرُ وَيَتَوَسَّمُ، فَلَمَّا أَدْبَرَ اللَّيْلُ، خَرَجَ وَقَدْ أَتَى أَفْضَلَ مَنْ تَوَسَّمَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَإِذَا فَرَسٌ لَهُ لَمْ يَرَ فِي خَيْلِ الْقَوْمِ مِثْلَهُ، وَفُسْطَاطٌ أَبْيَضُ لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، فَانْتَضَى سَيْفَهُ، فَقَطَعَ مِقْوَدَ الْفَرَسِ، ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى مِقْوَدِ فَرَسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ فَرَسَهُ، فَخَرَجَ يَعْدُو بِهِ، وَنَذَرَ بِهِ النَّاسَ وَالرَّجُلَ، فَتَنَادَوْا وَرَكِبُوا الصَّعْبَةَ وَالذَّلُولَ، وَعجل بعضهم أن يسرج، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَحِقَهُ فَارِسٌ مِنَ الْجُنْدِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ وَبَوَّأَ لَهُ الرُّمْحَ لِيَطْعَنَهُ عَدَلَ طُلَيْحَةُ فَرَسَهُ، فَنَدَرَ الْفَارِسِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَكَرَّ عَلَيْهِ طُلَيْحَةُ، فَقَصَمَ ظَهْرَهُ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ لَحِقَ بِهِ آخَرُ، فَفَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَحِقَ بِهِ آخَرُ، وَقَدْ رَأَى مَصْرَعَ صَاحِبَيْهِ -وَهُمَا ابْنَا عَمِّهِ- فَازْدَادَ حَنَقًا، فَلَمَّا لَحِقَ بِطُلَيْحَةَ، وَبَوَّأَ لَهُ الرُّمْحَ، عَدَلَ طُلَيْحَةُ فَرَسَهُ، فَنَدَرَ الْفَارِسِيُّ أَمَامَهُ، وَكَرَّ عَلَيْهِ طُلَيْحَةُ، وَدَعَاهُ إِلَى الإِسَارِ، فَعَرَفَ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُ قَاتِلُهُ فَاسْتَأْسَرَ، وَأَمَرَهُ طُلَيْحَةُ أَنْ يَرْكُضَ بَيْنَ يديه، ففعل ولحق النَّاسُ فَرَأَوْا فَارِسِيَّ الْجُنْدِ قَدْ قُتِلا وَقَدْ أُسِر الثَّالِثُ، وَقَدْ شَارَفَ طُلَيْحَةُ عَسْكَرَهُمْ، فأحجموا عنه، ونكسوا، وَأَقْبَلَ طُلَيْحَةُ حَتَّى غَشِيَ الْعَسْكَرَ، وَهُمْ عَلَى تعبئة، فَأَفْزَعَ النَّاسَ، وَجَوزُوهُ إِلَى سَعْدٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ، قَالَ: وَيْحَكَ مَا وَرَاءَكَ! قَالَ: دَخَلْتُ عَسَاكِرَهُمْ وَجُسْتُهَا مُنْذُ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أَخَذْتُ أَفْضَلَهُمْ تَوَسُّمًا، وَمَا أَدْرِي أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ! وَهَا هُوَ ذَا فَاسْتَخْبِرْهُ فَأُقِيمَ التَّرْجُمَانُ بَيْنَ سَعْدٍ وَبَيْنَ الْفَارِسِيِّ، فَقَالَ لَهُ الْفَارِسِيُّ: أَتُؤَمِّنَنِي عَلَى دَمِي إِنْ صَدَقْتُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، الصِّدْقُ فِي الْحَرْبِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الْكَذِبِ، قَالَ: أُخْبِرُكُمْ عَنْ صَاحِبِكُمْ هَذَا قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَمَّنْ قَبْلِي، بَاشَرْتُ الْحُرُوبَ وَغَشِيتُهَا، وَسَمِعْتُ بِالأَبْطَالِ وَلَقِيتُهَا، مُنْذُ أَنَا غُلامٌ إِلَى أَنْ بَلَغْتُ مَا تَرَى، وَلَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا، أَنَّ رَجُلا قَطَعَ عَسْكَرَيْنِ لا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِمَا الأَبْطَالُ إِلَى عَسْكَرٍ فِيهِ سَبْعُونَ أَلْفًا، يَخْدِمُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْخَمْسَةَ وَالْعَشَرَةَ إِلَى مَا هُوَ دُونَ، فَلَمْ يَرْضَ أَنْ يَخْرُجَ كَمَا دَخَلَ حَتَّى سَلَبَ فَارِسَ الْجُنْدِ، وَهَتَكَ أَطْنَابَ بَيْتِهِ فَأَنْذَرَهُ، فَأَنْذَرَنَا بِهِ، فَطَلَبْنَاهُ، فَأَدْرَكَهُ الأَوَّلُ وَهُوَ فَارِسُ النَّاسِ، يَعْدِلُ أَلْفَ فَارِسٍ فَقَتَلَهُ، فَأَدْرَكَهُ الثَّانِي وَهُوَ نَظِيرُهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ، وَلا أَظُنُّ أَنَّنِي خَلَّفْتُ بَعْدِي مَنْ يَعْدِلُنِي وَأَنَا الثَّائِرُ بِالْقَتِيلَيْنِ، وَهُمَا ابْنَا عَمِّي، فَرَأَيْتُ الْمَوْتَ فاستأسرت ثُمَّ أَخْبَرَهُ عَنْ أَهْلِ فَارِسَ، بِأَنَّ الْجُنْدَ عِشْرُونَ وَمِائَةُ أَلْفٍ، وَأَنَّ الأَتْبَاعَ مِثْلُهُمْ خدامٌ لَهُمْ وَأَسْلَمَ الرَّجُلُ وَسَمَّاهُ سَعْدٌ مُسْلِمًا، وَعَادَ إِلَى طُلَيْحَةَ، وَقَالَ: لا وَاللَّهِ، لا تُهْزَمُونَ مَا دُمْتُمْ عَلَى مَا أَرَى مِنَ الْوَفَاءِ وَالصِّدْقِ وَالإِصْلاحِ وَالْمُؤَاسَاةِ، لا حَاجَةَ لِي فِي صُحْبَةِ فَارِسَ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَلاءِ يومئذ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بْنِ طَرِيفٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدٌ لِقَيْسِ بْنِ هُبَيْرَةَ الأَسَدِيِّ: اخْرُجْ يَا عَاقِلُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَكَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ تَحْنُو عَلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَنِي بِعِلْمِ الْقَوْمِ فَخَرَجَ وَسَرَّحَ عَمْرَو بْنَ مَعْدِيكَرِبَ وَطُلَيْحَةَ، فَلَمَّا حَاذَى الْقَنْطَرَةَ لَمْ يَسِرْ إِلا يَسِيرًا حَتَّى لَحِقَ، فَانْتَهَى إِلَى خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنْهُمْ بِحِيَالِهَا ترد عَنْ عَسْكَرِهِمْ، فَإِذَا رُسْتُمُ قَدِ ارْتَحَلَ مِنَ النَّجَفِ، فَنَزَلَ مَنْزِلَ ذي الحاجب، فَارْتَحَلَ الْجَالِنُوسُ، فَنَزَلَ ذُو الْحَاجِبِ مَنْزِلَهُ، وَالْجَالِنُوسَ يُرِيدُ طِيزَنَابَاذَ، فَنَزَلَ بِهَا، وَقَدَّمَ تِلْكَ الْخَيْلَ وَإِنَّ مَا حَمَلَ سَعْدًا عَلَى إِرْسَالِ عَمْرٍو وَطُلَيْحَةَ مَعَهُ لِمَقَالَةٍ بَلَغَتْهُ عَنْ عَمْرٍو، وَكَلِمَةٍ قَالَهَا لِقَيْسِ بْنِ هُبَيْرَةَ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَقَالَ: قَاتِلُوا عَدُوَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ فَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، وَطَارَدَهُمْ سَاعَةً ثُمَّ إِنَّ قَيْسًا حَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَتْ هَزِيمَتَهُمْ، فَأَصَابَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا، وَثَلاثَةَ أُسَرَاءٍ، وَأَصَابَ أَسْلابًا، فَأَتَوْا بِالْغَنِيمَةِ سَعْدًا وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: هَذِهِ بُشْرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِذَا لَقِيتُمْ جَمْعَهُمُ الأَعْظَمَ وحدهم، فَلَهُمْ أَمْثَالُهَا، وَدَعَا عَمْرًا وَطُلَيْحَةَ، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتُمَا قَيْسًا؟ فَقَالَ طُلَيْحَةُ: رَأَيْنَاهُ أكمانا، وَقَالَ عَمْرٌو: الأَمِيرُ أَعْلَمُ بِالرِّجَالِ مِنَّا قَالَ سَعْدٌ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَانَا بِالإِسْلامِ وَأَحْيَا بِهِ قُلُوبًا كَانَتْ مَيِّتَةً، وَأَمَاتَ بِهِ قُلُوبًا كَانَتْ حَيَّةً، وَإِنِّي أُحَذِّرُكُمَا أَنْ تُؤْثِرَا أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الإِسْلامِ، فَتَمُوتُ قُلُوبُكُمَا وَأَنْتُمَا حَيَّانِ، الْزَمَا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالاعْتِرَافَ بِالْحُقُوقِ، فَمَا رَأَى النَّاسُ كَأَقْوَامٍ أَعَزَّهُمُ اللَّهُ بِالإِسْلامِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وزياد، وشاركهم المجالد وسعيد بْن المرزبان، قالوا: فلما أصبح رستم من الغد من يوم نزل السيلحين قدم الجالنوس وذا الحاجب، فارتحل الجالنوس، فنزل من دون القنطرة بحيال زهرة، ونزل إلى صاحب المقدمة، ونزل ذو الحاجب منزله بطيزناباذ، ونزل رستم منزل ذي الحاجب بالخرارة، ثم قدم ذا الحاجب، فلما انتهى إلى العتيق تياسر حتى إذا كان بحيال قديس خندق خندقا، وارتحل الجالنوس فنزل عليه وعلى مقدمته -أعني سعدا- زهرة بْن الحوية، وعلى مجنبتيه عبد اللَّه بْن المعتم، وشرحبيل بْن السمط الكندي، وعلى مجردته عاصم بْن عمرو، وعلى المرامية فلان، وعلى الرجل فلان، وعلى الطلائع سواد بْن مالك، وعلى مقدمة رستم الجالنوس، وعلى مجنبتيه الهرمزان ومهران وعلى مجردته ذو الحاجب، وعلى الطلائع البيرزان، وعلى الرجالة زاذ بْن بهيش فلما انتهى رستم إلى العتيق، وقف عليه بحيال عسكر سعد، ونزل الناس، فما زالوا يتلاحقون وينزلهم فينزلون، حتى أعتموا من كثرتهم، فبات بها تلك الليلة والمسلمون ممسكون عنهم.
قال سعيد بْن المرزبان: فلما أصبحوا من ليلتهم بشاطئ العتيق غدا منجم رستم على رستم برؤيا أريها من الليل، قال: رأيت الدلو في السماء، دلوا أفرغ ماؤه، ورأيت السمكة، سمكة في ضحضاح من الماء تضطرب، ورأيت النعائم والزهرة تزدهر، قال: ويحك! هل أخبرت بها أحدا؟ قال: لا، قال: فاكتمها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان رستم منجما، فكان يبكي مما يرى ويقدم عليه، فلما كان بظهر الكوفة رأى أن عمر دخل عسكر فارس، ومعه ملك، فختم على سلاحهم، ثم حزمه ودفعه إلى عمر.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قيس بن أبي حازم -وكان قد شهد القادسية- قال: كان مع رستم ثمانية عشر فيلا، ومع الجالنوس خمسة عشر فيلا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي، قال: كان مع رستم يوم القادسية ثلاثون فيلا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سعيد بْن المرزبان، عن رجل، قال: كان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلا، منها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه، وكان أعظمها وأقدمها.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان معه ثلاثة وثلاثون فيلا، معه في القلب ثمانية عشر فيلا، ومعه في المجنبتين خمسة عشر فيلا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ وَسَعِيدٍ وَطَلْحَةَ وَعَمْرٍو وَزِيَادٍ، قَالُوا: فَلَمَّا أَصْبَحَ رُسْتُمُ مِنْ لَيْلَتِهِ الَّتِي بَاتَهَا بِالْعَتِيقِ، أَصْبَحَ رَاكِبًا فِي خَيْلِهِ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ صَعِدَ نَحْوَ الْقَنْطَرَةِ، وَقَدْ حَزَرَ النَّاسُ، فَوَقَفَ بِحِيَالِهِمْ دُونَ الْقَنْطَرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَجُلا، إِنَّ رُسْتُمَ يَقُولُ لَكُمْ: أَرْسِلُوا إِلَيْنَا رَجُلا نُكَلِّمَهُ وَيُكَلِّمَنَا، وَانْصَرَفَ فَأَرْسَلَ زَهْرَةُ إِلَى سَعْدٍ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَأَخْرَجَهُ زَهْرَةُ إِلَى الْجَالِنُوسِ، فَأَبْلَغَهُ الْجَالِنُوسُ رُسْتُمَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم على العتيق وبات به، أصبح غاديا على التصفح والحزر، فساير العتيق نحو خفان، حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة، فتأمل القوم، حتى أتى على شيء يشرف منه عليهم، فلما وقف على القنطرة راسل زهرة، فخرج إليه حتى واقفه، فأراده أن يصالحهم، ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول فيما يقول: أنتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا، فكنا نحسن جوارهم، ونكف الأذى عنهم، ونوليهم المرافق الكثيرة، نحفظهم في أهل باديتهم، فنرعيهم مراعينا، ونميرهم من بلادنا، ولا نمنعهم من التجارة في شيء من أرضنا، وقد كان لهم في ذلك معاش -يعرض لهم بالصلح، وإنما يخبره بصنيعهم، والصلح يريد ولا يصرح- فقال له زهرة: صدقت، قد كان ما تذكر، وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة، كنا كما ذكرت، يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم ثم بعث اللَّه تبارك وتعالى إلينا رسولا، فدعانا إلى ربه، فأجبناه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز فقال له رستم: وما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به، فشهادة أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّه، والإقرار بما جاء من عند اللَّه تعالى قال: ما أحسن هذا! وأي شيء أيضا؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه تعالى قال: حسن، وأي شيء أيضا؟ قال: والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم، قال: ما أحسن هذا! ثم قال له رستم: أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وأجبتكم إليه، ومعي قومي كيف يكون أمركم! أترجعون؟ قال: إي والله، ثم لا نقرب بلادكم أبدا إلا في تجارة أو حاجة قال: صدقتني والله، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة، كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم: تعدوا طورهم، وعادوا أشرافهم فقال له زهرة: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون، نطيع اللَّه في السفلة، ولا يضرنا من عصى اللَّه فينا فانصرف عنه، ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا، فحموا من ذلك، وأنفوا، فقال: أبعدكم اللَّه وأسحقكم! أخزى اللَّه أخرعنا وأجبننا! فلما انصرف رستم ملت إلى زهرة، فكان إسلامي، وكنت له عديدا وفرض لي فرائض أهل القادسية.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَعَمْرٍو وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ مِثْلَهُ قَالُوا: وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَبُسْرِ بْنِ أَبِي رُهْمٍ وَعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ مِحْصَنٍ وَرِبْعِيِّ بْنِ عَامِرٍ وَقِرْفَةَ بْنِ زَاهِرٍ التَّيْمِيِّ ثُمَّ الْوَاثِلِيِّ وَمَذْعُورِ بْنِ عَدِيٍّ العجلى، والمضارب ابن يَزِيدَ الْعِجْلِيِّ وَمَعْبَدِ بْنِ مُرَّةَ الْعِجْلِيِّ -وَكَانَ مِنْ دُهَاةِ الْعَرَبِ- فَقَالَ: إِنِّي مُرْسِلُكُمْ إِلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، فَمَا عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا جَمِيعًا: نَتْبَعُ مَا تَأْمُرُنَا بِهِ، وَنَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ فِيهِ شَيْءٌ نَظَرْنَا أَمْثَلَ مَا يَنْبَغِي وَأَنْفَعَهُ لِلنَّاسِ، فَكَلَّمْنَاهُمْ بِهِ فَقَالَ سَعْدٌ: هَذَا فِعْلُ الْحِزْمَةِ، اذْهَبُوا فَتَهَيَّئُوا، فَقَالَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ: إِنَّ الأَعَاجِمَ لَهُمْ آرَاءٌ وَآدَابٌ، وَمَتَى نَأْتِهِمْ جَمِيعًا يَرَوْا أَنَّا قَدِ احْتَفَلْنَا بِهِمْ! فَلا تَزِدْهُمْ عَلَى رَجُلٍ، فَمَالَئُوهُ جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: فَسَرِّحُونِي، فَسَرَّحَهُ، فَخَرَجَ رِبْعِيٌّ لِيَدْخُلَ عَلَى رُسْتُمَ عَسْكَرَهُ، فَاحْتَبَسَهُ الَّذِينَ عَلَى الْقَنْطَرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى رُسْتُمَ لِمَجِيئِهِ، فَاسْتَشَارَ عُظَمَاءَ أَهْلِ فَارِسَ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ؟ أَنُبَاهِي أَمْ نَتَهَاوَنُ! فَأَجْمَعَ مَلَؤُهُمْ عَلَى التَّهَاوُنِ، فَأَظْهَرُوا الزِّبْرِجَ، وَبَسَطُوا الْبُسُطَ وَالنَّمَارِقَ، وَلَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا، وَوُضِعَ لِرُسْتُمَ سَرِيرُ الذَّهَبِ، وَأُلْبِسَ زِينَتَهُ مِنَ الأَنْمَاطِ وَالْوَسَائِدِ الْمَنْسُوجَةِ بِالذَّهَبِ وَأَقْبَلَ رِبْعِيٌّ يَسِيرُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ زَبَّاءٌ قَصِيرَةٌ، مَعَهُ سَيْفٌ لَهُ مَشُوفٌ، وَغَمْدُهُ لِفَافَةُ ثَوْبٍ خَلِقٍ، وَرُمْحُهُ مَعْلُوبٌ بِقدٍّ، مَعَهُ حَجَفَةٌ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ، عَلَى وَجْهِهَا أَدِيمٌ أَحْمَرُ مِثْلُ الرَّغِيفِ، وَمَعَهُ قَوْسُهُ وَنَبْلُهُ فَلَمَّا غَشِيَ الْمَلِكَ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ وَإِلَى أَدْنَى الْبُسُطِ، قِيلَ لَهُ: انْزِلْ، فَحَمَلَهَا عَلَى الْبِسَاطِ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ عَلَيْهِ، نَزَلَ عَنْهَا وَرَبَطَهَا بِوِسَادَتَيْنِ فَشَقَّهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ الْحَبْلَ فِيهِمَا، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَنْهَوْهُ، وَإِنَّمَا أَرَوْهُ التَّهَاوُنَ وَعَرَفَ مَا أَرَادُوا، فَأَرَادَ اسْتِحْرَاجَهُمْ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ كَأَنَّهَا أَضَاةٌ وَيلمقُهُ عَبَاءَةُ بَعِيرِهِ، قَدْ جَابَهَا وَتَدَرَّعَهَا، وَشَدَّهَا عَلى وَسَطِهِ بِسَلَبٍ وَقَدْ شَدَّ رَأْسَهُ بِمعْجَرَتِهِ، وَكَانَ أَكْثَرَ الْعَرَبِ شعرة، ومعْجَرَتُهُ نِسْعَةُ بَعِيرِهِ، وَلِرَأْسِهِ أَرْبَعُ ضَفَائِرَ، قَدْ قُمْنَ قِيَامًا، كَأَنَّهُنَّ قُرُونُ الْوَعْلَةِ فَقَالُوا: ضَعْ سِلاحَكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكُمْ فَأَضَعُ سِلاحِي بِأَمْرِكُمْ، أَنْتُمْ دعوتموني، فان ابيتم ان آتيكم كما اريد رَجَعْتُ فَأَخْبِرُوا رُسْتُمَ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، هَلْ هُوَ إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ! فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رمحه، وزجه نصل يقارب الخطو، وَيَزُجُّ النَّمَارِقَ وَالْبُسُطَ، فَمَا تَرَكَ لَهُمْ نِمْرِقَةً وَلا بُسَاطًا إِلا أَفْسَدَهُ وَتَرَكَهُ مُنْهَتِكًا مُخْرَقًا، فَلَمَّا دَنَا مِنْ رُسْتُمَ تَعَلَّقَ بِهِ الْحَرَسُ، وَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ، وَرَكَّزَ رُمْحَهُ بِالْبُسُطِ، فَقَالُوا: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: إِنَّا لا نَسْتَحِبُّ الْقُعُودَ عَلَى زِينَتِكُمْ هَذِهِ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالَ: اللَّهُ ابْتَعَثَنَا، وَاللَّهُ جَاءَ بِنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَبِلَ مِنَّا ذَلِكَ قَبِلْنَا ذَلِكَ مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ، وَتَرَكْنَاهُ وَأَرْضَهُ يَلِيهَا دُونَنَا، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا، حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ.
قَالَ: وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى، وَالظَّفْرِ لِمَنْ بَقِيَ فَقَالَ رُسْتُمُ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا! قَالَ: نَعَمْ، كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَيَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؟
قَالَ: لا بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا وَأَرَادَ مُقَارَبَتَهُ وَمُدَافَعَتَهُ، فَقَالَ: إِنَّ مِمَّا سَنَّ لَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَعَمِلَ بِهِ أَئِمَّتُنَا، أَلا نُمَكِّنَ الأَعْدَاءَ مِنْ آذَانِنَا، وَلا نُؤَجِّلَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ، فَنَحْنُ مُتَرَدِّدُونَ عَنْكُمْ ثَلاثًا، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ، وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلاثٍ بَعْدَ الأَجَلِ، اخْتَرِ الإِسْلامَ وَنَدَعُكَ وَأَرْضَكَ، أَوِ الْجَزَاءَ، فَنَقْبَلَ وَنَكُفَّ عَنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ عَنْ نَصْرِنَا غَنِيًّا تَرَكْنَاكَ مِنْهُ، وَإِنْ كُنْتَ إِلَيْهِ مُحْتَاجًا مَنَعْنَاكَ أَوِ الْمُنَابَذَةِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَلَسْنَا نَبْدَؤُكَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِلا أَنْ تَبْدَأَنَا، أَنَا كَفِيلٌ لَكَ بِذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِي وَعَلَى جَمِيعِ مَنْ تَرَى قَالَ: أَسَيِّدُهُمْ أَنْتَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَسَدِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلاهُمْ.
فَخَلَصَ رستم برءوساء أَهْلِ فَارِسَ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ؟ هَلْ رَأَيْتُمْ كَلامًا قَطُّ أَوْضَحَ وَلا أَعَزَّ مِنْ كَلامِ هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ لَكَ أَنْ تَمِيلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَتَدَعَ دِينَكَ لِهَذَا الْكَلْبِ! أَمَا تَرَى إِلَى ثِيَابِهِ! فَقَالَ: ويحكم لا تَنْظُرَوا إِلَى الثِّيَابِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى الرَّأْيِ وَالْكَلامِ وَالسِّيرَةِ، إِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَخِفُّ بِاللِّبَاسِ وَالْمَأْكَلِ وَيَصُونُونَ الأَحْسَابَ، لَيْسُوا مِثْلَكُمْ فِي اللِّبَاسِ، وَلا يَرَوْنَ فِيهِ مَا تَرَوْنَ. وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَتَنَاوَلُونَ سِلاحَهُ، وَيُزَهِّدُونَهُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إِلَى أَنْ ترونِي فَأُرِيَكُمْ؟ فَأَخْرَجَ سَيْفَهُ مِنْ خِرْقِهِ كَأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ فَقَالَ الْقَوْمُ: اغْمِدْهُ، فَغَمَدَهُ، ثُمَّ رَمَى تُرْسًا وَرَمَوْا حَجْفَتَهُ، فَخُرِقَ تُرْسُهُمْ، وَسَلِمَتْ حَجْفَتُهُ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ فَارِسَ، إِنَّكُمْ عَظَّمْتُمُ الطَّعَامَ وَاللِّبَاسَ وَالشَّرَابَ، وَإِنَّا صَغَّرْنَاهُنَّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الأَجَلِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ بَعَثُوا أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَعْدٌ حُذَيْفَةَ بْنَ مِحْصَنٍ، فَأَقْبَلَ فِي نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ الزِّيِّ، حَتَّى إِذَا كَانَ عَلَى أَدْنَى الْبِسَاطِ، قِيلَ لَهُ: انْزِلْ، قَالَ: ذَلِكَ لَوْ جِئْتُكُمْ فِي حَاجَتِي، فَقُولُوا لِمَلِكِكُمْ: أَلَهُ الْحَاجَةُ أَمْ لِي؟
فَإِنْ قَالَ: لِي، فَقَدْ كَذَبَ، وَرَجَعْتُ وَتَرَكْتُكُمْ، فَإِنْ قَالَ: لَهُ، لَمْ آتِكُمْ إِلا عَلَى مَا أُحِبُّ فَقَالَ: دَعُوهُ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ وَرُسْتُمُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: انْزِلْ، قَالَ: لا أَفْعَلُ، فَلَمَّا أَبَى سَأَلَهُ: ما بالك جئت ولم يجيء صَاحِبُنَا بِالأَمْسِ؟ قَالَ: إِنَّ أَمِيرَنَا يُحِبُّ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَنَا فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، فَهَذِهِ نَوْبَتِي. قَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَنَّ عَلَيْنَا بِدِينِهِ، وَأَرَانَا آيَاتِهِ، حَتَّى عَرَفْنَاهُ وَكُنَّا لَهُ مُنْكِرِينَ ثُمَّ أَمَرَنَا بِدُعَاءِ النَّاسِ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلاثٍ، فَأَيُّهَا أَجَابُوا إِلَيْهَا قَبِلْنَاهَا: الإِسْلامُ وَنَنْصَرِفُ عَنْكُمْ، أَوِ الجزاء ويمنعكم إِنِ احْتَجْتُمْ إِلَى ذَلِكَ، أَوِ الْمُنَابَذَةُ فَقَالَ: أَوِ الْمُوَادَعَةُ إِلَى يَوْمٍ مَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثَلاثًا مِنْ أَمْسَ فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ إِلا ذَلِكَ رَدَّهُ وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! أَلا تَرَوْنَ إِلَى مَا أَرَى! جَاءَنَا الأَوَّلُ بِالأَمْسِ فَغَلَبَنَا عَلَى أَرْضِنَا، وَحَقَّرَ مَا نُعَظِّمُ، وَأَقَامَ فَرَسَهُ عَلَى زِبْرِجِنَا وَرَبَطَهُ بِهِ، فَهُوَ فِي يُمْنِ الطَّائِرِ، ذَهَبَ بِأَرْضِنَا وَمَا فِيهَا إِلَيْهِمْ، مَعَ فَضْلِ عَقْلِهِ وَجَاءَنَا هَذَا الْيَوْمَ فَوَقَفَ عَلَيْنَا، فَهُوَ فِي يُمْنِ الطَّائِرِ، يَقُومُ عَلَى أَرْضِنَا دُونَنَا، حَتَّى أَغْضَبَهُمْ وَأَغْضَبُوهُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ: ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلا، فَبَعَثُوا إِلَيْهِمُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَة.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: لَمَّا جَاءَ الْمُغِيرَةُ إِلَى الْقَنْطَرَةِ فَعَبَرَهَا إِلَى أَهْلِ فَارِسَ حَبَسُوهُ واستأذنوا رستم فِي إِجَازَتِهِ، وَلَمْ يُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ شَارَتِهِمْ، تَقْوِيَةً لِتَهَاوُنِهِمْ، فَأَقْبَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَالْقَوْمُ فِي زِيِّهِمْ، عَلَيْهِمُ التِّيجَانُ وَالثِّيَابُ الْمَنْسُوجَةُ بِالذَّهَبِ، وَبُسُطُهُمْ عَلَى غَلْوَةٍ لا يَصِلُ إِلَى صَاحِبِهِمْ، حَتَّى يَمْشِيَ عَلَيْهِمْ غَلْوَةً، وَأَقْبَلَ الْمُغِيرَةُ وَلَهُ أَرْبَعُ ضَفَائِرَ يَمْشِي، حَتَّى جَلَسَ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَوِسَادَتِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَتَرْتَرُوهُ وَأَنْزَلُوهُ وَمَغَثُوهُ فَقَالَ: كَانَتْ تَبْلُغُنَا عَنْكُمُ الأَحْلامُ، وَلا أَرَى قَوْمًا أَسْفَهَ مِنْكُمْ! إِنَّا مَعْشَرَ الْعَرَبِ سَوَاءٌ، لا يَسْتَعْبِدُ بَعْضُنَا بَعْضًا إِلا أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا لِصَاحِبِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّكُمْ تُوَاسُونَ قَوْمَكُمْ كَمَا نَتَوَاسَى، وَكَانَ أَحْسَنَ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُمْ أَنْ تُخْبِرُونِي أَنَّ بَعْضَكُمْ أَرْبَابُ بَعْضٍ، وَأَنَّ هَذَا الأَمْرَ لا يَسْتَقِيمُ فِيكُمْ فَلا نَصْنَعُهُ، وَلَمْ آتِكُمْ، وَلَكِنْ دَعَوْتُمُونِي الْيَوْمُ، عَلِمْتُ أَنَّ أَمْرَكُمْ مُضْمَحِلٌّ، وَأَنَّكُمْ مَغْلُوبُونَ، وَأَنَّ مُلْكًا لا يَقُومُ عَلَى هَذِهِ السِّيرَةِ، وَلا عَلَى هَذِهِ الْعُقُولِ فَقَالَتِ السَّفَلَةُ: صَدَقَ وَاللَّهِ الْعَرَبِيُّ، وَقَالَتِ الدَّهَّاقِينُ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَمَى بِكَلامٍ لا يَزَالُ عَبِيدُنَا يَنْزَعُونَ إِلَيْهِ، قَاتَلَ اللَّهُ أَوَّلينَا، مَا كَانَ أَحْمَقَهُمْ حِينَ كَانُوا يُصَغِّرُونَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ! فَمَازَحَهُ رُسْتُمُ لِيَمْحُوَ مَا صَنَعَ، وَقَالَ لَهُ: يَا عَرَبِيُّ، إِنَّ الْحَاشِيَةَ قَدْ تَصْنَعُ مَا لا يُوَافِقُ الْمَلِكَ، فَيَتَرَاخَى عَنْهَا مَخَافَةَ أَنْ يَكْسِرَهَا عَمَّا يَنْبَغِي مِنْ ذَلِكَ، فَالأَمْرُ عَلَى مَا تُحِبُّ مِنَ الْوَفَاءِ وَقُبُولِ الْحَقِّ، مَا هَذِهِ الْمَغَازِلُ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: مَا ضَرَّ الْجَمْرَةَ أَلا تَكُونَ طَوِيلَةً! ثُمَّ رَامَاهُمْ وَقَالَ: مَا بَالُ سَيْفِكَ رَثًّا! قَالَ: رَثُّ الْكِسْوَةِ، حَدِيدُ الْمَضْرَبَةِ ثُمَّ عَاطَاهُ سَيْفَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ رُسْتُمُ: تَكَلَّمْ أَمْ أَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَنْتَ الَّذِي بَعَثْتَ إِلَيْنَا، فَتَكَلَّمْ، فَأَقَامَ التَّرْجُمَانُ بَيْنَهُمَا، وَتَكَلَّمَ رُسْتُمُ، فَحَمِدَ قَوْمَهُ، وَعَظَّمَ أَمْرَهُمْ وَطَوَّلَهُ، وَقَالَ: لَمْ نَزَلْ مُتَمَكِّنِينَ فِي الْبِلادِ، ظَاهِرِينَ عَلَى الأَعْدَاءِ، أَشْرَافًا فِي الأُمَمِ، فَلَيْسَ لأَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ مِثْلُ عِزِّنَا وَشَرَفِنَا وَسُلْطَانِنَا، نُنْصَرُ عَلَى النَّاسِ وَلا يُنْصَرُونَ عَلَيْنَا إِلا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، أَوِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، لِلذُّنُوبِ، فَإِذَا انْتَقَمَ اللَّهُ فَرَضِيَ رَدَّ إِلَيْنَا عِزَّنَا، وَجَمَعَنَا لِعَدُوِّنَا شَرَّ يَوْمٍ هُوَ آتٍ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي النَّاسِ أُمَّةٌ أَصْغَرُ عِنْدَنَا أَمْرًا مِنْكُمْ، كُنْتُمْ أَهْلَ قَشَفٍ وَمَعِيشَةٍ سَيِّئَةٍ، لا نَرَاكُمْ شَيْئًا وَلا نَعُدُّكُمْ، وَكُنْتُمْ إِذَا قَحِطَتْ أَرْضُكُمْ، وَأَصَابَتْكُمُ السَّنَةُ اسْتَغَثْتُمْ بناحيه أرضنا فنأمر لكم بالشيء مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ ثُمَّ نَرُدُّكُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ إِلا مَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْجَهْدِ فِي بِلادِكُمْ، فَأَنَا آمِرٌ لأَمِيرِكُمْ بِكِسْوَةٍ وَبَغْلٍ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَآمِرٌ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِوِقْرِ تَمْرٍ وَبِثَوْبَيْنِ، وَتَنْصَرِفُونَ عَنَّا، فَإِنِّي لَسْتُ أَشْتَهِي أَنْ أَقْتُلَكُمْ وَلا آسِرَكُمْ.
فَتَكَلَّمَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَازِقُهُ، فَمَنْ صَنَعَ شَيْئًا فَإِنَّمَا هُوَ الذى يصنعه هو لَهُ وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتَ بِهِ نَفْسَكَ وَأَهْلَ بِلادِكَ، مِنَ الظُّهُورِ عَلَى الأَعْدَاءِ وَالتَّمَكُّنِ فِي الْبِلادِ وَعِظَمِ السُّلْطَانِ فِي الدُّنْيَا، فَنَحْنُ نَعْرِفُهُ، وَلَسْنَا نُنْكِرُهُ، فَاللَّهُ صَنَعَهُ بِكُمْ، وَوَضَعَهُ فِيكُمْ، وَهُوَ لَهُ دُونَكُمْ، وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتَ فِينَا مِنْ سُوءِ الْحَالِ، وَضِيقِ الْمَعِيشَةِ وَاخْتِلافِ الْقُلُوبِ، فَنَحْنُ نَعْرِفُهُ، وَلَسْنَا نُنْكِرُهُ، وَاللَّهُ ابْتَلانَا بِذَلِكَ، وَصَيَّرَنَا إِلَيْهِ، وَالدُّنْيَا دُوَلٌ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ شَدَائِدِهَا يَتَوَقَّعُونَ الرَّخَاءِ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ رَخَائِهَا يَتَوَقَّعُونَ الشَّدَائِدَ حَتَّى تَنْزِلَ بِهِمْ، وَيَصِيرُوا إِلَيْهَا، وَلَوْ كُنْتُمْ فِيمَا آتَاكُمُ اللَّهُ ذَوِي شُكْرٍ، كَانَ شُكْرُكُمْ يَقْصُرُ عَمَّا أُوتِيتُمْ، وَأَسْلَمَكُمْ ضَعْفُ الشُّكْرِ إِلَى تَغَيُّرِ الْحَالِ، وَلَوْ كُنَّا فِيمَا ابْتُلِينَا بِهِ أَهْلَ كُفْرٍ، كَانَ عَظِيمُ مَا تَتَابَعَ عَلَيْنَا مُسْتَجْلِبًا مِنَ اللَّهِ رَحْمَةً يُرَفِّهُ بِهَا عَنَّا، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ غَيْرُ مَا تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، أَوْ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَنَا بِهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعَثَ فِينَا رَسُولا ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ الْكَلامِ الأَوَّلِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنِ احْتَجْتَ إِلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَكَ فَكُنْ لَنَا عَبْدًا تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَأَنْتَ صَاغِرٌ، وَإِلا فَالسَّيْفُ إِنْ أَبَيْتَ! فَنَخَرَ نَخْرَةً، وَاسْتَشَاطَ غَضَبًا، ثُمَّ حَلِفَ بِالشَّمْسِ لا يَرْتَفِعُ لَكُمُ الصُّبْحُ غَدًا حَتَّى أَقْتُلَكُمْ أَجْمَعِينَ.
فَانْصَرَفَ الْمُغِيرَةُ، وَخَلَصَ رُسْتُمُ تَأَلُّفًا بِأَهْلِ فَارِسَ، وَقَالَ: أَيْنَ هَؤُلاءِ مِنْكُمْ؟ مَا بَعْدُ هَذَا! أَلَمْ يَأْتِكُمُ الأَوَّلانِ فَحَسَرَاكُمْ وَاسْتَحْرَجَاكُمْ، ثُمَّ جاءكم هَذَا، فَلَمْ يَخْتَلِفُوا، وَسَلَكُوا طَرِيقًا وَاحِدًا، وَلَزِمُوا أَمْرًا وَاحِدًا، هَؤُلاءِ وَاللَّهِ الرِّجَالُ، صَادِقِينَ كَانُوا أَمْ كَاذِبِينَ! وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ بَلَغَ مِنْ إِرْبِهِمْ وَصَوْنِهِمْ لِسِرِّهِمْ أَلا يَخْتَلِفُوا، فَمَا قَوْمٌ أَبْلَغُ فِيمَا أَرَادُوا مِنْهُمْ، لَئِنْ كَانُوا صَادِقِينَ مَا يَقُومُ لِهَؤُلاءِ شَيْءٌ! فَلُجُّوا وَتَجَلَّدُوا وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُصْغُونَ إِلَى مَا اقول لكم، وان هذا منكم رياء، فَازْدَادُوا لَجَاجَةً.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَأَرْسَلَ مَعَ الْمُغِيرَةِ رَجُلا، وَقَالَ لَهُ: إِذَا قَطَعَ الْقَنْطَرَةَ، وَوَصَلَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَنَادِ: إِنَّ الْمَلِكَ كَانَ مُنَجِّمًا قَدْ حَسَبَ لَكَ وَنَظَرَ فِي أَمْرِكَ، فَقَالَ: إِنَّكَ غَدًا تُفْقَأُ عَيْنُكَ فَفَعَلَ الرَّسُولُ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: بَشَّرْتَنِي بِخَيْرٍ وَأَجْرٍ، وَلَوْلا أَنْ أُجَاهِدَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَشْبَاهَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لَتَمَنَّيْتُ أَنَّ الأُخْرَى ذَهَبَتْ أَيْضًا فَرَآهُمْ يَضْحَكُونَ مِنْ مَقَالَتِهِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ بَصِيرَتِهِ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَلِكِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَطِيعُونِي يَا أَهْلَ فَارِسَ، وَإِنِّي لأَرَى لِلَّهِ فِيكُمْ نَقْمَةً لا تَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا عَنْ أَنْفُسِكُمْ.
وَكَانَتْ خُيُولُهُمْ تَلْتَقِي عَلَى الْقَنْطَرَةِ لا تَلْتَقِي إِلا عَلَيْهَا، فَلا يَزَالُونَ يَبْدَءُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ كَافُّونَ عَنْهُمُ الثَّلاثَةَ الأَيَّام، لا يَبْدَءُونَهُمْ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ صَدُّوهُمْ وَرَدَعُوهُمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ تَرْجُمَانُ رُسْتُمَ عَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ يُدْعَى عبودَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي وَسَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، قَالا: دَعَا رُسْتُمُ بِالْمُغِيرَةِ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَدَعَا رُسْتُمُ تَرْجُمَانَهُ -وَكَانَ عَرَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، يُدْعَى عبودَ- فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: وَيْحَكَ يَا عبودُ! أَنْتَ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ، فَأَبْلِغْهُ عَنِّي إِذَا أَنَا تَكَلَّمْتُ كَمَا تُبَلِّغُنِي عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ رُسْتُمُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، وَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، الى احدى ثَلاثِ خِلالٍ: إِلَى الإِسْلامِ وَلَكُمْ فِيهِ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ فِيهِ مَا عَلَيْنَا، لَيْسَ فِيهِ تَفَاضُلُ بَيْنَنَا، أَوِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ قَالَ: مَا صَاغِرُونَ قَالَ: أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى رَأْسِ أَحَدِنَا بِالْجِزْيَةِ يَحْمَدُهُ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ.
إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَالإِسْلامُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُمَا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الْقَادِسِيَّةَ غُلامًا بَعْدَ مَا احْتَلَمْتُ، فَقَدِمَ سَعْدٌ الْقَادِسِيَّةَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَبِهَا أَهل الأَيَّامِ، فَقَدِمَتْ عَلَيْنَا مُقْدِمَاتُ رُسْتُمَ، ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْنَا فِي سِتِّينَ أَلْفًا، فَلَمَّا أَشْرَفَ رُسْتُمُ عَلَى الْعَسْكَرِ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلا يُكَلِّمُنَا وَنُكَلِّمْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَنَفَرًا، فَلَمَّا أَتَوْا رُسْتُمَ جَلَسَ الْمُغِيرَةُ عَلَى السَّرِيرِ، فَنَخَرَ أَخُو رُسْتُمَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: لا تَنْخَرُ، فَمَا زَادَنِي هَذَا شَرَفًا وَلا نَقَصَ أَخَاكَ فَقَالَ رُسْتُمُ: يَا مُغِيرَةُ، كُنْتُمْ أَهْلَ شَقَاءٍ، حَتَّى بَلَغَ، وَإِنْ كَانَ لَكُمْ أَمْرٌ سِوَى ذَلِكَ، فَأَخْبِرُونَا. ثُمَّ أَخَذَ رُسْتُمُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، وَقَالَ: لا تَرَوْا أَنَّ هَذِهِ الْمَغَازِلَ تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ مُجِيبًا لَهُ، فَذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: فَكَانَ مِمَّا رَزَقَنَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ حَبَّةٌ تَنْبُتُ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ، فَلَمَّا أَذَقْنَاهَا عِيَالَنَا، قَالُوا: لا صَبْرَ لَنَا عَنْهَا، فَجِئْنَا لِنُطْعِمَهُمْ أَوْ نَمُوتَ. فَقَالَ رُسْتُمُ: إِذًا تَمُوتُونَ أَوْ تُقْتَلُونَ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: إِذًا يَدْخُلَ مَنْ قُتِلَ مِنَّا الْجَنَّةَ، وَيَدْخُلَ مَنْ قَتَلَنَا مِنْكُمُ النَّارَ، وَيَظْفَرُ مَنْ بَقِيَ مِنَّا بِمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ، فَنَحْنُ نُخَيِّرُكَ بَيْنَ ثَلاثِ خِلالٍ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَقَالَ رُسْتُمُ: لا صُلْحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ سَعْدٌ بَقِيَّةَ ذَوِي الرَّأْيِ جَمِيعًا، وَحَبَسَ الثَّلاثَةَ، فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْهُ لِيُعْظِمُوا عَلَيْهِ اسْتِقْبَاحًا، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ أَمِيرَنَا يَقُولُ لَكَ: إِنَّ الْجِوَارَ يَحْفَظُ الْوُلاةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَنَا وَلَكَ، الْعَافِيَةُ أَنْ تَقْبَلَ مَا دَعَاكَ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَنَرْجِعُ إِلَى أَرْضِنَا، وَتَرْجِعُ إِلَى أَرْضِكَ وَبَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ، إِلا أَنَّ دَارَكُمْ لَكُمْ، وَأَمْرَكُمْ فِيكُمْ، وَمَا أَصَبْتُمْ مِمَّا وَرَاءَكُمْ كَانَ زِيَادَةً لَكُمْ دُونَنَا، وَكُنَّا لَكُمْ عَوْنًا عَلَى أَحَدٍ إِنْ أَرَادَكُمْ أَوْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ وَاتَّقِ اللَّهَ يَا رُسْتُمُ، وَلا يَكُونَنَّ هَلاكُ قَوْمِكَ عَلَى يَدَيْكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَنْ تغبط بِهِ إِلا أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ وَتَطْرُدُ بِهِ الشَّيْطَانَ عَنْكَ. فَقَالَ: إِنِّي قَدْ كَلَّمْتُ مِنْكُمْ نَفَرًا، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَهِمُوا عَنِّي رَجَوْتُ أَنْ تَكُونُوا قَدْ فَهِمْتُمْ، وَإِنَّ الأَمْثَالَ أَوْضَحُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلامِ، وَسَأَضْرِبُ لَكُمْ مَثَلَكُمْ تُبْصِرُوا أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أَهْلَ جَهْدٍ فِي الْمَعِيشَةِ، وَقَشَفٍ فِي الْهَيْئَةِ، لا تَمْتَنِعُونَ وَلا تَنْتَصِفُونَ، فَلَمْ نُسِئْ جِوَارَكُمْ، وَلَمْ نَدَعْ مُوَاسَاتَكُمْ، تُقْحَمُونَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، فَنُمِيرُكُمْ ثُمَّ نَرُدُّكُمْ، وَتَأْتُونَنَا أَجْرَاءً وَتُجَّارًا، فَنُحْسِنُ إِلَيْكُمْ، فلما تَطَاعَمْتُمْ بِطَعَامِنَا، وَشَرِبْتُمْ شَرَابَنَا، وَأَظَلَّكُمْ ظِلُّنَا، وَصَفْتُمْ لِقَوْمِكُمْ، فَدَعَوْتُمُوهُمْ، ثُمَّ أَتَيْتُمُونَا بِهِمْ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ فِي ذَلِكَ وَمَثَلُنَا كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ لَهُ كَرْمٌ، فَرَأَى فِيهِ ثَعْلَبًا، فَقَالَ: وَمَا ثَعْلَبُ! فَانْطَلَقَ الثَّعْلَبُ، فَدَعَا الثَّعَالِبَ إِلَى ذَلِكَ الْكَرْمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعْنَ عَلَيْهِ سَدَّ عَلَيْهِنَّ صَاحِبُ الْكَرْمِ الْجُحْرَ الَّذِي كُنَّ يَدْخُلْنَ مِنْهُ، فَقَتَلَهُنَّ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا الْحِرْصُ وَالطَّمَعُ وَالْجهْدُ، فَارْجِعُوا عَنَّا عَامَكُمْ هَذَا، وَامْتَارُوا حَاجَتَكُمْ، وَلَكُمُ الْعَوْدُ كُلَّمَا احْتَجْتُمْ، فَإِنِّي لا أَشْتَهِي أَنْ أَقْتُلَكُمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عمارة بْن القعقاع الضبي، عن رجل من يربوع شهدها، قال: وقال وقد أصاب أناس كثير منكم من أرضنا ما أرادوا، ثم كان مصيرهم القتل والهرب، ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى، وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم، وخرج مما كان أصاب، ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب، وفي الجرة ثقب، فدخل الأول فأقام فيها، وجعل الأخر ينقلن منها ويرجعن ويكلمنه في الرجوع، فيأبى فانتهى سمن الذي في الجرة، فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله، فضاق عليه الجحر، ولم يطق الخروج، فشكا القلق إلى أصحابه، وسألهم المخرج، فقلن له: ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل أن تدخل، فكف وجوع نفسه، وبقي في الخوف، حتى إذا عاد كما كان قبل أن يدخلها أتى عليه صاحب الجرة فقتله فاخرجوا ولا يكونن هذا لكم مثلا.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: وقال: لم يخلق اللَّه خلقا أولع من ذباب ولا أضر، ما خلاكم يا معشر العرب، ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع، وسأضرب لكم مثلكم: إن الذباب إذا رأى العسل طار، وقال: من يوصلني إليه وله درهمان حتى يدخله؟ لا ينهنهه أحد إلا عصاه، فإذا دخله غرق ونشب وقال: من يخرجني وله أربعة دراهم؟ وقال أيضا: إنما مثلكم مثل ثعلب دخل جحرا وهو مهزول ضعيف إلى كرم، فكان فيه يأكل ما شاء اللَّه، فرآه صاحب الكرم، ورأى ما به، فرحمه، فلما طال مكثه في الكرم وسمن، وصلحت حاله، وذهب ما كان به من الهزال أشر، فجعل يعبث بالكرم ويفسد أكثر مما يأكل، فاشتد على صاحب الكرم، فقال: لا أصبر على هذا من أمر هذا، فأخذ له خشبة واستعان عليه غلمانه، فطلبوه وجعل يراوغهم في الكرم، فلما رأى أنهم غير مقلعين عنه، ذهب ليخرج من الجحر الذي دخل منه، فنشب اتسع عليه وهو مهزول، وضاق عليه وهو سمين، فجاءه وهو على تلك الحال صاحب الكرم، فلم يزل يضربه حتى قتله، وقد جئتم وأنتم مهازيل، وقد سمنتم شيئا من سمن، فانظروا كيف تخرجون!
وقال أيضا: إن رجلا وضع سلا، وجعل طعامه فيه، فأتى الجرذان، فخرقوا سله، فدخلوا فيه فأراد سده، فقيل له: لا تفعل، إذا يخرقنه، ولكن انقب بحياله، ثم اجعل فيها قصبة مجوفة، فإذا جاءت الجرذان دخلن من القصبة وخرجن منها، فكلما طلع عليكم جرذ قتلتموه وقد سددت عليكم، فإياكم أن تقتحموا القصبة، فلا يخرج منها أحد إلا قتل، وما دعاكم إلى ما صنعتم، ولا أرى عددا ولا عُدة!
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ بِإِسْنَادِهِمَا وَزِيَادٍ مَعَهُمَا، قَالُوا: فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ فَقَالُوا: أَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ سُوءِ حَالِنَا فِيمَا مَضَى، وَانْتِشَارِ أَمْرِنَا، فَلَمَّا تبلغ كنهه! يَمُوتُ الْمَيِّتُ مِنَّا إِلَى النَّارِ، وَيَبْقَى الْبَاقِي مِنَّا فِي بُؤْسٍ، فَبَيْنَا نَحْنُ فِي أَسْوَإِ ذَلِكَ، بَعَثَ اللَّهُ فِينَا رَسُولا مِنْ أَنْفُسِنَا إِلَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ، رَحْمَةً رَحِمَ بِهَا مَنْ أَرَادَ رَحْمَتَهُ، وَنَقْمَةً يَنْتَقِمُ بِهَا مِمَّنْ رَدَّ كَرَامَتَهُ، فَبَدَأَ بِنَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشَدَّ عَلَيْهِ، وَلا أَشَدَّ إِنْكَارًا لِمَا جَاءَ بِهِ، وَلا أَجْهَدَ عَلَى قَتْلِهِ وَرَدَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى طَابَقْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ كُلُّنَا، فَنَصَبْنَا لَهُ جَمِيعًا، وَهُوَ وَحْدَهُ فَرْدٌ لَيْسَ مَعَهُ إِلا اللَّهُ تَعَالَى، فَأُعْطِيَ الظَّفْرَ عَلَيْنَا، فَدَخَلَ بَعْضُنَا طَوْعًا، وَبَعْضُنَا كَرْهًا، ثُمَّ عَرَفْنَا جَمِيعًا الْحَقَّ وَالصِّدْقَ لَمَّا أَتَانَا بِهِ مِنَ الآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ، وَكَانَ مِمَّا أَتَانَا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا جِهَادُ الأَدْنَى فَالأَدْنَى، فَسِرْنَا بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَنَا، نَرَى أَنَّ الَّذِي قَالَ لَنَا وَوَعَدَنَا لا يُخْرَمُ عَنْهُ وَلا يُنْقَضُ، حَتَّى اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى هَذَا، وَكَانُوا مِنَ اخْتِلافِ الرَّأْيِ فِيمَا لا يُطِيقُ الْخَلائِقُ تَأْلِيفَهُمْ ثُمَّ أَتَيْنَاكُمْ بِأَمْرِ رَبِّنَا، نُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، وَنَنْفُذُ لأَمْرِهِ، وَنَنْتَجِزُ مَوْعُودَهُ، وَنَدْعُوكُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَحُكْمِهِ، فَإِنْ أَجَبْتُمُونَا تَرَكْنَاكُمْ وَرَجَعْنَا وَخَلَّفْنَا فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ لَمْ يَحْلُ لَنَا إِلا أَنْ نُعَاطِيَكُمُ الْقِتَالَ أَوْ تَفْتَدُوا بِالْجِزَى، فَإِنْ فَعَلْتُمْ وَإِلا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْرَثَنَا أرضكم وابناءكم وأموالكم، فاقبلوا نصيحتنا، فو الله لإِسْلامُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ غَنَائِمِكُمْ، وَلَقِتَالُكُمْ بَعْدُ أحب مِنْ صُلْحِكُمْ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ رَثَاثَتِنَا وَقِلَّتِنَا فَإِنَّ أَدَاتَنَا الطَّاعَةُ، وَقِتَالَنَا الصَّبْرُ وَأَمَّا مَا ضَرَبْتُمْ لَنَا مِنَ الأَمْثَالِ، فَإِنَّكُمْ ضَرَبْتُمْ لِلرِّجَالِ وَالأُمُورِ الْجِسَامِ وَلِلجِّدِ الْهَزْلِ، وَلَكِنَّا سَنَضْرَبُ مَثَلَكُمْ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ مَثَلُ رَجُلٍ غَرَسَ أَرْضًا، وَاخْتَارَ لَهَا الشَّجَرَ وَالْحَبَّ، وَأَجْرَى إِلَيْهَا الأَنْهَارَ، وزينها بالقصور، واقام فيها فلا حين يَسْكُنُونَ قُصُورَهَا، وَيَقُومُونَ عَلَى جَنَّاتِهَا، فَخَلا الْفَلاحُونَ فِي الْقُصُورِ عَلَى مَا لا يُحِبُّ، وَفِي الْجِنَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَأَطَالَ نَظْرَتَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحْيُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمُ، اسْتَعْتَبَهُمْ فَكَابَرُوهُ، فَدَعَا إِلَيْهَا غَيْرَهُمْ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، فَإِنْ ذَهَبُوا عَنْهَا تَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ، وَإِنْ أَقَامُوا فِيهَا صَارُوا خَوْلا لِهَؤُلاءِ يَمْلِكُونَهُمْ، وَلا يَمَلِكُونَ عَلَيْهِمْ، فَيَسُومُونَهُمُ الْخَسْفَ ابدا، وو الله أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا نَقُولُ لَكَ حَقًّا، وَلَمْ يَكُنْ إِلا الدُّنْيَا، لَمَا كَانَ لَنَا عَمَّا ضَرِينَا بِهِ مِنْ لَذِيذِ عَيْشِكُمْ، وَرَأَيْنَا مِنْ زَبْرَجِكُمْ مِنْ صَبْرٍ، وَلَقَارَعْنَاكُمْ حَتَّى نَغْلِبَكُمْ عَلَيْهِ.
فَقَالَ رُسْتُمُ: أَتَعْبُرُونَ إِلَيْنَا أَمْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالُوا: بَلِ اعْبُرُوا إِلَيْنَا.
فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ عَشِيًّا، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَقِفُوا مَوَاقِفَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: شَأْنَكُمْ وَالْعُبُورَ، فَأَرَادُوا الْقَنْطَرَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: لا وَلا كَرَامَةَ! أَمَّا شَيْءٌ قَدْ غَلَبْنَاكُمْ عَلَيْهِ فَلَنْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، تَكَلَّفُوا مَعْبَرًا غَيْرَ الْقَنَاطِرِ، فَبَاتُوا يَسْكُرُونَ الْعَتِيقَ حَتَّى الصَّبَاحِ بِأَمْتِعَتِهِمْ.
يوم أرماث
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد، عن عبيد اللَّه، عن نافع وعن الحكم، قالا: لما أراد رستم العبور أمر بسكر العتيق بحيال قادس، وهو يومئذ أسفل منها اليوم مما يلي عين الشمس، فباتوا ليلتهم حتى الصباح يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقا، واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء، فأخذ قسي أصحابه، فختم عليها، ثم صعد بها إلى السماء، فاستيقظ مهموما محزونا، فدعا خاصته فقصها عليهم، وقال: إن اللَّه ليعظنا، لو أن فارس تركوني أتعظ! أما ترون النصر قد رفع عنا، وترون الريح مع عدونا، وأنا لا نقوم لهم في فعل ولا منطق، ثم هم يريدون مغالبة بالجبرية! فعبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، قال: لما كان يوم السكر، لبس رستم درعين ومغفرا وأخذ سلاحه، وأمر بفرسه فأسرج، فأتي به فوثب، فإذا هو عليه لم يمسه ولم يضع رجله في الركاب، ثم قال: غدا ندقهم دقا، فقال له رجل: إن شاء اللَّه، فقال: وإن لم يشأ!
كَتَبَ إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: قال رستم: إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد -يذكرهم موت كسرى- ثم قال لأصحابه: قد خشيت أن تكون هذه سنة القرود ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم، وجلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة، وعبى في القلب ثمانية عشر فيلا، عليها الصناديق والرجال، وفي المجنبتين ثمانية وسبعة، عليها الصناديق والرجال، وأقام الجالنوس بينه وبين ميمنته والبيرزان بينه وبين ميسرته، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين، وكان يزدجرد وضع رجلا على باب إيوانه، إذ سرح رستم، وأمره بلزومه وإخباره، وآخر حيث يسمعه من الدار، وآخر خارج الدار، وكذلك على كل دعوة رجلا، فلما نزل رستم، قال الذي بساباط: قد نزل، فقاله الآخر حتى قاله الذي على باب الإيوان، وجعل بين كل مرحلتين على كل دعوة رجلا، فكلما نزل وارتحل أو حدث أمر قاله، فقاله الذي يليه، حتى يقوله الذي يلي باب الإيوان، فنظم ما بين العتيق والمدائن رجالا، وترك البرد، وكان ذلك هو الشأن.
وأخذ المسلمون مصافهم، وجعل زهرة وعاصم بين عبد اللَّه وشرحبيل، ووكل صاحب الطلائع بالطراد، وخلط بين الناس في القلب والمجنبات، ونادى مناديه: ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر اللَّه يا أيها الناس، فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس، به حبون، فإنما هو على وجهه في صدره وسادة، هو مكب عليها، مشرف على الناس من القصر، يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه، إلى خالد بْن عرفطة، وهو أسفل منه، وكان الصف إلى جنب القصر، وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا مشرفا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيدِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي نِمْرَانَ، قَالَ: لَمَّا عَبَرَ رستم تخول زَهْرَةُ وَالْجَالِنُوسُ، فَجَعَلَ سَعْدٌ زَهْرَةَ مَكَانَ ابْنِ السِّمْطِ، وَجَعَلَ رُسْتُمُ الْجَالِنُوسَ مَكَانَ الْهُرْمُزَانِ، وَكَانَ بِسَعْدٍ عِرْقُ النَّسَا وَدَمَامِيلُ، وَكَانَ إِنَّمَا هُوَ مُكِبٌّ، وَاسْتَخْلَفَ خَالِدَ بْنَ عَرْفَطَةَ عَلَى النَّاسِ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ:
احْمِلُونِي، وَأَشْرِفُوا بِي عَلَى النَّاسِ، فَارْتَقَوْا بِهِ، فَأَكَبَّ مُطَّلِعًا عَلَيْهِمْ، وَالصَّفُّ فِي أَصْلِ حَائِطِ قُدَيْسَ، يَأْمُرُ خَالِدًا فَيَأْمُرُ خَالِدٌ النَّاسَ، وَكَانَ مِمَّنْ شَغَبَ عَلَيْهِ وُجُوهٌ مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ، فَهَمَّ بِهِمْ سَعْدٌ وَشَتَمَهُمْ، وَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّ عَدُوَّكُمْ بِحَضْرَتِكُمْ لَجَعَلْتُكُمْ نَكَالا لِغَيْرِكُمْ! فَحَبَسَهُمْ -وَمِنْهُمْ أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ- وَقَيَّدَهُمْ فِي الْقَصْرِ، وَقَالَ جَرِيرٌ: اما انى بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ لِمَنْ وَلاهُ اللَّهُ الأَمْرَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لا يَعُودُ أَحَدٌ بَعْدَهَا يَحْبِسُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ عَدُوِّهِمْ وَيُشَاغِلُهُمْ وَهُمْ بِإِزَائِهِمْ إِلا سُنَّتْ بِهِ سُنَّةٌ يُؤْخَذُ بِهَا مِنْ بَعْدِي.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: إِنَّ سَعْدًا خَطَبَ مَنْ يَلِيهِ يَوْمَئِذٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، بَعْدَ مَا تَهَدَّمَ عَلَى الَّذِينَ اعْتَرَضُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ عَرْفَطَةَ فَحَمَدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ لا شَرِيكَ لَهُ فِي الملك، وليس لقوله خلف، قال الله جل ثَنَاؤُهُ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، إِنَّ هَذَا مِيرَاثُكُمْ وَمَوْعُودُ رَبِّكُمْ، وَقَدْ أَبَاحَهَا لَكُمْ مُنْذُ ثَلاثِ حِجَجٍ، فَأَنْتُمْ تُطْعَمُونَ مِنْهَا، وَتَأْكُلُونَ مِنْهَا، وَتَقْتُلُونَ أَهْلَهَا، وَتَجْبَوْنَهُمْ وَتَسْبَوْنَهُمْ إِلَى هذا اليوم بِمَا نَالَ مِنْهُمْ أَصْحَابُ الأَيَّامِ مِنْكُمْ، وَقَدْ جَاءَكُمْ مِنْهُمْ هَذَا الْجَمْعُ، وَأَنْتُمْ وُجُوهُ الْعَرَبِ وَأَعْيَانُهُمْ، وَخِيَارُ كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَعَز مَنْ وَرَاءَكُمْ، فَإِنْ تَزْهَدُوا فِي الدُّنْيَا وَتَرْغَبُوا فِي الآخِرَةِ جَمَعَ اللَّهُ لَكُمُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، وَلا يُقَرِّبُ ذَلِكَ أَحَدًا إِلَى أَجَلِهِ، وَإِنْ تَفْشَلُوا وَتَهِنُوا وَتَضْعَفُوا تَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَتُوبِقُوا آخِرَتكُمْ.
وَقَامَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو فِي الْمُجَرَّدَةِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ بِلادٌ قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أَهْلَهَا، وَأَنْتُمْ تنالون منهم منذ ثلاث سنين مالا يَنَالُونَ مِنْكُمْ، وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ، إِنْ صَبَرْتُمْ وَصَدَقْتُمُوهُمُ الضَّرْبَ وَالطَّعْنَ فَلَكُمْ أَمْوَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَبِلادُهُمْ، وَإِنْ خُرْتُمْ وَفَشِلْتُمْ فَاللَّهُ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ جَارٌ وَحَافِظٌ، لَمْ يُبْقِ هَذَا الْجَمْعُ مِنْكُمْ بَاقِيَةً، مَخَافَةَ أَنْ تَعُودُوا عَلَيْهِمْ بعائده هلاك الله اللَّهِ! اذْكُرُوا الأَيَّامَ وَمَا مَنَحَكُمُ اللَّهُ فِيهَا، او لا تَرَوْنَ أَنَّ الأَرْضَ وَرَاءَكُمْ بِسَابُسَ قِفَارٌ لَيْسَ فِيهَا خَمَرٌ وَلا وَزَرٌ يُعْقَلُ إِلَيْهِ، وَلا يُمْتَنَعُ بِهِ! اجْعَلُوا هَمَّكُمُ الآخِرَةَ.
وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى الرَّايَاتِ: إِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ خَالِدَ بْنَ عَرْفَطَةَ، وَلَيْسَ يَمْنَعُنِي أَنْ أَكُونَ مَكَانَهُ إِلا وَجَعِي الَّذِي يَعُودُنِي وَمَا بِي مِنَ الحبون، فَإِنِّي مُكِبٌّ عَلَى وَجْهِي وَشَخْصِي لَكُمْ بَادٍ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِأَمْرِي، وَيَعْمَلُ بِرَأْيِي فَقُرِئَ عَلَى النَّاسِ فَزَادَهُمْ خَيْرًا، وَانْتَهَوْا إِلَى رَأْيِهِ، وَقَبِلُوا مِنْهُ وَتَحَاثُّوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى عُذْرِ سَعْدٍ وَالرِّضَا بِمَا صَنَعَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن حلام، عن مسعود، قال: وخطب أمير كل قوم أصحابه، وسير فيهم، وتحاضوا على الطاعة والصبر تواصوا، ورجع كل أمير إلى موقفه بمن والاه من أصحابه عند المواقف، ونادى منادي سعد بالظهر، ونادى رستم: پادشهان مرندر، أكل عمر كبدي أحرق اللَّه كبده! علم هؤلاء حتى علموا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، قال: حَدَّثَنَا سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، قال: لما نزل رستم النجف بعث منها عينا إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ند منهم، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون فيفترقون إلى مواقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم، وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحدا منهم يأكل شيئا إلا أن يمصوا عيدانا لهم حين يمسون، وحين ينامون، وقبيل أن يصبحوا فلما سار فنزل بين الحصن والعتيق وافقهم وقد أذن مؤذن سعد الغداة، فرآهم يتحشحشون، فنادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولم؟ قال: أما ترون إلى عدوكم قد نودي فيهم فتحشحشوا لكم! قال عينه: ذلك إنما تحشحشهم هذا للصلاة، فقال بالفارسية، وهذا تفسيره بالعربية أتاني صوت عند الغداة، وإنما هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل، فلما عبروا تواقفوا، وأذن مؤذن سعد للصلاة، فصلى سعد، وقال رستم: أكل عمر كبدي!
كتب إلي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وَأَرْسَلَ سَعْدٌ الَّذِينَ انْتَهَى إِلَيْهِمْ رَأْيُ النَّاسِ، وَالَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْهِمْ نَجْدَتُهُمْ وَأَصْنَافُ الْفَضْلِ مِنْهُمْ إِلَى النَّاسِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ النَّفَرُ الَّذِينَ أَتَوْا رُسْتُمَ الْمُغِيرَةُ، وَحُذَيْفَةُ، وَعَاصِمٌ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَمِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ طُلَيْحَةُ، وَقَيْسٌ الأَسَدِيُّ، وغالب، وعمرو ابن معد يكرب وَأَمْثَالُهُمْ، وَمِنَ الشُّعَرَاءِ الشَّمَّاخُ وَالْحُطَيْئَةُ، وَأَوْسُ بْنُ مَغْرَاءَ، وَعَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ، وَمِنْ سَائِرِ الأَصْنَافِ أَمْثَالُهُمْ وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَرْسِلَهُمْ: انْطَلِقُوا فَقُومُوا فِي النَّاسِ بِمَا يَحِقُّ عَلَيْكُمْ وَيَحِقُّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ مَوَاطِنِ الْبَأْسِ، فَإِنَّكُمْ مِنَ الْعَرَبِ بِالْمَكَانِ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ، وَأَنْتُمْ شُعَرَاءُ الْعَرَبِ وَخُطَبَاؤُهُمْ وَذَوُو رَأْيِهِمْ وَنَجْدَتُهُمْ وَسَادَتُهُمْ، فَسِيرُوا فِي النَّاسِ، فَذَكِّرُوهُمْ وَحَرِّضُوهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، فَسَارُوا فِيهِمْ فَقَالَ قَيْسُ بْنُ هُبَيْرَةَ الأَسَدِيُّ: أَيُّهَا النَّاسُ، احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ لَهُ وَأَبْلاكُمْ يَزِدْكُمْ، وَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ، وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِي عَادَاتِهِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ أَوِ الْغَنِيمَةَ أَمَامُكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْقَصْرِ إِلا الْعَرَاءُ وَالأَرْضُ الْقَفْرُ، وَالظِّرَابُ الْخَشِنُ، وَالْفَلَوَاتُ الَّتِي لا تَقْطَعُهَا الأَدِلَّةُ.
وَقَالَ غَالِبٌ: أَيُّهَا النَّاسُ، احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَبْلاكُمْ، وَسَلُوهُ يَزِدْكُمْ، وَادْعُوهُ يُجِبْكُمْ، يَا مَعَاشِرَ مَعْدٍ، مَا عِلَّتُكُمُ الْيَوْمَ وَأَنْتُمْ فِي حُصُونِكُمْ -يَعْنِي الْخَيْلَ- وَمَعَكُمْ مَنْ لا يَعْصِيكُمْ -يَعْنِي السُّيُوفَ-؟ اذْكُرُوا حَدِيثَ النَّاسِ فِي غَدٍ، فَإِنَّهُ بِكُمْ غَدًا يَبْدَأُ عِنْدَهُ، وَبِمَنْ بَعْدِكُمْ يُثَنَّى.
وَقَالَ ابْنُ الْهُذَيْلِ الأَسَدِيُّ: يَا مَعَاشِرَ مَعْدٍ، اجْعَلُوا حُصُونَكُمُ السُّيُوفَ، وَكُونُوا عَلَيْهِمْ كَأُسُودِ الأَجَمِ، وَتَرَبَّدُوا لَهْمُ تَرَبُّدَ النُّمُورِ، وَادَّرِعُوا الْعَجَّاجَ، وَثِقُوا بِاللَّهِ وَغُضُّوا الأَبْصَارَ، فَإِذَا كَلَّتِ السُّيُوفُ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، فَأَرْسِلُوا عَلَيْهِمُ الْجَنَادِلَ، فَإِنَّهَا يُؤْذَنَ لَهَا فِيمَا لا يُؤْذَنُ لِلْحَدِيدِ فِيهِ.
وَقَالَ بُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ الْجُهَنِيُّ: احْمَدُوا اللَّهَ، وَصَدِّقُوا قَوْلَكُمْ بِفِعْلٍ، فَقَدْ حَمَدْتُمُ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ لَهُ وَوَحَّدْتُمُوهُ وَلا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَكَبَّرْتُمُوهُ، وَآمَنْتُمْ بِنَبِيِّهِ وَرُسُلِهِ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَلا يَكُونَنَّ شَيْءٌ بِأَهْوَنَ عَلَيْكُمْ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا تَأْتِي مَنْ تَهَاوَنَ بِهَا، وَلا تَمِيلُوا إِلَيْهَا فَتَهْرَبَ مِنْكُمْ لِتَمِيلَ بِكُمْ؛ انْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ.
وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ، إِنَّكُمْ أَعْيَانُ الْعَرَبِ، وَقَدْ صَمَدْتُمُ الأَعْيَانَ مِنَ الْعُجْمِ، وَإِنَّمَا تُخَاطِرُونَ بِالْجَنَّةِ، وَيُخَاطِرُونَ بِالدُّنْيَا، فَلا يَكُونَنَّ عَلَى دُنْيَاهُمْ أَحْوَطَ مِنْكُمْ عَلَى آخِرَتِكُمْ لا تُحْدِثُوا اليوم امرا تكونون به شيئا عَلَى الْعَرَبِ غَدًا.
وَقَالَ رَبِيعُ بْنُ الْبِلادِ السَّعْدِيُّ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ، قَاتِلُوا لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، {وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وَإِنْ عَظَّمَ الشَّيْطَانُ عَلَيْكُمُ الأَمْرَ، فَاذْكُرُوا الأَخْبَارَ عَنْكُمْ بِالْمَوَاسِمِ مَا دَامَ لِلأَخْبَارِ أَهْلٌ.
وَقَالَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ: إِنَّ اللَّهَ قد هَدَاكُمْ لِلإِسْلامِ، وَجَمَعَكُمْ بِهِ، وَأَرَاكُمُ الزِّيَادَةَ، وَفِي الصَّبْرِ الرَّاحَةُ، فَعَوِّدُوا أَنْفُسَكُمُ الصَّبْرَ تَعْتَادُوهُ، وَلا تُعَوِّدُوهَا الْجَزَعَ فَتَعْتَادُوهُ.
وَقَامَ كُلُّهُمْ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا الْكَلامِ، وَتَوَاثَقَ النَّاسُ، وَتَعَاهَدُوا، وَاهْتَاجُوا لِكُلِّ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ، وَفَعَلَ أَهْلُ فَارِسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَعَاهَدُوا وَتَوَاصَوْا، وَاقْتَرَنُوا بِالسَّلاسِلِ، وَكَانَ الْمُقْتَرِنُونَ ثَلاثِينَ أَلْفًا.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي: إن أهل فارس كانوا عشرين ومائة ألف، معهم ثلاثون فيلا، مع كل فيل أربعة آلاف.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ حلامٍ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ خِرَاشٍ، قَالَ: كَانَ صَفُّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شَفِيرِ الْعَتِيقِ، وَكَانَ صَفُّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ حَائِطِ قُدَيْسَ، الْخَنْدَقُ مِنْ وَرَائِهِمْ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَالْعَتِيقِ وَمَعَهُمْ ثَلاثُونَ أَلْفَ مُسَلْسَلٍ، وَثَلاثُونَ فِيلا تُقَاتِلُ، وَفِيَلَةٌ عَلَيْهَا الْمُلُوكُ وُقُوفٌ لا تُقَاتِلُ وَأَمَرَ سَعْدٌ النَّاسَ أَنْ يَقْرَءُوا عَلَى النَّاسِ سُورَةَ الْجِهَادِ، وَكَانُوا يتعلمونها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: قال سَعْدٌ: الْزَمُوا مَوَاقِفَكُمْ، لا تَحَرَّكُوا شَيْئًا حَتَّى تُصَلُّوا الظُّهْرَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الظُّهْرَ فَإِنِّي مُكَبِّرٌ تَكْبِيرَةٌ، فَكَبِّرُوا وَاسْتَعِدُّوا.
وَاعْلَمُوا أَنَّ التَّكْبِيرَ لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُعْطِيتُمُوهُ تَأْيِيدًا لَكُمْ ثُمَّ إِذَا سَمِعْتُمُ الثَّانِيَةَ فَكَبِّرُوا، ولتستتم عُدَّتُكُمْ، ثُمَّ إِذَا كَبَّرْتُ الثَّالِثَةَ فَكَبِرُّوا، وَلْيُنَشِّطْ فِرْسَانُكُمُ النَّاسَ لِيَبْرُزُوا وَلِيُطَارِدُوا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الرَّابِعَةَ فَازْحَفُوا جَمِيعًا حَتَّى تُخَالِطُوا عَدُوَّكُمْ، وَقُولُوا: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ!
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْنِ الرَّيَّانِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، مِثْلَهُ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: أَرْسَلَ سَعْدٌ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فِي النَّاسِ: إِذَا سَمِعْتُمُ التكبير فَشُدُّوا شُسُوعَ نِعَالِكُمْ، فَإِذَا كَبَّرْتُ الثَّانِيَةَ فَتَهَيَّئُوا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الثَّالِثَةَ فَشُدُّوا النَّوَاجِذَ عَلَى الأَضْرَاسِ وَاحْمِلُوا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: لَمَّا صَلَّى سَعْدٌ الظُّهْرَ أَمَرَ الْغُلامَ الَّذِي كَانَ أَلْزَمَهُ عُمَرُ إِيَّاهُ -وَكَانَ من القراء- ان يقرا سُورَةَ الْجِهَادِ، فَقُرِئَتْ فِي كُلِّ كَتِيبَةٍ، فَهَشَّتْ قُلُوبَ النَّاسِ وَعُيُونَهُمْ وَعَرَفُوا السَّكِينَةَ مَعَ قِرَاءَتِهَا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: لَمَّا فَرَغَ الْقُرَّاءُ كَبَّرَ سَعْدٌ، فَكَبَّرَ الَّذِينَ يَلُونَهُ تَكْبِيرَةً، وَكَبَّرَ بَعْضُ النَّاسِ بِتَكْبِيرِ بَعْضٍ، فَتَحَشْحَشَ النَّاسُ، ثُمَّ ثَنَّى فَاسْتَتَمَّ النَّاسُ، ثُمَّ ثَلَّثَ فَبَرَزَ أَهْلُ النَّجَدَاتِ فَأَنْشَبُوا الْقِتَالَ، وَخَرَجَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ أَمْثَالُهُمْ، فَاعْتَوَرُوا الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ، وَخَرَجَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ وَارِدَةُ الْمَسَائِحِ *** ذَاتُ اللَّبَانِ وَالْبَنَانِ الْوَاضِحِ
أَنِّي سِمَامُ الْبَطَلِ الْمُشَايِحِ *** وَفَارِجُ الأَمْرِ الْمُهِمِّ الْفَادِحِ
فَخَرَجَ إِلَيْهِ هُرْمُزُ -وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الْبَابِ، وَكَانَ مُتَوَّجًا- فَأَسَرَهُ غَالِبٌ أَسْرًا، فجاء سَعْدًا، فَأُدْخِلَ، وَانْصَرَفَ غَالِبٌ إِلَى الْمُطَارَدَةِ، وَخَرَجَ عاصم ابن عَمْرٍو وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ صَفْرَاءُ اللَّبَبِ *** مِثْلَ اللُّجَيْنِ إِذْ تَغْشَاهُ الذَّهَبُ
أَنِّي امْرُؤٌ لا مَنْ تَعِيبُهُ السَّبَبُ *** مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يُغْرِيهِ الْعَتَبُ
فَطَارَدَ رَجُلا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَاتَّبَعَهُ، حَتَّى إِذَا خَالَطَ صَفَّهُمُ الْتَقَى بِفَارِسٍ مَعَهُ بَغْلُهُ، فَتَرَكَ الْفَارِسُ الْبَغْلَ، وَاعْتَصَمَ بِأَصْحَابِهِ فَحَمُوهُ، وَاسْتَاقَ عَاصِمٌ الْبَغْلَ وَالرَّحْلَ، حَتَّى أَفْضَى بِهِ إِلَى الصَّفِّ، فَإِذَا هُوَ خَبَّازُ الْمَلِكِ وَإِذَا الَّذِي مَعَهُ لُطْفُ الْمَلِكِ الأَخْبِصَةُ وَالْعَسَلُ الْمَعْقُودُ، فَأَتَى بِهِ سَعْدًا، وَرَجَعَ إِلَى مَوْقِفِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِ سَعْدٌ، قَالَ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى أَهْلِ مَوْقِفِهِ، وَقَالَ: إِنَّ الأَمِيرَ قَدْ نَفَلَكُمْ هَذَا فَكُلُوهُ، فَنَفَلَهُمْ إِيَّاهُ قَالُوا: وَبَيْنَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ، إِذْ قَامَ صَاحِبُ رَجَّالَةِ بَنِي نَهْدٍ قَيْسُ بْنُ حُذَيْمِ بْنِ جُرْثُومَةَ، فَقَالَ: يَا بَنِي نَهْدٍ انْهَدُوا، إِنَّمَا سُمِّيتُمْ نَهْدًا لِتَفْعَلُوا فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ عَرْفَطَةَ: وَاللَّهِ لَتَكُفَّنَّ أَوْ لأُوَلِّيَنَّ عَمَلَكَ غَيْرَكَ فَكَفَّ.
وَلَمَّا تَطَارَدَتِ الْخَيْلُ وَالْفِرْسَانُ خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ يُنَادِي: مرد ومرد، فَانْتَدَبَ لَهُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ وَهُوَ بِحِيَالِهِ، فَبَارَزَهُ فَاعْتَنَقَهُ، ثُمَّ جَلَدَ بِهِ الأَرْضَ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّ الْفَارِسِيَّ إِذَا فَقَدَ قَوْسَهُ فَإِنَّمَا هُوَ تَيْسٌ ثُمَّ تَكَتَّبَتِ الْكَتَائِبُ مِنْ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْن أبي حازم، قال: مر بنا عمرو بْن معديكرب وهو يحضض الناس بين الصفين، وهو يقول: إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقى مزراقه، فإنما هو تيس، فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم، فوقف بين الصفين فرمى بنشابة، فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها، فالتفت إليه فحمل عليه، فاعتنقه، ثم أخذ بمنطقته، فاحتمله فوضعه بين يديه، فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، ثم ألقاه ثم قال: هكذا فاصنعوا بهم! فقلنا: يا أبا ثور، من يستطيع أن يصنع كما تصنع! وقال بعضهم غير إسماعيل: وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج عَلَيْهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عن قيس بْن أبي حازم، أن الأعاجم وجهت إلى الوجه الذي فيه بجيلة ثلاثة عشر فيلا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: كانت -يعني وقعة القادسية- في المحرم سنة أربع عشرة في أوله وكان قد خرج من الناس إليهم، فقال له أهل فارس: أحلنا، فأحالهم على بجيلة، فصرفوا إليهم ستة عشر فيلا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لَمَّا تَكَتَّبَتِ الْكَتَائِبُ بَعْدَ الطِّرَادِ حَمَلَ أَصْحَابُ الْفِيَلَةِ عَلَيْهِمْ، فَفَرَّقَتْ بَيْنَ الْكَتَائِبِ، فَابْذَعَرَّتِ الْخَيْلُ، فَكَادَتْ بَجِيلَةَ أَنْ تُؤْكَلَ، فَرَّتْ عَنْهَا خَيْلُهَا نِفَارًا، وَعَمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ فِي مَوَاقِفِهِمْ، وَبَقِيَتِ الرَّجَّالَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِفِ، فَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى بَنِي أَسَدٍ: ذَبِّبُوا عَنْ بَجِيلَةَ وَمَنْ لافَّهَا مِنَ النَّاسِ، فَخَرَجَ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ وَحَمَّالُ بْنُ مَالِكٍ وَغَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالرَّبِيلُ بْنُ عَمْرٍو فِي كَتَائِبِهِمْ، فَبَاشَرُوا الْفِيَلَةَ حَتَّى عَدَلَهَا رُكْبَانُهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ فِيلٍ عِشْرِينَ رَجُلا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بْن طريف، أن طليحة قام في قومه حين استصرخهم سعد، فقال: يا عشيرتاه، إن المنوه باسمه، الموثوق به، وإن هذا لو علم أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم، ابتدءوهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة، فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعله، شدوا ولا تصدوا، وكروا ولا تفروا، لله در ربيعة! أي فري يفرون! وأي قرن يغنون! هل يوصل إلى مواقفهم! فأغنوا عن مواقفكم أعانكم اللَّه! شدوا عليهم باسم اللَّه! فقال المعرور بْن سويد وشقيق: فشدوا والله عليهم فما زالوا يطعنونهم ويضربونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم، فأخرت، وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه، فما لبثه طليحة أن قتله.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَقَامَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ كِنْدَةَ، لِلَّهِ دَرُّ بَنِي أَسَدٍ! أَيُّ فِرًى يَفْرُونَ! وَأَيُّ هَذٍّ يَهُذُّونَ عَنْ مَوْقِفِهِمْ مُنْذُ الْيَوْمَ! أَغْنَى كُلُّ قَوْمٍ مَا يَلِيهِمْ، وَأَنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ مَنْ يَكْفِيكُمُ الْبَأْسَ! أَشْهَدُ مَا أَحْسَنْتُمْ أُسْوَةَ قَوْمِكُمُ الْعَرَبِ مُنْذُ الْيَوْمَ، وَإِنَّهُمْ لَيُقْتَلُونَ وَيُقَاتِلُونَ، وَأَنْتُمْ جُثَاةٌ عَلَى الرُّكَبِ تَنْظُرُونَ! فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَدَدٌ مِنْهُمْ عشرة، فَقَالُوا: عَثَّرَ اللَّهُ جَدَّكَ! إِنَّكَ لتُؤبِّسُنا جَاهِدًا، وَنَحْنُ أَحْسَنُ النَّاسِ مَوْقِفًا! فَمِنْ أَيْنَ خَذَلْنَا قَوْمَنَا الْعَرَبَ وَأَسَأْنَا أُسْوَتَهُمْ! فَهَا نَحْنُ مَعَكَ فَنَهَدَ وَنَهَدُوا، فَأَزَالُوا الَّذِينَ بِإِزَائِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ فَارِسَ مَا تَلْقَى الْفِيَلَةُ مِنْ كَتِيبَةِ أَسَدٍ رَمَوْهُمْ بِحَدِّهِمْ وَبَدَرَ الْمُسْلِمِينَ الشِّدَّةُ عَلَيْهِمْ ذُو الْحَاجِبِ وَالْجَالِنُوسُ، وَالْمُسْلِمُونَ يَنْتَظِرُونَ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ مِنْ سَعْدٍ، فَاجْتَمَعَتْ حَلَبَةُ فَارِسَ عَلَى أَسَدٍ وَمَعَهُمْ تِلْكَ الْفِيَلَةُ، وَقَدْ ثَبَتُوا لَهُمْ، وَقَدْ كَبَّرَ سَعْدٌ الرَّابِعَةَ، فَزَحَفَ اليهم الْمُسْلِمُونَ وَرَحَى الْحَرْبِ تَدُورُ عَلَى أَسَدٍ، وَحَمَلَتِ الْفُيُولُ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ عَلَى الْخُيُولِ، فَكَانَتِ الْخُيُولُ تُحْجِمُ عَنْهَا وَتَحِيدُ، وَتَلِحُّ فِرْسَانُهُمْ عَلَى الرَّجْلِ يَشْمِسُونَ بِالْخَيْلِ، فَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَنِي تَمِيمٍ، أَلَسْتُمْ أَصْحَابُ الإِبِلِ وَالْخَيْلِ! أَمَا عِنْدَكُمْ لِهَذِهِ الْفِيَلَةِ مِنْ حِيلَةٍ! قَالُوا: بَلَى وَاللَّهِ، ثُمَّ نَادَى فِي رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ رُمَاةٍ وَآخَرِينَ لَهُمْ ثَقَافَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الرُّمَاةِ ذُبُّوا رُكْبَانَ الْفِيَلَةِ عَنْهُمْ بِالنَّبْلِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الثَّقَافَةِ اسْتَدْبِرُوا الْفِيَلَةَ فَقَطِّعُوا وضنها، وَخَرَجَ يَحْمِيهِمْ وَالرَّحَى تَدُورُ عَلَى أَسَدٍ، وَقَدْ جَالَتِ الْمَيْمَنَةُ وَالْمَيْسَرَةُ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ عَاصِمٍ عَلَى الْفِيَلَةِ، فَأَخَذُوا بِأَذْنَابِهَا وَذَبَاذِبِ تَوَابِيتِهَا، فَقَطَّعُوا وُضُنَهَا، وَارْتَفَعَ عَوَاؤُهُمْ، فَمَا بَقِيَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِيلٌ إِلا أُعْرِيَ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهَا، وَتَقَابَلَ النَّاسُ وَنُفِّسَ عَنْ أَسَدٍ، وَرَدُّوا فَارِسَ عَنْهُمْ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ حَتَّى ذَهَبَتْ هَدْأَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ رَجَعَ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ، وَأُصِيبَ مِنْ أَسَدٍ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ خمسمائة، وَكَانُوا رِدْءًا لِلنَّاسِ، وَكَانَ عَاصِمٌ عَادِيَةَ النَّاسِ وَحَامِيَتَهُمْ، وَهَذَا يَوْمُهَا الأَوَّلُ وَهُوَ يَوْمُ أَرْمَاثَ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن، عن الْقَاسِم، عن رجل من بني كنانة، قَالَ: جالت المجنبات ودارت على أسد يوم أرماث فقتل تلك العشية منهم خمسمائة رجل، فقال عمرو بْن شأس الأسدي:
جلبنا الخيل من أكناف نيق *** إلى كسرى فوافقها رعالا
تركن لهم على الأقسام شجوا *** وبالحقوين أياما طوالا
وداعية بفارس قد تركنا *** تبكي كلما رأت الهلالا
قتلنا رستما وبنيه قسرا *** تثير الخيل فوقهم الهيالا
تركنا منهم حيث التقينا *** فئاما ما يريدون ارتحالا
وفر البيرزان ولم يحامي *** وكان على كتيبته وبالا
ونجى الهرمزان حذار نفس *** وركض الخيل موصله عجالا
يوم أغواث
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وكان سَعْدٌ قَدْ تَزَوَّجَ سَلْمَى بِنْتَ خَصَفَةَ، امْرَأَةَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ قبله بِشَرَافَ، فَنَزَلَ بِهَا الْقَادِسِيَّةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أَرْمَاثَ، وَجَالَ النَّاسُ، وَكَانَ لا يُطِيقُ جِلْسَةً إِلا مُسْتَوْفِزًا أَوْ عَلَى بَطْنِهِ، جَعَلَ سَعْدٌ يَتَمَلْمَلُ وَيَحُولُ جَزَعًا فَوْقَ الْقَصْرِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ فارس، قالت: وا مثنياه وَلا مُثَنَّى لِلْخَيْلِ الْيَوْمَ! -وَهِيَ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَضْجَرَهُ مَا يَرَى مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِي نَفْسِهِ- فَلَطَمَ وَجْهَهَا، وَقَالَ: أَيْنَ الْمُثَنَّى مِنْ هَذِهِ الْكَتِيبَةِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الرَّحَى! -يَعْنِي أَسَدًا وعَاصِمًا وَخَيْلَهُ- فَقَالَتْ: أَغَيْرَةً وَجُبْنًا! قَالَ: وَاللَّهِ لا يَعْذِرُنِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِذَا أَنْتِ لَمْ تَعْذِرِينِي وَأَنْتِ تَرَيْنَ مَا بِي، وَالنَّاسُ أَحَقُّ أَلا يَعْذِرُونِي! فَتَعَلَّقَهَا النَّاسُ، فَلَمَّا ظَهَرَ النَّاسُ لَمْ يَبْقَ شَاعِرٌ إِلا اعْتَدَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ غَيْرَ جَبَانٍ وَلا مَلُومٍ وَلَمَّا اصبح القوم من الغد أصبحوا على تعبئة، وَقَدْ وَكَّلَ سَعْدٌ رِجَالا بِنَقْلِ الشُّهَدَاءِ إِلَى الْعُذَيْبِ وَنَقْلِ الرَّثِيثِ، فَأَمَّا الرَّثِيثُ فَأُسْلِمَ إِلَى النِّسَاءِ يَقُمْنَ عَلَيْهِمْ إِلَى قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَدَفَنُوهُمْ هُنَالِكَ عَلَى مُشَرِّقٍ -وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ الْعُذَيْبِ وَبَيْنَ عَيْنِ الشَّمْسِ فِي عَدْوَتَيْهِ جَمِيعًا، الدُّنْيَا مِنْهُمَا إِلَى الْعُذَيْبِ وَالْقُصْوَى مِنْهُمَا مِنَ الْعُذَيْبِ- وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ بِالْقِتَالِ حَمْلَ الرَّثِيثِ وَالأَمْوَاتِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِمُ الإِبِلُ وَتَوَجَّهَتْ بِهِمْ نَحْوَ الْعُذَيْبِ طَلَعَتْ نَوَاصِي الْخَيْلِ مِنَ الشَّامِ -وَكَانَ فَتْحُ دِمَشْقَ قَبْلَ الْقَادِسِيَّةِ بِشَهْرٍ- فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ كِتَابُ عُمَرَ بِصَرْفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَصْحَابِ خَالِدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ خَالِدًا ضَنَّ بِخَالِدٍ فَحَبَسَهُ وَسَرَّحَ الْجَيْشَ، وَهُمْ سِتَّةُ آلافٍ، خَمْسَةُ آلافٍ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَأَلْفٌ مِنْ أَفْنَاءِ الْيَمَنِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، فَجَعَلَهُ أَمَامَهُ، وَجَعَلَ عَلَى إِحْدَى مُجَنِّبَتَيْهِ قَيْسَ بْنَ هُبَيْرَةَ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الْمُرَادِيَّ -وَلَمْ يَكُنْ شَهِدَ الأَيَّامَ، أَتَاهُمْ وَهُمْ بِالْيَرْمُوكِ حِينَ صُرِفَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَصُرِفَ مَعَهُمْ- وَعَلَى الْمُجَنِّبَةِ الأُخْرَى الْهَزْهَازَ بْنَ عَمْرٍو الْعِجْلِيَّ، وَعَلى السَّاقَةِ أَنَسَ بْنَ عَبَّاسٍ.
فَانْجَذَبَ الْقَعْقَاعُ وَطَوَى وَتَعَجَّلَ، فَقَدِمَ عَلَى النَّاسِ صَبِيحَةَ يَوْمِ أَغْوَاثَ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يَتَقَطَّعُوا أَعْشَارًا، وَهُمْ أَلْفٌ، فَكُلَّمَا بَلَغَ عَشَرَةً مَدَى الْبَصَرِ سَرَّحُوا فِي آثَارِهِمْ عَشَرَةً، فَقَدَّمَ الْقَعْقَاعُ أَصْحَابَهُ فِي عَشَرَةٍ، فَأَتَى الناس فسلم عليهم، وبشرهم بالجنود، فقال: يا ايها النَّاسُ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ فِي قَوْمٍ، وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانُوا بِمَكَانِكُمْ، ثُمَّ أَحَسُّوكُمْ حَسَدُوكُمْ حَظْوَتَهَا، وَحَاوَلُوا أَنْ يَطَّيَّرُوا بِهَا دُونَكُمْ، فَاصْنَعُوا كَمَا أَصْنَعُ، فَتَقَدَّمَ ثُمَّ نَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟
فَقَالُوا فِيهِ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: لا يُهْزَمُ جَيْشٌ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا، وَسَكَنُوا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ذُو الْحَاجِبِ، فَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا بهمنُ جَاذُوَيْهِ، فَنَادَى: يَا لِثَارَاتِ أَبِي عُبَيْدٍ وَسُلَيْطٍ وَأَصْحَابِ يَوْمِ الْجِسْرِ! فَاجْتَلَدَا، فَقَتَلَهُ الْقَعْقَاعُ، وَجَعَلَتْ خَيْلُهُ تَرِدُ قِطَعًا، وَمَا زَالَتْ تَرِدُ إِلَى اللَّيْلِ وَتَنْشَطُ النَّاسُ، وَكَأَنَّ لَمْ يَكُنْ بِالأَمْسِ مُصِيبَةٌ، وَكَأَنَّمَا اسْتَقْبَلُوا قِتَالَهُمْ بِقَتْلِ الْحَاجِبِيِّ وَللحاق القطع، وَانْكَسَرَتِ الأَعَاجِمُ لِذَلِكَ وَنَادَى الْقَعْقَاعُ أَيْضًا: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلانِ: أَحَدُهُمَا البيرزَانُ وَالآخَرُ الْبندوَانُ، فَانْضَمَّ إِلَى الْقَعْقَاعِ الْحَارِثُ بْنُ ظَبْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ أَخُو بَنِي تَيْمِ اللاتِ، فَبَارَزَ الْقَعْقَاعُ الْبيرزَانَ، فَضَرَبَهُ فَأَذْرَى رَأْسَهُ، وَبَارَزَ ابْنُ ظَبْيَانَ الْبندوَانَ، فَضَرَبَهُ فَأَذْرَى رَأْسَهُ، وَتَوَرَّدَهُمْ فِرْسَانُ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ الْقَعْقَاعُ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، بَاشِرُوهُمْ بِالسُّيُوفِ، فَإِنَّمَا يُحْصَدُ النَّاسُ بِهَا! فَتَوَاصَى النَّاسُ، وَتَشَايَعُوا إِلَيْهِمْ، فَاجْتَلَدُوا بِهَا حَتَّى الْمَسَاءِ فَلَمْ يَرَ أَهْلُ فَارِسَ فِي هَذَا الْيَوْمِ شَيْئًا مِمَّا يُعْجِبُهُمْ، وَأَكْثَرَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى فيل، كَانَتْ توابيتها تَكَسَّرَتْ بِالأَمْسِ، فَاسْتَأْنَفُوا عِلاجَهَا حِينَ أَصْبَحُوا فَلَمْ تَرْتَفِعْ حَتَّى كَانَ الْغَدُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القادسية، فقالت لبنيها: إنكم اسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثوبوا، ولم تنب بكم البلاد، ولم تقحمكم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين يدي اهل فارس، والله إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره فأقبلوا يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء، وهي تقول: اللهم ادفع عن بني! فرجعوا إليها، وقد أحسنوا القتال، ما كُلِمَ منهم رجل كَلْمًا، فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء، ثم يأتون أمهم، فيلقونه في حجرها، فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يصلحهم ويرضيهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فازر القعقاع يومئذ ثلاثة نفر من بني يربوع رياحيين، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمون، ويحمل ويحملون، واليربوعيون: نعيم بْن عمرو بْن عتاب، وعتاب بْن نعيم بْن عتاب بْن الحارث ابن عمرو بْن همام، وعمرو بْن شبيب بْن زنباع بْن الحارث بْن ربيعة، أحد بني زيد وقدم ذلك اليوم رسول لعمر بأربعة أسياف وأربعة أفراس يقسمها فيمن انتهى إليه البلاء، إن كنت لقيت حربا فدعا حمال بْن مالك والربيل بْن عمرو بْن ربيعة الوالبيين وطليحة بْن خويلد الفقعسي -وكلهم من بني أسد- وعاصم بْن عمرو التميمي، فأعطاهم الأسياف، ودعا القعقاع ابن عمرو واليربوعيين فحملهم على الأفراس، فأصاب ثلاثة من بنى يربوع ثلاثة أرباعها، وأصاب ثلاثة من بني أسد ثلاثة أرباع السيوف، فقال في ذلك الربيل بْن عمرو:
لقد علم الأقوام أنا أحقهم *** إذا حصلوا بالمرهفات البواتر
وما فتئت خيلي عشية أرمثوا *** يذودون رهوا عن جموع العشائر
لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم *** وقد أفلحت أخرى الليالي الغوابر
وقال القعقاع في شأن الخيل:
لم تعرف الخيل العراب سواءنا *** عشية أغواث بجنب القوادس
عشية رحنا بالرماح كأنها *** على القوم ألوان الطيور الرسارس
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن القاسم بْن سليم بْن عبد الرحمن السعدي، عن أبيه، قال: كان يكون أول القتال في كل أيامها المطاردة، فلما قدم القعقاع قال: يا أيها الناس، اصنعوا كما اصنع، ونادى: من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله، ثم البيرزان فقتله، ثم خرج الناس من كل ناحية، وبدأ الحرب والطعان، وحمل بنو عم القعقاع يومئذ عشرة عشرة من الرجالة، على إبل قد ألبسوها فهي مجللة مبرقعة، وأطافت بهم خيولهم، تحميهم، وأمرهم أن يحملوا على خيلهم بين الصفين يتشبهون بالفيلة، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم، وركبتهم خيول المسلمين فلما رأى ذلك الناس استنوا بهم، فلقي فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
وحمل رجل من بني تميم ممن كان يحمي العشيرة يقال له سواد، وجعل يتعرض للشهادة، فقتل بعد ما حمل، وأبطأت عليه الشهادة، حتى تعرض لرستم يريده، فأصيب دونه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء ابن زياد، والقاسم بْن سليم، عن أبيه، قالا: خرج رجل من أهل فارس، ينادي: من يبارز؟ فبرز له علباء بْن جحش العجلي، فنفحه علباء، فأسحره، ونفحه الآخر فأمعاه، وخرا، فأما الفارسي فمات من ساعته، وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه، فلم يستطع القيام، فعالج إدخالها فلم يتأت له حتى مر به رجل من المسلمين، فقال: يا هذا، أعني على بطني، فأدخله له، فأخذ بصفاقيه، ثم زحف نحو صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه، إلى صف فارس، وقال:
أرجو بها من ربنا ثوابا *** قد كنت ممن أحسن الضرابا
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: وخرج رجل من أهل فارس فنادى: من يبارز؟
فبرز له الأعرف بْن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز له آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه، وندر سلاحه عنه فاخذوه، فغبر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه، وقال في ذلك:
وإن يأخذوا بزي فإني مجرب *** خروج من الغماء محتضر النصر
وإني لحام من وراء عشيرتي *** ركوب لآثار الهوى محفل الأمر
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: فحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها، وجعل يرتجز ويقول:
أزعجهم عمدا بها إزعاجا *** أطعن طعنا صائبا ثجاجا
أرجو به من جنة أفواجا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد، قالوا: قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين في ثلاثين حملة، كلما حمل حمله قتل فيها، فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني، وقال في ذلك القعقاع:
حبوته جيلشه بالنفس *** هدارة مثل شعاع الشمس
في يوم أغواث فليل الفرس *** أنخس بالقوم أشد النخس
حتى تفيض معشري ونفسي
وبارز الأعور بْن قطبة شهر براز سجستان، فقتل كل واحد منهما صاحبه، فقال أخوه في ذلك:
لم أر يوما كان أحلى وأمر *** من يوم أغواث إذ افتر الثغر
من غير ضحك كان أسوا وأبر
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، وشاركهم ابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف النهار، فلما عدل النهار تزاحف الناس، فاقتتلوا بها صتيتا حتى انتصف الليل، فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة، وليلة أغواث تدعى السواد، والنصف الأول يدعى السواد ثم لم يزل المسلمون يرون في يوم أغواث في القادسية الظفر، وقتلوا فيه عامة أعلامهم، وجالت فيه خيل القلب، وثبت رجلهم، فلولا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا، فلما ذهب السواد بات الناس على مثل ما بات عليه القوم ليلة أرماث، ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا حتى تفايئوا فلما أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده: إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني، فإنهم أقوياء على عدوهم، وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظني، فإنهم على السواء فان سمعتهم ينتمون فايقظنى، فان انتماءهم عن السوء.
فقالوا: ولما اشتد القتال بالسواد، وكان أبو محجن قد حبس وقيد، فهو في القصر، فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله، فزبره ورده، فنزل، فأتى سلمى بنت خصفة، فقال: يا سلمى يا بنت آل خصفة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء، فلله علي إن سلمني اللَّه أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي، فقالت: وما انا وذاك! فرجع يرسف في قيوده، ويقول:
كفى حزنا أن تردي الخيل بالقنا *** وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت *** مصاريع دوني قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة *** فقد تركوني واحدا لا اخاليا
ولله عهد لا أخيس بعهده *** لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
فقالت سلمى: إني استخرت اللَّه ورضيت بعهدك، فأطلقته وقالت: أما الفرس فلا أعيرها، ورجعت إلى بيتها، فاقتادها فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها، ثم دب عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، فقالوا: بسرجها، وقال سعيد والقاسم: عريا، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة فكبر وحمل على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فندر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار، فقال بعضهم:
أوائل أصحاب هاشم أو هاشم نفسه وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر: والله لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء! وقال بعض الناس: إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن صاحب البلقاء الخضر، وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا: ملك يثبتنا، ولا يذكره الناس ولا يأبهون له، لأنه بات في محبسه، فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج، ووضع عن نفسه وعن دابته، وأعاد رجليه في قيديه، وقال:
لقد علمت ثقيف غير فخر *** بأنا نحن أكرمهم سيوفا
وأكثرهم دروعا سابغات *** وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنا وفدهم في كل يوم *** فإن عميوا فسل بهم عريفا
وليلة قادس لم يشعروا بي *** ولم أشعر بمخرجي الزحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائي *** وإن أترك أذيقهم الحتوفا
فقالت له سلمى: يا أبا محجن، في أي شيء حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، يبعثه على شفتي أحيانا، فيساء لذلك ثنائي، ولذلك حبسني، قلت:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة *** تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني *** أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وتروي بخمر الحص لحدي فإنني *** أسير لها من بعد ما قد أسوقها
ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث، وليلة الهدأة، وليلة السواد، حتى إذا أصبحت أتته وصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبي محجن، فدعا به فأطلقه، وقال: اذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم، والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدا.
يوم عماس
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد بإسنادهم، وابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: فأصبحوا من اليوم الثالث، وهم على مواقفهم، وأصبحت الأعاجم على مواقفهم، وأصبح ما بين الناس كالرجلة الحمراء -طيعني الحرة- ميل في عرض ما بين الصفين، وقد قتل من المسلمين ألفان من رثيث وميت، ومن المشركين عشرة آلاف من رثيث وميت وقال سعد: من شاء غسل الشهداء، ومن شاء فليدفنهم بدمائهم، وأقبل المسلمون على قتلاهم فأحرزوهم، فجعلوهم من وراء ظهورهم، وأقبل الذين يجمعون القتلى يحملونهم إلى المقابر، ويبلغون الرثيث إلى النساء، وحاجب بْن زيد على الشهداء، وكان النساء والصبيان يحفرون القبور في اليومين: يوم أغواث، ويوم أرماث، بعدوتي مشرق، فدفن الفان وخمسمائة من أهل القادسية وأهل الأيام، فمر حاجب وبعض أهل الشهادة وولاة الشهداء في أصل نخلة بين القادسية والعذيب، وليس بينهما يومئذ نخله غيرها، فكان الرثيث إذا حملوا فانتهي بهم إليها وأحدهم يعقل سألهم أن يقفوا به تحتها يستروح إلى ظلها، ورجل من الجرحى يدعى بجيرا، يقول وهو مستظل بظلها:
ألا يا اسلمي يا نخلة بين قادس *** وبين العذيب لا يجاورك النخل
ورجل من بني ضبة، أو من بني ثور يدعى غيلان، يقول:
ألا يا اسلمي يا نخلة بين جرعة *** يجاورك الجمان دونك والرغل
ورجل من بني تيم اللَّه، يقال له: ربعي يقول:
أيا نخلة الجرعاء يا جرعة العدى *** سقتك الغوادي والغيوث الهواطل
وقال الأعور بْن قطبة:
أيا نخلة الركبان لا زلت فانضري *** ولا زال في أكناف جرعائك النخل
وقال عوف بْن مالك التميمي -ويقال التيمي تيم الرباب-:
أيا نخلة دون العذيب بتلعة *** سقيت الغوادي المدجنات من النخل
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد، قالوا: وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلى الذي فارقهم فيه من الأمس، ثم قال: إذا طلعت لكم الشمس، فأقبلوا مائة مائة، كلما توارى عنكم مائة فليتبعها مائة، فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا، ففعلوا، ولا يشعر بذلك أحد، وأصبح الناس على مواقفهم قد أحرزوا قتلاهم، وخلوا بينهم وبين حاجب بْن زيد وقتلى المشركين بين الصفين قد أضيعوا، وكانوا لا يعرضون لأمواتهم، وكان مكانهم مما صنع اللَّه للمسلمين مكيدة فتحها ليشد بها أعضاد المسلمين، فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل، وطلعت نواصيها كبر وكبر الناس، وقالوا: جاء المدد، وقد كان عاصم بْن عمرو أمر أن يصنع مثلها، فجاءوا من قبل خفان، فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب، فاختلفوا الضرب والطعن، ومددهم متتابع، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم، وقد طلعوا في سبعمائة، فأخبروه برأي القعقاع وما صنع في يوميه، فعبى أصحابه سبعين سبعين، فلما جاء آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه، فيهم قيس بْن هبيرة بْن عبد يغوث -ولم يكن من أهل الأيام، إنما أتى من اليمن اليرموك- فانتدب مع هاشم، فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب، كبر وكبر المسلمون، وقد أخذوا مصافهم، وقال هاشم: أول القتال المطاردة ثم المراماة، فأخذ قوسه، فوضع سهما على كبدها، ثم نزع فيها، فرفعت فرسه راسها، فخل اذنها، فضحك وقال: واسوأتاه من رمية رجل! كل من رأى ينتظره! أين ترون سهمي كان بالغا؟ فقيل: العتيق، فنزقها وقد نزع السهم، ثم ضربها حتى بلغت العتيق، ثم ضربها فأقبلت به تخرقهم، حتى عاد إلى موقفه، وما زالت مقانبه تطلع إلى الأولى، وقد بات المشركون في علاج توابيتهم، حتى أعادوها، وأصبحوا على مواقفهم، وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرجالة فرسان يحمونهم، إذا أرادوا كتيبة دلفوا لها بفيل وأتباعه، لينفروا بهم خيلهم فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس، لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد كان أوحش، وإذا أطافوا به كان آنس، فكان القتال كذلك، حتى عدل النهار، وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدا، العرب والعجم فيه على السواء، ولا يكون بينهم نقطة إلا تعاورها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرد، فيبعث إليهم أهل النجدات ممن بقي عنده، فيقوون بهم، وأصبحت عنده للذي لقي بالأمس الأمداد على البرد، فلولا الذي صنع اللَّه للمسلمين بالذي ألهم القعقاع في اليومين وأتاح لهم بهاشم، كسر ذلك المسلمين.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قدم هاشم بْن عتبة من قبل الشام، معه قيس بن المكشوح المرادى في سبعمائة بعد فتح اليرموك ودمشق، فتعجل في سبعين، فيهم سعيد بْن نمران الهمداني قال مجالد: وكان قيس بْن أبي حازم مع القعقاع في مقدمة هاشم.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن جخدب بْن جرعب، عن عصمة الوابلي -وكان قد شهد القادسية- قال: قدم هاشم في أهل العراق من الشام، فتعجل أناس ليس معه أحد من غيرهم إلا نفير، منهم ابن المكشوح، فلما دنا تعجل في ثلاثمائة، فوافق الناس وهم على مواقفهم، فدخلوا مع الناس في صفوفهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان اليوم الثالث يوم عماس، ولم يكن في أيام القادسية مثله، خرج الناس منه على السواء، كلهم على ما أصابه كان صابرا، وكلما بلغ منهم المسلمون بلغ الكافرون من المسلمين مثله، وكلما بلغ الكافرون من المسلمين بلغ المسلمون من الكافرين مثله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن الريان، عن إسماعيل بْن مُحَمَّد بْن سعد، قال: قدم هاشم بْن عتبة القادسية يوم عماس، فكان لا يقاتل إلا على فرس أنثى، لا يقاتل على ذكر، فلما وقف في الناس رمى بسهم، فأصاب اذن فرسه، فقال: واسوأتاه من هذه! أين ترون سهمي كان بالغا لو لم يصب أذن الفرس! قالوا: كذا وكذا، فأجال فنزل وترك فرسه، ثم خرج يضربهم حتى بلغ حيث قالوا.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وكان في الميمنة.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن الريان، عن إسماعيل بْن مُحَمَّد، قال: كنا نرى أنه كان على الميمنة، وما كان عامة جنن الناس إلا البراذع، براذع الرحال، قد أعرضوا فيها الجريد، وعصب من لم يكن له وقاية رءوسهم بالأنساع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابى كبران الحسن ابن عقبة، أن قيس بْن المكشوح، قال مقدمه من الشام مع هاشم، وقام فيمن يليه، فقال لهم: يا معشر العرب، إن اللَّه قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأصبحتم بنعمة اللَّه إخوانا.
دعوتكم واحدة، وأمركم واحد، بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد، ويختطف بعضكم بعضا اختطاف الذئاب، فانصروا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وتنجزوا من اللَّه فتح فارس، فإن إخوانكم من أهل الشام قد أنجز اللَّه لهم فتح الشام، وانتثال القصور الحمر والحصون الحمر.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المقدام الحارثي، عن الشعبي، قال: قال عمرو بْن معديكرب: إني حامل على الفيل ومن حوله -لفيل بإزائهم- فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور، فإني لكم مثل أبي ثور! فإن أدركتموني وجدتموني وفي يدي السيف فحمل فما انثنى حتى ضرب فيهم، وستره الغبار، فقال أصحابه: ما تنتظرون! ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم، فحملوا حملة، فأفرج المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه، وإن سيفه لفي يده يضاربهم، وقد طعن فرسه، فلما رأى أصحابه، وانفرج عنه أهل فارس أخذ برجل فرس رجل من أهل فارس، فحركه الفارسي، فاضطرب الفرس، فالتفت الفارسي إلى عمرو، فهم به وأبصره المسلمون، فغشوه، فنزل عنه الفارسي، وحاضر إلى أصحابه، فقال عمرو: أمكنوني من لجامه، فأمكنوه منه فركبه.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد اللَّه بْن المغيرة العبدي، عن الأسود بْن قيس، عن أشياخ لهم شهدوا القادسية، قالوا: لما كان يوم عماس خرج رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى: من يبارز؟ فخرج رجل منا يقال له شبر بْن علقمة -وكان قصيرا قليلا دميما- فقال: يا معشر المسلمين قد أنصفكم الرجل، فلم يجبه أحد، ولم يخرج إليه أحد، فقال: أما والله لولا أن تزدروني لخرجت إليه فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه وحجفته، وتقدم فلما رآه الفارسي هدر، ثم نزل إليه فاحتمله، فجلس على صدره، ثم أخذ سيفه ليذبحه ومقود فرسه مشدود بمنطقته، فلما استل السيف حاص الفرس حيصة فجذبه المقود، فقلبه عنه، فأقبل عليه وهو يسحب، فافترشه، فجعل أصحابه يصيحون به، فقال: صيحوا ما بدا لكم، فو الله لا أفارقه حتى أقتله وأسلبه فذبحه وسلبه، ثم أتى به سعدا، فقال: إذا كان حين الظهر فأتني، فوافاه بالسلب، فحمد اللَّه سعد وأثنى عليه، ثم قال: إني قد رأيت أن أنحله إياه، وكل من سلب سلبا فهو له، فباعه باثني عشر ألفا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَلَمَّا رَأَى سَعْدٌ الْفِيَلَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَتَائِبِ وَعَادَتْ لِفِعْلِهَا يَوْمَ أَرْمَاثَ، أَرْسَلَ إِلَى أُولَئِكَ الْمُسِلَمَةِ: ضَخْمٍ، وَمُسْلِمٍ، وَرَافِعٍ، وَعَشَنَّقٍ، وَأَصْحَابِهِمْ مِنَ الْفُرْسِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ عَنِ الْفِيَلَةِ: هَلْ لَهَا مَقَاتِلٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمِ، الْمَشَافِرُ وَالْعُيُونُ لا يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْدَهَا فَأَرْسَلَ إِلَى الْقَعْقَاعِ وَعَاصِمِ ابْنَيْ عَمْرٍو: اكْفِيَانِي الأَبْيَضَ -وَكَانَتْ كُلُّهَا آلِفَةً لَهُ، وَكَانَ بِإِزَائِهِمَا- وَأَرْسَلَ إِلَى حَمَّالٍ وَالرَّبِيلِ: اكْفِيَانِي الْفِيلَ الأَجْرَبَ، وَكَانَتْ آلِفَةً لَهُ كُلُّهَا، وَكَانَ بِإِزَائِهِمَا، فَأَخَذَ الْقَعْقَاعُ وَعَاصِمٌ رُمْحَيْنِ أَصَمَّيْنِ لَيِّنَيْنِ وَدَبَّا فِي خَيْلٍ وَرَجُلٍ فَقَالا: اكْتَنِفُوهُ لِتُخِيرُوهُ، وَهُمَا مَعَ الْقَوْمِ، فَفَعَلَ حَمَّالٌ وَالرَّبِيلُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَالَطُوهُمَا اكْتَنَفُوهُمَا، فَنَظَرَ كُلٌّ واحد مِنْهُمَا يُمْنَةً وَيُسْرَةً، وَهُمَا يُرِيدَانِ أَنْ يَتَخَبَّطَا، فَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ وَعَاصِمٌ، وَالْفِيلُ مُتَشَاغِلٌ بِمَنْ حَوْلَهُ، فَوَضَعَا رُمْحَيْهِمَا مَعًا فِي عَيْنَيِ الْفِيلِ الأَبْيَضِ، وَقَبَعَ وَنَفَضَ رَأْسَهُ، فَطَرَحَ سَائِسَهُ وَدَلَّى مِشْفَرَهُ، فَنَفَحَهُ الْقَعْقَاعُ، فَرَمَى بِهِ وَوَقَعَ لِجَنْبِهِ، فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ عَلَيْهِ، وَحَمَلَ حَمَّالٌ، وَقَالَ لِلرَّبِيلِ: اخْتَرْ، إِمَّا أَنْ تَضْرِبَ الْمِشْفَرَ وَأَطْعَنُ فِي عَيْنِهِ، أَوْ تَطْعَنُ فِي عَيْنِهِ وَأَضْرَبُ مِشْفَرَهُ، فَاخْتَارَ الضَّرْبَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ حَمَّالٌ وَهُوَ مُتَشَاغِلٌ بِمُلاحَظَةِ مَنِ اكْتَنَفَهُ، لا يَخَافُ سَائِسُهُ إِلا عَلَى بِطَانِهِ، فَانْفَرَدَ بِهِ أُولَئِكَ، فَطَعَنَهُ فِي عَيْنِهِ، فَأَقْعَى، ثُمَّ اسْتَوَى وَنَفَحَهُ الرَّبِيلُ، فَأَبَانَ مِشْفَرَهُ وَبَصُرَ بِهِ سَائِسُهُ، فَبَقَرَ أَنْفَهُ وَجَبِينَهُ بِفَأْسِهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قال رجلان من بني أسد، يقال لهما الربيل وحمال: يا معشر المسلمين أي الموت أشد؟ قالوا: أن يشد على هذا الفيل، فنزقا فرسيهما حتى إذا قاما على السنابك ضرباهما على الفيل الذي بإزائهما، فطعن أحدهما في عين الفيل، فوطئ الفيل من خلفه، وضرب الآخر مشفره، فضربه سائس الفيل ضربة شائنة بالطبرزين في وجهه، فأفلت بها هو والربيل، وحمل القعقاع وأخوه على الفيل الذي بازائهما، ففقأ عينيه، وقطعا مشفره، فبقي متلددا بين الصفين، كلما أتى صف المسلمين وخزوه، وإذا أتى صف المشركين نخسوه.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: كان في الفيلة فيلان يعلمان الفيلة، فلما كان يوم القادسية حملوهما على القلب، فأمر بهما سعد القعقاع وعاصما التميميين وحمالا والربيل الأسديين، فذكر مثل الأول إلا أن فيه: وعاش بعد، وصاح الفيلان صياح الخنزير، ثم ولى الأجرب الذي عور، فوثب في العتيق، فاتبعته الفيلة، فخرقت صف الأعاجم فعبرت العتيق في أثره، فأتت المدائن في توابيتها، وهلك من فيها.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فلما ذهبت الفيلة، وخلص المسلمون بأهل فارس، ومال الظل تزاحف المسلمون، وحماهم فرسانهم الذين قاتلوا أول النهار، فاجتلدوا بها حتى أمسوا على حرد، وهم في ذلك على السواء، لأن المسلمين حين فعلوا بالفيول ما فعلوا، تكتبت كتائب الإبل المجففة، فعرقبوا فيها، وكفكفوا عنها.
وقال في ذلك القعقاع بْن عمرو:
حضض قومي مضرحي بْن يعمر *** فلله قومي حين هزوا العواليا
وما خام عنها يوم سارت جموعنا *** لأهل قديس يمنعون المواليا
فإن كنت قاتلت العدو فللته *** فإني لألقى في الحروب الدواهيا
فيولا أراها كالبيوت مغيرة *** أسمل أعيانا لها ومآقيا
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما أمسى الناس من يومهم ذلك، وطعنوا في الليل، اشتد القتال وصبر الفريقان، فخرجا على السواء إلا الغماغم من هؤلاء وهؤلاء، فسميت ليلة الهرير، لم يكن قتال بليل بعدها بالقادسية.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو ابن مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَيْشٍ، أَنَّ سَعْدًا بَعَثَ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ طُلَيْحَةَ وَعَمْرًا إِلَى مَخَاضَةٍ أَسْفَلَ مِنَ الْعَسْكَرِ لِيَقُومَا عَلَيْهَا خَشْيَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْقَوْمُ مِنْهَا، وَقَالَ لَهُمَا: إِنْ وَجَدْتُمَا الْقَوْمَ قَدْ سَبَقُوكُمَا إِلَيْهَا فَانْزِلا بِحِيَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَجِدَاهُمْ عَلِمُوا بِهَا، فَأَقِيمَا حَتَّى يَأْتِيَكُمَا أَمْرِي -وَكَانَ عُمَرُ قَدْ عَهِدَ إِلَى سَعْدٍ أَلا يُوَلِّيَ رُؤَسَاءَ أَهْلِ الرِّدَّةِ عَلَى مِائَةٍ- فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الْمَخَاضَةِ فَلَمْ يَرَيَا فِيهَا أَحَدًا، قَالَ طُلَيْحَةُ: لَوْ خُضْنَا فَأَتَيْنَا الأَعَاجِمَ مِنْ خَلْفِهِمْ! فَقَالَ عَمْرٌو: لا، بَلْ نَعْبُرُ أَسْفَلَ، فَقَالَ طُلَيْحَةُ: إِنَّ الَّذِي أَقُولُهُ أَنْفَعُ لِلنَّاسِ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّكَ تَدْعُونِي إِلَى مَا لا أُطِيقُ، فَافْتَرَقَا، فَأَخَذَ طُلَيْحَةُ نَحْوَ الْعَسْكَرِ مِنْ وَرَاءِ الْعَتِيقِ وَحْدَهُ، وَسَفَلَ عَمْرٌو بِأَصْحَابِهِمَا جَمِيعًا، فَأَغَارُوا، وَثَارَتْ بِهِمُ الأَعَاجِمُ، وَخَشِيَ سَعْدٌ مِنْهُمَا الَّذِي كَانَ، فَبَعَثَ قَيْسَ بْنَ الْمَكْشُوحِ فِي آثَارِهِمَا فِي سَبْعِينَ رَجُلا، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ نُهِيَ عَنْهُمْ أَنْ يُوَلِّيَهُمُ الْمِائَةَ، وَقَالَ: إِنْ لَحِقْتَهُمْ فَأَنْتَ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ نَحْوَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَخَاضَةِ وَجَدَ الْقَوْمَ يَكْرُدُونَ عَمْرًا وَأَصْحَابَهُ، فَنَهْنَهَ النَّاسَ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ قَيْسٌ عَلَى عَمْرٍو يَلُومُهُ، فَتَلاحَيَا، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: إِنَّهُ قَدْ أُمِّرَ عَلَيْكَ، فَسَكَتَ، وَقَالَ: يَتَأَمَّرُ عَلَيَّ رَجُلٌ قَدْ قَاتَلْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُمْرَ رَجُلٍ! فَرَجَعَ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَأَقْبَلَ طُلَيْحَةُ حَتَّى إِذَا كَانَ بحيال السكر، كَبَّرَ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَطَلَبَهُ الْقَوْمُ فَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ سَلَكَ! وَسَفَلَ حَتَّى خَاضَ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَأَتَى سَعْدًا فَأَخْبَرَهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ وَمَا يَدْرُونَ مَا هُوَ!
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن قدامة الكاهلي، عمن حدثه، أن عشرة إخوة من بني كاهل بْن أسد، يقال لهم بنو حرب، جعل أحدهم يرتجز ليلتئذ، ويقول:
أنا ابن حرب ومعى مخراق *** اضربهم بصارم رقراق
اذكره الموت أبو إسحاق *** وجاشت النفس على التراقي
صبرا عفاق إنه الفراق
وكان عفاق أحد العشرة، فأصيب فخذ صاحب هذا الشعر يومئذ، فأنشأ يقول:
صبرا عفاق إنها الأساوره *** صبرا ولا تغررك رجل نادره
فمات من ضربته يومئذ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أَبِيهِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي شَجَّارٍ، قَالَ: بَعَثَ سَعْدٌ طُلَيْحَةَ فِي حَاجَةٍ فَتَرَكَهَا، وَعَبَرَ الْعَتِيقَ، فَدَارَ إِلَى عَسْكَرِ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا وَقَفَ عَلَى رَدْمِ النَّهْرِ كَبَّرَ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، فَرَاعَ أَهْلَ فَارِسَ، وَتَعَجَّبَ الْمُسْلِمُونَ، فَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ، فَأَرْسَلَتِ الأَعَاجِمُ فِي ذَلِكَ، وَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذلك ثم انهم عادوا وجددوا تعبئة، وَأَخَذُوا فِي أَمْرٍ لَمْ يَكُونُوا عَلَيْهِ فِي الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى تَعْبِيَتِهِمْ، وَجَعَلَ طُلَيْحَةُ يَقُولُ: لا تَعْدَمُوا امْرَأً ضَعْضَعَكُمْ.
وَخَرَجَ مَسْعُودُ بْنُ مَالِكٍ الأَسَدِيُّ وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ وَابْنُ ذِي الْبُرْدَيْنِ الْهِلالِيُّ وَابْنُ ذِي السَّهْمَيْنِ وَقَيْسُ بْنُ هُبَيْرَةَ الأَسَدِيُّ، وَأَشْبَاهُهُمْ، فَطَارَدُوا الْقَوْمَ، وَانْبَعَثُوا لِلْقِتَالِ، فَإِذَا الْقَوْمُ لمة لا يَشُدُّونَ، وَلا يُرِيدُونَ غَيْرَ الزَّحْفِ، فَقَدَّمُوا صَفًّا لَهُ أذنانِ، وَأَتْبَعُوا آخَرَ مِثْلَهُ، وَآخَرَ وَآخَرَ، حَتَّى تَمَّتْ صُفُوفُهُمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ صَفًّا فِي الْقَلْبِ وَالْمُجَنِّبَتَيْنِ كَذَلِكَ، فَلَمَّا أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ فِرْسَانُ الْعَسْكَرِ رَامُوهُمْ فَلَمْ يَعْطِفْهُمْ ذَلِكَ عَنْ رُكُوبِهِمْ، ثُمَّ لَحِقَتْ بِالْفِرْسَانِ الْكَتَائِبُ، فَأُصِيبَ لَيْلَتَئِذٍ خَالِدُ بْنُ يَعْمُرَ التَّمِيمِيُّ، ثُمَّ الْعمرِيُّ، فَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ عَلَى نَاحِيَتِهِ الَّتِي رَمَى بِهَا مُزْدَلِفًا، فَقَامُوا عَلَى سَاقٍ، فَقَالَ الْقَعْقَاعُ:
سَقَى اللَّهُ يَا خَوْصَاءُ قَبْرَ ابْنِ يَعْمُرٍ *** إِذَا ارْتَحَلَ السُّفَارُ لَمْ يَتَرَحَّلِ
سَقَى اللَّهُ أَرْضًا حَلَّهَا قَبْرُ خَالِدٍ *** ذَهَابَ غَوَادٍ مُدْجِنَاتٍ تُجَلْجِلِ
فَأَقْسَمْتُ لا يَنْفَكُّ سَيْفِي يَحُسُّهُمْ *** فَإِنْ زَحَلَ الأَقْوَامُ لَمْ أَتَزَحَّلِ
فَزَاحَفَهُمْ وَالنَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِ سَعْدٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ اغْفِرْهَا لَهُ، وَانْصُرْهُ قَدْ أَذِنْتُ لَهُ إِذْ لَمْ يَسْتَأْذِنِّي، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى مَوَاقِفِهِمْ، إِلا مَنْ تَكَتَّبَ أَوْ طَارَدَهُمْ وَهُمْ ثَلاثَةُ صُفُوفٍ، فَصَفٌّ فِيهِ الرَّجَّالَةُ أَصْحَابُ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، وَصَفٌّ فِيهِ المراميةُ، وَصَفٌّ فِيهِ الْخُيُولُ، وَهُمْ أَمَامَ الرَّجَّالَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَيْمَنَةُ، وَكَذَلِكَ الْمَيْسَرَةُ وَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّ الأَمْرَ الَّذِي صَنَعَ الْقَعْقَاعُ، فَإِذَا كَبَّرْتُ ثَلاثًا فَازْحَفُوا، فَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً فَتَهَيَّئُوا، وَرَأَى النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلَ الَّذِي رَأَى، وَالرَّحَى تَدُورُ عَلَى الْقَعْقَاعِ وَمَنْ مَعَهُ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد اللَّه بْن عبد الأعلى، عن عمرو بْن مرة، قال: وقام قيس بْن هبيرة المرادي فيمن يليه، ولم يشهد شيئا من لياليها إلا تلك الليلة، فقال: إن عدوكم قد أبى إلا المزاحفة، والرأي رأي أميركم، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجالة، فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم، ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم، فتيسروا للحملة فتيسروا وانتظروا التكبيرة وموافقة حمل الناس، وإن نشاب الأعاجم لتجوز صف المسلمين.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بْن يزيد، عمن حدثه، قال: وقال دريد بْن كعب النخعي، وكان معه لواء النخع: ان المسلمين تهيئوا للمزاحفة، فاسبقوا المسلمين الليلة إلى اللَّه والجهاد، فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، نافسوهم في الشهادة، وطيبوا بالموت نفسا، فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة ما أردتم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الأجلح، قال: قال الأشعث بْن قيس: يا معشر العرب، إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم أجرأ على الموت، ولا أسخى أنفسا عن الدنيا، تنافسوا الأزواج والأولاد، ولا تجزعوا من القتل، فإنه أماني الكرام، ومنايا الشهداء، وترجل.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن مُحَمَّد، قال: قال حنظلة بْن الربيع وأمراء الأعشار: ترجلوا أيها الناس، وافعلوا كما نفعل، ولا تجزعوا مما لا بد منه، فالصبر أنجى من الفزع وفعل طليحة وغالب وحمال وأهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والنضر بْن السري، قالا: ونزل ضرار بْن الخطاب القرشي، وتتابع على التسرع إليهم الناس كلهم فيها بين تكبيرات سعد حين استبطئوه فلما كبر الثانية، حمل عاصم بْن عمرو حتى انضم إلى القعقاع، وحملت النخع، وعصى الناس كلهم سعدا، فلم ينتظر الثالثة إلا الرؤساء، فلما كبر الثالثة زحفوا فلحقوا بأصحابهم، وخالطوا القوم، فاستقبلوا الليل استقبالا بعد ما صلوا العشاء.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله بْن أبي طيبة، عن أبيه، قال: حمل الناس ليلة الهرير عامة، ولم ينتظروا بالحملة سعدا، وكان أول من حمل القعقاع، فقال: اللهم اغفرها له وانصره.
وقال: واتميماه سائر الليلة! ثم قال: أرى الأمر ما فيه هذا، فإذا كبرت ثلاثا فاحملوا فكبر واحدة فلحقتهم أسد، فقيل: قد حملت أسد، فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم، واأسداه سائر الليلة! ثم قيل: حملت النخع، فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم، وانخعاه سائر الليلة! ثم قيل: حملت بجيلة، فقال: اللهم اغفرها لهم، وانصرهم، وابجيلتاه! ثم حملت الكنود، فقيل: حملت كندة، فقال: واكندتاه! ثم زحف الرؤساء بمن انتظر التكبيرة، فقامت حربهم على ساق حتى الصباح، فذلك ليلة الهرير.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن نويرة، عن عمه أنس بْن الحليس، قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغا، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قط، وانقطعت الأصوات والأخبار عن رستم وسعد، وأقبل سعد على الدعاء، حتى إذا كان وجه الصبح، انتهى الناس فاستدل بذلك على أنهم الأعلون، وأن الغلبة لهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن الأعور بْن بنان المنقري، قال: أول شيء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح في نصف الليل الباقي صوت القعقاع بْن عمرو وهو يقول:
نحن قتلنا معشرا وزئدا *** اربعه وخمسه وواحدا
يحسب فوق اللبد الأساودا *** حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا
اللَّه ربي، واحترزت عامدا
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الأعور ومحمد، عن عمه، والنضر عن ابن الرفيل، قالوا: اجتلدوا تلك الليلة من أولها حتى الصباح لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسميت ليلة الهرير.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: بَعَثَ سَعْدٌ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِجَادًا وَهُوَ غُلامٌ إِلَى الصَّفِّ، إِذْ لَمْ يَجِدْ رَسُولا، فَقَالَ: انْظُرْ مَا تَرَى مِنْ حَالِهِمْ، فَرَجَعَ فَقَالَ: مَا رَأَيْتَ أَيْ بُنَيَّ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمْ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ: أَوْ يَجِدُّونَ!
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن جرير العبدي، عن عابس الجعفي، عن أبيه، قال: كانت بإزاء جعفي يوم عماس كتيبة من كتائب العجم، عليهم السلاح التام، فازدلفوا لهم، فجالدوهم بالسيوف، فرأوا أن السيوف لا تعمل في الحديد فارتدعوا، فقال حميضة: ما لكم؟ قالوا: لا يجوز فيهم السلاح، قال: كما أنتم حتى أريكم، انظروا فحمل على رجل منهم، فدق ظهره بالرمح، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: ما أراهم إلا يموتون دونكم فحملوا عليهم فأزالوهم إلى صفهم.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: لا والله ما شهدها من كنده خاصه الا سبعمائة، وكان بإزائهم ترك الطبري، فقال الأشعث: يا قوم ازحفوا لهم، فزحف لهم في سبعمائة، فأزالهم وقتل تركا، فقال راجزهم:
نحن تركنا تركهم في المصطره *** مختضبا من بهران الأبهره
ليلة القادسية
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وأصبحوا ليلة القادسية، وهي صبحة ليلة الهرير، وهي تسمى ليلة القادسية، من بين تلك الأيام والناس حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلها، فسار القعقاع في الناس، فقال: إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر فآثروا الصبر على الجزع.
فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء، وصمدوا لرستم، حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح، ولما رأت ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بْن عبد يغوث والأشعث ابن قيس وعمرو بْن معديكرب وابن ذي السهمين الخثعمي وابن ذي البردين الهلالي، فقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر اللَّه منكم، ولا يكونن هؤلاء -لأهل فارس- أجرأ على الموت منكم، ولا أسخى أنفسا عن الدنيا، تنافسوها فحملوا مما يليهم حتى خالطوا الذين بإزائهم، وقام في ربيعة رجال، فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى، فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم بالجرأة! فكان أول من زال حين قام قائم الظهيرة الهرمزان والبيرزان، فتأخرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب حين قام قائم الظهيرة، وركد عليهم النقع، وهبت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم عن سريره، فهوت في العتيق، وهي دبور، ومال الغبار عليهم، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به، وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال يومئذ فهي واقفة، فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بْن علفة الحمل الذي رستم تحته، فقطع حباله، ووقع عليه أحد العدلين، ولا يراه هلال ولا يشعر به، فأزال من ظهره فقارا، ويضربه ضربة فنفحت مسكا، ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه، فتناوله وقد عام، وهلال قائم، فأخذ برجله، ثم خرج به إلى الجد، فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به حتى رمى به بين أرجل البغال، وصعد السرير، ثم نادى: قتلت رستم ورب الكعبة، إلي، فأطافوا به وما يحسون السرير ولا يرونه، وكبروا وتنادوا، وانبت قلب المشركين عندها وانهزموا، وقام الجالنوس على الردم، ونادى أهل فارس إلى العبور، وانسفر الغبار، فأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفا، وأخذ ضرار بْن الخطاب درفش كابيان، فعوض منها ثلاثين ألفا، وكانت قيمتها ألف ألف ومائتي ألف، وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام قبله.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عمرو بْن سلمة، قال: قتل هلال بْن علفة رستم يوم القادسية.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن مخراق، عن ابى كعب الطائي، عن أبيه، قال: أصيب من الناس قبل ليله الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ويوم القادسية ستة آلاف من المسلمين، فدفنوا في الخندق بحيال مشرق.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: لَمَّا انْكَشَفَ أَهْلُ فَارِسَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَالْعَتِيقِ أَحَدٌ، وَطَبَّقَتِ الْقَتْلَى مَا بَيْنَ قُدَيْسَ وَالْعَتِيقِ أَمَرَ سَعْدٌ زَهْرَةَ بِاتِّبَاعِهِمْ، فَنَادَى زَهْرَةُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَأَمَرَ الْقَعْقَاعَ بِمَنْ سَفُلَ، وَشُرَحْبِيلَ بِمَنْ عَلا، وَأَمَر خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ بِسَلْبِ الْقَتْلَى وَبِدَفْنِ الشُّهَدَاءَ، فَدَفَنَ الشُّهَدَاءَ، شُهَدَاءَ لَيْلَةَ الهرير ويوم القادسية، حول قديس الفان وخمسمائة وَرَاءَ الْعَتِيقِ بِحِيَالِ مُشَرِّقٍ، وَدُفِنَ شُهَدَاءُ مَا كَانَ قَبْلَ لَيْلَةِ الْهَرِيرِ عَلَى مُشَرِّقٍ، وَجُمِعَتِ الأَسْلابُ وَالأَمْوَالُ فَجُمِعَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يُجْمَعْ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ مِثْلُهُ، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى هلال، فدعا لَهُ، فَقَالَ: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: رَمَيْتُ بِهِ تحت ابغل، قال: اذهب فجيء بِهِ، فَذَهَبَ فَجَاءَ بِهِ، فَقَالَ: جَرِّدْهُ إِلا مَا شِئْتَ، فَأَخَذَ سَلَبَهُ فَلَمْ يَدَعْ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَمَّا رَجَعَ الْقَعْقَاعُ وَشُرَحْبِيلُ قَالَ لِهَذَا: اغْدِ فِيمَا طَلَبَ هَذَا، وَقَالَ لِهَذَا: اغْدِ فِيمَا طَلَبَ هَذَا، فَعَلا هَذَا، وَسَفَلَ هَذَا، حَتَّى بَلَغَا مِقْدَارَ الْخَرَّارَةِ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ، وَخَرَجَ زَهْرَةُ بْنُ الحوية فِي آثَارِهِمْ، وَانْتَهَى إِلَى الرَّدْمِ وَقَدْ بَثَقُوهُ لِيَمْنَعُوهُمْ بِهِ مِنَ الطَّلَبِ، فَقَالَ زَهْرَةُ: يَا بُكَيْرُ، أَقْدِمْ، فَضَرَبَ فَرَسَهُ، وَكَانَ يُقَاتِلُ عَلَى الإِنَاثِ، فَقَالَ: ثِبِي أَطْلالُ، فَتَجَمَّعَتْ وَقَالَتْ: وَثْبًا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ! وَوَثَبَ زَهْرَةُ -وَكَانَ عَنْ حِصَانٍ- وَسَائِرِ الْخَيْلِ فَاقْتَحَمَتْهُ، وَتَتَابَعَ على ذلك ثلاثمائة فَارِسٍ، وَنَادَى زَهْرَةُ حَيْثُ كَاعَتِ الْخَيْلُ: خُذُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى الْقَنْطَرَةِ، وَعَارِضُونَا، فَمَضَى وَمَضَى النَّاسُ إِلَى الْقَنْطَرَةِ يَتْبَعُونَهُ، فَلَحِقَ بِالْقَوْمِ وَالْجَالِنُوسُ فِي آخِرِهِمْ يَحْمِيهِمْ، فَشَاوَلَهُ زَهْرَةُ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَقَتَلَهُ زَهْرَةُ، وَأَخَذَ سَلَبَهُ، وَقَتَلُوا مَا بَيْنَ الْخَرَّارَةِ إِلَى السَّيْلَحِينِ، إِلَى النَّجَفِ، وَأَمْسَوْا فَرَجَعُوا فَبَاتُوا بِالْقَادِسِيَّةِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بْنِ شُبْرُمَةَ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: اقْتَحَمْنَا الْقَادِسِيَّةِ صَدْرَ النَّهَارِ، فَتَرَاجَعْنَا وَقَدْ أَتَى الصَّلاةَ، وَقَدْ أُصِيبَ الْمُؤَذِّنُ، فَتَشَاحَّ النَّاسُ فِي الأَذَانِ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَجْتَلِدُوا بِالسُّيُوفِ، فَأَقْرَعَ سَعْدٌ بَيْنَهُمْ، فَخَرَجَ سَهْمُ رَجُلٍ فَأَذَّنَ.
ثُمَّ رَجَعَ الْحَدِيثُ وَتَرَاجَعُ الطَّلَبُ الَّذِينَ طَلَبُوا مَنْ عَلا عَلَى القادسية ومن سفل عنها، وقد انى الصَّلاةَ وَقَدْ قُتِلَ الْمُؤَذِّنُ فَتَشَاحُّوا عَلَى الأَذَانِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ، وَأَقَامُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ وَلَيْلَتِهِمْ حَتَّى رَجَعَ زَهْرَةُ، وَأَصْبَحُوا وَهُمْ جَمِيعٌ لا يَنْتَظِرُونَ أَحَدًا مِنْ جُنْدِهِمْ، وَكَتَبَ سَعْدٌ بِالْفَتْحِ وَبِعِدَّةِ مَنْ قُتِلُوا وَمَنْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمَّى لِعُمَرَ مَنْ يَعْرِفُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرُّفَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَعَانِي سَعْدٌ، فَأَرْسَلَنِي أَنْظُرُ لَهُ فِي الْقَتْلَى، وَأُسَمِّي لَهُ رُءُوسَهُمْ، فَأَتَيْتُهُ فَأَعْلَمْتُهُ، وَلَمْ أَرَ رُسْتُمَ فِي مَكَانِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ التَّيْمِ يُدْعَى هِلالا، فَقَالَ: أَلَمْ تُبْلِغْنِي أَنَّكَ قَتَلْتَ رُسْتُمَ! قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ بِهِ؟ قَالَ: أَلْقَيْتُهُ تَحْتَ قَوَائِمِ الأَبْغَلِ، قَالَ: فَكَيْفَ قَتَلْتَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ، حَتَّى قَالَ: ضَرَبْتُ جَبِينَهُ وَأَنْفَهُ قَالَ: فَجِئْنَا بِهِ، فَأَعْطَاهُ سَلَبَهُ، وَكَانَ قَدْ تَخَفَّفَ حِينَ وَقَعَ إِلَى الْمَاءِ، فَبَاعَ الَّذِي عَلَيْهِ بِسَبْعِينَ أَلْفًا، وَكَانَتْ قِيمَةُ قَلَنْسُوَتِهِ مِائَةَ أَلْفٍ لَوْ ظَفَرَ بِهَا وَجَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْعُبَّادِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى سَعْدٍ، فَقَالُوا: أَيُّهَا الأَمِيرُ، رَأَيْنَا جَسَدَ رُسْتُمَ عَلَى بَابِ قَصْرِكَ وَعَلَيْهِ رَأْسُ غَيْرِهِ، وَكَانَ الضَّرْبُ قَدْ شَوَّهَهُ، فَضَحِكَ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد، قالوا: وقال الديلم ورؤساء أهل المسالح الذين استجابوا للمسلمين، وقاتلوا معهم على غير الإسلام: إخواننا الذين دخلوا في هذا الأمر من أول الشأن أصوب منا وخير، ولا والله لا يفلح أهل فارس بعد رستم إلا من دخل في هذا الأمر منهم، فأسلموا، وخرج صبيان العسكر في القتلى، ومعهم الأداوى يسقون من به رمق من المسلمين، ويقتلون من به رمق من المشركين، وانحدروا من العذيب مع العشاء قال: وخرج زهرة في طلب الجالنوس، وخرج القعقاع وأخوه وشرحبيل في طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم في كل قرية وأجمة وشاطئ نهر، ورجعوا فوافوا صلاة الظهر، وهنأ الناس أميرهم، وأثنى على كل حي خيرا، وذكره منهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، قَالَ: خَرَجَ زَهْرَةُ حَتَّى أَدْرَكَ الْجَالِنُوسَ، مَلِكًا مِنْ مُلُوكِهِمْ، بَيْنَ الْخَرَّارَةِ وَالسَّيْلَحِينِ، وَعَلَيْهِ يَارَقَانِ وَقَلبانِ وَقِرْطَانِ عَلَى بِرْذَوْنٍ لَهُ قَدْ خَضَدَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ زَهْرَةَ يَوْمَئِذٍ لَعَلَى فَرَسٍ لَهُ مَا عَنَانُهَا إِلا مِنْ حَبْلٍ مَضْفُورٍ كَالْمِقْوَدِ، وَكَذَلِكَ حِزَامُهَا شَعْرٌ مَنْسُوجٌ، فَجَاءَ بِسَلْبِهِ إِلَى سَعْدٍ، فَعَرَفَ الأُسَارَى الَّذِينَ عِنْدَ سَعْدٍ سَلْبَهُ، فَقَالُوا: هَذَا سَلَبُ الْجَالِنُوسُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: هَلْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: اللَّهُ، فَنَفَلَهُ سَلْبَهُ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَ سَعْدٌ اسْتَكْثَرَ لَهُ سَلَبَهُ، فَكَتَبَ فِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنِّي قَدْ نَفَّلْتُ مَنْ قَتَلَ رَجُلا سَلَبَهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ فَبَاعَهُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا.
وعَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْبَرْمَكَانِ، وَالْمُجَالِدِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَحِقَ بِهِ زَهْرَةُ، فَرَفَعَ لَهُ الْكَرَّةَ فَمَا يُخْطِئُهَا بِنُشَّابَةٍ، فَالْتَقَيَا فَضَرَبَهُ زَهْرَةُ فجد له -وَلِزَهْرَةَ يَوْمَئِذٍ ذُؤَابَةٌ وَقَدْ سَودَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَحَسُنَ بَلاؤُهُ فِي الإِسْلامِ وَلَهُ سَابِقَةٌ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ شَابٌّ- فَتَدَرَّعَ زَهْرَةُ مَا كَانَ عَلَى الْجَالِنُوسِ، فَبَلَغَ بِضْعَةً وَسَبْعِينَ أَلْفًا فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى سَعْدٍ نَزَعَ سَلَبَهُ، وَقَالَ: أَلا انْتَظَرْتَ إِذْنِي! وَتَكَاتَبَا، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: تَعْمَدُ إِلَى مِثْلِ زَهْرَةَ -وَقَدْ صَلِيَ بِمِثْلِ مَا صَلِيَ بِهِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ حَرْبِكَ مَا بَقِيَ- تَكْسِرُ قَرْنَهُ، وَتُفْسِدُ قَلْبَهُ! أَمْضِ لَهُ سَلَبَهُ، وَفَضِّلْهُ عَلَى اصحابه عند العطاء بخمسمائة.
وعَنْ سَيْفٍ، عَنْ عُبَيْدٍ، عَنْ عِصْمَةَ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِزَهْرَةَ مِنْكَ، وَإِنَّ زَهْرَةَ لَمْ يَكُنْ لِيُغَيِّبَ مِنْ سَلَبٍ سَلَبَهُ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي سَعَى بِهِ إِلَيْكَ كَاذِبًا فَلَقَاهُ اللَّهُ مِثْل زَهْرَةَ، في عضديه يا رقان، وَإِنِّي قَدْ نَفَّلْتُ كُلَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلا سَلَبَهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ فَبَاعَهُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا.
وعَنْ سَيْفٍ، عن عبيدة، عن إبراهيم وعامر، أن أهل البلاء يوم القادسية فضلوا عند العطاء بخمسمائة خمسمائة في أعطياتهم، خمسة وعشرين رجلا، منهم زهرة، وعصمة الضبي، والكلج وأما أهل الأيام، فإنه فرض لهم على ثلاثة آلاف فضلوا على أهل القادسية.
وعَنْ سَيْفٍ، عن عبيدة، عن يزيد الضخم، قال: فقيل لعمر: لو ألحقت بهم أهل القادسية! فقال: لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم وقيل له في أهل القادسية: لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه! قال: وكيف أفضلهم عليهم على بعد دارهم، وهم شجن العدو، وما سويت بينهم حتى استطبتهم، فهلا فعل المهاجرون بالأنصار إذ قاتلوا بفنائهم مثل هذا!
وعَنْ سَيْفٍ، عن المجالد، عن الشعبي، وسعيد بْن المرزبان عن رجل من بني عبس، قال: لما زال رستم عن مكانه ركب بغلا، فلما دنا منه هلال نزع له نشابة، فأصاب قدمه فشكها في الركاب، وقال: بپايه، فأقبل عليه هلال فنزل، فدخل تحت البغل، فلما لم يصل إليه قطع عليه المال، ثم نزل إليه ففلق هامته.
وعَنْ سَيْفٍ، عن عبيدة، عن شقيق، قال: حملنا على الأعاجم يوم القادسية حملة رجل واحد، فهزمهم اللَّه، فلقد رأيتني أشرت إلى أسوار منهم فجاء إلي وعليه السلاح التام، فضربت عنقه، ثم أخذت ما كان عليه.
وعَنْ سَيْفٍ، عن سعيد بْن المرزبان، عن رجل من بني عبس، قال: أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم، قتلوا حتى إن كان الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه، فيضرب عنقه، وحتى إنه ليأخذ سلاحه فيقتله به، وحتى إنه ليأمر الرجلين أحدهما بصاحبه، وكذلك في العدة.
وعَنْ سَيْفٍ، عن يونس بْن أبي إسحاق، عن أبيه، عمن شهدها، قال: أبصر سلمان بْن ربيعة الباهلي أناسا من الأعاجم تحت راية لهم قد حفروا لها، وجلسوا تحتها، وقالوا: لا نبرح حتى نموت، فحمل عليهم فقتل من كان تحتها وسلبهم وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية، وكان أحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت، والآخر عبد الرحمن ابن ربيعة ذو النور، ومال على آخرين قد تكتبوا، ونصبوا للمسلمين فطحنهم بخيله.
وعَنْ سَيْفٍ، عن الغصن، عن القاسم، عن البهي، أن الشعبي قال: كان يقال: لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور.
فكان موضع المحبس اليوم دار عبد الرحمن بْن ربيعة، والتي بينها وبين دار المختار دار سلمان، وإن الأشعث بْن قيس استقطع فناء كان قدامها، هو اليوم في دار المختار، فأقطعه فقال له: ما جرأك علي يا أشعث؟ والله لئن حزتها لأضربنك بالجنثي -يعني سيفه- فانظر ما يبقى منك بعد، فصدف عنها ولم يتعرض لها.
وعَنْ سَيْفٍ، عن المهلب ومحمد وطلحة وأصحابه، قالوا: وثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة، استقتلوا واستحيوا من الفرار، فأبادهم اللَّه، فصمد لهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين، ولم يتبعوا فالة القوم، فصمد سلمان بْن ربيعة لكتيبة وعبد الرحمن بْن ربيعة ذو النور لأخرى، وصمد لكل كتيبة منها رأس من رؤساء المسلمين.
وكان قتال أهل هذه الكتائب، من أهل فارس على وجهين، فمنهم من كذب فهرب، ومنهم من ثبت حتى قتل، فكان ممن هرب من أمراء تلك الكتائب الهرمزان وكان بإزاء عطارد، وأهود وكان بإزاء حنظلة بْن الربيع، وهو كاتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزاذ بْن بهيش وكان بإزاء عاصم بْن عمرو، وقارن وكان بإزاء القعقاع بْن عمرو، وكان ممن استقتل شهريار بْن كنار وكان بإزاء سلمان. وابن الهربذ وكان بإزاء عبد الرحمن، والفرخان الأهوازي وكان بإزاء بسر بن ابى رهم الجهنى، وخسرو شنوم الهمذاني وكان بحيال ابن الهذيل الكاهلي.
ثم إن سعدا أتبع بعد ذلك القعقاع وشرحبيل من صوب في هزيمته أو صعد عن العسكر وأتبع زهرة بْن الحوية الجالنوس.
ذكر حديث ابن إسحاق:
قال أبو جعفر الطبري رحمه اللَّه: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق.
قال: ومات المثنى بْن حارثة، وتزوج سعد بْن أبي وقاص امرأته سلمى ابنة خصفة وذلك في سنة أربع عشرة وأقام تلك الحجة للناس عمر بْن الخطاب ودخل أبو عبيدة بْن الجراح تلك السنة دمشق، فشتا بها، فلما أصافت الروم سار هرقل في الروم حتى نزل أنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين وبلي وعاملة، وتلك القبائل من قضاعه، غسان بشر كثير، ومعه من أهل أرمينية مثل ذلك، فلما نزلها أقام بها، وبعث الصقلار، خصيا له، فسار بمائة ألف مقاتل، معه من أهل أرمينية اثنا عشر ألفا، عليهم جرجة، ومعه من المستعربة من غسان وتلك القبائل من قضاعة اثنا عشر ألفا عليهم جبلة بْن الأيهم الغساني، وسائرهم من الروم، وعلى جماعة الناس الصقلار خصي هرقل، وسار اليهم المسلمون وهم أربعة وعشرون ألفا عليهم أبو عبيدة بْن الجراح، فالتقوا باليرموك في رجب سنة خمس عشرة، فاقتتل الناس قتالا شديدا حتى دخل عسكر المسلمين، وقاتل نساء من نساء قريش بالسيوف حين دخل العسكر -منهن أم حكيم بنت الحارث بْن هشام- حتى سابقن الرجال، وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام، فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، وخذلوا المسلمين.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بْن عروة بْن الزبير، عن أبيه، قال: قال قائل من المسلمين حين رأى من لخم وجذام ما رأى:
القوم لخم وجذام في الهرب *** ونحن والروم بمرج نضطرب
فإن يعودوا بعدها لا نصطحب
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب ابن كَيْسَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ عَامَ الْيَرْمُوكِ، فَلَمَّا تَعَبَّى الْمُسْلِمُونَ لِلْقِتَالِ، لَبِسَ الزُّبَيْرُ لأْمَتَهُ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ، ثُمَّ قَالَ لِمَوْلَيَيْنِ لَهُ: احْبِسَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مَعَكُمَا فِي الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ غُلامٌ صَغِيرٌ.
قَالَ: ثُمَّ تَوَجَّهَ فَدَخَلَ فِي النَّاسِ، فَلَمَّا اقْتَتَلَ النَّاسُ وَالرَّومُ نَظَرْتُ إِلَى نَاسٍ وُقُوفٍ عَلَى تَلٍّ لا يُقَاتِلُونَ مَعَ النَّاسِ قَالَ: فَأَخَذْتُ فَرَسًا لِلزُّبَيْرِ كَانَ خَلَّفَهُ فِي الرَّحْلِ فَرَكِبْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى أُولَئِكَ النَّاسِ فَوَقَفْتُ مَعَهُمْ، فَقُلْتُ: أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي مَشْيَخَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ وُقُوفًا لا يُقَاتِلُونَ، فَلَمَّا رَأَوْنِي رَأَوْا غُلامًا حَدَثًا، فَلَمْ يَتَّقُونِي.
قَالَ: فَجَعَلُوا وَاللَّهِ إِذَا مَالَ الْمُسْلِمُونَ وَرَكِبَتْهُمُ الْحَرْبُ، لِلرُّومِ يَقُولُونَ: ايه ايه بلا صفر! فَإِذَا مَالَتِ الرُّومُ وَرَكِبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، قَالَوا: يَا ويح بلا صفر! فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الرُّومَ وَرَجَعَ الزُّبَيْرُ، جَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ خَبَرَهُمْ قَالَ: فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَبَوْا إِلا ضَغَنًا! وَمَاذَا لَهُمْ إِنْ يَظْهَرْ عَلَيْنَا الرُّومُ! لَنَحْنُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ نَصْرَهُ، فَهُزِمَتِ الرُّومُ وَجُمُوعُ هِرَقْلَ الَّتِي جَمَعَ، فَأُصِيبَ مِنَ الرُّومِ أَهْلُ أَرْمِينِيَةَ وَالْمُسْتَعْرِبَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقَتَلَ اللَّهُ الصّقلارَ وَبَاهَانَ، وَقَدْ كَانَ هِرَقْلُ قَدَّمَهُ مَعَ الصّقلارِ حِينَ لَحِقَ بِهِ، فَلَمَّا هُزِمَتِ الرُّومُ بَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ فِي طَلَبِهِمْ، فَسَلَكَ الأَعْمَاقَ حَتَّى بَلَغَ مَلَطْيَةَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَلَمَّا سَمِعَ هِرَقْلُ بِذَلِكَ بَعَثَ إِلَى مُقَاتِلَتِهَا وَمَنْ فِيهَا، فَسَاقَهُمْ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ بِمَلَطْيَةَ فَحُرِقَتْ وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ.
قَالَ: وَفِي آخِرِ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، قَتَلَ اللَّهُ رُسْتُمَ بِالْعِرَاقِ، وَشَهِدَ أَهْلُ الْيَرْمُوكِ حِينَ فَرَغُوا مِنْهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا حِينَ حُسِرَ عَنْهُ الشِّتَاءُ، سَارَ مِنْ شَرَافَ يُرِيدُ الْقَادِسِيَّةَ، فَسَمِعَ بِهِ رُسْتُمُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ سَعْدٌ وَقَفَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَسْتَمِدَّهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ الثَّقَفِيَّ فِي أربعمائة رجل مددا من المدينة، وامده بقيس ابن مكشوح المرادى في سبعمائة، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْيَرْمُوكِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنْ أَمِدَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَمِيرَ الْعِرَاقِ بِأَلْفِ رَجُلٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَفَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ الْفِهْرِيَّ، وَأَقَامَ تِلْكَ الْحُجَّةَ لِلنَّاسِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ.
وَقَدْ كَانَ لِكِسْرَى مُرَابِطَةٌ فِي قَصْرِ بَنِي مُقَاتِلٍ، عَلَيْهَا النُّعْمَانُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَهُوَ ابْنُ حَيَّةَ الطَّائِيِّ ابْنُ عَمِّ قَبِيصَةَ بْنَ إِيَاسِ بْنِ حَيَّةَ الطَّائِيِّ صَاحِبِ الْحِيرَةِ، فَكَانَ فِي مَنْظَرَةٍ لَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَأَلَ عَنْهُ عبد الله بن سنان ابن جَرِيرٍ الأَسَدِيَّ، ثُمَّ الصَّيْدَاوِيَّ، فَقِيلَ لَهُ: رَجُلٌ من قريش، فقال: اما إذ كَانَ قُرَشِيًّا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَاللَّهِ لأُجَاهِدَنَّهُ الْقِتَالَ، إِنَّمَا قُرَيْشٌ عَبِيدُ مَنْ غَلَبَ، وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُونَ خَفِيرًا، وَلا يَخْرُجُونَ مِنْ بِلادِهِمْ إِلا بِخَفِيرٍ، فَغَضِبَ حِينَ قَالَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ الأَسَدِيُّ، فَأَمْهَلَهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ، فَوَضَعَ الرُّمْحَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِسَعْدٍ فَأَسْلَمَ وَقَالَ فِي قَتْلِهِ النُّعْمَانَ بْنَ قَبِيصَةَ:
لَقَدْ غَادَرَ الأَقْوَامُ لَيْلَةَ أدْلجُوا *** بِقَصْرِ الْعَبَادِي ذَا الْفِعَالِ مُجَدَّلا
دَلَفْتُ لَهُ تَحْتَ الْعُجَاجِ بِطَعْنَةٍ *** فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي النَّجِيعِ مُرَمَّلا
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ فِي نُغْضِ كَتْفِهِ *** أَبَا عَامِرٍ عَنْكَ الْيَمِينَ تَحَلَّلا
سَقَيْتُ بِهَا النُّعْمَانَ كَأْسًا رَوِيَّةً *** وَعَاطَيْتُهُ بِالرُّمْحِ سُمًّا مُثَمَّلا
تَرَكْتُ سِبَاعَ الْجَوِّ يَعْرِفْنَ حَوْلَهُ *** وَقَدْ كَانَ عَنْهَا لابْنِ حَيَّةَ مَعْزِلا
كَفَيْتُ قُرَيْشًا إِذْ تَغَيَّبَ جَمْعُهَا *** وَهَدَّمْتُ لِلنُّعْمَانِ عِزًّا مُؤَثَّلا
وَلَمَّا لَحِقَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَقَيْسَ بْنَ مَكْشُوحٍ فِيمَنْ مَعَهُمَا، سَارَ إِلَى رُسْتُمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ حَتَّى نَزَلَ قَادِسَ -قَرْيَةً إِلَى جَانِبِ الْعُذَيْبِ- فَنَزَلَ النَّاسُ بِهَا، وَنَزَلَ سَعْدٌ فِي قَصْرِ الْعُذَيْبِ، وَأَقْبَلَ رُسْتُمُ فِي جُمُوعِ فَارِسَ سِتِّينَ أَلْفًا مِمَّا أُحْصِيَ لَنَا فِي دِيوَانِهِ، سِوَى التُّبَّاعِ وَالرَّقِيقِ، حَتَّى نَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الناس جسر القادسية، وسعد في منزله وَجِعٌ، قَدْ خَرَجَ بِهِ قَرْحٌ شَدِيدٌ، وَمَعَهُ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبٍ الثَّقَفِيُّ مَحْبُوسٌ فِي الْقَصْرِ، حَبَسَهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَمَّا أَنْ نَزَلَ بِهِمْ رُسْتُمُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَنِ ابْعَثُوا إِلَيَّ رَجُلا مِنْكُمْ جَلِيدًا أُكَلِّمَهُ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ المغيره بن شعبه، فجاءه وفد فَرَقَ رَأْسَهُ أَرْبَعَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى قَفَاهُ، وَفِرْقَةٌ إِلَى أُذُنَيْهِ، ثُمَّ عَقَصَ شَعْرَهُ، وَلَبِسَ بُرْدًا لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رُسْتُمَ، وَرُسْتُمُ مِنْ وَرَاءِ الْجِسْرِ الْعَتِيقِ مِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ، وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ نَاحِيَتِهِ الأُخْرَى مِمَّا يَلِي الْحِجَازَ فِيمَا بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ وَالْعُذَيْبِ، فَكَلَّمَهُ رُسْتُمُ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ أَهْلَ شَقَاءٍ وَجَهْدٍ، وَكُنْتُمْ تَأْتُونَنَا مِنْ بَيْنَ تَاجِرٍ وَأَجِيرٍ وَوَافِدٍ، فَأَكَلْتُمْ مِنْ طَعَامِنَا، وَشَرِبْتُمْ مِنْ شَرَابِنَا، وَاسْتَظْلَلْتُمْ مِنْ ظِلالِنَا، فَذَهَبْتُمْ فَدَعَوْتُمْ أَصْحَابَكُمْ، ثُمَّ أَتَيْتُمُونَا بِهِمْ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ مَثَلُ رَجُلٍ كَانَ لَهُ حَائِطٌ مِنْ عِنَبٍ، فَرَأَى فِيهِ ثَعْلَبًا وَاحِدًا، فَقَالَ: مَا ثَعْلَبٌ وَاحِدٌ! فَانْطَلَقَ الثَّعْلَبُ، فَدَعَا الثَّعَالِبَ إِلَى الْحَائِطِ، فَلَمَّا اجْتَمَعْنَ فِيهِ جَاءَ الرَّجُلُ فَسَدَّ الْجُحْرَ الَّذِي دَخَلْنَ مِنْهُ، ثُمَّ قَتَلَهُنَّ جَمِيعًا.
وَقَدْ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ الْجَهْدُ الَّذِي قَدْ أَصَابَكُمْ، فَارْجِعُوا عَنَّا عَامَكُمْ هَذَا، فَإِنَّكُمْ قَدْ شَغَلْتُمُونَا عَنْ عِمَارَةِ بِلادِنَا، وَعَنْ عَدُوِّنَا، وَنَحْنُ نُوقِرُ لَكُمْ رَكَائِبَكُمْ قَمْحًا وَتَمْرًا، وَنَأْمُرُ لَكُمْ بِكِسْوَةٍ، فَارْجِعُوا عَنَّا عَافَاكُمُ اللَّهُ!
فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: لا تَذْكُرْ لَنَا جَهْدًا إِلا وَقَدْ كُنَّا فِي مِثْلِهِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ، أَفْضَلُنَا فِي أَنْفُسِنَا عَيْشًا الَّذِي يَقْتُلُ ابْنَ عَمِّهِ، وَيَأْخُذُ مَالَهُ فَيَأْكُلُهُ، نَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَالْعِظَامَ، فَلَمْ نَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مَا بَعَثَهُ بِهِ، فَصَدَّقَهُ مِنَّا مُصَدِّقٌ، وَكَذَّبَهُ مِنَّا آخَرُ، فَقَاتَلَ مَنْ صَدَّقَهُ مَنْ كَذَّبَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا فِي دِينِهِ، مِنْ بَيْنَ مُوقِنٍ بِهِ، وَبَيْنَ مَقْهُورٍ، حَتَّى اسْتَبَانَ لَنَا أَنَّهُ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَأَمَرَنَا أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ خَالَفَنَا، وَأَخْبَرَنَا أَنَّ مَنْ قُتِلَ مِنَّا عَلَى دِينِهِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ عَاشَ مَلِكٌ وَظَهَرَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، فَنَحْنُ نَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَدْخُلَ فِي دِينِنَا، فَإِنْ فَعَلْتَ كَانَتْ لَكَ بِلادُكَ، لا يَدْخُلُ عَلَيْكَ فِيهَا إِلا مَنْ أَحْبَبْتَ، وَعَلَيْكَ الزَّكَاةُ وَالْخُمُسُ، وَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ فَالْجِزْيَةُ، وَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ قَاتَلْنَاكَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ.
قَالَ لَهُ رُسْتُمُ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعِيشُ حَتَّى أَسْمَعَ مِنْكُمْ هَذَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ. لا أُمْسِي غَدًا حَتَّى أَفْرَغَ مِنْكُمْ وَأَقْتُلَكُمْ كُلَّكُمْ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْعَتِيقِ أَنْ يسكر، فَبَاتَ لَيْلَتَهُ يسكر بِالْبَرَاذِعِ وَالتّرَابِ وَالْقَصَبِ حَتَّى أَصْبَحَ، وَقَدْ تَرَكَهُ طَرِيقًا مُهِيعًا، وَتَعَبَّى لَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلَ سَعْدٌ عَلَى جَمَاعَةِ النَّاسِ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ حَلِيفَ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وجعل على ميمنه الناس جرير ابن عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَجَعَلَ عَلَى مَيْسَرَتِهِمْ قَيْسَ بْنَ الْمَكْشُوحِ الْمُرَادِيَّ.
ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْهِمْ رُسْتُمُ، وَزَحَفَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَمَا عَامة جننهم، فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ- غير بَرَاذِعِ الرِّحَالِ، قَدْ عَرَضُوا فِيهَا الْجَرِيدَ، يَتْرُسُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَا عَامَّةُ مَا وَضَعُوهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ إِلا أَنْسَاعُ الرِّحَالِ، يَطْوِي الرَّجُلُ نِسْعَ رَحْلِهِ عَلَى رَأْسِهِ يَتَّقِي بِهِ، وَالْفُرْسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْحَدِيدِ وَالْيَلامِقِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، وَسَعْدٌ فِي الْقَصْرِ يَنْظُرُ، مَعَهُ سَلْمَى بِنْتُ خَصَفَةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، فَجَالَتِ الْخَيْلُ، فَرُعِبَتْ سلمى حين رات الخيل جالت، فقالت: وا مثنياه وَلا مُثَنَّى لِي الْيَوْمَ! فَغَارَ سَعْدٌ فَلَطَمَ وَجْهَهَا، فَقَالَتْ: أَغَيْرَةً وَجُبْنًا! فَلَمَّا رَأَى أَبُو مِحْجَنٍ مَا تَصْنَعُ الْخَيْلُ حِينَ جَالَتْ، وَهُوَ يَنْظُرُ مِنْ قَصْرِ الْعُذَيْبِ وَكَانَ مَعَ سَعْدٍ فِيهِ، قَالَ:
كَفَى حُزْنًا أَنْ تُرْدِيَ الْخَيْلُ بالقنا *** وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد واغلقت *** مصاريع دوني لا نجيب المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة *** فقد تركونى واحدا لا اخا ليا
فَكَلَّمَ زَبْرَاءَ أُمَّ وَلَدِ سَعْدٍ -وَكَانَ عِنْدَهَا مَحْبُوسًا، وَسَعْدٌ فِي رَأْسِ الْحِصْنِ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ- فَقَالَ: يَا زَبْرَاءُ، أَطْلِقِينِي وَلَكِ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، لَئِنْ لَمْ أُقْتَلْ لأَرْجِعَنَّ إِلَيْكِ حَتَّى تَجْعَلِي الْحَدِيدَ فِي رِجْلِي، فَأَطْلَقَتْهُ وَحَمَلَتْهُ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ بَلْقَاءَ وَخَلَّتْ سَبِيلَهُ، فَجَعَلَ يَشُدُّ عَلَى الْعَدُوِّ وَسَعْدٌ يَنْظُرُ فَجَعَلَ سَعْدٌ يَعْرِفُ فَرَسَهُ وَيَنْكِرُهَا، فَلَمَّا أَنْ فَرَغُوا مِنَ الْقِتَالِ، وَهَزَمَ اللَّهُ جُمُوعَ فَارِسَ، رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ إِلَى زَبْرَاءَ، فَأَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي قَيْدِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ رَأَى فَرَسَهُ تَعْرَقُ، فَعَرَفَ أَنَّهَا قَدْ رُكِبَتْ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ زَبْرَاءَ، فَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَ أَبِي مِحْجَنٍ فَخَلَّى سَبِيلَهُ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق، قال: وقد كان عمرو بْن معديكرب شهد القادسية مع الْمُسْلِمِينَ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بْن الأسود النخعي، عن أبيه، قال: شهدت القادسية، فلقد رأيت غلاما منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلا من أبناء الأحرار.
فقلت: لقد أذل اللَّه أبناء الأحرار! حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، مَوْلَى بَجِيلَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ الْبَجَلِيِّ -وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ- قَالَ: كَانَ مَعَنَا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ، فَلَحِقَ بِالْفُرْسِ مُرْتَدًّا، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ بَأْسَ النَّاسِ فِي الْجَانِبِ الَّذِي بِهِ بَجِيلَةُ قَالَ: وَكُنَّا رُبْعَ النَّاسِ، فَوَجَّهُوا إِلَيْنَا سِتَّةَ عَشَرَ فِيلا وَإِلَى سَائِرِ النَّاسِ فِيلَيْنِ، وَجَعَلُوا يُلْقُونَ تَحْتَ أَرْجُلِ خُيُولِنَا حَسَكَ الْحَدِيدِ، وَيَرْشُقُونَنَا بِالنُّشَّابِ، فَكَأَنَّهُ الْمَطَرُ عَلَيْنَا، وَقَرَنُوا خَيْلَهُمْ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ لِئَلا يَفِرُّوا قَالَ: وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، كُونُوا أُسُودًا، فَإِنَّمَا الأَسَدُ مَنْ أَغْنَى شَأْنَهُ، فَإِنَّمَا الفارسي تيمن إِذَا أَلْقَى نَيْزَكَهُ.
قَالَ: وَكَانَ إِسْوَارٌ مِنْهُمْ لا يَكَادُ تَسْقُطُ لَهُ نُشَّابَةٌ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا ثَوْرٍ، اتَّقِ ذَلِكَ الْفَارِسِيَّ فَإِنَّهُ لا تَقَعُ لَهُ نُشَّابَةً، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَرَمَاهُ الْفَارِسِيُّ بِنُشَّابَةٍ فَأَصَابَ قَوْسَهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ عَمْرٌو فَاعْتَنَقَهُ فَذَبَحَهُ، وَاسْتَلَبَهُ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ وَمِنْطَقَةً مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْمَقًا مِنْ دِيبَاجٍ، وَقَتَلَ اللَّهُ رُسْتُمَ، وَأَفَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَسْكَرَهُ وَمَا فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمُسْلِمُونَ سِتَّةُ آلافٍ أَوْ سَبْعَةُ آلافٍ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ رُسْتُمَ هِلالُ بْنُ عُلَّفَةَ التَّيْمِيُّ رَآهُ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، فَرَمَاهُ رُسْتُمُ بِنُشَّابَةٍ فَأَصَابَ قَدَمَهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ، فَشَكَّهَا إِلَى رِكَابِ سرجه، ورستم يقول بالفارسيه: بپايه، أَيْ كَمَا أَنْتَ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ هِلالُ بْنُ عُلَّفَةَ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ احْتَزَّ رَأْسَهُ فَعَلَّقَهُ، وَوَلَّتِ الْفُرْسُ فَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَتِ الْفُرْسُ الْخَرَّارَةَ نَزَلُوا فَشَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ، وَطَعِمُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْ رَمْيِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي الْعَرَبِ وَخَرَجَ جَالِنُوسُ فَرَفَعُوا لَهُ كُرَةً فَهُوَ يَرْمِيهَا وَيَشُكُّهَا بِالنُّشَّابِ، وَلَحِقَ بِهِمْ فِرْسَانٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ هُنَالِكَ، فَشَدَّ عَلَى جَالِنُوسَ زَهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ التَّمِيمِيُّ فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَتِ الْفُرْسُ، فَلَحِقُوا بِدَيْرِ قُرَّةَ وَمَا وَرَاءَهُ، وَنَهَضَ سَعْدٌ بِالْمُسْلِمِينَ حَتَّى نَزَلَ بِدَيْرِ قُرَّةَ عَلَى مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْفُرْسِ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ بِدَيْرِ قُرَّةَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ فِي مَدَدِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَهُمْ الف رجل، فأسهم له سعد ولأصحابه مع الْمُسْلِمِينَ فِيمَا أَصَابُوا بِالْقَادِسِيَّةِ، وَسَعْدٌ وَجِعٌ مِنْ قرحته تلك، وقال جرير ابن عَبْدِ اللَّهِ:
أَنَا جَرِيرٌ كُنْيَتِي أَبُو عَمْرِو *** قَدْ نَصَرَ اللَّهُ وَسَعْدٌ فِي الْقَصْرِ
وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا:
نُقَاتِلُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ *** وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ
فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ *** وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ
قَالَ: وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا سَعْدًا، خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَأَرَاهُمْ مَا بِهِ مِنَ الْقَرْحِ فِي فَخِذَيْهِ وَأَلْيَتَيْهِ، فَعَذَرَهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ سَعْدٌ لَعَمْرِي يَجْبُنُ، فَقَالَ سَعْدٌ يُجِيبُ جَرِيرًا فِيمَا قَالَ:
وَمَا أَرْجُو بَجِيلَةَ غَيْرَ أَنِّي .*** أُؤَمَّلُ أَجْرَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ
فَقَدْ لَقِيَتْ خُيُولُهُمْ خُيُولا *** وَقَدْ وَقَعَ الْفَوَارِسُ فِي ضِرَابِ
وَقَدْ دَلَفَتْ بِعَرْصَتِهِمْ فُيُولٌ *** كَأَنَّ زُهَاءَهَا إِبِلٌ جِرَابِ
ثُمَّ إِنَّ الْفُرْسَ هَرَبَتْ مِنْ دَيْرِ قُرَّةَ إِلَى الْمَدَائِنِ يُرِيدُونَ نَهَاوَنْدَ، وَاحْتَمَلُوا مَعَهُمُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالدِّيبَاجَ وَالْفِرْنَدَ وَالْحَرِيرَ وَالسِّلاحَ وَثِيَابَ كِسْرَى وَبَنَاتَهُ، وَخَلَّوْا مَا سِوَى ذَلِكَ، وَأَتْبَعَهُمْ سَعْدٌ الطَّلَبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ حَلِيفَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَوَجَّهَ مَعَهُ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ فِي أَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَةِ النَّاسِ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِمْ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ زَهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ التَّمِيمِيَّ، وَتَخَلَّفَ سَعْدٌ لِمَا بِهِ مِنَ الْوَجَعِ، فَلَمَّا أَفَاقَ سَعْدٌ مِنْ وَجَعِهِ ذَلِكَ اتَّبَعَ النَّاسَ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَدْرَكَهُمْ دُونَ دِجْلَةَ عَلَى بَهُرَسِيرَ، فَلَمَّا وَضَعُوا عَلَى دِجْلَةَ الْعَسْكَرَ وَالأَثْقَالَ طَلَبُوا الْمَخَاضَةَ، فَلَمْ يَهْتَدُوا لَهَا، حَتَّى أَتَى سَعْدًا عِلْجٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ، فَقَالَ: أَدُلُّكُمْ عَلَى طَرِيقٍ تُدْرِكُونَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُمْعِنُوا فِي السَّيْرِ! فَخَرَجَ بِهِمْ عَلَى مَخَاضَةٍ بِقُطْرَبُّلَ، فكان أول من خاض المخاضة هاشم ابن عُتْبَةَ فِي رَجْلِهِ، فَلَمَّا جَازَ اتَّبَعَتْهُ خَيْلُهُ، ثُمَّ أَجَازَ خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ بِخَيْلِهِ، ثُمَّ أَجَازَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ بِخَيْلِهِ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فَخَاضُوا حَتَّى أَجَازُوا، فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُهْتَدَ لِتِلْكَ الْمَخَاضَةِ بَعْدُ ثُمَّ سَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مُظْلِمِ سَابَاطَ، فَأَشْفَقَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ بِهِ كَمِينٌ لِلْعَدُوِّ، فَتَرَدَّدَ النَّاسُ، وَجَبُنُوا عَنْهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَهُ بِجَيْشِهِ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، فَلَمَّا أَجَازَ أَلاحَ لِلنَّاسِ بِسَيْفِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ أَنْ لَيْسَ بِهِ شَيْءٌ يَخَافُونَهُ، فَأَجَازَ بِهِمْ خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ، ثُمَّ لَحِقَ سَعْدٌ بِالنَّاسِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى جَلُولاءَ وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسِ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ جَلُولاءَ بِهَا، فَهَزَمَ اللَّهُ الْفُرْسَ، وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا مِنَ الْفَيْءِ أَفْضَلَ مِمَّا أَصَابُوا بِالْقَادِسِيَّةِ، وَأُصِيبَتِ ابْنَةٌ لِكِسْرَى، يُقَالُ لَهَا مِنْجَانَةَ، وَيُقَالُ: بَلِ ابْنَةُ ابْنِهِ وَقَالَ شَاعِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:
يَا رُبَّ مُهْرٍ حَسَنٍ مُطَهَّمْ *** يَحْمِلُ أَثْقَالَ الْغُلامِ الْمُسْلِمْ
يَنْجُو إِلَى الرَّحْمَنِ مِنْ جَهَنَّمْ *** يَوْمَ جَلُولاءَ ويوم رستم
ويوم زحف الكوفة المقدم *** ويوم لاقَى ضِيقَةً مُهْزَمْ
وَخَرَّ دِينُ الْكَافِرِينَ لِلْفَمْ
ثُمَّ كَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ قِفْ وَلا تَطْلُبُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سعد أيضا: انما هي سربه أَدْرَكْنَاهَا وَالأَرْضُ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ قِفْ مَكَانَكَ وَلا تَتْبَعْهُمْ، وَاتَّخِذْ لِلْمُسْلِمِينَ دَارَ هِجْرَةٍ وَمَنْزِلَ جِهَادٍ، وَلا تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَحْرًا فَنَزَلَ سَعْدٌ بِالنَّاسِ الأَنْبَارَ، فَاجْتَوَوْهَا وَأَصَابَتْهُمْ بِهَا الْحُمَّى، فَلَمْ تُوَافِقْهُمْ، فَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى سَعْدٍ أَنَّهُ لا تَصْلُحُ الْعَرَبُ إِلا حَيْثُ يَصْلُحُ الْبَعِيرُ وَالشَّاةُ فِي مَنَابِتِ الْعُشْبِ، فَانْظُرْ فَلاةً فِي جَنْبِ الْبَحْرِ فَارْتَدْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا مَنْزِلا.
قَالَ: فَسَارَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ كُوَيْفَةَ عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ، فَلَمْ تُوَافِقِ النَّاسَ مَعَ الذُّبَابِ وَالْحُمَّى فَبَعَثَ سَعْدٌ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ سَلَمَةَ -وَيُقَالُ: بَلْ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ- فَارْتَادَ لَهُمْ مَوْضِعَ الْكُوفَةِ الْيَوْمَ، فَنَزَلَهَا سَعْدٌ بِالنَّاسِ، وَخَطَّ مَسْجِدَهَا، وَخَطَّ فِيهَا الْخُطَطَ لِلنَّاسِ.
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ خَرَجَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى الشَّامِ فَنَزَلَ الْجَابِيَةَ، وَفُتِحَتْ عَلَيْهِ إِيلِياءُ، مَدِينَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعَثَ فِيهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَنْظَلَةَ بْنَ الطُّفَيْلِ السُّلَمِيَّ إِلَى حِمْصَ، فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَاسْتَعْمَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى الْمَدَائِنِ رَجُلا مِنْ كِنْدَةَ، يُقَالُ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ:
الا ليتنى والمرء سعد بن مالك *** وربراء وَابْنُ السِّمْطِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ
ذكر أحوال أهل السواد
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَّا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ مَعَ الْفَتْحِ:
نُقَاتِلُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ *** وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ
فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ *** وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ
فَبَعَثَ بِهَا فِي النَّاسِ، فَبَلَغَتْ سَعْدًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا، أَوْ قَالَ الَّذِي قَالَ رِيَاءً وَسُمْعَةً وَكَذِبًا، فَاقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ وَيَدَهُ.
وَقَالَ قبيصة: فو الله إِنَّهُ لَوَاقِفٌ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يَوْمَئِذٍ، إِذْ أَقْبَلَتْ نُشَّابَةٌ لِدَعْوَةِ سَعْدٍ، حَتَّى وَقَعَتْ فِي لِسَانِهِ فَيَبُسَ شِقُّهُ، فَمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ الْحَارِثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ جَرِيرٌ يَوْمَئِذٍ:
أَنَا جَرِيرٌ كُنْيَتِي أَبُو عَمْرِو *** قَدْ نَصَرَ اللَّهُ وَسَعْدٌ فِي الْقَصْرِ
فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَقَالَ:
وَمَا أَرْجُو بَجِيلَةَ غَيْرَ أَنِّي *** أُؤَمَّلُ أَجْرَهَا يَوْمَ الْحِسَابِ
وَقَدْ لَقِيَتْ خُيُولُهُمْ خُيُولا *** وَقَدْ وَقَعَ الْفَوَارِسُ فِي الضِّرَابِ
فَلَوْلا جَمْعُ قَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو *** وَحَمَّالٍ لَلَجُّوا فِي الْكِذَابِ
هُمُ مَنَعُوا جُمُوعَكُمُ بِطَعْنٍ *** وَضَرْبٍ مِثْلَ تَشْقِيقِ الإِهَابِ
وَلَوْلا ذَاكَ أَلْفَيْتُمْ رِعَاعًا *** تُشَلُّ جُمُوعُكُمْ مِثْلَ الذُّبَابِ
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بْن سليم بْن عبد الرحمن السعدي، عن عثمان بْن رجاء السعدي، قال: كان سعد بْن مالك أجرأ الناس وأشجعهم، إنه نزل قصرا غير حصين بين الصفين، فأشرف منه على الناس، ولو أعراه الصف فواق ناقه أخذ برمته، فو الله ما أكرثه هول تلك الأيام ولا أقلقه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سليمان بْن بشير، عن أم كثير، امرأة همام بْن الحارث النخعي، قالت: شهدنا القادسية مع سعد مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوى، ثم أتينا القتلى، فما كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، وما كان من المشركين أجهزنا عليه، وتبعنا الصبيان نوليهم ذلك، ونصرفهم به.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عطية -وهو ابن الحارث- عمن أدرك ذلك، قال: لم يكن من قبائل العرب أحد أكثر امرأة يوم القادسية من بجيلة والنخع، وكان في النخع سبعمائة امرأة فارغة، وفي بجيلة ألف، فصاهر هؤلاء الف من احياء العرب، وهؤلاء سبعمائة، وكانت النخع تسمى أصهار المهاجرين، وبجيلة، وإنما جرأهم على الانتقال بأثقالهم توطئة خالد، والمثنى بعد خالد، وأبي عبيد بعد المثنى، وأهل الأيام، فلاقوا بأسا بعد ذلك شديدا.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة، قالوا: وكان بكير بْن عبد اللَّه الليثي وعتبة بْن فرقد السلمي وسماك بْن خرشة الأنصاري -وليس بأبي دجانة- قد خطبوا امرأة يوم القادسية، وكان مع الناس نساؤهم، وكانت مع النخع سبعمائة امرأة فارغة، وكانوا يسمون أختان المهاجرين حتى كان قريبا، فتزوجهن المهاجرون قبل الفتح وبعد الفتح، حتى استوعبوهن، فصار اليهن سبعمائة رجل من الأفناء، فلما فرغ الناس خطب هؤلاء النفر هذه المرأة -وهي أروى ابنة عامر الهلالية- هلال النخع، وكانت أختها هنيدة تحت القعقاع بْن عمرو التميمي، فقالت لأختها: استشيري زوجك أيهم يراه لنا! ففعلت، وذلك بعد الوقعة وهم بالقادسية، فقال القعقاع: سأصفهم في الشعر فانظري لأختك، وقال:
إن كنت حاولت الدراهم فانكحي *** سماكا أخا الأنصار أو ابن فرقد
وإن كنت حاولت الطعان فيممي *** بكيرا إذا ما الخيل جالت عن الردي
وكلهم في ذروة المجد نازل *** فشأنكم إن البيان عن الغد
وقالوا: وكانت العرب توقع وقعة العرب وأهل فارس في القادسية فيما بين العذيب إلى عدن أبين، وفيما بين الأبلة وأيلة، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وكانت في كل بلد مصيخة إليها، تنظر ما يكون من أمرها، حتى إن كان الرجل ليريد الأمر فيقول: لا أنظر فيه حتى أنظر ما يكون من أمر القادسية فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن، فأتت بها ناسا من الإنس، فسبقت أخبار الإنس إليهم، قالوا: فبدرت امرأة ليلا على جبل بصنعاء، لا يدرى من هي؟ وهي تقول:
حييت عنا عكرم ابنة خالد *** وما خير زاد بالقليل المصرد
وحيتك عني الشمس عند طلوعها *** وحياك عني كل ناج مفرد
وحيتك عني عصبة نخعية *** حسان الوجوه آمنوا بمحمد
أقاموا لكسرى يضربون جنوده *** بكل رقيق الشفرتين مهند
إذا ثوب الداعي أناخوا بكلكل *** من الموت تسود الغياطل مجرد
وسمع أهل اليمامة مجتازا يغني بهذه الأبيات:
وجدنا الأكثرين بني تميم *** غداة الروع أصبرهم رجالا
هم ساروا بأرعن مكفهر *** إلى لجب فزرتهم رعالا
بحور للأكاسر من رجال *** كأسد الغاب تحسبهم جبالا
تركن لهم بقادس عز فخر *** وبالخيفين أياما طوالا
مقطعة أكفهم وسوق *** بمردى حيث قابلت الرجالا
قال: وسمع بنحو ذلك في عامة بلاد العرب.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمُهَلَّبِ وَطَلْحَةَ، قَالُوا: وَكَتَبَ سَعْدٌ بِالْفَتْحِ وَبِعِدَّةِ مَنْ قُتِلُوا وَبِعِدَّةِ مَنْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمَّى لِعُمَرَ مَنْ يَعْرِفُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ، وَشَارَكَهُمُ النَّضْرُ بْنُ السَّرِيِّ عَنِ ابْنِ الرُّفَيْلِ بْنِ مَيْسُورٍ، وَكَانَ كِتَابُهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ نَصَرَنَا عَلَى أَهْلِ فَارِسَ، وَمَنَحَهُمْ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ وَزِلْزَالٍ شَدِيدٍ، وَقَدْ لَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِعِدَّةٍ لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَ زُهَائِهَا فَلَمْ يَنْفَعْهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، بَلْ سَلَبَهُمُوهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الأَنْهَارِ وَعَلَى طُفُوفِ الآجَامِ وَفِي الْفِجَاجِ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْقَارِئُ، وَفُلانٌ، وَفُلانٌ، وَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لا نَعْلَمُهُمْ، اللَّهُ بِهِمْ عَالِمٌ، كَانُوا يَدْوُونَ بِالْقُرْآنِ إِذَا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ دَوِيَّ النَّحْلِ، وَهُمْ آسَادُ النَّاسِ، لا يَشْبِهُهُمُ الأُسُودُ، وَلَمْ يَفْضُلْ مَنْ مَضَى مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ إِلا بِفَضْلِ الشِّهَادَةِ إِذْ لَمْ تُكْتَبْ لَهُمْ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نُزُولُ رُسْتُمَ الْقَادِسِيَّةَ، كَانَ يَسْتَخْبِرُ الرُّكْبَانَ عَنْ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ مِنْ حِينَ يُصْبِحُ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ وَمَنْزِلِهِ قَالَ: فَلَمَّا لَقِيَ الْبَشِيرَ سَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ؟ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ حَدِّثْنِي، قَالَ: هَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ، وَعُمَرُ يَخُبُّ مَعَهُ وَيَسْتَخْبِرُهُ وَالآخَرُ يَسِيرُ عَلَى نَاقَتِهِ وَلا يَعْرِفُهُ، حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا النَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ بإمرة المؤمنين، فقال: فَهَلا أَخْبَرْتَنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، أَنَّكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! وَجَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: لا عَلَيْكَ يَا أَخِي!
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ فِي انْتِظَارِ بُلُوغِ الْبَشِيرِ وَأَمَرِ عُمَرَ، يَقَوِّمُونَ أَقْبَاضَهُمْ، وَيَحْزُرُونَ جُنْدَهُمْ، وَيَرُمُّونَ أَمُورَهُمْ قَالُوا: وَتَتَابَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ الأَيَّامِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْيَرْمُوكَ وَدِمَشْقَ، وَرَجِعُوا مِمِدِّينَ لأَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ، فَتَوَافَوْا بِالْقَادِسِيَّةِ مِنَ الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ، وَجَاءَ أَوَّلُهُمْ يَوْمَ أَغْوَاثَ، وَآخِرُهُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، وَقَدِمَتْ أَمْدَادٌ فِيهَا مُرَادُ وَهَمْدَانُ، وَمِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ، فَكَتَبُوا فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُسَارَ بِهِ فِيهِمْ -وَهَذَا الْكِتَابُ الثَّانِي بَعْدَ الْفَتْحِ- مَعَ نَذِيرِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمَّا أَتَى عُمَرَ الْفَتْحُ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْفَتْحَ، وَقَالَ: إِنِّي حَرِيصٌ عَلى أَلا أَدَعَ حَاجَةً إِلا سَدَدْتُهَا مَا اتَّسَعَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ، فَإِذَا عَجَزَ ذَلِكَ عَنَّا تَآسَيْنَا فِي عَيْشِنَا حَتَّى نَسْتَوِيَ فِي الْكَفَافِ، وَلَوَدِدْتُ انكم علمتم من نفس مِثْلَ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا لَكُمْ، وَلَسْتُ مُعَلِّمَكُمْ إِلا بِالْعَمَلِ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا بِمَلِكٍ فَأَسْتَعْبِدَكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُرِضَ عَلَيَّ الأَمَانَةُ، فَإِنْ أَبَيْتُهَا وَرَدَدْتُهَا عَلَيْكُمْ وَاتَّبَعْتُكُمْ حَتَّى تَشْبَعُوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَتُرْوَوْا سَعِدْتُ، وَإِنْ أَنَا حملتها واستتبعتها إِلَى بَيْتِي شَقِيتُ، فَفَرِحْتُ قَلِيلا، وَحَزِنْتُ طَوِيلا، وَبَقِيتُ لا أُقَالُ وَلا أُرَدُّ فَأُسْتَعْتَبُ قَالُوا: وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ مَعَ أَنَسِ بْنِ الْحُلَيْسِ: إِنَّ أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ ادَّعَوْا عُهُودًا، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى عَهْدِ أَهْلِ الأَيَّامِ لَنَا، وَلَمْ يَفِ بِهِ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ إِلا أَهْلُ بَانِقْيَا وَبسمَا وَأَهْلُ أُلَّيْسَ الآخِرَةُ وَادَّعَى أَهْلُ السَّوَادِ أَنَّ فَارِسَ أَكْرَهُوهُمْ وَحَشَرُوهُمْ، فَلَمْ يُخَالِفُوا إِلَيْنَا، وَلَمْ يَذْهَبُوا فِي الأَرْضِ.
وَكَتَبَ مَعَ أَبِي الْهياجِ الأَسَدِيِّ -يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ- إِنَّ أَهْلَ السَّوَادِ جلوا، فَجَاءَنَا مَنْ أَمْسَكَ بِعَهْدِهِ وَلَمْ يجلبْ عَلَيْنَا، فَتَمَّمْنَا لَهُمْ مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ أَهْلَ السَّوَادِ قَدْ لَحِقُوا بِالْمَدَائِنِ، فَأَحْدَثَ إِلَيْنَا فِيمَنْ تَمَّ وَفِيمَنْ جَلا وَفِيمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ اسْتُكْرِهَ وَحُشِرَ فَهَرَبَ وَلَمْ يُقَاتِلْ، أَوِ اسْتَسْلَمَ، فَإِنَّا بِأَرْضٍ رغيبة، وَالأَرْضُ خَلاءٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَعَدَدُنَا قَلِيلٌ، وَقَدْ كَثُرَ أَهْلُ صلحنَا، وَإِنْ أَعْمَرَ لَنَا وَأَوْهَنَ لِعدونا تألفهم فَقَامَ عُمَرُ فِي النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ بِالْهَوَى وَالْمَعْصِيَةِ يَسْقُطْ حَظُّهُ وَلا يَضُرَّ إِلا نَفْسَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ السُّنَّةَ وَيَنْتَهِ إِلَى الشَّرَائِعِ، وَيَلْزَمِ السَّبِيلَ النَّهجَ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدِ اللَّهِ لأَهْلِ الطَّاعَةِ، أَصَابَ أَمْرَهُ، وَظَفَرَ بِحَظِّهِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]، وَقَدْ ظَفَرَ أَهْلُ الأَيَّامِ وَالْقَوَادِسِ بِمَا يَلِيهِمْ، وَجَلا أَهْلُهُ، وَأَتَاهُمْ مَنْ أَقَامَ عَلَى عَهْدِهِمْ، فَمَا رَأْيُكُمْ فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتُكْرِهَ وَحُشِرَ، وَفِيمَنْ لَمْ يَدع ذَلِكَ وَلَمْ يَقُمْ وَجِلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئا، ولم يجل، وفيمن استسلم فأجمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف لم يزده غلبه إلا خيرا، وأن من ادعى فصدق أو وفي فبمنزلتهم، وإن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم، وأن يجعل أمر من جلا إليهم، فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاءوا تموا على منعهم من أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال، وأن يخيروا من أقام واستسلم: الجزاء، أو الجلاء، وكذلك الفلاح.
وكتب جواب كتاب أنس بْن الحليس: أما بعد، فإن اللَّه جل وعلا أنزل في كل شيء رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين: العدل في السيرة والذكر، فأما الذكر فلا رخصة فيه في حالة، ولم يرض منه إلا بالكثير، وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء، والعدل -وان رئى لينا- فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور، وان رئى شديدا فهو انكش للكفر، فمن تم على عهده من أهل السواد، ولم يعن عليكم بشيء، فلهم الذمة، وعليهم الجزية، وأما من ادعى أنه استكره ممن لم يخالفهم إليكم أو يذهب في الأرض، فلا تصدقوهم بما ادعوا من ذلك إلا أن تشاءوا، وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم، وابلغوهم مأمنهم.
وأجابهم في كتاب أبي الهياج أما من أقام ولم يجل وليس له عهد فلهم ما لأهل العهد بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة، وكذلك الفلاحون إذا فعلوا ذلك، وكل من ادعى ذلك فصدق فلهم الذمة، وإن كذبوا نبذ إليهم، وأما من أعان وجلا، فذلك أمر جعله اللَّه لكم، فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقيموا لكم في أرضهم، ولهم الذمة، وعليهم الجزية، وإن كرهوا ذلك، فاقسموا ما أفاء اللَّه عليكم منهم.
فلما قدمت كتب عمر على سعد بْن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى عن السواد أن يتراجعوا، ولهم الذمة وعليهم الجزية، فتراجعوا وصاروا ذمة كمن تم ولزم عهده، إلا أن خراجهم أثقل، فأنزلوا من ادعى الاستكراه وهرب منزلتهم وعقدوا لهم، وأنزلوا من أقام منزلة ذي العهد وكذلك الفلاحين، ولم يدخلوا في الصلح ما كان لآل كسرى، ولا ما كان لمن خرج معهم، ولم يجبهم إلى واحدة من اثنتين: الإسلام، أو الجزاء، فصارت فيئا لمن أفاء اللَّه عليه، فهي والصوافي الأولى ملك لمن أفاء اللَّه عليه، وسائر السواد ذمة وأخذوهم بخراج كسرى، وكان خراج كسرى على رءوس الرجال على ما في أيديهم من الحصة والأموال، وكان مما أفاء اللَّه عليهم ما كان لآل كسرى، ومن صوب معهم وعيال من قاتل معهم وماله، وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه، وما كان للسكك، وما كان لآل كسرى، فلم يتأت قسم ذلك الفيء الذي كان لآل كسرى ومن صوب معهم، لأنه كان متفرقا في كل السواد، فكان يليه لأهل الفيء من وثقوا به، وتراضوا عليه، فهو الذي يتداعاه أهل الفيء لأعظم السواد، وكانت الولاة عند تنازعهم فيها تهاون بقسمه بينهم، فذلك الذي شبه على الجهلة أمر السواد، ولو أن الحلماء جامعوا السفهاء الذين سألوا الولاة قسمه لقسموه بينهم، ولكن الحلماء أبوا، فتابع الولاة الحلماء، وترك قول السفهاء.
كذلك صنع علي رحمه اللَّه، وكل من طلب إليه قسم ذلك فإنما تابع الحلماء، وترك قول السفهاء، وقالوا: لئلا يضرب بعضهم وجوه بعض.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن عامر الشعبي، قال: قلت له: السواد ما حاله؟ قال أخذ عنوة، وكذلك كل أرض إلا الحصون، فجلا أهلها، فدعوا إلى الصلح والذمة، فأجابوا وتراجعوا، فصاروا ذمة، وعليهم الجزاء، ولهم المنعة، وذلك هو السنة، كذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدومة، وبقي ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم فيئا لمن أفاءه اللَّه عَلَيْهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن طلحة وسفيان، عن ماهان، قالوا: فتح اللَّه السواد عنوة -وكذلك كل أرض بينها وبين نهر بلخ- إلا حصنا، ودعوا إلى الصلح، فصاروا ذمه، وصارت لهم أرضوهم ولم يدخلوا في ذلك أموال آل كسرى ومن اتبعهم، فصارت فيئا لمن أفاءه اللَّه عليه، ولا يكون شيء من الفتوح فيئا حتى يقسم، وهو قوله: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} [الأنفال: 41]، مما اقتسمتم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن بْن أبي الحسن، قال: عامة ما أخذ المسلمون عنوة فدعوهم إلى الرجوع والذمة، وعرضوا عليهم الجزاء فقبلوه ومنعوهم.
وعَنْ سَيْفٍ، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن الشعبي، قال: قلت له: إن أناسا يزعمون أن أهل السواد عبيد، فقال: فعلام يؤخذ الجزاء من العبيد؟
أخذ السواد عنوة، وكل أرض علمتها إلا حصنا في جبل أو نحوه.
فدعوا إلى الرجوع فرجعوا، وقبل منهم الجزاء، وصاروا ذمة، وإنما يقسم من الغنائم ما تغنم، فأما ما لم يغنم وأجاب أهله إلى الجزاء من قبل أن يتغنم، فلهم جرت السنة بذلك.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي ضمرة، عن عبد اللَّه بْن المستورد، عن مُحَمَّد بْن سيرين، قال: البلدان كلها أخذت عنوة إلا حصون قليلة، عاهدوا قبل أن ينزلوا ثم دعوا -يعني الذين أخذوا عنوة- إلى الرجوع والجزاء، فصاروا ذمة أهل السواد والجبل كله أمر لم يزل يصنع في أهل الفيء، وإنما عمل عمر والمسلمون في هذا الجزاء والذمة على اجريا ما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقد كان بعث خالد بْن الوليد من تبوك إلى دومة الجندل، فأخذها عنوة، وأخذ ملكها أكيدر بْن عبد الملك أسيرا، فدعاه إلى الذمة والجزاء، وقد أخذت بلاده عنوة، وأخذ أسيرا، وكذلك فعل بابني عريض، وقد أخذا فادعيا أنهما أوداؤه، فعقد لهما على الجزاء والذمة، وكذلك كان أمر يحنه ابن رؤبة صاحب أيلة وليس المعمول به من الأشياء كرواية الخاصة، من روى غير ما عمل به الأئمة العدول المسلمون، فقد كذب وطعن عليهم.
وعَنْ سَيْفٍ، عن حجاج الصواف، عن مسلم مولى حذيفة، قال: تزوج المهاجرون والأنصار في أهل السواد -يعني في أهل الكتابين منهم-، ولو كانوا عبيدا لم يستحلوا ذلك، ولم يحل لهم أن ينكحوا إماء أهل الكتاب، لأن اللَّه تعالى يقول: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] الآية، ولم يقل: فتياتهم من أهل الكتابين.
وعَنْ سَيْفٍ، عن عَبْد الْمَلِكِ بْن أبي سُلَيْمَان، عن سعيد بْن جبير، قال: بعث عمر بْن الخطاب إلى حذيفة بعد ما ولاه المدائن وكثر المسلمات: إنه بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها فكتب إليه: لا أفعل حتى تخبرني: أحلال أم حرام، وما أردت بذلك! فكتب إليه: لا بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم فقال: الآن، فطلقها.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الْقَادِسِيَّةَ مَعَ سَعْدٍ، فَتَزَوَّجْنَا نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنَحْنُ لا نَجِدُ كَثِيرَ مُسْلِمَاتٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا، فَمِنَّا مَنْ طَلَّقَ، وَمِنَّا مَنْ أَمْسَكَ.
وعَنْ سَيْفٍ، عن عَبْد الْمَلِكِ بْن أبي سُلَيْمَان، عن سعيد بْن جبير، قال: أخذ السواد عنوة، فدعوا إلى الرجوع والجزاء، فأجابوا إليه، فصاروا ذمة، إلا ما كان لآل كسرى، وأتباعهم، فصار فيئا لأهله، وهو الذي يتحجى أهل الكوفة إلى أن جهل ذلك، فحسبوه السواد كله، وأما سوادهم، فذلك.
وعَنْ سَيْفٍ، عن المستنير بْن يزيد، عن إبراهيم بْن يزيد النخعي، قال: أخذ السواد عنوة، فدعوا إلى الرجوع، فمن أجاب فعليه الجزية وله الذمة، ومن أبى صار ماله فيئا، فلا يحل بيع شيء من ذلك الفيء فيما بين الجبل إلى العذيب من أرض السواد ولا في الجبل.
وعَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن قيس، عن الشعبي، بمثله: لا يحل بيع شيء من ذلك الفيء فيما بين الجبل والعذيب.
وعَنْ سَيْفٍ، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن عامر، قال: أقطع الزبير وخباب وابن مسعود وابن ياسر وابن هبار أزمان عثمان، فإن يكن عثمان أخطأ فالذين قبلوا منه الْخَطَأَ أَخْطَأُ، وهم الذين أخذنا عنهم ديننا وأقطع عمر طلحة وجرير بْن عبد اللَّه والربيل بْن عمرو، وأقطع أبا مفزر دار الفيل في عدد ممن أخذنا عنهم، وإنما القطائع على وجه النفل من خمس ما أفاء اللَّه.
وكتب عمر إلى عثمان بْن حنيف مع جرير: أما بعد، فاقطع جرير ابن عبد اللَّه قدر ما يقوته لا وكس ولا شطط.
فكتب عثمان إلى عمر: إن جريرا قدم علي بكتاب منك تقطعه ما يقوته، فكرهت أن أمضي ذلك حتى أراجعك فيه فكتب إليه عمر: أن قد صدق جرير، فأنفذ ذلك، وقد أحسنت في مؤامرتي وأقطع أبا موسى وأقطع علي رحمه اللَّه كردوس بْن هانئ الكردوسية، وأقطع سويد بْن غفلة الجعفي.
وعَنْ سَيْفٍ، عن ثابت بْن هريم، عن سويد بْن غفلة، قال: استقطعت عليا رحمه اللَّه، فقال: اكتب: هذا ما أقطع علي سويدا أرضا لداذويه، ما بين كذا إلى كذا وما شاء اللَّه.
وعَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُسْتَنِيرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِذَا عَاهَدْتُمْ قَوْمًا فَأَبْرِءُوا إِلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجُيُوشِ فَكَانُوا يَكْتُبُونَ فِي الصُّلْحِ لِمَنْ عَاهَدُوا: وَنَبْرَأُ إِلَيْكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجُيُوشِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّةِ وَافْتِتَاحُهَا سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّةِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ.
قَالَ: وَالثَّبْتُ عِنْدَنَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَتْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرِي الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِذَلِكَ.
ذكر بناء البصرة
قال أبو جعفر: وفي سنة أربع عشرة أمر عمر بْن الخطاب رحمه اللَّه -فيما زعم الواقدي- الناس بالقيام في المساجد في شهر رمضان بالمدينة، وكتب إلى الأمصار يأمر المسلمين بذلك.
وفي هذه السنة -أعني سنة أربع عشرة- وجه عمر بن الخطاب عتبة ابن غزوان إلى البصرة، وأمره بنزولها بمن معه، وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها منهم في قول المدائني وروايته.
وزعم سيف أن البصرة مصرت في ربيع سنة ست عشرة، وأن عتبة بْن غزوان إنما خرج إلى البصرة من المدائن بعد فراغ سعد من جلولاء وتكريت والحصنين، وجهه إليها سعد بأمر عمر.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْهُ فَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قُتِلَ مِهْرَانُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي صَفَر، فَقَالَ عُمَرُ لِعُتْبَةَ -يَعْنِي ابْنَ غَزْوَانَ-:
قَدْ فَتَحَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى إِخْوَانِكُمُ الْحِيرَةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَقُتِلَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَائِهَا وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَمُدَّهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوَجِّهَكَ إِلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، لِتَمْنَعَ أَهْلَ تِلْكَ الْجِيزَةِ مِنْ إِمْدَادِ إِخْوَانِهِمْ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، وَتُقَاتِلَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْكُمْ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَاتَّقِ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاحْكُمْ بِالْعَدْلِ، وَصَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، وَأَكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ فَأَقْبَلَ عُتْبَةُ فِي ثلاثمائة وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، وَضَوى إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الاعراب واهل البوادى، فقدم البصره في خمسمائة، يَزِيدُونَ قَلِيلا أَوْ يَنْقُصُونَ قَلِيلا، فَنَزَلَهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ -أَوِ الآخِرِ- سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَالْبَصْرَةُ يَوْمَئِذٍ تُدْعَى أَرْضَ الْهِنْدِ فِيهَا حِجَارَةٌ بِيضٌ خَشِنٌ، فَنَزَلَ الْخُرَيْبَةَ، وَلَيْسَ بِهَا إِلا سَبْعُ دَسَاكِرَ، بِالزَّابُوقَةِ وَالْخُرَيْبَةِ وَمَوْضِعِ بَنِي تَمِيمٍ وَالأَزْدِ: ثِنْتَانِ بِالْخُرَيْبَةِ، وَثِنْتَانِ بِالأَزْدِ، وَثِنْتَانِ فِي مَوْضِعِ بَنِي تَمِيمٍ وَوَاحِدَةٌ بِالزَّابُوقَةِ فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ، وَوَصَفَ لَهُ مَنْزِلَهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: اجْمَعْ لِلنَّاسِ مَوْضِعًا وَاحِدًا، وَلا تُفَرِّقْهُمْ، فَأَقَامَ عُتْبَةُ أَشْهُرًا لا يَغْزُو وَلا يَلْقَى أَحَدًا.
وأما مُحَمَّد بْن بشار، فإنه حَدَّثَنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى أَبِو نَعَامَةَ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عُمَيْرٍ وَشُوَيْسًا أَبَا الرُّقَادِ، قَالا: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي أَقْصَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأَدْنَى أَرْضِ الْعَجَمِ، فَأَقِيمُوا فَأَقْبَلُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْمِرْبَدِ وَجَدُوا هَذَا الْكذان قَالُوا: مَا هَذِهِ الْبَصْرَةِ؟ فَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا حِيَالَ الْجِسْرِ الصَّغِيرِ، فَإِذَا فِيهِ حُلَفَاءٌ وَقصب نابتة، فَقَالُوا: هَاهُنَا أُمِرْتُمْ، فَنَزَلُوا دُونَ صَاحِبِ الْفُرَاتِ، فاتوه فقالوا: ان هاهنا قَوْمًا مَعَهُمْ رَايَةٌ، وَهُمْ يُرِيدُونَكَ، فَأَقْبَلَ فِي أَرْبَعَةِ آلافِ إِسْوَارٍ، فَقَالَ: مَا هُمْ إِلا مَا أَرَى، اجْعَلُوا فِي أَعْنَاقِهِمُ الْحِبَالَ، وَأْتُونِي بِهِمْ، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَزْجِلُ، وَقَالَ: إِنِّي شَهِدْتُ الحرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: احْمِلُوا، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا صَاحِبُ الْفُرَاتِ، أَخَذُوهُ أَسِيرًا، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ: ابْغُوا لَنَا مَنْزِلا هُوَ أَنْزَهَ مِنْ هَذَا -وَكَانَ يَوْمَ عِكَاكٍ وَوَمَدٍ- فَرَفَعُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَقَامَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا صَبَابَةٌ كَصَبَابَةِ الإِنَاءِ أَلا وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْقَرَارِ، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ وَقَدْ ذُكِرَ لِي: لَوْ أَنَّ صَخْرَةً أُلْقِيَتْ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ هَوَتْ سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَلَتَمْلأَنَّهُ، أَوَعَجِبْتُمْ! وَلَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وهو كظيظ بزحام، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا سَابِعُ سَبْعَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ السمرِ، حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُنَا، وَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ، فَمَا مِنَّا مِنْ أُولَئِكَ السَّبْعَةِ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ، وَسَيُجَرِّبُونَ النَّاسَ بَعْدَنَا.
وعَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو، قَالُوا: لَمَّا تَوَجَّهَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ الْمَازِنِيُّ مِنْ بَنِي مَازِنَ بْنِ مَنْصُورٍ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى فرج الْهِنْدِ، نَزَلَ عَلَى الشَّاطِئِ بِحِيَالِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَأَقَامَ قَلِيلا ثُمَّ أَرَزَ، ثُمَّ شَكَوْا ذَلِكَ حَتَّى أَمَرَهُ عُمَرُ بِأَنْ يُنْزِلَ الْحَجَرَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَوْطَانٍ إِذَا اجْتَوَوُا الطِّينَ، فَنَزَلُوا فِي الرَّابِعَةِ الْبَصْرَةَ -وَالْبَصْرَةُ كُلُّ أَرْضٍ حِجَارَتُهَا جِصٌّ- وَأَمَرَ لَهُمْ بِنَهْرٍ يُجْرَى مِنْ دِجْلَةَ، فَسَاقُوا إِلَيْهَا نَهْرًا لِلشَّفَةِ، وَكَانَ إِيطَانُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْبَصْرَةَ الْيَوْمَ وَإِيطَانُ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْكُوفَةَ الْيَوْمَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَكَانَ مَقَامُهُمْ قَبْلَ نُزُولِهَا الْمَدَائِنَ إِلَى أَنْ وَطَنُوهَا، وَأَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَكَانَ مَقَامُهُمْ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ ثُمَّ أَرَزُوا مَرَّاتٍ حَتَّى اسْتَقَرُّوا وَبَدَءُوا، فَخَنَسُوا فَرْسَخًا وَجَرُّوا مَعَهُمْ نَهْرًا، ثُمَّ فَرْسَخًا ثُمَّ جَرُّوهُ ثُمَّ فَرْسَخًا، ثُمَّ جَرُّوهُ ثُمَّ أَتَوُا الْحَجَرَ، ثُمَّ جَرُّوهُ، وَاخْتَطَّتْ عَلَى نَحْوٍ مِنْ خِطَطِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ عَلَى أَنْزَالِ الْبَصْرَةِ أَبُو الْجَرْبَاءِ عَاصِمُ بْنُ الدُّلَفِ، أَحَدُ بَنِي غَيْلانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ.
وَقَدْ كَانَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ -فِيمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِيُّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ إِسْحَاقَ السُّلَمِيِّ، عَنْ قُطْبَةَ بْنِ قَتَادَةَ السَّدُوسِيِّ- يُغِيرُ بِنَاحِيَةِ الْخُرَيْبَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ، كَمَا كَانَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ يُغِيرُ بِنَاحِيَةِ الْحِيرَةِ.
فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يُعْلِمُهُ مَكَانَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ عَدَدٌ يَسِيرٌ ظَفَرَ بِمَنْ قَبْلِهِ مِنَ الْعُجْمِ، فَنَفَاهُمْ مِنْ بِلادِهِمْ وَكَانَتِ الأَعَاجِمُ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ قَدْ هَابُوهُ بَعْدَ وَقْعَةِ خَالِدٍ بِنَهْرِ الْمَرْأَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّهُ أَتَانِي كِتَابُكَ أَنَّكَ تُغِيرُ عَلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الأَعَاجِمِ، وَقَدْ أَصَبْتَ وَوُفِّقْتَ، أَقِمْ مَكَانَكَ، وَاحْذَرْ عَلَى مَنْ مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي فَوَجَّهَ عُمَرُ شُرَيْحَ بْنَ عَامِرٍ، أَحَدَ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: كُنْ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْجِيزَةِ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَتَرَكَ بِهَا قُطْبَةَ، وَمَضَى إِلَى الأَهْوَازِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِسَ، وَفِيهَا مَسْلَحَةٌ لِلأَعَاجِمِ، فَقَتَلُوهُ، وَبَعَثَ عُمَرُ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ.
حَدَّثَنَا عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عَنْ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: إِنَّ عُمَرَ قَالَ لِعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ إِذْ وَجَّهَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ: يَا عُتْبَةُ، إِنِّي قَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، وَهِيَ حَوْمَةٌ مِنْ حَوْمَةِ الْعَدُوِّ، وَأَرْجُو أَنْ يُكْفِيَكَ اللَّهُ مَا حَوْلَهَا، وَأَنْ يُعِينَكَ عَلَيْهَا وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَنْ يَمُدَّكَ بِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ، وَهُوَ ذُو مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ وَمُكَايَدَتِهِ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ فَاسْتَشِرْهُ وَقَرِّبْهُ، وَادْعُ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ أَجَابَكَ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ أَبَى فَالْجِزْيَةَ عَنْ صَغَارٍ وَذِلَّةٍ، وَإِلا فَالسَّيْفَ فِي غَيْرِ هَوَادَةٍ وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا وُلِّيتَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُنَازِعَكَ نَفْسُكَ إِلَى كِبْرٍ يُفْسِدُ عَلَيْكَ اخوتك، وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعُزِّزْتَ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ، وَقُوِّيتَ بِهِ بَعْدَ الضَّعْفِ، حَتَّى صِرْتَ أَمِيرًا مُسَلَّطًا وَمَلِكًا مُطَاعًا، تَقُولُ فَيُسْمَعُ مِنْكَ، وَتَأْمُرُ فَيُطَاعُ أَمْرُكَ، فَيَا لَهَا نِعْمَةٌ، إِنْ لَمْ تَرْفَعْكَ فَوْقَ قَدْرِكَ وَتُبْطِرْكَ عَلَى مَنْ دُونَكَ! احْتَفِظْ مِنَ النِّعْمَةِ احْتِفَاظَكَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَهِيَ أَخْوَفُهُمَا عِنْدِي عَلَيْكَ أَنْ تَسْتَدْرِجْكَ وَتَخْدَعَكَ، فَتَسْقُطَ سَقْطَةً تَصِيرُ بِهَا إِلَى جَهَنَّمَ، أُعِيذُكَ بِاللَّهِ وَنَفْسِي مِنْ ذَلِكَ إِنَّ النَّاسَ أَسْرَعُوا إِلَى اللَّهِ حِينَ رُفِعَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا فَأَرَادُوهَا، فَأَرِدِ اللَّهَ وَلا تُرِدِ الدُّنْيَا، وَاتَّقِ مَصَارِعَ الظَّالِمِينَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَمْدَانِيُّ وَأَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَدِمَ عُتْبَةُ بْنُ غزوان البصره في ثلاثمائة، فَلَمَّا رَأَى مَنْبَتَ الْقَصَبِ، وَسَمِعَ نَقِيقَ الضَّفَادِعِ قَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْزِلَ أَقْصَى الْبَرِّ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَأَدْنَى أَرْضِ الرِّيفِ مِنْ أَرْضِ الْعَجَمِ، فَهَذَا حَيْثُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا فِيهِ طَاعَةُ إِمَامِنَا فَنَزَلَ الْخُرَيْبَةَ وَبِالأُبُلَّةِ خمسمائة مِنَ الأَسَاوِرَةِ يَحْمُونَهَا وَكَانَتْ مِرْفَأَ السُّفُنِ مِنَ الصِّينِ وَمَا دُونَهَا، فَسَارَ عُتْبَةُ فَنَزَلَ دُونَ الإِجَانَةِ، فَأَقَامَ نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ الأُبُلَّةِ فَنَاهَضَهُمْ عُتْبَةُ، وَجَعَلَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ السَّدُوسِيُّ وَقَسَامَةُ بْنُ زُهَيْرٍ الْمَازِنِيُّ فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ، وَقَالَ لَهُمَا: كُونَا فِي ظَهْرِنَا، فَتَرُدَّا الْمُنْهَزِمَ، وَتَمْنَعَا مَنْ أَرَادَنَا مِنْ وَرَائِنَا ثُمَّ الْتَقَوْا فَمَا اقْتَتَلُوا مِقْدَارَ جَزْرِ جَزُورٍ وَقَسْمِهَا، حَتَّى مَنَحَهُمُ اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ، وَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، حَتَّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَرَجَعَ عُتْبَةُ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا، وَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَخَرَجُوا عَنِ الْمَدِينَةِ، وَحَمَلُوا مَا خَفَّ لَهُمْ، وَعَبَرُوا إِلَى الْفُرَاتِ، وَخَلُّوا الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فَأَصَابُوا مَتَاعًا وَسِلاحًا وَسَبْيًا وَعينًا، فَاقْتَسَمُوا العين، فأصاب كل رجل منهم درهمان، وَوَلَّى عُتْبَةُ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ أَقْبَاضَ الأُبُلَّةِ، فَأَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ قَسَّمَ الْبَاقِي بَيْنَ مَنْ أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ مَعَ نَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ.
وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَتَلَ نَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ الأُبُلَّةِ تسعه، وابو بكر سِتَّةً.
وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: أصاب المسلمون بالابله من الدراهم ستمائه دِرْهَمٍ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ دِرْهَمَيْنِ، فَفَرَضَ عُمَرُ لأَصْحَابِ الدِّرْهَمَيْنِ مِمَّنْ أَخَذَهُمَا مِنْ فَتْحِ الأُبُلَّةِ في الفين من العطاء، وكانوا ثلاثمائة رَجُلٍ، وَكَانَ فَتْحُ الأُبُلَّةِ فِي رَجَبٍ، أَوْ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: شَهِدَ فَتْحَ الأُبُلَّةُ مِائَتَانِ وَسَبْعُونَ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مَرْيَمَ الْبَلَوِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ كِلْدَةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، وَالْحَجَّاجُ.
وَعَنْ عَبَايَةَ بْنِ عَبْدِ عَمْرٍو، قَالَ: شَهِدْتُ فَتْحَ الأُبُلَّةِ مَعَ عُتْبَةَ، فَبَعَثَ نَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْفَتْحِ، وَجَمَعَ لَنَا اهل دست ملسان، فَقَالَ عُتْبَةُ: أَرَى أَنْ نَسِيرَ إِلَيْهِمْ، فَسِرْنَا فلقينا مرزبان دست ميسان، فَقَاتَلْنَاهُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَأُخِذَ قِبَاؤُهُ ومنطقته، فبعث به عتبة مع انس ابن حُجَيَّةَ الْيَشْكُرِيِّ.
وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: بَعَثَ عُتْبَةُ أَنَسَ بْنَ حُجَيَّةَ إِلَى عُمَرَ بمنطقه مرزبان دست ميسان، فقال له: كَيْفَ الْمُسْلِمُونَ؟ قَالَ: انْثَالَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، فَهُمْ يُهِيلُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَرَغِبَ النَّاسُ فِي الْبَصْرَةِ، فَأَتَوْهَا.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ عُتْبَةُ مِنَ الأُبُلَّةِ، جَمَعَ لَهُ مَرْزُبَانُ دست ميسان، فَسَارَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ مِنَ الأُبُلَّةِ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ سَرَّحَ مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ إِلَى الْفُرَاتِ وَبِهَا مَدِينَةٌ وَوَفَدَ عُتْبَةُ إِلَى عُمَرَ، وَأَمَرَ الْمُغِيرَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ حَتَّى يَقْدَمَ مُجَاشِعُ مِنَ الْفُرَاتِ، فَإِذَا قَدِمَ فَهُوَ الأَمِيرُ فَظَفَرَ مُجَاشِعٌ بِأَهْلِ الْفُرَاتِ، وَرَجَعَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَجَمَعَ الْفيلكَانُ، عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ أَبَزْقُبَاذَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَلَقِيَهُ بِالْمَرْغَابِ، فَظَفَرَ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُتْبَةَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ؟ قَالَ: مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: تَسْتَعْمِلُ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ عَلَى أَهْلِ الْمَدَرِ؟ تَدْرِي مَا حَدَثَ! قَالَ: لا، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَمَلِهِ، فَمَاتَ عُتْبَةُ في الطَّرِيقِ، وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَوْشَنٍ، قَالَ: شَخَصَ عُتْبَةُ بعد ما قتل مرزبان دست ميسان، وَوَجَّهَ مُجَاشِعًا إِلَى الْفُرَاتِ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وامر المغيره ابن شُعْبَةَ بِالصَّلاةِ حَتَّى يَرْجِعَ مُجَاشِعُ مِنَ الْفُرَاتِ، وَجَمَعَ أَهْلُ مِيسَانَ، فَلَقِيَهُمُ الْمُغِيرَةُ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ قُدُومِ مُجَاشِعٍ مِنَ الْفُرَاتِ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ إِلَى عُمَرَ.
الطبري، بإسناده عن قتادة، قال: جمع أهل ميسان للمسلمين، فسار إليهم المغيرة، وخلف المغيرة الأثقال، فلقي العدو دون دجلة، فقالت أردة بنت الحارث بْن كلدة: لو لحقنا بالمسلمين فكنا معهم! فاعتقدت لواء من خمارها، واتخذ النساء من خمرهن رايات، وخرجن يردن المسلمين، فانتهين إليهم، والمشركون يقاتلونهم، فلما رأى المشركون الرايات مقبلة، ظنوا أن مددا أتى المسلمين فانكشفوا، وأتبعهم المسلمون فقتلوا منهم عدة وعن حارثة بْن مضرب، قال: فتحت الأبلة عنوة، فقسم بينهم عتبة -ككة- يعني خبزا أبيض وعن مُحَمَّد بْن سيرين مثله.
قال الطبرى، وَكَانَ مِمَّنْ سُبِيَ مِنْ مِيسَانَ يَسَارٌ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَرْطُبَانُ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنِ بْنِ أَرْطُبَانَ.
وَعَنِ الْمُثَنَّى بْنِ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: شَهِدْتُ فَتْحَ الأُبُلَّةِ، فَوَقَعَ لِي فِي سَهْمِي قِدْرُ نَحَاسٍ، فَلَمَّا نَظَرْتُ إِذَا هِيَ ذَهَبٌ فِيهَا ثَمَانُونَ أَلْفَ مِثْقَالٍ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ أَنْ يُصْبَرَ يَمِينُ سَلَمَةَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَخَذَهَا وَهِيَ عِنْدَهُ نَحَاسٌ، فَإِنْ حَلَفَ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَإِلا قُسِّمَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: فَحَلَفْتُ، فَسُلِّمَتْ لِي قَالَ الْمُثَنَّى: فَأُصُولُ أَمْوَالِنَا الْيَوْمَ مِنْهَا.
وَعَنْ عَمْرَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ النَّاسُ لِقِتَالِ أَهْلِ الأُبُلَّةِ خَرَجَ زَوْجِي وَابْنِي مَعَهُمْ، فَأَخَذُوا الدِّرْهَمَيْنِ وَمَكُّوكِ زَبِيبٍ، وَإِنَّهُمْ مَضَوْا حَتَّى إِذَا كَانُوا حِيَالَ الأُبُلَّةِ، قَالُوا لِلْعَدُوِّ، نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ أَوْ تَعْبُرُونَ إِلَيْنَا؟ قَالَ: بَلِ اعْبُرُوا إِلَيْنَا، فَأَخَذُوا خَشَبَ الْعُشَرِ فَأَوْثَقُوهُ، وَعَبَرُوا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لا تَأْخُذُوا أَوَّلَهُمْ حَتَّى يَعْبُرَ آخِرُهُمْ فَلَمَّا صَارُوا عَلَى الأَرْضِ كَبَّرُوا تَكْبِيرَةً، ثُمَّ كَبَّرُوا الثَّانِيَةَ، فَقَامَتْ دَوَابُّهُمْ عَلَى أَرْجُلِهَا، ثُمَّ كَبَّرُوا الثَّالِثَةَ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تَضْرِبُ بِصَاحِبِهَا الأَرْضَ، وَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى رُءُوسٍ تُنْدَرُ، مَا نَرَى مَنْ يَضْرِبُهَا، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ.
الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ عُتْبَةَ صَفِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ، وَكَانَتْ أُخْتُهَا أَردَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ عِنْدَ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيِّ، فَلَمَّا وَلِيَ عُتْبَةُ الْبَصْرَةَ انْحَدَرَ مَعَهُ أَصْهَارُهُ: أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعٌ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَانْحَدَرَ مَعَهُمْ زِيَادٌ، فَلَمَّا فَتَحُوا الأُبُلَّةَ لَمْ يَجِدُوا قَاسِمًا يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ، فَكَانَ زِيَادٌ قَاسِمَهُمْ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، لَهُ ذُؤَابَةٌ، فَأَجْرَوْا عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ.
وَقِيلَ: إِنَّ إِمَارَةَ عُتْبَةَ الْبَصْرَةَ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ، فَكَانَتْ إِمَارَتُهُ عَلَيْهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَبَقِيَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ رُمِيَ بِمَا رُمِيَ، وَاسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى، وَقِيلَ اسْتَعْمَلَ بَعْدَ عُتْبَةَ أَبَا مُوسَى، وَبَعْدَهُ الْمُغِيرَةَ.
وَفِيهَا -أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ- ضَرَبَ عُمَرُ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ فِي شَرَابٍ شَرِبُوهُ وَأَبَا مِحْجَنٍ.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الْخَطَّابِ، وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ في قول، وعلى اليمن يعلى بن مُنَيَّةَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ -وَقِيلَ: الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ- وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ.