وذلك مع ميسرة غلام خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة أي على …
الراجح من أقوال ستة، وعليه جمهور العلماء، وتلك أقوال ضعيفة لم تقم لها حجة على ساق، وليس له صلى الله عليه وسلم اسم بمكة إلا الأمين، لما تكامل فيه من خصال الخير كما تقدم.
وسبب ذلك أن عمه صلى الله عليه وسلم أبا طالب قال له: يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان: أي القحط وألحت علينا: أي أقبلت ودامت سنون منكرة: أي شديدة الجدب، وليس لنا مادة: أي ما يمدنا وما يقوّمنا ولا تجارة، وهذه عير قومك وتقدم أنها الإبل التي تحمل الميرة. وفي رواية. عيرات، جمع عير قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها، فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك وإن كنت لأكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهودها ولكن لا تجد لك من ذلك بدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلها أن ترسل إليّ في ذلك. فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك، فتطلب أمرا مدبرا فافترقا، فبلغ خديجة رضي الله تعالى عنها ما كان من محاورة عمه أبي طالب له. فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، ثم أرسلت إليه صلى الله عليه وسلم فقالت: إني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك. وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقي عمه أبا طالب فذكر له ذلك. فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك، فخرج صلى الله عليه وسلم مع غلامها ميسرة: أي يريد الشام وقالت خديجة لميسرة: لا تعص له أمرا ولا تخالف له رأيا، وجعل عمومته يوصون به أهل العير: أي ومن حين سيره صلى الله عليه وسلم أظلته الغمامة.
فلما قدم صلى الله عليه وسلم الشام نزل في سوق بصرى في ظل شجرة قريبة من صومعة راهب يقال له نسطورا: أي بالقصر، فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه. فقال: يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال ميسرة: رجل من قريش من أهل الحزم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي: أي صانها الله تعالى أن ينزل تحتها غير نبيّ. ثم قال له: أفي عينيه حمرة؟ قال ميسرة نعم لا تفارقه فقال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج: أي يبعث، فوعى ذلك ميسرة: أي والحمرة كانت في بياض عينيه وهي الشكلة. ومن ثم قيل في وصفه صلى الله عليه وسلم: أشكل العينين، فهذه الشكلة من علامات نبوّته صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة، أي وقد تقدم ذلك.
قال: وفي الشرف للنيسابوري: فلما رأى الراهب الغمامة تظله صلى الله عليه وسلم فزع وقال: ما أنتم عليه: أي أيّ شيء أنتم عليه؟ قال: ميسرة غلام خديجة رضي الله تعالى عنها، فدنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرا من ميسرة وقبل رأسه وقدمه وقال: آمنت بك، وأنا أشهد أنك الذي ذكره الله في التوراة، ثم قال: يا محمد قد عرفت فيك العلامات كلها: أي العلامات الدالة على نبوتك المذكورة في الكتب القديمة، خلا خصلة واحدة، فأوضح لي عن كتفك، فأوضح له فإذا هو بخاتم النبوة يتلألأ، فأقبل عليه يقبله ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى ابن مريم، فإنه قال: لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأميّ الهاشمي العربي المكي، صاحب الحوض والشفاعة، وصاحب لواء الحمد.
أقول: قال في النور: ولم أجد أحدا عدّ هذا الراهب الذي هو نسطورا في الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما عدّ بعضهم فيها بحيرا الراهب، وينبغي أن يكون هذا مثله هذا كلامه.
وقد قدمنا أنه سيأتي أن بحيرا ونسطورا ونحوهما ممن صدّق بأنه صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام فضلا عن كونه صحابيا، لأن المسلم من أقرّ برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها إلى آخر ما يأتي.
ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة أن بحيرا ممن ذكر في كتب الصحابة غلطا، قال: لأن تعريف الصحابي لا ينطبق عليه، وهو مسلم لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به، ومات على ذلك قال: فقولي مسلم يخرج من لقيه مؤمنا به قبل أن يبعث كهذا الرجل يعني بحيرا، هذا كلامه، ومراده ما ذكرنا، ولعل نسطورا هذا هو الذي تنسب إليه النسطورية من النصارى، فإن النصارى افترقت ثلاث فرق، نسطورية قالوا عيسى ابن الله. ويعقوبية قالوا عيسى هو الله عز وجل هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء. وملكانية قالوا عيسى عبد الله ونبيه. زاد بعضهم فرقة رابعة وهم إسرائيلية قالوا هو إله وأمه إله والله إله.
هذا وفي القاموس: النسطورية بالضم ويفتح: أمة من النصارى تخالف بقيتهم، وهم أصحاب نسطورا الحكيم الذي ظهر في أيام المأمون وتصرف في الإنجيل برأيه وقال إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة، وهو بالرومية نسطورس، كما افترقت اليهود ثلاث فرق، فإنها افترقت إلى قرائية وربانية وسامرية.
ولا يخفى أن بقاء تلك الشجرة هذا الزمن الطويل قبل عيسى وبعده إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم على خلاف العادة، وصرف غير الأنبياء عن النزول تحت تلك الشجرة وكذا صرف الأنبياء الذين وجدوا بعد عيسى على ما تقدم عن النزول تحت تلك الشجرة بعد عيسى الذي دلت عليه الرواية الأولى والرواية الثانية ممكن، وإن كانت الشجرة لا تبقي في العادة هذا الزمن الطويل، ويبعد في العادة أن تكون شجرة تخلو عن أن ينزل تحتها أحد غير الأنبياء، لأن هذا الأمر مع كونه ممكنا خارق للعادة، والأنبياء لهم خرق العوائد سيما نبينا صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يردّ قول السهيلي: يريد ما نزل تحت هذه الشجرة الساعة إلا نبي ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي لبعد العهد بالأنبياء عليهم السلام قبل ذلك وإن كان في لفظ الخبر «قط» أي كما تقدم، فقد تكلم بها على جهة التأكيد للنفي، والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدرى أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى أو غيره من الأنبياء. ويبعد في العادة أيضا أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها أحد حتى يجيء نبي، هذا كلامه.
وقد يقال: يجوز أن تكون تلك الشجرة كانت شجرة زيتون. فقد ذكر أن شجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة، على أن في بعض الروايات: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يابسة نخر عودها، فلما اطمأن تحتها اخضرت ونورت، واعشوشب ما حولها، وأينع ثمرها، ودلت أغصانها ترفرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال بعضهم: المختار عند جمهور المحققين من أهل السنة أن كل ما جاز وقوعه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المعجزات جاز للأولياء مثله من الكرامات بشرط عدم التحدي، لأن المعجزة يعتبر فيها التحدي وأن تكون بعد النبوة، وما قبل النبوة كما هنا يقال له إرهاص.
وحينئذ لا يستبعد ما ذكر عن الشيخ رسلان رحمه الله أنه كان إذا استند إلى شجرة يابسة قد ماتت تورق ويخرج ثمرها في الحال. على أنه سيأتي في الكلام على غزاة الخندق أن كرامات الأولياء معجزات لأنبيائهم.
ولما رأى الراهب ما ذكر لم يتمالك الراهب أن انحدر من صومعته، وقال له:
باللات والعزى ما اسمك؟ فقال له: إليك عني، ثكلتك أمك، ومع ذلك الراهب رقّ مكتوب، فجعل ينظر في ذلك الرق، ثم قال هو هو ومنزل التوراة، فظن بعض القوم أن الراهب يريد بالنبي صلى الله عليه وسلم مكرا، فانتضى سيفه وصاح: يا آل غالب يا آل غالب، فأقبل الناس يهرعون إليه من كل ناحية يقولون: ما الذي راعك؟ فلما نظر الراهب إلى ذلك أقبل يسعى إلى صومعته فدخلها وأغلق عليه بابها، ثم أشرف عليهم فقال:
يا قوم ما الذي راعكم مني؟ فو الذي رفع السموات بغير عمد إني لأجد في هذه الصحيفة أن النازل تحت هذه الشجرة هو رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، يبعثه الله بالسيف المسلول، وبالريح الأكبر، وهو خاتم النبيين، فمن أطاعه نجا، ومن عصاه غوى، ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى، فباع سلعته التي خرج بها واشترى. قال: ولم أقف على تعيين ما باعه وما اشتراه.
وكان بينه صلى الله عليه وسلم وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احلف باللات والعزى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حلفت بهما قط»، فقال الرجل القول قولك، ثم قال الرجل لميسرة وقد خلا به: يا ميسرة هذا نبي، والذي نفسي بيده إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتا: أي في الكتب، فوعى ميسرة ذلك: أي وقبل أن يصلوا إلى بصرى عيي بعيران لخديجة وتخلف معهما ميسرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الركب فخاف ميسرة على نفسه وعلى البعيرين، فانطلق يسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البعيرين، فوضع يده على أخفافهما وعوذهما، فانطلقا في أول الركب ولهما رغاء.
قال: وفي الشرف أنهم باعوا متاعهم، وربحوا ربحا ما ربحوا مثله قط. قال ميسرة: يا محمد اتجرنا لخديجة أربعين سنة ما ربحنا ربحا قط أكثر من هذا الربح على وجهك.
وأقول: لا يخفى ما في قول ميسرة: أتجرنا لخديجة أربعين سنة، ولعلها مصحفة عن سفرة، أو هو على المبالغة، والله أعلم.
ثم انصرف أهل البعير جميعا راجعين مكة، وكان ميسرة يرى ملكين يظللانه صلى الله عليه وسلم من الشمس وهو على بعيره إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، وهذا هو المعنى بقول الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم بإظلال الملائكة له في سفره.
ويحتمل أن المراد في كل سفر سافره، لكن لم أقف على إظلال الملائكة له صلى الله عليه وسلم في غير هذه السفرة. وقد ألقى الله تعالى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب ميسرة، فكان كأنه عبده، فلما كانوا بمرّ الظهران: أي وهو واد بين مكة وعسفان، وهو الذي تسميه العامة بطن مرو، وهو المعروف الآن بوادي فاطمة. قال ميسرة للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك أن تسبقني إلى خديجة فتخبرها بالذي جرى، لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك: أي وفي رواية: تخبرها بما صنع الله تعالى لها على وجهك، فركب النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية: أي في غرفة مع نساء، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظللان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا، وهو ضعف ما كانت تربح، فسرت بذلك وقالت: أين ميسرة؟ قال: «خلفته في البادية» ، قالت: عجل إليه ليعجل بالإقبال وإنما أرادت أن تعلم أهو الذي رأت أم غيره؟ فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصعدت خديجة تنظر فرأته على الحالة الأولى، فاستيقنت أنه هو.
فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال لها ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله:
وميسرة قد عاين الملكين إذ *** أظلاك لما سرت ثاني سفرة
وأخبرها ميسرة بقول الراهب نسطورا، وقول الآخر الذي حالفه: أي استحلفه في البيع: أي وقصة البعيرين. وحينئذ أعطت خديجة له صلى الله عليه وسلم ضعف ما سمته له: أي وما سمته له ضعف ما كانت تعطيه لرجل من قومه كما تقدم. وقول ميسرة له صلى الله عليه وسلم فيما تقدم: لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك يدل على أنها سمت له بكرتين، وكانت تسمي لغيره بكرة. وفي كلام بعضهم: وفي الروض الباسم: استأجرته على أربع بكرات.
وفي الجامع الصغير ما نصه: آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوصين. ثم رأيت في الإمتاع ما يوافق ذلك، ونصه: وأجر صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة سفرتين بقلوصين، وفي السفرة الأولى أرسلته مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة: أي وهو مكان بأرض اليمن بينه وبين مكة ست ليال كانوا يبتاعون فيه ثلاثة أيام، من أول رجب في كل عام، فابتاعا منه بزا ورجعا إلى مكة، فربحا ربحا حسنا. وفي السفرة الثانية أرسلته مع عبدها ميسرة إلى الشام.
وفيه أن سفره مع ميسرة إلى الشام سفرة ثالثة. فعن مستدرك الحاكم وصححه وأقره الذهبي عن جابر: أن خديجة استأجرته صلى الله عليه وسلم سفرتين إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء: موضع باليمن كل سفرة بقلوص، وهي الشابة من الإبل، وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم سافر لها ثلاث سفرات كما تقدم، ولعل سوق حباشة هو جرش، وإلا لزم أن يكون صلى الله عليه وسلم سافر لها خمس سفرات: أربعة إلى اليمن، وواحدة إلى الشام، وما تقدم عن الروض الباسم من أنها استأجرته في سفرة إلى الشام بأربع بكرات لا يناسب ما تقدم عن ميسرة.
قد جاء في بعض الروايات: أن أبا طالب جاء لخديجة، وقال لها: هل لك أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرتين، وليس نرضى لمحمد دون أربع بكرات، فقالت خديجة: لو سألت لبعيد بغيض، فكيف وقد سألت لحبيب قريب؟.
ثم لا يخفى أن كون سفره صلى الله عليه وسلم مع ميسرة بسوق حباشة قبل سفره معه إلى الشام مخالف لظاهر ما تقدم من قول عمه أبي طالب، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها، وقول خديجة ما علمت أنه يريد هذا. وإنما قلنا ظاهر، لأنه يجوز أن يكون بعد قول أبي طالب، وقولها المذكور أرسلته صلى الله عليه وسلم مع ميسرة إلى سوق حباشة لقرب مسافته وقصر زمنه، ثم أرسلته مع ميسرة إلى الشام، أو كانت خديجة لا تجوّز أن أبا طالب يرضى بسفره إلى الشام، وأنه صلى الله عليه وسلم يوافق على ذلك فليتأمل.
وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم من حين سيره: أي من مكة صارت الغمامة تظله، فإن كانت غير الملكين، فالغمامة كانت تظله في الذهاب والملكان يظلانه في العود، ولعل عدم ذكر ميسرة لخديجة تظليل الغمامة له صلى الله عليه وسلم في ذهابه أنه لم يفطن لها مثلا، ولكن سيأتي في كلام صاحب الهمزية ما يدل على أن الملكين هما الغمامة.
وفيه وقوع رؤية البشر غير نبينا صلى الله عليه وسلم للملائكة غير جبريل، وسيأتي رؤية جمع من الصحابة لجبريل.
وفي المنقذ من الضلال للغزالي أن الصوفية يشاهدون الملائكة في يقظتهم: أي لحصول طهارة نفوسهم، وتزكية قلوبهم، وقطعهم العلائق، وحسمهم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال، وإقبالهم على الله تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرا، والله أعلم. قال: ولم أقف على اسم الرجل الذي حالفه: أي استحلفه.
وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف على رواية صحيحة صريحة فيه بأنه: أي ميسرة بقي إلى البعثة انتهى.
ثم إن خديجة ذكرت ما رأته من الآيات وما حدثها به غلامها ميسرة لابن عمها ورقة بن نوفل وكان نصرانيا: أي بعد أن كان يهوديا على ما يأتي، قد تتبع الكتب، فقال لها: إن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا نبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي منتظر هذا زمانه: أي وكان صلى الله عليه وسلم يتجر قبل النبوة قبل أن يتجر لخديجة، وكان شريكا للسائب بن أبي السائب صيفي.
ولما قدم عليه السائب يوم فتح مكة قال له: مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري: أي لا يرائي، ولا يماري: أي يخاصم صاحبه، وهذا يدل على أن قوله كان لا يداري الخ من مقوله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال فقهاؤنا: والأصل في الشركة خبر السائب بن يزيد أنه كان شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وافتخر بشركته بعد المبعث: أي قال: كان صلى الله عليه وسلم نعم الشريك لا يداري ولا يماري ولا يشاري. والمشاراة: المشاحة في الأمر واللجاج فيه، وهو يدل على أن ذلك كان من مقول السائب. ولا مانع أن يكون كل من النبي صلى الله عليه وسلم والسائب قال في حق الآخر: كان لا يداري ولا يماري. وبهذا يندفع قول بعضهم: اختلفت الروايات في هذا الكلام الذي هو كان خير شريك، كان لا يشاري، ولا يماري، فمنهم من يجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم في السائب، ومنهم من يجعله من قول السائب في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن لا يكون مخالفة بين السائب بن أبي السائب صيفي وبين السائب بن يزيد، لأنه يجوز أن يكون صيفي لقبا لوالده اسمه يزيد.
وفي الاستيعاب: وقع اضطراب هل الشريك كان أبا السائب، أو ولده السائب بن السائب، أو ولد السائب وهو قيس بن السائب بن أبي السائب لا أخ السائب، وهو عبد الله بن أبي السائب. قال: وهذا اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجة.
والسائب بن أبي السائب من المؤلفة، أعطاه صلى الله عليه وسلم يوم الجعرانة من غنائم حنين.
وبه يرد قول بعضهم إن السائب بن أبي السائب قتل يوم بدر كافرا.
ومما يدل على أن الشركة كانت لقيس بن السائب قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية شريكي، فكان خير شريك: كان لا يشاريني، ولا يماريني.
ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم سمع قوله: كان شريكي وأقره عليه.
وذكر في الإمتاع «إن حكيم بن حزام اشترى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بزا من بزّ تهامة بسوق حباشة وقدم به مكة فكان ذلك سببا لإرسال خديجة له صلى الله عليه وسلم مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة ليشتريا لها بزا» .
وفي «سفر السعادة» أنه صلى الله عليه وسلم وقع منه أنه باع واشترى، إلا أنه بعد الوحي وقبل الهجرة كان شراؤه أكثر من البيع وبعد الهجرة لم يبع إلا ثلاث مرات. وأما شراؤه فكثير. وآجر واستأجر، والاستئجار أغلب، ووكل وتوكل، وكان توكله أكثر.