تكليف الرسول للسرية
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي… في رجب مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره أحدًا من أصحابه.
أفراد السرية
وكان أصحابه: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس و عكاشة بن محصن الأسدي ، و عتبة بن غزوان ، و سعد بن أبي وقاص، و عامر بن ربيعة من عنز بن واثل حليف بني عدي، و واقد بن عبد الله أحد بني تميم حليف لهم، و خالد بن البكير، و سهيل بن بيضاء.
تنفيذ القائد أوامر النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم
فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه،فإذا فيه:
«إذا نظرت في كتابي هذا؛ فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم». فلما نظر في الكتاب، قال: سمعاً وطاعة، ثم قال ذلك لأصحابه، وقال: قد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمضوا لم يتخلف عليه منهم أحد.
طريق سير السرية
وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع، يقال له: معدن بحران أضل سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا عليه في طلبه.
مرور عير قريش بهم
ومضى عبد الله بن جحش وأصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة.
هيبة أصحاب العير منهم
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف عليهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمِنوُا وقالوا: عمار، لا بأس عليكم منهم.
المشاورة فيما سيفعلون بهم
وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم في هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم،
إعمال القتل فيهم
وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معه، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم.
نجاح المهمة
وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
عبد اللهّٰ بن جحش يوصي بالخمس للنبي قبل فرض الخمس
وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خُمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه. قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام»
توقف النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم في الأمر
فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا.
موقف قريش مما حدث
وقالت قريش: إذا استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان.
موقف اليهود
وقالت يهود تفاءلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو: عمَِرت الحربُ، والحضرمي: حضرت الحربُ، وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب، فجعل الله عليهم ذلك لا لهم.
بيان اللهّٰ للموقف
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل اللهّٰ تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ} [البقرة: 217] ففرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه، وقبض رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم العير والأسيرين.
فداء قريش لأسراهم
وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: «لا نفديكما حتى يقدم صاحبانا – يعني: سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان – فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم». فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم منهم.
موقف الأسيرين من الإسلام
فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات في بئر معونة شهيدًا، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافراً.
أفراد السرية يطالبون بغزوة أخرى
فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حيننزل القرآن طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله أتطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل اللهّٰ فيهم: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218] فوضعهم اللهّٰ من ذلك على أعظم الرجاء. والحديث في هذا عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، ثم قسم الفيء بعد كذلك.
أوليات هذه الغزوة
قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون، وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون، وعثمان والحكم أول من أسر المسلمون، فقال في ذلك أبو بكر الصديق، و يقال هي لعبد الله بن جحش:
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة *** وأعظم منه لو يرى الرشد
راشد صدودكم عما يقول محمد *** وكفر به واللهّٰ راء وشاهد
شفينا من ابن الحضرمي رماحنا *** بنخلة لما أوقد الحرب واقدُ
ضبط من شارك في السرية
وذكر موسى بن عقبة ومحمد بن عائذ نحو ذلك، غير أنهما ذكرا أن صفوان بن بيضاء بدل سهيل أخيه ولم يذكرا خالداً ولا عكاشة. وذكر ابن عقبة: فيهم عامر بن إياس. وقال ابن سعد: كان الذي أسر الحكم بن كيسان
المقداد بن عمرو، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحشفي اثني عشر رجلاً من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان بعيراً إلى بطن نخلة وهو بستان ابن عامر، وأن سعد بن أبي وقاص كان زميل عتبة بن غزوان، فضلَّ بهما بعيرهُما، فلم يشهد الوقعة، والذي ذكره موسى بن عقبة أن ابن جحش لما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير أصحابه، تخلف رجلان: سعد وعتبة، فقدما بحران، ومضى سائرهم.
التسمية بأمير المؤمنين
وقال ابن سعد: و يقال إن عبد الله بن جحش لما رجع من نخلة خَمَسّ ما غنم، وقسم بين أصحابه سائر المغانم، فكان أول خُمس خُمِسّ في الإسلام، و يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف غنائم نخلة حتى رجع من بدر، فقسمها مع غنائم بدر، وأعطى كل قوم حقهم، وفي هذه السرية سمي عبد اللهّٰ بن جحش أمير المؤمنين.