وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها.
وسمى بذلك لتوحده وانقطاعه عن جبال أخر هناك، ويقال له: ذو عينين …
قال فى القاموس: بكسر العين وبفتحها مثنى، جبل بأحد.
وهو الذى قال فيه- صلى الله عليه وسلم-: «أحد جبل يحبنا ونحبه».
وقيل: وفيه قبر هارون، أخى موسى، – عليهما السلام-.
وكانت عنده الوقعة المشهورة، فى شوال سنة ثلاث بالاتفاق، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه- وقيل لسبع ليال خلون منه، وقيل فى نصفه.
وعن مالك: بعد بدر بسنة، وعنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة.
وكان سببها: كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة وابن سعد، قالوا- أو من قال منهم- ما حاصله.
إن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بعيره، قال عبد الله بن أبى ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل، فى جماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه- يعنون عير أبى سفيان، ومن كانت له فى تلك العير تجارة- لعلنا أن ندرك به ثأرنا.
فأجابوا لذلك، فباعوها وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار.
وفيهم- كما قال ابن إسحاق وغيره- أنزل الله {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
واجتمعت قريش لحرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وكتب العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادى من قبل أحد مقابل المدينة.
وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر.
وأرى- صلى الله عليه وسلم- ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: «إنى والله قد رأيت خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة، فأما البقر فناس من أصحابى يقتلون، وأما الثلم الذى رأيت فى سيفى فهو رجل من أهل بيتى يقتل».
وقال ابن عقبة، ويقول رجال: كان الذى بسيفه ما قد أصاب وجهه، فإن العدو أصابوا وجهه الشريف- صلى الله عليه وسلم- يومئذ، وكسروا رباعيته، وجرحوا شفته.
وفى رواية قال- عليه الصلاة والسلام-: «وأولت الدرع الحصينة بالمدينة فامكثوا فإن دخل القوم الأزفة قاتلناهم، ورموا من فوق البيوت».
فقال أولئك القوم: يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم، أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم.
فصلى- صلى الله عليه وسلم- بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك.
ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ثم دخل صلى الله عليه وسلم- بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر- رضى الله عنهما-، فعمماه وألبساه.
وصف الناس ينتظرون خروجه- عليه السّلام-، فقال سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الخروج، فردوا الأمر إليه، فخرج صلى الله عليه وسلم- وقد لبس لأمته- وهى بالهمزة وقد يترك تخفيفا: الدرع- وتقلد سيفه، فندموا جميعا على ما صنعوا، فقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت. فقال: «ما ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه».
وفى حديث ابن عباس عند أحمد والنسائى والطبرانى، وصححه الحاكم: نحو حديث ابن إسحاق، وفيه إشارة النبى- صلى الله عليه وسلم- إليهم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج لطلب الشهادة، ولبسه للأمته، وندامتهم على ذلك وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» وفيه: «إنى رأيت أنى فى درع حصينة» الحديث.
وعقد- عليه السّلام- ثلاثة ألوية:
لواء بيد أسيد بن حضير.
ولواء للمهاجرين بيد على بن أبى طالب وقيل بيد مصعب بن عمير.
ولواء للخزرج بيد الحباب بن المنذر وقيل بيد سعد بن عبادة.
وفى المسلمين مائة دارع. وخرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، دارعين.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة.
وأدلج- عليه السّلام- فى السحر، وكان قد رد جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم: أسامة، وابن عمر، وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدرى.
والنعمان بن بشير. قال مغلطاى: وفيه نظر.
وكان المسلمون ألف رجل، ويقال: تسعمائة، والمشركون ثلاثة آلاف رجل فيهم سبعمائة دارع ومائتا فرس، وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة.
ونزل- عليه السّلام- بأحد ورجع عنه عبد الله بن أبى فى ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق. ويقال: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- أمرهم بالانصراف لكفرهم بمكان يقال له الشوط، وقيل بأحد.
ثم صف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة.
قال ابن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبى جهل.
وجعل- صلى الله عليه وسلم- على الرماة- وهم خمسون رجلا- عبد الله بن جبير، وقال: «إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم». كذا فى البخارى من حديث البراء.
وفى حديث ابن عباس عند أحمد والطبرانى والحاكم: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقامه فى موضع ثم قال: «احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا».
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من يأخذ هذا السيف بحقه». فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به فى وجه العدو حتى ينحنى»، قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه، وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه- صلى الله عليه وسلم- يتبختر قال: «إنها لمشية يبغضها الله إلا فى مثل هذا الموطن».
قال الزبير بن العوام- فيما قاله ابن هشام- فقلت والله لأنظرن ما يصنع أبو دجانة.
فاتبعته فأخذ عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار:
أخرج عصابة الموت فخرج وهو يقول:
أنا الذى عاهدنى خليلى *** ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر فى الكيّول *** أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله.
وقوله: فى الكيول- بفتح الكاف وتشديد المثناة التحتية- مؤخر الصفوف. وهو: فيعول من كال الزند يكيل كيلا إذا كبا ولم يخرج نارا، فشبه مؤخر الصفوف به لأن من كان فيه لا يقاتل. قال أبو عبيدة: ولم يسمع إلا فى هذا الحديث. وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف.
والتقى حنظلة الغسيل وأبو سفيان فضربه شداد بن أوس فقتله فقال صلى الله عليه وسلم-: «إن حنظلة لتغسله الملائكة»، فسألوا امرأته جميلة أخت عبد الله ابن أبى فقالت: خرج وهو جنب فقال- عليه السّلام-: «لذلك غسلته الملائكة».
وبذلك تمسك من قال من العلماء: إن الشهيد يغسل إذا كان جنبا.
وقتل على طلحة بن أبى طلحة، صاحب لواء المشركين، ثم حمل لواءهم عثمان بن أبى طلحة، فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه.
ثم أنزل الله نصره على المسلمين فحسوا الكفار بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة، فولى الكفار لا يلوون على شىء، ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم. ووقعوا ينهبون العسكر ويأخذون ما فيه من الغنائم.
وفى البخارى: قال البراء: فقال أصحاب عبد الله بن جبير: أى قوم، الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون، فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين.
وفى حديث عائشة عند البخارى أيضا: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أى عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت مع أخراهم.
وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس: أنهم لما رجعوا اختلطوا بالمشركين والتبس العسكران فلم يتميزوا، فوقع القتل فى المسلمين بعضهم فى بعض.
وفى رواية غيرهما: ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبى جهل فحملوا على من بقى من النفر الرماة فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير.
وفى البخارى: أنهم لما اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فشد عليه فكان كأمس الدابر، وكان وحشى كامنا تحت صخرة، فلما دنا منه رماه بحربته حتى خرجت من بين وركيه فكان آخر العهد
وكان مصعب بن عمير قاتل دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قتل، وكان الذى قتله ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصاح ابن قمئة إن محمدا قتل. ويقال كان ذلك إزب العقبة، ويقال: بل هو إبليس- لعنه الله- تصور فى صورة جعال.
وقال قائل: أى عباد الله أخراكم، أى: احترزوا من جهة أخراكم فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل. قال موسى بن عقبة: ولما فقد- عليه السّلام-، قال رجل منهم: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلوا البيوت. وقال رجال منهم: إن كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتل أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء. منهم أنس بن مالك بن النضر شهد له بها عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ.
قال فى «عيون الأثر» : كذا وقع فى هذا الخبر: أنس بن مالك، وإنما هو أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر. انتهى.
وثبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى انكشفوا عنه، وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق، وسبعة من الأنصار.
وفى البخارى: لم يبق معه- عليه الصلاة والسلام- إلا اثنا عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين، وكان- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.
فقال أبو سفيان: أفى القوم محمد، ثلاث مرات، فنهاهم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يجيبوه، ثم قال: أفى القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات، ثم قال: أفى القوم ابن الخطاب ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وبقى لك ما يسوؤك، قال: يوم بيوم، والحرب سجال.
وتوجه- صلى الله عليه وسلم- يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، والذى جرح وجهه عبد الله بن قمئة، وعتبة بن أبى وقاص أخو سعد هو الذى كسر رباعيته، ومن ثم لم يولد من نسله ولد يبلغ الحنث إلا وهو أبخر أو أهتم- أى مكسور الثنايا من أصلها- يعرف ذلك فى عقبة.
وقال ابن هشام، فى حديث أبى سعيد الخدرى: إن عتبة بن أبى وقاص رمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن هشام الزهرى شجه فى جبهته وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر فى وجنته، ووقع- صلى الله عليه وسلم- فى حفرة من الحفر التى كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين.
وفى رواية: وهشموا البيضة على رأسه- أي كسروا الخوذة- ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه فى حفرة من الحفر التى حفرها أبو عامر، فأخذ على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، ونشبت حلقتان من المغفر فى وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما فى وجهه.
وامتص مالك بن سنان- والد أبى سعيد الخدرى- الدم من وجنته ثم ازدرده، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «من مس دمى دمه لم تصبه النار»، وسيأتى- إن شاء الله تعالى- حكم دمه- عليه السّلام-.
وفى الطبرانى من حديث أبى أمامة قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فشج وجهه وكسر رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قميئة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يمسح الدم عن وجهه: «أقمأك الله» فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
وروى ابن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم- يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسحه ويقول «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم» فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]. ورواه أحمد والترمذى والنسائى من طريق حميد به.
وعند ابن عائذ من طريق الأوزاعى: بلغنا أنه لما خرج- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، أخذ شيئا فجعل ينشف دمه وقال: «لو وقع منه شىء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء»، ثم قال: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون».
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى قال: ضرب وجه النبى صلى الله عليه وسلم- يومئذ بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها. قال فى فتح البارى: وهذا مرسل قوى، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة، انتهى.
وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد- فيما قاله ابن هشام- فخرجت أول النهار حتى انتهت إلى رسول الله قالت: فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس حتى خلصت الجراحة إلى، أصابنى ابن قمئة- أقمأه الله تعالى- لما ولى الناس عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أقبل يقول: دلونى على محمد فلا نجوت إن نجا، قالت فاعترضت له، فضربنى هذه الضربة، ولكن ضربته ضربات على ذلك، ولكن عدو الله عليه درعان.
قالت أم سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور.
وتترس دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما قاله ابن إسحاق- أبو دجانة بنفسه، يقع النبل فى ظهره وهو منحن عليه حتى كثر عليه النبل وهو لا يتحرك.
ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: «ارم فداك أبى وأمى»، حتى إنه ليناولنى السهم ماله نصل فيقول: «ارم به».
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذها رسول الله بيده وردها إلى موضعها وقال:
«اللهم اكسه جمالا» فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا. ورواه الدارقطنى بنحوه، ويأتى لفظه- إن شاء الله تعالى- فى مقصد المعجزات.
ورمى أبو رهم كلثوم بن الحصين بسهم فوقع فى نحره فبصق عليه صلى الله عليه وسلم- فبرىء.
وانقطع سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه- صلى الله عليه وسلم- عرجونا فعاد فى يده سيفا، فقاتل به وكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل يتوارث حتى بيع من بغا التركى من أمراء المعتصم بالله فى بغداد بمائتى دينار.
وهذا نحو حديث عكاشة السابق فى غزوة بدر إلا أن سيف عكاشة كان يسمى العون، وهذا يسمى العرجون.
واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم، يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأشراف أصحابه.
وكان أول من عرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كعب بن مالك، قال عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما عرفوه نهضوا ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر وعمر وعلى ورهط من المسلمين، فلما أسند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الشعب أدركه أبى بن خلف وهو يقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله، يعطف عليه رجل منا؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: «دعوه»، فلما دنا تناول- صلى الله عليه وسلم- الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه- عليه السّلام- انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله عليه الصلاة والسلام-، فطعنه طعنة وقع بها عن فرسه ولم يخرج له دم فكسر ضلعا من أضلاعه.
فلما رجع إلى قريش قال: قتلنى والله محمد، أليس قد كان قال لى بمكة: «أنا أقتلك»، فو الله لو بصق على لقتلنى. فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة. رواه البيهقى وأبو نعيم ولم يذكر: فكسر ضلعا من أضلاعه.
قال الواقدى: وكان ابن عمر يقول: مات أبى بن خلف ببطن رابغ، فإنى لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا نار تأجج لى لهبها فهبتها، وإذا رجل يخرج منها فى سلسلة يجتذبها يصيح العطش، وإذا رجل يقول:
لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، هذا أبى بن خلف، ورواه البيهقى.
ولما انتهى- صلى الله عليه وسلم- إلى فم الشعب ملأ على بن أبى طالب درقته من المهراس- وهو صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء، وقيل هو اسم ماء بأحد فجاء به إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من رمى وجه نبيه.
وصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- الظهر يومئذ قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتى معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجد عن الأذان والأنف، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل.
وكان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أحد، كتب على سهم نعم، وعلى آخر: لا، وأجالها عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج إلى أحد، فلما قال: أعل هبل، أى زد علوّا.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعمر أجبه فقل: «الله أعلى وأجل».
فقال أبو سفيان: أنعمت فعال، أى اترك ذكرها فقد صدقت فى فتواها وأنعمت، أى أجابت بنعم.
فقال عمر: لا سواء، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار.
فقال: إن لنا عزى ولا عزى لكم.
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم».
ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال- صلى الله عليه وسلم- لرجل من أصحابه: «قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد».
وذكر الطبرانى: أنه لما انصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعنهم فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما لقيت النبى- صلى الله عليه وسلم- اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير أحرقته بالنار وكمدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم.
ثم أرسل- عليه الصلاة والسلام- محمد بن مسلمة- كما ذكره الواقدى- فنادى فى القتلى: يا سعد بن الربيع، مرة بعد أخرى، فلم يجبه، حتى قال إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أرسلنى إليك، فأجابه بصوت ضعيف، فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق فقال: أبلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنى السلام، وقل له: يقول لك، جزاك الله عنا خير ما جزى به نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك عنى السلام وقل لهم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم (عين) تطرف، ثم مات.
وقتل أبو جابر، فما عرف إلا ببنانه – أى أصابعه، وقيل أطرافها، واحدتها. بنانه.
وخرج- صلى الله عليه وسلم- يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادى، قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فنظر- عليه السّلام- إلى شىء لم ينظر إلى شىء أوجع لقلبه منه فقال: «رحمة الله عليك، لقد كنت فعولا للخير، وصولا للرحم، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك» قال: فنزلت عليه خواتيم سورة النحل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] الآية، فصبر وكفر عن يمينه وأمسك عما أراد.
وممن مثل به كما مثل بحمزة عبد الله بن جحش، ابن أخت حمزة، ولذا يعرف بالمجدع فى الله، وكان حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة فى قبر واحد.
ولما أشرف- صلى الله عليه وسلم- على القتلى قال: «أنا شهيد على هؤلاء وما من جريح يجرح فى الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم والريح ريح المسك».
وفى رواية عبد الله بن ثعلبة قال- صلى الله عليه وسلم- لقتلى أحد: «زملوهم بجراحهم».
وروى أبو بكر بن مردويه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا جابر ألا أخبرك: ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا، فقال سلنى أعطك، فقال أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه سبق منى أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قال: أى رب فأبلغ من ورائى، فأنزل الله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً} [آل عمران:169] الآية.
وعن ابن عباس قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا فى الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل هذه الآيات {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ} [آل عمران:169] ».
قال بعض من تكلم على هذا الحديث: قوله: «ثم تأوى إلى قناديل»، يصدقه قوله تعالى {وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] وإنما تأوى إلى تلك القناديل ليلا وتسرح نهارا، وبعد دخول الجنة فى الآخرة لا تأوى إلى تلك القناديل، وإنما ذلك فى البرزخ.
وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها.
وقد رد هذا القول، ويشهد له ما وقع فى مسند ابن أبى شيبة وغيره:
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الشهداء بنهر أو على نهر يقال له بارق عند باب الجنة، فى قباب خضر يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيّا».
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: كأن الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم فى الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح.
قال: وقد روينا فى مسند الإمام أحمد حديثا فيه بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون فى الجنة أيضا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة.
قال: وهو إسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعى عن مالك بن أنس عن الزهرى عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه يرفعه: «نسمة المؤمن طائر يعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه».
وقوله يعلق، أى يأكل، وفى هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر فى الجنة، وأما أرواح الشهداء ففى حواصل طير خضر، فهى كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها. فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.
وقد استشهد يوم أحد من المسلمين سبعون- فيما قاله مغلطاى. وغيره- وقيل خمسة وستون وأربعة من المهاجرين.
وروى ابن منده من حديث أبى بن كعب قال: استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون ومن المهاجرين ستة وصححه ابن حبان من هذا الوجه.
وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلا، وقتل- صلى الله عليه وسلم- بيده أبى بن خلف.
وحضرت الملائكة يومئذ، ففى حديث سعد بن أبى وقاص عند مسلم فى صحيحه: «أنه رأى عن يمين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعنى جبريل وميكائيل يقاتلان كأشد القتال».
وفيه- كما قدمناه فى غزوة بدر- أن قتال الملائكة معه- صلى الله عليه وسلم- لا يختص بيوم بدر، خلافا لمن زعمه، كما نص عليه النووى فى شرح مسلم كما قدمته والله أعلم.
ولما بكى المسلمون على قتلاهم سر بذلك المنافقون وظهر غش اليهود.
ذكر القاضى عياض فى الشفاء عن القاضى أبى عبد الله بن المرابط من المالكية أنه قال: من قال إن النبى- صلى الله عليه وسلم- هزم يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لأنه تنقص، إذ لا يجوز ذلك عليه فى خاصته، إذ هو على بصيرة من أمره ويقين من عصمته. انتهى.
وهذا موافق لمذهبنا. لكن قال العلامة البساطى من المالكية: هذا القائل إن كان يخالف فى أصل المسألة، أعنى حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل انتهى.
وقد كان فى قصة أحد، وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة.
منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهى، لما وقع من ترك الرماة موقعهم الذى أمرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألايبرحوا منه.
ومنها: أن عادة الرسل أن تبتلى ثم تكون لهم العافية، والحكمة فى ذلك أن لو انتصروا دائما لدخل المسلمين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميز الصادق من الكاذب. وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيّا عن المسلمين فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول حتى عاد التلويح تصريحا، وعرف المسلمون أن لهم عدوّا فى دارهم، واستعدوا لهم وتحرزوا منهم.
ومنها: أن فى تأخير النصر فى بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها فلما ابتلى المسلمون صبروا وجزع المنافقون.
ومنها: أن الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها.
ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها.
ومنها: أنه أراد هلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التى يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم فى إيذاء أوليائه، فمحص ذنوب المؤمنين ومحق بذلك الكافرين.